الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

حفاظاً على الأرصفة من الأنقراض .. كانت لنا أرصفة.. ولكن!؟

عبد الكريم العبيدي

تصوير: سمير هادي

قبل شهور، ولربما (قبل اعوام، لا فرق!؟) لاحظت بائعاً  يُعبئ بضاعته في كيس اسود كبير.. لاحظت اكياساً اُخر وكارتونات معبأة ومرزومة.. ولاحظت اخيراً دراجة هوائية قديمة مركونة إلى جانبه.. قبل ان اعبره بقليل نفض قطعة (جادر) قديمة من التراب ثم حملها مع حاجاته ورحل.. توقفت فجأة (وعدت إلى مكانه، دفعت بقديم بقايا اكياس فارغة وعثرت اخيراً على (....) لا، ليس دولارات ولاشيء من بضاعته، بل على قطعة من رصيف (متحرر).. رصيف (تعزيلة) أو رصـ..يـ..ف، دعوني ابالغ قليلاً!!

في اليوم التالي، تعمدت ُ ان تكون عودتي (تعزيلية جداً)، برغم حلول وقت (السلابة) وانتشار البعض منهم بالفعل؛ كنت ابغي العثور على (امكنة باعة) أكثر، لأفلح ولو بمكانين متحررين ومتجاورين، لأطول جزء من جثة صديقنا القتيل.. جزءٌ، ربما يحملني مؤقتا على الاعتراف بوجوده، بعد تشخيصه.. ويرغمني وهذا ما ابغيه فعلاً، على تأجيل الترحّم والأسى، برغم كثرة ميتاته الصحيحة، غير الحسنة، والمثبتة فعلاً والمحصاة من قبلنا جميعاً.. ولكنني فشلت في هذه المرة، ليس بسبب توقيت عودتي الصحيحة، بل لأن رتلاً امريكياً طويلاً احتل المدينة كلها مما أدى إلى منع التجوال فيها!!

 

الرصيف السري

كم مرة ماتت الأرصفة، معنا أو بدوننا؟ (المعنا ـ والبدوننا) من باب الشهادة لا غير.. فنحن شهدنا بعض ميتاتها، وروى لنا الآباء والأمهات (ميتات) أُخر، ثم قرأنا في كتب التاريخ، فوجدنا ان تلك الضحايا/ الضحية، كان قد مثل بها كثيراً، وشهدت تحولات فنطازية ودراماتيكية عديدة، حتى اضحى الحديث عنها صعباً، حد ان كل طور (متفق عليه) يحتاج إلى تصنيف وشروحات وحواش..

ولكن لماذا؟ هل كل هذه الميتات تعبر عن ردود افال غاضبة على فاعلية (رصيفية) مأثورة، دفعت بهم، وبنا، إلى كل هذه الشرور؟، أم لأنها ضحايا، مجرد ضحايا بعض مخلفاتهم الكثار في اطوار المواقع؟، الحق ان مصابنا ومصابهم الواحد بها، يعبر عن امتحان طويل الأجل لكل متجسدات صورنا، وهو امتحان، على ما يبدو أكثر واقعية من حقيقته، بل هو واقع بدائي شديد الوضوح (ونحن وهم) اول من فشل في عبوره!

هل ثمة مَنْ هو أبين منه في الدلالة على كل هذا (الانحسار)؟ تعالوا نعد على اصابعنا كما فعلها (ويتمان) في احدى قصائده وأدء أرصفتنا المتعاقب، كي تلمس قلوبنا (الحافية)  ذلك الرصيف السري في انفسنا نحن، قبل ان ننبهر، مرة أخرى برصيف (تعزيلة) قبل الغروب!

 

موت الارصفة

سنحتاج إلى ترتيب حتمي لبنية الارصفة، والى اعذار كاذبة يتلوها (الغزاة جميعاً) من باعة واصحاب محال تجارية وشحاذين ومتشردين، وزوّار (المراقد الدينية) وسائقي السيارات والجنود الاميركان ودباباتهم.. وسنحتاج إلى سابلة حفاة من امثالنا، والى نفاذ ماكر، يجرنا إلى بقعة ضوء جمعية، هناك، في داخل نفوسنا، لنلمس فيها موت الأرصفة اولاً، وحقيقة التحوّل في افعالنا تجاهها ثانياً..

ولكننا سنتحاج، في كل مرة، إلى سابلة حفاة يعون أن الارصفة و(ايامها) سيظهران حتماً حبيسين في (امس) مأخوذ من صور (افعالنا، لا يبدو انه ملزم بأيما اعادة رتيبة لسيدة التمظهرات سنخطو بأمل نحو رصيف حر، يلغي حنيننا المهدور ويعمل ضده تماما..

لعل الدعوة اصبحت واضحة الآن برغم ان شروطها مازالت غائمة!

 

كان يمشي عليها الأعمى!

ساحاول تشريح موت الأرصفة اولاً، ظناً مني انها البداية السليمة لفهم نشوئها.. ولعلي  سأبدأ برأي عجوز طاعن في السن، سألته عنها بوسيلة هي (الاكثر سذاجة) حتى الآن، لاثارته وجذبه.. (فالغزاة) غالباً ما يظهرون اشياء حسنة عديدة، ولكنهم (يحطمون) أي علامة استفهام تشير، من اشارتها الأولى إلى اسباب وجودهم أصلاً في ذلك المكان دون غيره!

قال العجوز: (على هذا الرصيف انتظر اجلي!!، انه مجاور لبيتي.. (يجلسونني) هنا صباحاً ومساءاً، ثم يعيدونني إلى فراشي).. اضاف العجوز شيئاً آخر.. قال: (كنا نلعب على هذه الارصفة (قبل موتها الآن طبعاً) الدعبل.. وكنا نرسم عليها (بكسرة) طابوق.. كانت (ارصفة) نظيفة جداً.. يمشي عليها الأعمى)!!

وقبل ان أتحاشى ارجاعه إلى (امسه) قال: من كان يجرؤ على رمي النفايات في الارصفة، أو حفرها، أو سرقة بلاطاتها.؟ (البلدية تهجم بيته)!!

تركت العجوز (ينعم) بساعاته الأخيرة والمعدودة، ليرى فيها الشمس والناس والحياة، ونظرت إلى (.....) فوجدته اكواماً من النفايات والحفر والتلول الترابية، وبحيرة (سوداء) من مياه المجاري!!

 

النفايات والغزاة

مات الرصيف اذن.. داهمه الموت من كل جانب.. وبرزت اليه الشرور كلها، قطعت احلامه من (اللون الاصفر إلى اللون الأبيض) تموت الارصفة بموت احلامها.. هكذا هي نهاياتها دائماً، لأنها وجه الحياة، اشراقتها الأبدية.. فيها اخضرار الطبيعة وحيوتها ونبضها.. وفيها نقشتنا الأولى.. طفولتنا العابرة والسريعة، ومراهقتنا وشبابنا وتلوننا، وفيها نضجنا وفتوننا ووعينا واحلامنا.. وفيها نهاية اوراقنا وشيخوختنا المبكرة دائماً!

فيها يخيل دائماً، وننثر ذكرياتنا، نحفرها على وجهها الصقيل، وعلى صمتها وصبرها.. تتحمل الأرصفة عذاباتنا وآلامنا ودموعنا.. وتصمد معنا في الحروب والمجاعات والخوف والرعب والانفجارات الأرهابية.. وتفرح معنا دائماً في كل مسراتنا.. تبسط لنا اشكالها وألوانها وامتداداتها.. وتفكر معنا وتحلم وتكبر وتشيخ.. ومع زوالنا تزول الأرصفة.. تخفي وجودها باهمالنا ومخلفاتنا ووقاحتنا... تموت وهي متمددة وصامته وخجولة.. لا نغسلها ولا نكفنّها بوداع، نتركها تموت حيث هي، تحت شرور انفسنا فتنام إلى الأبد، بلا وسادة ولا سرير.. ليس لها غير النسيان والخلوة والاندثار، جوائزها الأخيرة التي لم تتسلمها بعد، لا هي، ولا وريثها اللاشرعي، النفايات والغزاة!!

 

حافات آمنة

قديماً، في الصفحات الأولى منه، لم تكن هناك ارصفة.. كانت حافات عريضة للطرق.. حافات آمنة  لأجدادنا وغاياتهم الخشنة، وللأرض المداسة بأقدامهم، وبقوائم دوابهم، التي اسموها طرقاً، وصار لها اسماء وكنى، ولها واحات ومضايف وانهر ولصوص وحكايات واساطير.

ولكن كيف تأسست هذه الطرق؟.. وبأي غاية حمراء وجريئة سار مكتشفها الأول، الشجاع والمجنون، والمدفوع بأعنف اهدافه واكثر صلابة؟.. ومتى توصل إلى ربط مدينتين بدائيتين صغيرتين ومتباعدتين؟.. وكيف مط صمتيهما في خط متعرج ومحفوف بأقسى المخاطر والأهوال، ليوصلها إلى لحظة انبهار أولى في ذلك العالم البطيء في كل شيء؟.. لتتحول فيما بعد إلى شوارع وأرصفة، منها ما هلك واندثر، ومنها مالا يزال حاضراً..

ومع نشوء الدولة العراقية في العام 1921، تنفست أرصفتنا لأول مرة.. ارصفتنا الحديثة، أرصفة كثيرة محاذية للشوارع الرئيسة والفرعية، وسط احياء حديثة، غالبية سكانها من الفلاحين الذين هاجروا من بيوت الطين، ومن قرى ريفية حافلة بالجهل والأمراض والأوبئة، إلى مدن واحياء مشيدة حديثا وفق انظمة وقوانين جديدة، أسست لهم المدارس والمصانع والمعامل والمؤسسات، واوجدت لهم فرصاً جديدة للحياة والتعامل مع الواقع.

ومن هناك، من تلك اللحظات المدهشة والفاصلة، ترك بعض الاطفال الحفاة حياة الشطوط والأنهر والبرك الآسنة، ونسوا ألعاب الدمى التي كانوا يضعونها من الطين، ليجدوا مناخات جديدة، فيها ارصفة جميلة تحيط ببيوتهم وشوارعهم، ويمشون عليها باقدام ناعمة، تعرفت على خطى جديدة منتظمة، في عصر طارئ وسريع ومدهش.

ولكن من هناك أيضاً، من تلك اللحظات الفاصلة كذلك، بدأ الانهيار (الرسمي لتلك الحياة الجديدة والطارئة بكل محافلها وطقوسها واحلامها.. وبدأ الاحتظار البطيء والخانق من لحظة الولادة، من صرخته الأولى والقديمة.. وصار النزول إلى الهاوية، إلى الحقيقة المؤجلة والعاصفة امراً مقضياً ومحتماً!

كيف؟!.. لنتذكر اولاً، قول العجوز الذي ينتظر اجله (كان يمشي عليها الاعمى (الطور الأول)، البلدية تهجم بيته (الطور الثاني).. تذكروا ذلك جيداً قبل ان تسمعوا آراء عامل (بلدية) والمتقاعد حالياً..

 

انسدادات

يقول (حسين اغصيّب) 78 عاماً: طيلة فترة عملي في البلدية لا أذكر يوماً لم نحفر فيه رصيفاً.. كنا نستخدم في هدم الأرصفة. ادوات يدوية مثل (الهيم والمطرقة الحديدية والمعول والمجرفة، وكنا نحفر إلى عمق (3) امتار، ضمن فتحة مساحتها 3×1.5 متر، لنصل إلى انبوب المجاري المسدود،. وبعد (كسره) واخراج العوائق التي تسببت بانسداده، وغالباً ما تكون (طابوقة، خشبة، حذاء، نعال، شعر ملفوف..الخ)، نقوم بحبس المياه الثقيلة المتجمعة في الحفرة، ثم نضع (قطعة تنك) (!!) على مكان كسر الانبوب، ونعيد عليها الاسمنت، ثم نهيل عليها التراب ونتركه بلا (صب) سطحه، لعدم توفر الاسمنت والرمل المخصص لتلك الفتحة بسبب المنافسة على الاستحواذ عليه من قبل المراقب والعمال انفسهم، للحاجة في صب ارضية بيوتهم، أو لبيعه على الاهالي سراً (!!!).

ويضيف: (بعد ذلك ننتقل إلى زقاق آخر، استجابة لا ستغاثة ساكنيه، لمعالجة انسداد آخر هنا، ادى إلى طفح مياه المجاري وحدوث بحيرة كبيرة حول بيوتهم... فنعمل فتحة جديدة ونتركها وهكذا..!1) كنا على مدار العام (يقول ابو علي) نعمل في الأزقة والشوارع، وتعرفنا على كل اهالي المناطق وعوائلهم وابنائهم، وصارت بيننا علاقات وألفة.. حتى ان (ريوكنا) كل يوم كان على نفقة احدى العوائل(!).

وعزا (حسين اغصيّب) اسباب الانسدادات والتخسفات الكثيرة إلى (جهل) المواطنين وسلوكهم الخاطيء، والى ضيق قطر الانبوب وقدمه).. سعة قطر الانبوب (10)انج فقط (!!) وأضاف (أكثر من اربعين عاماً قضيتها في (البلدية) لم اترك خلالها (الهيم والمعول والمجرفة) ولم يتغير شيء في نمط عملي، ولا من حولي، عدا وجه الرصيف الذي امتلأ بالحفر والمطبات)!

 

كانت لنا أرصفة.. ولكن!؟

الأرصفة التي (اشرقت على اقدامنا)، سرعان ما غربت.. كان لها طور جميل يمشي فيه الأعمى بلا عصا ولا دليل، وكانت نظيفة ومصقولة ومطلية.. ولكنها لم تجد طوراً ثانياً عدا الخوف ثم الخوف ثم الخوف (!) ظلت تخاف (مثلنا) وتحتضر وتصبر.. وظلت معاول (ابو علي ورفاقه) تقطع اشكالها على مدى الاعوام، دون ان تجد من يغير احوالها، ويزوّقها، ويجدد اوقاتها.. ظلت كما هي (اسْتوك).. وظل انتماؤها الأربعيني والخمسيني، سمة دائمية في عمرها القصير والطارئ.. لقد كانت ملاذاتنا اللانهائية، وكانت تعيش معنا، وفي اعيينا.. كانت لنا ارصفة.. ولكن!

 

(هدّامنا) الأول

ولكن بالفعل، كيف تأتى لنا ان نتحدث عن موت الأرصفة دون ان نتعثر كثيراً باخطر اطوار مرضها واشدها خطورة؟) وهل لنا ان (نلهو) قليلاً بسماع اخبار الضياع والفقدان والموت دون ان يطفح (هدّامنا) الأول بدم جرائمه، ليتصدر قائمة الهلاك؟

لقد ادرك (صدام) مبكراً، ان عدوه الأول (مكانياً) هو الأرصفة.. عدوّه الذي تنمو على امتداداته اغنية الأزل.. اغنية، ضاع الكثير من كلماتها ولحنها، ولكن روحها الأزلي، وهو ما يخشاه، باق.. لذا أراد ان يخرقها، بل هو في خرقها فعلاً، ولكنه هُزم، وظلت اغنية الحياة، اغنية الأبدية الثابتة والمتحولة في آن واحد.

لقد كان وحده الذي يجب ان يمتلك أي شيء بالفطرة، بالبداهة، ولذلك طوى الأرصفة وضمّها إلى مملكته.. حرّم فيها التنفس، وغرس (الممنوع وممنوع الوقوف وممنوع السير وممنوع التصوير وممنوع الحلم)، في اغلبها واجملها واشدّها حياة.. لم يكتف بذلك طبعاً، بل انتزع احباب صباحاتها وآماسيها من سمائها، فصامت حتى الموت ولم تفطر!

كان يعتقد انه مالكنا الأوحد ومن (حقه) ان يملأ (أرصفتنا) بجدارياته وشعاراته واحاديثه ووصاياه واصنامه وصوره وتماثيله(!) ومن حقه ان يحرّم علينا المشي في كل رصيف مجاور أو قريب من قصوره وقصور اولاده وحمايته واقربائه، ومن حقه وحقه ان يمنع السير والوقوف والتصوير في أي رصيف يجاور مؤسساته الأمنية و الاستخباراتية والعسكرية، ووزاراته ومديرياتها ومؤسساتها، واوكاره، واوكار اولاده السرية والعلنية.. ومن حقه طبعاً، ان ينشر السيطرات والمفارز والتعقيبات ورجال الأمن، لكي يجعلنا، نحن المحكوم عليهم بكل هذه الممنوعات ان تخشى انفسنا، ونخشى الأرض والجدران والأبنية والأسيجة ودورات المياه الصحيحة!!

 

أحلام أيام زمان!

الأرصفة (الفتية) لا تعمر، وسط الخراب.. لذلك لم نعد نرى شوارع (دائمة الأرصفة) كل عضو حياتي يستوطنه الموت، تتداعى له سائر الاعضاء فتهلك معه.. هذا التكاملية (الطبيعية) تضم الصغائر والكبائر، وتمضي بها، تحت سلطة مؤثر ما، في حركتين متعاكستين، إما الانتعاش أو الكساد..

يقول صاحب مطعم (سمك مسقوف) (احلم) (!) ان تعود الحياة إلى كراسي هذا المطعم ومناضده.. احلم ان ارى اسماكاً وفيرة في الحوض.. احلم ان اسمع وأرى (دوشة) العوائل وحركة الاطفال.. اخشى ان لا يعود كل ذلك..

ما زلنا نعيش في طور الحلم.. نعيش على حافة منه.. نخشى عليه من الضياع، نجعله امنية، خشية ان ننزلق، فنضيع مثله!. حتى احلامنا، احلام (أيام زمان) بدأت تتهرأ، تتطاير مقاطعها وتختفي.. صارت حواراتنا تدور حول البحث عن رصيف مفقود.. الحلم بعودته، أو الخشية من أن لا يعود أبداً!!

 

آخر مأوى

ثمة ارصفة متحوّلة.. أرصفة موسمية الاختفاء.. فصلية ترتبط بالمناسبات الدينية.. تظهر من حين لآخر، فتبدو غريبة بعين العابر، غريبة عن احتفالية المكان شبه الدائمة، وربما غريبه عن نفسها هي أيضاً.. ففي كل مناسبة دينية، يفد مئات الآلاف من الزوّار من مختلف المحافظات العراقية، ومن دول مجاورة وأخرى بعيدة، لزيارة اضرحة الائمة والأولياء والصالحين في النجف وكربلاء والكوفة والحلة والموصل وبغداد وغيرها..

وبعد ان تمتلئ الحضرة بالزائرين تزحف الحشود نحو الصحن وأروقته وغرفه وزواياه. ثم تحيط بالمرقد وبالأسواق المجاورة له، وتتفرع في كافة الأزقة المكتظة بالمحال التجارية والبسطات والباعة المتجولين والعابرين والمتبضعين، لتحتل فيما بعد جميع الأرصفة المحيطة بالمرقد، والقريبة منه.. واحياناً تزحف إلى مناطق سكنية قريبة من المرقد أو حتى بعيدة عنه، فتختفي خلف ذلك المشهد/ المشاهد الأرصفة وشوارع وبيوت ومحال تجارية.. عوائل كل قرى ومدن العراق، ومن دول عربية واسلامية واجنبية تحتل الارصفة، تفرشها، وتكدس حاجاتها الكثيرة من صناديق وبطانيات واكياس و(جول، وصوبات) وتجلس لصقها فتبدو وكأنها ألفت الحياة (الهوائية) بين انظار المارّة وسكنة المدنّ!.

وإذا ما سألت احدهم عن حياته (المؤقتة) تلك، فسيجيبك، دون شك: انها بسبب كثرة الزائرين، وارتفاع أجور الفنادق، وازدحام البيوت و(النزل) بالزائرين؛ وربما بسبب العوز، فالرصيف دائماً هو آخر صديق.. آخر مأوى!

 ماتت الدولة.. سقط النظام

الآن، فقدنا كل اصدقائنا هؤلاء.. غاب الواحد تلو الآخر، وبقينا نحاور مخلفاتهم.. سكنة المدن سرقوا ارصفتنا واضافوها إلى بيوتهم وحدائقهم الأمامية والخلفية.. اخذوها عنوة، أو بالرشاوى، ثم بالاهمال والفوضى وانعدام النظام.. استولوا عليها بقانون (منْ يحاسبنا؟.. ماتت الدولة، وسقط النظام) لكأن الغياب المفاجئ للخوف المزدوج والمركّب من النظام، ترثه الفوضى، أي نهب وسرقة كل شيء.. بئس الوريث وريثهم...

ولكنهم لم يسرقوا حًسبْ.. لم ينهبوا هذه الأرصفة أمام اعيننا فقط.. بل أحاطوها بأسيجة قبيحة.. بما (يسمى) اسيجة، مصنوعة من تنك وقطع من المعاكس و (جينكو) وخشب واكياس طحين فارغة!.. وبذلك شطروها إلى وجهين متناقضين، وجه اخضر من اشجار وفاكهة، وآخر لنا مصنوع ومحوّر من (التنك والجينكو)!.

سأحاول ان انجز ذلك المشهد من الذاكرة، ولكنني وسطه تماماً، فلماذا اقحم نفسي في هذا الشرط اللاانساني؟.. لماذا اهرب منه إليه؟ لا حظوا أنني أحاول ان أجمل مشهد الذاكرة كبديل لمشهدهم ولكن لا فائدة من محاولتي البائسة تلك، طمالما انني لن اجد (الأحسن) لا في نفاياتهم ومخلفاتهم، ولا في ذاكرتي!.. انني، وسط هذه المدينة، أو أي مدينة، اصطدم فقط بوقاحتهم.. انا ملزم (بشراء) هذه الشرور صباحاً وظهراً ومساءاً.. ملزم بدفع اثمان باهظة ليس لهم  وإنما (لوحشيتي الداخلية) للبدائية المرتدّة في نفوسنا جميعاً.. فهؤلاء لا يحترمون الآخر، ولا يؤمنون بوجوده (الرصيف رصيفنا) كما قال احدهم.. آخر من أصحاب تلك البيوت (الزاحفة) قال: ضممت الرصيف إلى الحديقة فبدت أوسع وأجمل (!)، بيوتنا ضيقة، ولا تطاق عندما ينقطع التيار الكهربائي!!

ولكن مدينتكم/ مدينتنا ضاقت وتحوّلت إلى مخلفات العصور القديمة.. مدينة يشعر العابر في وسطها وكأنه في مزبلة.. لا أرصفة ولا واجهات بيوت ولا حدائق لقد انتمت (مدننا) إلى عصر سحيق؟!...

لقراءة التحقيق كاملا يمكنك مطالعة صفحة PDF

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة