الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

Text Box: ح حسين     العدد128    ص16   في أربيل

 في أربيل.. وأمام جدار القلعة التاريخية .. مصورون شمسيون.. ديجتال

أربيل/أحمد السعداوي

تصوير/سمير هادي

سبع كاميرات شمسية، تصطف متباعدة عن بعضها على الرصيف أمام قلعة أربيل الشهيرة في الخلف، حيث يتكئ على جدارها الحجري، وفي الأمام، الشارع الذي تسير فيه السيارات الهوينى، بسبب احتشاد الناس في هذه المنطقة المهمة، حيث دوائر العقاري والأحوال المدنية والضريبة. في قلب مدينة أربيل.

لا يمكن للذي يرى أربيل أول مرة، أن لا يجتذبه - من بين أشياء كثيرة - المنظر الظريف لصناديق الكاميرات الشمسية هذه، وسيظن للوهلة الأولى أن المدينة ما زالت تعيش زمناً غابراً، حين كان الناس يلجأون إلى آلة التصوير العتيقة هذه.

ولكن هذا الظن سرعان ما يتبدد، حين يقترب - مثل أي زبون آخر - ويسأل المصورين عن حقيقة الأمر.

هذه الكاميرات عاطلة.. ولا تعمل). يقول هوراز (18 سنة) وهو يجمع كلماته العربية بصعوبة. ثم يشير بإصبعه إلى الواجهة الجانبية لصندوق الكاميرا، كي يفهمنا الأمر.. (إنها دعاية لا أكثر..) قال ذلك بينما إصبعه تضغط على كلمة حمراء مخطوطة بعناية (ديجيتال)!

(جنبر) تصوير

آريي أنور مولود وعادل حميد.. شابان في الثلاثينيات يجاوران هوراز.. تقدما إلي وشاركا هوراز في الكلام، ثم نبهاني إلى الكابينات الخشبية التي تلاصق سياج القلعة خلف صناديق الكاميرات الشمسية تماماً، ودهشت حين شاهدت أن كل كابينة خشبية منها تحتوي جهاز كمبيوتر مع طابعة ملونة.. كرسياً ومنضدة و(UPS) لحماية الجهاز.. مع عشرات الصور الملصقة في الداخل كدعاية عن جودة التصوير..

كان الأمر بالنسبة لي شبيهاً بما يجري في سائر البضائع والخدمات الأخرى في عموم البلاد. فهناك محل (رسمي) كأن يكون للأحذية أو الملابس أو الأدوات المنزلية.. وهناك في الجانب الآخر.. (جنبر) غير رسمي يعرض الأشياء نفسها.

وهذه الكوميبوترات المنصوبة على الرصيف تقدم خدمتها (الجنبرية) بشكل لا أعتقد أن له مثيلا في أي مكان آخر. لقد اختزل هؤلاء الشباب ستوديوهات التصوير ومختبراتها بأقل ما يمكن من الأدوات والأثاث، وبأصغر مساحة ممكنة من الرصيف، لتبدو الكاميرا الشمسية العاطلة على الرصيف بخرقتها السوداء وأرجلها الخشبية الثلاث.. وكأنها روح المهنة التي لم تغادر بعد، برغم التقنية الرقمية التي يستخدمها هؤلاء المصورون.. إنهم وفق هذا الوصف. مصورون شمسيون ديجتال!!

عادي وملون

آريي وعادل قالا: إن دوائر الحكومة لم تعد تقبل المعاملات بالصور الاعتيادية (الأبيض والأسود) وأصبحت صور المعاملات كلها ملونة، وهذا المكان يحفل بمجموعة من الدوائر الحكومية، وأهمها الأحوال المدنية، حيث يقبل المتزوجون حديثاً على أخذ الصور الملونة.. وهما (أي عادل وآريي) يعملان بالتصوير هنا منذ عام 1993. ولم يكن هنالك في قوتها غير مصورين أو ثلاثة في هذا المكان.

أما محمد عزيز فيقول إنه يعمل في هذا المكان منذ 1999، وبعد أن شحت فرص العمل لديه كمصور.. عمد إلى بيع أثاث بيته لشراء الكاميرا الرقمية وجهازي الكومبيوتر والطابعة الملونة، ليأخذ فيما بعد موقعه مع زملائه الذين سبقوه.

يقول عزيز أن الظرف في التسعينيات كان سيئاً، لكنه تعود على مهنته الحالية وأحبها، وهي تسد متطلباته المعيشية. وهو سعيد لأن الزيجات قد تزايدت هذا العام.. فهذا يعني عملاً أكثر ومورداً أكبر.

كاميرا قديمة

أما أقدم هؤلاء المصورين في المهنة فهو بهرام عباس، الذي يبدو في الخمسينيات من عمره، حيث قال.. كنت أعمل منذ سنة 76 على كاميرا شمسية، وتنقلت في أماكن كثيرة من العراق وكردستان.

وحين سألته عن الكاميرا الشمسية التي كانت منتصبة أمام كابينته، قال إنها كاميرته الأصلية، وكان قد اشتراها مع شريك له من (خان بني سعد) في ضواحي بغداد.. وبعد فترة استطاع الاستقلال بعمله، أما الآن فيبدو أن زمن هذه الكاميرا قد ولى إلى غير رجعة، وهو منذ سنة يعمل مصور ديجتال.. لكنه لا يريد مفارقة كاميرته القديمة التي أعالته وعائلته سنين طوال.

قال بهرام عباس ذلك وهو يربت على كاميرته الشائخة مثلما يفعل حوذي مع عربة فقدت حصانها العجوز.

يوم جيد للعمل

في ذلك الوقت المبكر من الصباح. عبرت إلى الرصيف المقابل حيث دوائر الطابو والجنسية والمحاكم المختلفة.. وشاهدت مناضد وشمسيات (العرضحالجية) وهي تزدحم بالمواطنين.وقبل أن يلتحق بي.. انتقل زميلي المصور سمير هادي بالتقاط صور فنية أخيرة معبرة لهؤلاء المصورين وهم يتوسطون (جنابرهم). كان الزبائن قد بدأوا يتوافدون عليهم.. وهذا ما يبشر بيوم عمل جيد.


مثلما أخضر الحزن فينا.. أخضرت اللوحة بأعمارنا .. سبعون نجماً في سماء العراق والبقية تأتي!

عدنان منشد

هو معرض شامل للفن التشكيلي في العراق!

(سبعون نجماً في سماء العراق) سمى نفسه في البداية. و(معرض الشعب) سموه. ولكن، سرعان ما اتضح إنه أكبر من أن يستتر باسم مستعار، أو يتجلبب بلقب، فإذا هو معرض الحزب الشيوعي العراقي، وكفى.

الوطن، في المراحل السياسية والاجتماعية التي قطعها خلال سبعة عقود خلت، في الرجال الذين تقلبوا فيه على الحكم، في تيارات الحضارة الغربية التي اجتاحته منذ أو وطأ الإنكليز أرض (الفاو) في مطلع القرن العشرين.. في تضعضع وجموح عاداته وتقاليده ومقاييسه.. الوطن، في أفراحه وأتراحه، وجده ومزاحه، من غناه كما غناه الحزب الشيوعي العراقي؟.. لو أراد مؤرخ غداً، أن يؤرخ هذا الجيل الذي يمضي من أجيال الوطن، لما وجد له مرجعاً أصدق من الحزب الشيوعي العراقي، ولا أغزر ولا أعمق.

قاعة (أكد) بتاريخ 29 آيار على ضفاف دجلة، تحتفل بقرابة ثمانين فناناً تشكيلياً عراقياً في النحت والرسم والخزف أبهج المهرجانات الفنية يدخل في سنته التأسيسية الأولى، ويترسخ في مواسمنا العراقية. وهو، في ذلك لا ينشئ جديداً، بل يبعث تقاليد عريقة في وطن أحب أبناؤه الألوان كالأزهار سواء بسواء، غذاء الروح عندهم، كغذاء الجسد، خبز يومي.

خشب وذهب وألوان

الجديد في هذا المعرض، إشراك الشباب، من العشرين إلى الخامسة والعشرين في معرض شعاره (سبعون نجماً...) يتناول اللوحة في سياقاتها الجمالية والدلالية، أو قطعة الصخر أو النحاس في آنية صغيرة أو صحن. وزرع قطع السيراميك التي تصلح للديكور الداخلي كالستائر وأجهزة البيت الكهربائية..

ولكن، كل هذا أيضاً ليس جديداً، إلا بالشكل. وأنا أذكر جيداً توزيع العمل في بيتنا القروي العتيق، كما يذكره أترابي وأبناء جيلي.. منحوتات الخشب الصاج المعفر بمسحوق الذهب من شأن أبي، وجدران الألوان والأئمة الصالحين من شأن أمي، ولكل أشقائي الصغار، معرض على قدر حجمه!

ونعود إلى معرض الحزب الشيوعي التشكيلي الفني في قاعة أكد في ظل مشاركة جيل ما بعد الرواد والأجيال المتوهجة الأخرى، أمثال: عبد الجبار البنا، محمد مهر الدين، ليث فتاح الترك، عاصم عبد الأمير، فاخر محمد، شداد عبد القهار، كريم الوالي، محمد الراسم، قاسم العزاوي، كريمة هاشم، وغيرهم الكثير، لنجد أن شرط النجاح في أي عمل يقوم به الفنان، أن يكون محباً له. المشاركون في هذا المعرض ذهبوا إلى أبعد حد، وكان في تعبير لوحاتهم ومنحوتاتهم أو قطعهم الخزفية، شيء أبلغ، كأنهم يقولون:... إنني أغني كما أحب.

مع هذا المعرض..

قال الفنان نداء كاظم: .. على الرغم من عدم مشاركتي في هذا المعرض، بوازع مسبق، فحواه إنني لا أريد تكرار تجربة معارض حزب البعث السابقة السنوية، ولا أريد أيضاً تكرار أهدافها وشجونها.. تصوروا رعاكم الله.. أية أسئلة يمكن أن تحدثها مثل هذه المشاركة في الوسط الفني، وما يترتب عليها من حيثيات وشواغل، وهذا ما أردت الخروج منه بأي ثمن، ولعله الثقة بالقدرة على مواصلة الحياة.

الناقد التشكيلي صلاح عباس، له وجهة نظر أخرى، حيث قال:

-لقد أبدينا صدوداً لأزمنة الغمام الأسود، الملوث، الذي يريد سد زرقة السماء، وأردنا طي صفحة الحياة الفاترة الخدرة الكسلى، التي شملها الموت مثل أهل القبور، فقد اخضر الحزن فينا، مثلما أخضرت اللوحة بأعمارنا فيما يخاطب الشاعر العراقي المغترب (هاشم شفيق) المشاركين بهذا المعرض، قائلا:

-بأعمالكم الفنية والتشكيلية هذه... بهذه الأعمال التي تنتمي للإنسان، إنكم تفتحون طريقاً نحو الجمال ومنابع الخيال المتقدمة، بأمواج حلمية.. تفتحون فضاءاً نحو الحرية، خالياً من كل القيود التي تحد من إنطلاقة اللون والحجر والطين والنحاس.. ويضيف:

-بهذه الأعمال يتجدد الوعي، وتنمو الفكرة، ويقترب المستقبل.

شؤون وشجون.. وقبلات

وبين التجوال في أروقة هذا المعرض المكتنز الآسر.. سألت حول معرضي الشخصي. كيف أنساه؟.. كان مرة إبريقاً مكسوراً، ومرة حجراً مجوفاً من الطين.. ومرة أسقط في يدي، فلم أعثر إلا على علبة (تنك) فارغة، وكان علي أن أنزع طبقتها العليا العالقة بأحد أطرافها، فسويتها بيدي، فجرحت إصبعي جرحاً عميقاً. وخفت من أمي، فبادرت إلى طين الحديقة، أملأه في العلبة، وإلى التراب أهيله حواليها، مجبولاً بدم ذلك الطفل، ومسقياً بدمعه.

وبين تجوالي السريع في هذا المعرض، وجدت نفسي مرة أخرى مع الفنانين الأحبة، أمثال نداء كاظم وكريمة هاشم وشداد عبد القهار وصلاح عباس، نتبادل الكؤوس والقبل.

أجل، هو الحب في أزمان الحرب، الحب في كل زمان ومكان.. إن للقلب مملكة غير مملكة الجيوش والمدافع. وهي أوسع من الدنيار وأعظم من الموت وستبقى بعد أن تزول الممالك وتندك العروش كلها. والقبلات في النتيجة، هي التي ستخرس القنابل إلى الأبد.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة