هذا الشاب: صراع سبعة ايام ينتهي بثلاث ساعات

تحقيق – فؤاد العبودي

تصوير- رحيم حسن

في واحدة من ازقة منطقة الصدرية وبينما كنت ماراً فوجئت بذئب مفترس يجاور غزالة وديعة وبينهما أرنب ساكن في جلسته .. قلت وانا ماشي يالله .. هذا هو عهد السلام والتآخي حقاً.. لكنني حينما عدت لاستطلاع الامر وجدت ان الذي رأيته من مشهد الوئام بين هذه الحيوانات ليس سوى مجرد حيوانات محنطة وضعها صاحبها (مهند سعد محمد- 1975) في واجهة دكانه قلت لصاحبي المصور .. هل تعتقد بمؤاخاة الحيوانات؟

ضحك من اعماقه ورد علي.. ياصديقي اذا كان ذلك مفقوداً بين البشر فكيف تريده ان يعم بين الحيونات.!

.. والتفت الى مهند .. قائلاً:

*منذ متى وانت تزاول هذه المهنة؟

- في البدء كانت مجرد هواية احببتها وتعلقت بها حد الهوس.. واصبحت فيما بعد جزءاً من حياتي واهتماماتي الشخصية. أي منذ خمسة عشر عاماً وانا اخرج للصيد في مناطق بعيدة بينها بدرة في محافظة واسط.. وديالى ومناطقها الريفية الغائبة مع بحثي عن الاعشاب الطبية كمهمة ثابته.

ويقول مهند (ان مهنة التخطيط هي مهنتي الوحيدة التي اعتاش من ورائها وقد تعلمتها دون مساعدة من احد سوى بعض الاصدقاء الذين التقيت بهم ويزاولونها فتعلمت اساسياتها.

* وما هي المواد التي تستخدمها في عملية التحنيط وكذلك المواد الحافظة؟

- لا استطيع ذكر المواد لانها باعتقادي سر من اسرار المهنة، لكن يمكن القول انها مواد معروفة لمن يتعاطى هذه المهنة.

* وما الضير من ذكرها اذا كان الشخص الذي يسمعها قد لا يوليها اهمية ؟

- (ها..) اذن اذكر  ان مادة  البوراكس والرماد مع قليل من الملح تفادياً من نفوذ الرائحة الكريهة.

يمد مهند يده داخل صندوق خشبي ويخرج ممسكاً بعدد من الافاعي بيد واحدة وهي (تتلوى).. ولما احس خشيتي من أفاعيه .. ابتسم وقال (هذه افاعي منزوعة السلاح .. عفواً منزوعة الاسنان).

قد تستغرب عزيزي القارى حين اعلمك ان ما يرفعه (مهند) ليس قطعة قماش وانما هي جلد أفعى طولها (7) مترات .. دخل المُحنطْ مهند في معركة ضارية لاصطياد تلك الافعى المتغطرسة ساعده على اصطيادها أصدقاؤه في بدره وهم نزيه وكريم.. ويعدون من ذوي الاختصاص في هذه اللعبة الخطرة..

* ماذا تعني باللعبة الخطرة؟

- اقصد بها صيد الافاعي من النوعيات السامة وبخاصة من الاحجام الكبيرة .

* كم تنتظرون لحين اصطيادها؟

- اذكر انني وجماعتي انتظرنا وقتاً طويلاً منذ الغروب.. وقد سمعنا قبل الوصول  الى المكان ان هذه الافعى ذات الـ(7 امتار) كانت تقطع الطريق على الناس وتشكل مصدر خطر قد يداهمهم بين لحظة واخرى وكثيراً ما التهمت ضحاياها بشهية عدوانية وآخرها كان خروفاً كبيراً .. مكثنا في البستان حتى خرجت وفاجأناها بضربات متتالية بالرصاص مع الابتعاد جهد الامكان بعد كل ضربة واخرى .!

ويضيف مهند .. ان عدداً كبيراً من الحيوانات التي اقوم بتحنيطها منها الذئاب ، الغزلان ، الارانب البرية وانواع الطيور والصقور.

* اغرب حيوان اصطدته وحنطته ؟

- الضب ، الضبع ، السحلية.

* وما الغرابة في هذه الحيوانات ؟

- (ها.. العفو) ليست الغرابة الا في اصطيادها فهذه الانواع صعبة الاستدراج.

ويقول كل حيوان تختلف طريقة تحنيطه . فمثلاً الذئب يستغرق مني (5 ساعات) والغزال (4ساعات)  كتحنيط كامل.

* لماذا..؟

-لان أحشاء الذئب مطلوبة ولهذا احاول الحفاظ على قلبه وبقية الاعضاء عند تشريحه.

* تعتبر نفسك طبيباً في التشريح؟

-(يبتسم) ثم يداري ابتسامته بقوله (طبيب لا .. ولكني خبير بالتشريح).

* بكم تبيع قلب الذئب؟

- بـ(25) الف دينار!

* وما هي فائدته لمشتريه؟

- يولد الشجاعة والقوة لدى الاطفال الذين يخافون!!

* من هم زملاؤك ؟

- اكثرهم من دول الخليج .

* هل تعاملت مع الاسد ؟

- لا والله.. لانه غالٍ ومكلف في صيده وتحنيطه.

* هل هذه مهنتك الاساسية ؟

- اجل.

* ترى ماذا تقول للفتاة التي ستخطبها من اهلها عن مهنتك .- اقول لها مهنتي (مُحنِّطْ حيوانات) .. ماذا بها.. عيب!

- لا موعيب.

* ما كسبت من وراء مهنتك ؟

- خبرة طويلة وعريضة في معرفة طباع الحيوانات .

قبل ان أودع مهند سعد (مُحنِط الحيوانات) سحب افعى متوسطة وراح يمد المشرط على جسمها ليشرحها ويستخرج دهنها. وعلى عتبة الدكان قلت لـ(مهند) .. ماذا تفعل بهذا الدهن.. اجابني بجدية :

- هذا مقوي للشعر.

تركت مهند وانا انظر حولي أو تحت أقدامي خشية من ان تكون أفعى قد علقت بي...

مثلما اخضر الحزن فينا .. اخضرت اللوحة باعمارنا ! سبعون نجماً في سماء العراق والبقية تاتي!

عدنان منشد

هو معرض شامل للفن التشكيلي في العراق!

(سبعون نجماً في سماء العراق)  سمى نفسه في البداية . و(معرض الشعب) سمّوه. ولكن ولكن ، سرعان ما اتضح انه اكبر من ان يستتر باسم مستعار ، أو يتجلبب بلقب ، فإذا هو معرض الحزب الشيوعي العراقي، وكفى .

الوطن ، في المراحل السياسية والاجتماعية التي قطعها خلال سبعة عقود خلت، في الرجال الذين تقلبوا فيه على الحكم، في تيارات الغربة التي اجتاحته منذ ان وطأ الانكليز ارض (الفاو) في مطلع القرن العشرين.. في تضعضع وجموح عاداته وتقاليده ومقاييسه.. الوطن في افراحه واتراحه ، وجده ومزاحه، من غناه كما غناه الحزب الشيوعي العراقي ؟ .. لو أرد مؤرخ غداً ، ان يؤرخ هذا الجيل الذي يمضي من اجيال الوطن ، لما وجد له مرجعاً اصدق من الحزب الشيوعي العراقي، ولا اغزر ولا اعمق.

قاعة (اكد) بتاريخ 29/ آيار على ضفاف دجلة ، تحتفل بقرابة ثمانين فناناً تشكيلياً عراقياً في النحت والرسم والخزف . أبهج المهرجانات الفنية يدخل في سنته التأسيسية الاولى، ويترسخ في مواسمنا العراقية, وهو ، في ذلك لا ينشيء جديداً ، بل يبعث تقاليد عريقه في وطن احب ابناؤه الألوان كالازهار سواء بسواء، غذاء الروح عندهم ، كغذاء الجسد ، خبز يومي.

خشب وذهب والوان

الجديد في هذا المعرض، إشراك الشباب ن من العشرين الى الخامسة والعشرين ، في معرض شعاره (سبعون نجماً...) يتناول اللوحة في سياقاتها الجمالية والدلالية ، او قطعة الصخر أو النحاس في آنية صغيرة أو صحن ، وزرع قطع السيراميك التي تصلح للديكور الداخلي كالستائر واجهزة البيت الكهربائية..

ولكن ن كل هذا ايضاً ليس جديداً، الا بالشكل. وانا اذكر جدياً توزيع العمل في بيتنا القروي العتيق ، كما يذكره اترابي وابناء جيلي.. منحوتات الخشب الصاج المعفر بمسحوق الذهب من شأن ابي، وجدران الالوان والائمة الصالحين من شأن امي، ولكل من اشقائي الصغار، معرض على قدر حجمه!

 ونعود الى معرض الحزب الشيوعي التشكيلي الفني في قاعة (اكد) في ظل مشاركة جيل ما بعد الرواد والاجيال المتوهجة الاخرى ، امثال : عبد الجبار البنا، محمد الدين ، ليث فتاح الترك، عاصم عبد الامير، فاخر محمد، شداد عبد القهار، كريم الوالي، محمد الراسم، قاسم العزاوي ، كريمة هاشم، وغيرهم الكثير، لنجد ان شرط النجاح في أي عمل يقوم به الفنان، ان يكون محباً له. المشاركون في هذا المعرض ذهبوا الى أبعد حد، وكان في تعبير لوحاتهم أو قطعهم الخزفية، شيء أبلغ ، كانهم يقولون .. أنني أتغنى كما احب.

مع هذا المعرض..

قال الفنان نداء كاظم : .. على الرغم من عدم مشاركتي في هذا المعرض بوازع مسبق، فحواه أنني لا أريد تكرار تجربة معارض حزب البعث السابقة السنوية ولا أريد ايضاً تكرار اهدافها وشجونها . تصوروا رعاكم الله.. أية أسئلة تمكن ان تحدثها مثل هذه المشاركة في الوسط الفني، وما يترتب عليها من حيثيات وشواغل، وهذا ما اردت الخروج منه باي ثمن، ولعله الثقة بالقدرة على مواصلة الحياة.

الناقد التشكيلي صلاح عباس، له وجهة نظر اخرى ، حيث قال:

- لقد أبدينا صدوداً لإزمنة الغمام الاسود، الملوث، الذي يريد يحجبُ زرقة السماء  واردنا طي صفحة الحياة الفاترة المخدرة الكسلى ، التي شملها الموت مثل اهل القبور، فقد اخضر الحزن فينا، مثلما اخضرت اللوحة باعمارنا.

فيما يخاطب الشاعر العراقي المغترب (هاشم شفيق) المشاركين في هذا المعرض ، قائلاً:

باعمالكم الفنية والتشكيلية هذه.. بهذه الاعمال التي تنتمي للانسان ، انكم تفتحون طريقاً نحو الجمال ومنابع الخيال المتقدمة ، بامواج حلمية.. تفتحون فضاء نحو الحرية، خالياً من كل القيود التي تحد من إنطلاقة اللون والحجر والطين والنحاس.. ويضيف:

- بهذه الاعمال يتجدد الوعي، وتنمو الفكرة، ويقترب المستقبل.

شؤون وشجون .. وقبلات

وبين التجوال في أروقة هذا المعرض المكتنز الآسر.. تسائلت حول معرضي الشخصي. كيف انساه؟ .. كان مرة إبريقاً مكسوراً، ومرة حجراً مجوفاً من الطين.. ومرة أسقط في يدي ، فلم اعثر إلا على علبة (تنك) فارغة، وكان علي ان انزع طبقتها العليا العالقة بأحد أطرافها، فسويتها بيدي ، فجرحت إصبعي جرحاً عميقاً. وخفت من أمي ، فبادرت الى طين الحديقة املئه في العلبة، والى التراب اهيله حواليها، مجبولاً بدم ذلك الطفل، ومسقياً بدمعه.

وبين تجوالي السريع في هذا المعرض، وجدت نفسي مرة مع الفنانين الاحبة، امثال نداء كاظم وكريمة هاشم وشداد عبد القهار وصلاح عباس ، نتبادل الكؤوس والقبل.

أجل هو الحب في أزمنة الحرب، الحب في كل زمان ومكان.. ان للقلب مملكة غير مملكة الجيوش والمدافع. وهي اوسع من الدنيا واعظم من الموت وستبقى بعد ان تزول الممالك وتندك العروش كلها . والقبلات في النتيجة ، هي ستخرس القنابل الى الابد.