الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

في تقنيات الترجمة (2-2)

صلاح نيازي

خشية الإطالة، سنتناول هنا تقنيتين فقط، وهما: 1- الحواس. و2- المنظورية Perspective  ونرى كيف يؤدي فهمهما إلى اقتراب الترجمة من النصّ الأصلي. على هذا ، فشطط  بعض المترجمين يعود إلى إهمالهم أو عدم التفاتهم إلى هاتين التقنيتين. هذا الإهمال ينطبق على المحقق الإنكليزي كما ينطبق على المترجم العربي.

1- الحواس:

ما من شاعر فَصَل الحواس عن بعضها، وجعلها غريبة ومتصارعة، فيما بينها، مثل ما فعل شيكسبير - كما يبدو-.

إنها علامته الفارقة. أمّا تقنيته في ذلك فمدهشة.

أوّلاً يعطّل شيكسبير، الوعي، ويجعل الحواس تنوب عنه بالتفكير، واتخاذ القرار. على هذا يتخذ الصراع بين الحواس، وبغياب الوعي، صيغة مأساويّة أعمق، قد تقود إلى التهلكة. الجنون في كلّ الأحوال مضمون.

فاعتباراً من الفصل الخامس، على سبيل المثال، يعطّل شيكسبير وعيَ الليدي مكبث. تسير في نومها. عيناها مفتوحتان، إلاّ أنّهما عاطلتان. ما من فائدة حتى لنور الشمعة التي كانت تحملها بيدها. لا ترى، ما تراه. أو ترى ما لا تراه. ظلّت تغسل بقعة دم الملك دَنْكِنْ الوهمية لربع ساعة، تغسل وهماً لربع ساعة، وتصيح:

(إمّحي أيتها البقعة اللعينة! إمّحي).

كذا الأمر، بتعطيل الوعي، بتعطيل النور، بتعطيل حاستي البصر والسمع، تظهر حاسة الشمّ بأعلى صورها ضراوة وتوحّشاً: (هنا ما تزال رائحة الدم، كل عطور العرب لن تُطيِّب هذه اليد الصغيرة. واهٍ! واهٍ! واهٍ!)

يتمزّق الإنسان حقّاً حينما تتقاتل حواسّه. تَقاتُلُ الحواس أغرب معركة. لأنّه غير منظور. وما من طريق للهرب، ولأنّ انتصار أية حاسة، إنما هو اندحار شامل للإنسان.

كانت الليدي مكبث تحمل بيدها نوراً عقيماً، شمعة مظلمة. جاء في سفر أيوب -( الإصحاح الثامن عشر- 6-): (النور يظلم في خيمته وسراجه فوقه يظلم). إلاّ أنّ شمعة مكبث تختلف عن شمعة زوجته، وإن تشابهتا شمعاً وفتيلاً. مكبث يصيح: (إنطفئي، انطفئي أيتها الشمعة القصيرة الأجل). أراد أنْ يطفئ الشموع التي كانت تضيء خشبة المسرح، أو أنه يا تُرى أراد أنْ يطفئ نور الوجود؟ الظلام منقذه الوحيد. ما من منقذ سواه. أين يجد الظلام إذنْ؟ أراد أنْ  ينتصر على حاسة بصره:

(بدأتُ أتعب من شمس الحياة،

وأرغب الآن لو أنّ هيكل الوجود يتدمّر.-

إقرعوا ناقوس الخطر- إعصفي يا ريح!

تعال يا خراب)   

عصفت الريح ولكنها عصفت عليه من داخله. جاءه الخراب من داخله. حواسّه تتفكك، تتفكك وتنفصل عن بعضها بعضاً.

إلاّ أنّ جبرا لم يلتفت إلى قدرة شيكسبير العجيبة على استعمال الحواس، ولا إلى أهمية المنظورية في رسم الصور الشعرية.

على سبيل التطبيق، لنأخذ الحوار التالي بين مكبث وخادمه (الفصل الخامس المشهد الثالث). بلغ تمزّق مكبث في هذه المرحلة، حدّاً، بات معه يكره النور، ويتطيّر من اللون الأبيض:

MACH: The devil damn you black, thou cream fac'd  

Where gott' st thou that goose look                     

Serv. There is ten thousand                              

Mach  Geese, villain?

Serv. Soldiers, Sir.

Mach. Go prick thy face,and over- red thy fear, Thou lily-liver'd boy. What soldiers, patch?

Death of thy soul! Those linen cheeks of thine   Are counsellors to fear. What soldiers, whey- face?

أدناه ترجمة المرحوم جبرا:

مكبث : سخطك الشيطان عبداً أسود، يا وغداً حليبي الوجه

من أين لك سحنة الأوزة هذه؟

خادم: عشرة آلاف -

مكبث: اوزة يا نذل؟

خادم: جندي يا سيدي

مكبث: أذهب وخز  وجهك، وموّهْ خوفك بالأحمر

يا ولداً زنبقي الكبد. أيّ جنود، يا مهرّج؟

موتاً لروحك خدّاك بلون الخام

يلقنان الفزع. أي جنود، يا وجهاً من حليب؟

قد لا يخلو أي سطر من الترجمة أعلاه، من تحذلق مؤذٍ. لا يمكن ردّ شططٍ كهذا، إلى عدم تمكن المترجم من اللغة الإنكليزية، ولكن إلى عدم التفاته إلى دور الحواس أوّلاً وإلى التقنية التي استعملها شيكسبير في تصوير الخوف عن طريق استعمال اللون الأبيض.

أولاً لنتذكرْ أنّ شيكسبير، صوّر في الحوار أعلاه حالة رهيبة من الهلع تتراوح بين الحياة والموت. ومما يجعل هذا التراوح يأخذ طابع الطوارئ هو أنّه يحدث في زمن محدود وقصير ولا يقبل التأجيل.

طلائع الأعداء زاحفة على مكبث. تزحف خلال سمعه وبصره. سمعه وبصره هما الثغرتان الواهيتان في حصن جسده. سمعه وبصره يحاصرانه. حاستان تستميتان في إنكار وجودهما. تصطفّان إلى جانب أعدائه . بكلمات أخرى، بدأت المعركة في داخله قبل أن تبدأ معركته الحقيقية مع أعدائه في الخارج. أجلُهُ يجئ مع ما يحمل إليه خدمه من أنباء، ومصيره مع ما يراه من زحف. أيّ بلاء أشدّ من تراوُحٍ بين الحياة والموت. عز الظلام. ما من ظلام ، إذنْ ما من مهرب. يصيح مكبث: (لا مهرب من هذا المكان، ولا مكوث هنا).

بلغ الهلع حدّ الهذيان، واندلاق اللسان. الحوار لهاث بالكامل. ولأوّل مرّة ربّما في تأريخ الأدب، تتحوّل الألوان من صفات لمواد،  إلى مجرّدات قائمة بذاتها. ألوان بلا موصوفاتها. اللون الأبيض يفترس مكبث.

كان وجه الخادم مبيضّاً من الخوف، فكيف ترجمها جبرا: (يا وغداّ حليبي الوجه) ؟ وهل : حليبي الوجه صفة مذمومة؟ وهل Cream: حليب؟ ولماذا أضاف  كلمة:(عبداً)، في البيت: (سخطك الشيطان عبداً أسود). أوّلاً كان شيكسبير معنياً بالمجردات في هذا المقطع، وثانياً لم يكنْ عنصرياً قط. راح مكبث يفتش عن اللون الأسود، عن لون الظلام، حتى وإن كان بلون اللعنة.

كانت(سيماء الخادم مقشعرّة كجلد الأوزّة)، فكيف تُرجمتْ إلى (سحنة الأوزة). ما من سحنة هنا، وإنما المقصود: قشعريرة الجلد التي يعبّر عنها بالإنكليزية: Goose flesh ، عند الخوف أو البرد.

يطلب مكبث من خادمه، أن يخز وجهه ليجعل: (بياضه أحمر بالدم). إلاّ أن جبرا عبّر عن ذلك بما يلي: (وموِّهْ خوفك بالأحمر). ما من تمويه في النصّ، ووضْع اللون الأبيض بدلاً من الخوف أفضل وأكثر منطقية وتأثيراً.

كذلك يصف مكبث خادمه بأنّه: Lily-liver’d ، أيْ مخلوع الفؤاد، وهو تعبير لا يخلو من اللون الأبيض، إلاّ أنّ جبرا ترجمه: (يا ولداً زنبقيّ الكبد).هل هذا تعبير ينبئ عن خوف أمْ عن غَزَل؟.

يقول مكبث أيضاً: (خدّاك الأبيضان كالكتان، يدفعان الآخرين إلى  الخوف). جاءت ترجمة جبرا بالصيغة التالية: (خدّاك بلون الخام يلقنان الفزع). ليس في البيت تلقين، وإنّما عدوى تصيب الآخرين، كما أنّ بياض الكتان، يذكّر  ببياض الكفن.

ثُمّ يخاطب مكبث خادمه بقوله: (يا وجهاً بلون مصل اللبن)، إلاّ أنّ جبرا ترجمها: (يا وجهاً من لبن). ما من لبن. مكبث أراد اللون. كان يشبّه وجه خادمه بلون مصل اللبن أيْ اللون الأبيض. ربّما الأبيض المائل إلى الصفرة.

المنظورية: perspective

ربما تتوضح أهمية المنظورية في الاقتراب من المعنى، لو تناولنا بعض النصوص المهمة التي ما يزال النقاد والمترجمون يختلفون على شرحها. من هذه النصوص، قصيدة: (خبز وخمر) للشاعر الألماني هولدرلين.

قام المرحوم عبد الرحمن بدوي بترجمة هذه القصيدة، ونشرها مع مقدمة في كتاب: (في الشعر الأوروبي المعاصر).

تعتبر هذه القصيدة من عيون الشعر الأوروبي. تُرْجمِتْ إلى اللغة الإنكليزية ثلاث مرّات في الأقل. ربّما أهمّها ترجمة أو ترجمات Michael Hamburger، لأنّه ترجمها ثلاث مرات: مرّتيْن شعراً ومرّة نثراً. ولكن حتى ترجمات هامبيرغر تختلف فيما بينها. لماذا ثلاث مرّات؟ ولماذا اختلفت عن بعضها؟

قصيدة: (خبز وخمر) معقّدة الرموز والإحالات والدلالات، ومن الطبيعي أنْ لا تُفْهم بكل أبعادها. ولكن مما يقرّبنا إلى مغازي هذا النص، وكلّ نصّ شبيه له، هو التعرّف على كيفية توظيف الكاتب للحواس، وما زاوية النظر أو المنظورية التي يمسرح بها القصيدة.

ولأنّ هولدرلين شاعر خاص، فلا بدّ للمترجم أنْ يُلِمّ: برموزه وما يعنيه بالموجودات من بشر وحيوان ونبات وما دلالات عناصر الطبيعة؟ فالعنوان: (خبز وخمر) مثلاً: ( يُؤكّد تكافل أو تعايشSYMBIOSIS   القوى الإغريقية  والمسيحية وقد رمز لها هولدرلين ب (الخبز والخمر) كما يقول هامبيرغر.

عبد الرحمن بدوي ينتمي إلى ذلك الجيل من المترجمين السابقين الذين كانوا يُعنون  بنقل المعنى، دون الالتفات إلى التقنية التي توسّلها الشاعر لتصوير المعنى. أكثر من ذلك قد يغمض المعنى أصلاً ويستغلق إذا أهملنا التقنية، كما سنرى في بعض الآيات القرآنية.

من البراعات التي تتمتّع بها قصيدة (خبز وخمر)  قدرة الشاعر على توقيت الانتقال من حاسّة إلى حاسّة، وبهذه الوسيلة تتغيّر تبعاً لذلك، المشاهد الممسرحة للقصيدة.

قبل كلّ شئ، لفهم هذه القصيدة، لا بدّ من تعيين موقع الراوية من ميدان الحدث. أيْ أين كان يقف؟ وما زاوية نظره؟

مسرح القصيدة في المشهد الأوّل، ميدان سوقٍ صغيرة لبيع الأعناب والأزهار  والمصنوعات اليدوية. ( أيْ لا وجود للمعامل، أو المدنية الصناعية). (العنب مقدّس لدى ديونيسوس، وهو يتكرر مرّات ومرات كأعمق رمز للحياة).  إلاّ أنّ بدوي حذف البضائع المصنوعة باليد رغم دلالتها الريفية المهمة، وترجم الأعناب: (الثمر). كما ترجم And: (أو) بدلاً من: (و). واو العطف ضرورية هنا لأنها تُصوِّر  السلع المعروضة جنباً إلى جنب.

تجري أحداث القصيدة في بداية انحسار النور  عن السوق وبالتالي المدينة، حقيقة و مجازاً. حيث يعود الناس إلى منازلهم. (العودة إلى المنزل بالنسبة إلى هولدرلين، تعني بداية فترة جديدة، وإلى بداية الأشياء لدى كلّ فرد.)  عندها تتعتّم حاسّة البصر مؤقتاً. ولأنّ المدينة تركن إلى الهدوء بعد كدّ يوم، فإنّ الراوية يشرع في سماع أصوات بعيدة. بكلمات أخرى تصبح حاسة السمع  مجسّ الاستشعار، وعن طريقها يرى ما لا يراه. بالإضافة إلى ذلك، يربط هولدرلين بواسطة حاسّة السمع، كما يرى بعض النقّاد، الماضي بالحاضر، و النهار بالليل وكلاهما رمزان أساسيان.

هكذا عمّ الليل، فكيف ينتقل هولدرلين، من حاسة السمع  إلى حاسة البصر ثانية؟

ثمة معبد على جبل. ( تُقرع نواقيسه برفق في الهواء الواهن الإضاءة). بالانتباه إلى مصدر الصوت تكون العين قد انتقلتْ إلى أعلى، فنابت عن السمع، فما الذي تراه؟

بهذه الإضاءة الواهنة، رأى الراوية أعراف الغابة، رأى القمر والسماء الممتلئة بالنجوم، رأى الليل على قمم الجبال يومض بحزن وروعة. بهذه الوسيلة بات الشاعر قاب قوسيْن أو أدنى من السماء وآلهتها. ولكن لماذا يومض الليل بحزن؟

كتب هولدرلين إلى صديقه هينزه :(جئنا  إلى هذا العالم متأخرين جدّاً، وأمجاد الإغريق انحسرت. الآلهة القديمة لا تزال تعيش، إلاّ أنّها تعيش فوقنا بعيداً، غير آبهة إن عشنا أمْ متنا. حياتنا ليست أكثر من الحلم بها.)

لكنْ أين كان يقف راوية القصيدة؟

أوّلاً  الراوية كما توحي به القصيدة ثابت في مكانه، وإنما كان يتنقل بحاستي السمع والبصر.

ربّما نستطيع أن نستدل على موقع الراوية، من الصور الاستشرافية الشاملة التي كان يصوَّر بها السوق والباعة. ولا يتسنى له ذلك ما لم يكنْ في مكان أعلى منها، بحيث يراها كلّها دفعة واحدة. ثُمّ إنه كان يرى العربات وهي تذهب إلى بيوتها في شتى الأزقة ويتابعها حتى تخفت أصواتها. أكان في شرفة، حقيقة؟ أم مجازاً، يتوسط الناس على الأرض والآلهة في السماء؟ هل هذا هو الدور الأزلي للشاعر؟

من الطريف أن ينشر الأستاذ حسن حلمي، في العدد الأخير من مجلة (بيت الشعر) (رقم7 خريف 2003)، ترجمة كاملة لهذه القصيدة الباذخة التعقيد والثراء. إذنْ بين أيدينا الآن،ربّما، أفضل ترجمة لها. كم كان من المفيد لو اطلع المترجم على العدد الثامن من مجلة الاغتراب الأدبي، وفيها مقارنة بين ترجمة عبد الرحمن بدوي والترجمات الإنكليزية لهذه القصيدة، بقلم كاتب هذه السطور. وكذلك على العددين: (50 و51) من المجلة نفسها، حيث ترجم الأستاذ كريم الأسدي مقالتين، بهذا الخصوص من أحد فصول أطروحته باللغة الألمانية لنيل شهادة الماجستير..

ماذا لو التفت الأستاذ حلمي إلى التقنيتين الأساسيتين: الحواس والمنظورية. أو أنه ربّما شعر بهما ولكنهما لم يصبحا لديه مسباراً. إذنْ لنقارنْ هذه الترجمة، و هي المفروض أنها تُرْجِمتْ عن الألمانية، مع الترجمات الإنكليزبة المتوفرة بين يديّ.

جاءت ترجمة البيتين الأولين بالصيغة التالية:

(ضواحي المدينة ساكنة. الزقاق المنير يهدأ

والعربات، مزيّنة بالقناديل، تُسرع rustle.)

في الترجمة الإنكليزية: (كل ما حول المدينة يستكنّ)، وكأن راوية القصيدة كان يستعرض أطراف المدينة فرآها  وهي في اتّون عملية الاستكنان. أما (تسرع) في الشطر الثاني فلا تتناسب مع ما في القصيدة من التأمّل الذي يرافقه البطء عادةً. الأفضل حسب الترجمة الإنكليزية :(العربات المزينة بالمشاعل تقعقع مبتعدة).

يقول المترجم في أبيات أخرى:

(السوق المكتظّة يسودها السكون،

إنها الآن خالية من الزهور، خالية من الأعناب، خالية مما صنعته الأيدي.

لكنّ أنغام الأوتار تتعالى في الحدائق البعيدة:

لعلّ العشاق هناك يمرحون)

أمّا ترجمة الأبيات في النسخ الإنكليزية، فهي:

(سكنت السوق الناشطة

وخلت من أعنابها وأزهارها ومصنوعاتها اليدوية

إلاّ أنّ موسيقى وتريّة تطفو برفق من الحدائق من بعد

قد يكون ثمة عاشق يعزف هناك)

في ترجمة الأستاذ حلمي، لا دليل على انفضاض الناس من السوق. فالسوق ما تزال مكتظة ولكن لأمرٍ ما سادها السكون. أيْ أنّ ثقل البيت انتقل من الانفضاض، وهو الأصل، إلى السكون وهو شئ عارض. في الترجمة الإنكليزية قد يكون الفعل: (سكنتْ) يوحي بحالة جديدة، وهي حالة الاستكنان بعد النشاط. من ناحية أخرى، فإنّ صيغة ترجمة حلمي: (خالية، خالية، خالية)، توحي بالتأزم، بينما تنحو الترجمة الإنكليزية إلى جعل التعبير مجرد سرد محايد. أكثر من ذلك فإن كلمة: (تتعالى) صاخبة، والقصيدة استبطانية هامسة. فإذا أضيفت لها عبارة: (لعلّ العشاق هناك يمرحون) تبدو وكأنّ الشاعر يصوِّر مهرجاناً، وهذا عكس المقصود. هناك عاشق واحد وليس عشاقاً وهو يعزف ولا يمرح.

يقول المترجم في أشطر أخرى:

(والأجراس ترنّ ناعمة في أجواء الغسق، والمؤقّت، حريصاً

على الوقت يؤذن بالساعة.

تتعالى الآن نسمة وتلمس أعالي الأيكة.)

أمّا الترجمة الإنكليزية فجاءت بالصيغة التالية:

(قرع النواقيس يدقّ برفق في الهواء الواهن الإضاءة

الخفير منتبه لمرور الزمن  معلناً الوقت

والآن تهبّ نسمة  وتنفش أعراف الغابة)

يحاول هولدرلين في الشطر الأوّل، أن ينتقل بعين القارئ من أسفل إلى أعلى، أوّلاً عن طريق حاسة السمع (قرع النواقيس) وبكلمة: (رفق) جعل القرع بعيداً، وثانياً عن طريق حاسة البصر (في الهواء الواهن الإضاءة).

يهيّئ الشاعر هنا بمهارة، إلى الإحساس بالآلهة، وقد مضى شطر طويل من الليل. يقول هامبيرغر: (أمّا عن فكرته عن (الشعاع الذابل) ووميض الآلهة غير المتحمّل، فتمتد جذوره في التراث الديني والرؤيوي والشعري. ففي (الفردوس المفقود) لملتون،  صور مشابهة لتلك، وكذلك في شعر وليم بليك).

قرع النواقيس، يمثّل حاسة السمع. وببعد الصوت وخفوته، إنما يهيئ هولدرلين بحذقٍ شديدٍ، لخروج حاسة السمع من المشهد، ودخول حاسة البصر.

وهل هناك أفضل من هبوب النسمة ونفش أعراف الغابة من لفت انتباه العين؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ الهبوب يدلّ على انتقال من مشهد إلى مشهد، أيْ حركة، بعكس كلمة: (يلمس) الخالية من إمكانية رؤيتها، وهي لا تلفت النظر لأنّها حركة خفيةّ. ينتهي الجزء الأوّل من ترجمة حلمي، بالبيتين التاليين:

(تشرق الليلة الباهرة، تشرقُ غريبة بين البشر،

تطلّ ببهائها حزينةً من أعالي الجبال).

إلاّ أنّ الترجمة الإنكليزية تختلف اختلافات أساسية. منها:

(الليل المدهش هناك، ذلك الغريب عن كلّ شئ إنساني

فوق قمم الجبل يومض بحزن وبهاء)

الليل وليس الليلة، لأن الليل في مفهوم هولدرلين هو: (زمان أو مكان التأمل)، ولا فرق هنا بين المكان والزمان. وهو(أي الليل)، والنهار: (جانبان رمزيّان لثيمة واحدة هي:الآلهة ووجودها بين البشر).  ليل هولدرلين، كما قال أحد النقّاد: (له صلة بالفوضى بالمعنى الأسطوري، أيْ طوفان أشياء يسبق ظهور الأشكال والنماذج، وذو صلة بالمادة مقابل الروح، وذو صلة بالطبيعة حينما تُصوَّر على أنها الأرومة الحبلى للحياة... كما يرمز هولدرلين  بالليل في التاريخ الإنساني إلى غياب الآلهة). بالإضافة، لماذا كرر المترجم كلمة: (تشرق) مرّتين؟ ما الغاية من ذلك؟

(أعالي الجبال)، كما ترجمها حلمي، لا تفي بالغرض، وهي صورة عامة بلاتخصيص. (قمم الجبل): مرمّزة تعني  التقاء العواصم الثقافية القديمة، لدى هولدرلين، بغضّ النظر عن جغرافيتها.

هل يمكن عن طريق تطبيق تقنيتيْ: الحواس والمنظورية، تفسير أسباب اختلافات مفسري القرآن الكريم، في بعض الآيات المكية؟

تلك الاختلافات، أربكت بني الضاد، كما أربكتْ مترجمي القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية. فإذا وجد المترجم أمامه، أنّ معنى: العشار، في الآية: (وإذا العشار عُطِّلتْ) تعني إمّا النوق الحوامل في شهرها العاشر، وإمّا السحاب، فبأيّ المعنيين يأخذ؟ أم يأخذ بتفسير ابن عربي الغريب: (وإذا عُطّلت عشار الأرجل المنتفع بها في السير عن الاستعمال في المشي وترك الانتفاع بها، أو الأموال النفيسة)؟

وإذا وجد أمامه معنى سجرت في الآية: (وإذا البحار سجرت)، إمّا ملِئتْ ناراً، وإمّا (ذهب ماؤها فلاتبقى فيه قطرة)، وإمّا جُعِل ماؤها شراباً يُعَذَّب به أهل النار، فأيّ معنى أصلح للترجمة، ولماذا؟

يبدو أنّ المفسرين، على تبحرهم في بلاغة القرآن،لم ينتبهوا في الظاهر، إلى دور كلٍّ من الحواس والمنظورية في تفسير بعض الآيات تفسيراً منطقياً معقولاً.

غير أنّ المفسر، ربّما الوحيد، الذي اجتهد اجتهاداً أقرب ما يكون إلى تقنيتيْ الحواس والمنظورية، هو الفخر الرازي. ربما لهذا السبب، يُعتبر تفسيره مقنعاً.

يذكر الرازي على سبيل المثال، أن معنى العشار ليس النوق الحوامل كما ظنّ بعض المفسرين الآخرين، وإنّما السحاب، لأنّ (العرب تشبّه السحاب بالحامل) قال تعالى: (فالحاملات وقرا).

تستوقفنا في تعليل الفخر الرازي، في تفسير هذه الآية، الجملة التالية: (إلا أنّه أشبه بسائر ما قبله) أي أنّ الرازي وجد صلة منطقية وربّما فنية مع ما قبلها من آيات. وبهذه المثابة فسر: (الخنّس) في الآية: (فلا أُقسم بالخنّس الجواري الكنّس). فذكر  أن فيها رأيين: أوّلاً: النجوم، وثانياً: بقر الوحش. ولكنّه فضّل الرأي الأوّل قائلاً: (والقول هو الأوّل، والدليل عليه أمران: الأوّل أنّه قال بعد ذلك ( والليل إذا عسعس) وهذا بالنجوم أليق منه ببقر الوحش. الثاني أنّ محل قسم الله كلّما كان أعظم وأعلى رتبة كان أولى، ولا شك أنّ الكواكب أعلى رتبة من بقر الوحش).

ما يهمنا، هو الرأي الأوّل وفيه يربط الرازي معنى الخنّس أي النجوم بما بعدها: (والليل إذا عسعس). مما يدلّ على أنه قرأ السورة كوحدة عضوية متواشجة، وثانياً فضّل قراءةً على قراءة بمعيار: (المنظورية). لم يتوصلْ الرازي إلى مصطلح المنظورية، ولكنّه  توصّل إلى تطبيقه بالقرائن وبمواقعها الجغرافيّة، وهذه مرحلة متقدمة نسبياً في النقد العربي القديم.

السورة كما ذكرنا، ابتدأت بأعلى نقطة في الكون أي الشمس ثمّ شرعت بالنّزول إلى النجوم فالجبال فالسحاب فالبحار، ثمّ إلى باطن الأرض: (وإذا النفوس زُوِّجتْ). تشرع زاوية النظر بالارتفاع  مرة ثانية، مع خروج الموؤدة من باطن الأرض. تتوالى الصور بالصعود إلى أن تصل إلى الجنة: (وإذا الجنة أُزلِفتْ). هذه أغرب وأوسع دائرة فنية. ابتدأت بالسماء وعادتْ إلى السماء. المنظورية إذنْ ما تزال في السماء. على هذا يكون تفسير الفخر الرازي للخنّس بأنها النجوم هو عين الصواب. لا ريب يتمتّع الرازي بكلّ صفات الناقد، رغم أنّه لم يطوِّرْ المصطلح ولم يطبقْه على نماذج أدبية أخرى، أيْ لم يجعله نظرية يُهتدى بها.. هذا بالضبط ما أريد التوصّل إليه: لا بدّ للمترجم المعاصر، وهو بكلّ معيار مفسّر بصورةٍ أساسية، من أن  يكون ناقداً، بعد أن كان ناقلاً. ولو كان المفسرون القدامى نقاداً أيضاً لكانت اختلافاتهم أقل، ولكانت ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية أقلّ مشقّة وأكثر قرباً من الصواب.

على أية حال. يبدو أنّ المقصود بالخنّس كواكب بعينها وهي البروج كبرج الجدي والحمل والسرطان والكبش والأسد... التي قدّسها السومريون ومن بعدهم الإغريق ،وما يزال يُقرأ  بها البخت في الصحف والمجلاّت في الوقت الحاضر.

بهذه المثابة، فالعشار حسب المنظورية لا تعني سوى السحاب، لأن زاوية النظر ما تزال متجهة إلى أعلى، لرؤية الجبال وهي تُسَّير، ولا يمكن إنزال زاوية النظر إلى أسفل بدون مبرر مقنع. على هذا فتفسير العشار بالنوق لا يتناسب،كماقلنا، مع الخطّ البياني للصور التي ابتدأت من أعلى نقطة وهي الشمس وانحدرت إلى النجوم فالجبال، فالغيوم. أي أن الصورة لم تنْزلْ إلى الأرض بعد.

بالمعيار نفسه، لا يمكن تفسير: سجرت بمعنى : اشتعلت. إذ إنّ اشتعال البحار وما يرافق ذلك من نور وحرارة، لا يتناسب مع تكوير الشمس وانكدار النجوم، أيْ انطفاء حاسة البصر، من جرّاء تعتيمهما. الأفضل تفسير: سجرت: ب :يبست حسب رأي الحسن. أوّلاً لأنها تعطيل لعمل البحر، تمشياً مع تعطيل عمل الشمس والنجوم والجبال، وثانياً لزيادة ضياع الإنسان، وما من مفرّ له لأن البحر يابس، وفراغ دامس. لولا ضيق المجال لطبقنا الحواس في تفسير بعض الآيات التي اختلف عليها المفسرون وما يزالون، مما كان السبب في ارتباك بعض مترجمي القرآن حيناً وتخبطهم في أحايين كثيرة


((سيد الخواتم)) يثري الحياة النيوزيلندية

ترجمة- عادل العامل

عن- انترناشنال- هيرالدتربيون

تلوح الشخصيات السينمائية، باشكالها الهائلة، بادية للعيان من المطار، وأسقف المسارح، وتبدو الطوابع البريدية وأكواب القهوة والطائرات مزينة بصورهم. وتحتشد الصالات بمعارض الفن الذي يرتبط بالسينما.ومن الصناعية السياحية الى صناعة السينما،  تستمر ثلاثية ((سيد الخواتم)) مدوية اصداء عبر أمة هذه الجزيرة الصغيرة. وسوف يؤكد سيل جوائز الاوسكار المتوقع ذلك النجاح الذي يحتفل به الناس هنا على مدى عامين. فقط.وحتى مع ان (عودة الملك)، وهو الفلم الثالث والاخير الذي انجزه بيتر جاكسون، قد شهد شق طريقه عبر المسارح، فان نيوزيلندة وصناعتها السينمائية تزحف الان لتتهيأ لمستقبل ما بعد ((سيد الخواتم)).

وصد صادقت الحكومة، في كانوالاول الماضي، على برنامج منح من المرتقب ان يجتذب المزيد من الانتاجات السينمائية الى نيزيلندة. سوف  يعوض 12.5% من تكاليف إنتاج الافلام التي تكلف اكثر من 10 ملايين دولار والتي تفي بمعايير معينة فيما يتعلق بالكيفية التي   ينفق بها المال. وأول فلم تُعلن أهليته للمنحة نسخة هوليودية لقصة اخرى تحصل في عالم من الفانتازيا، ((الاسد، الساحرة والخزانة)، وهو الكتاب  الاكثر شعبية في سلسلة (C.S.lewis)، (توايخ نارنيا).

فبدلا من (الارض الوسطى)، ستقوم نيوزيلندة بدور نارنيا. وكان المخرج اندرو آدمسون، وهو نيوزيلندي، مخرجاً مساعداً لفلمي ((شريكShrek) و(شريك2). ومن المتوقع ا ن يبدأ بتصوير المشاهد الحية في أواسط العام الحالي، وإذا ما نجح ذلك، فإن المزيد من افلام نارنيا ستتبعه.وقدأبدأ جاكسون، وهو مواطن محلي آخر، بالتخطيط مؤخراً لاعادة صنع (كنغ كونغ) المكلفة 110 ملايين دولار، وهو مثل ثلاثية (الخواتم) سيصور كلياً في نيوزيلندة. وفي ويتا ديجيتال، شركة جاكسون للمؤثرات الخاصة هنا، يضاهي جو ليتيري، مراقب المؤتمرات المرئية، هذه الشركة بمستخدمته السابقة، اندستريال لايت آند ماجك، الشركة الجبارة التي بنى عليها جورج لوكاس قوة سلسلة (حروب النجوم).

لقد اسس لوكاس هذه الشركة عام 1975 في سان فرانسسكو، التي كانت تعتبر آنذاك سنوات النور من هوليود، لكن المسافة مسألة متضائلة الشأن، كما قال ليتيري، ما دام بإمكان كابلات الالياف البصرية تقليص اية مسافة، بما في ذلك تلك التي بين ولنغتون (نيوزيلندة) وهوليود. (ولديك هنا منطقة خليج ضئيلة)، كما قال  عن ولنغتون، بكل خدماتها، لكن والقليل من الامتداد. (ونيوزيلندة ليست غالية مثل كاليفورنيا).

ان مقدار البنية التحتية المقامة هنا لعمل افلام (الحلقات) يزيد من ضغط لايجاد مشاريع  ذات ميزانيات كبيرة من اجل دعم هذه البنية، غير ان هناك افلاماً اخرى هنا لا تتمتع بميزانيات هوليودية الحجم. ومبلغ الـ330 مليون دولار المصروفة على ثلاثية (الخواتم) يقزَّم الـ100 مليون دولار المقدرة التي تصرف سنوياً على الانتاج من قبل الصناعية المحلية بكاملها.وكان (راكب الحوت) وهو العمل الناجح العالمي المدهش الذي كسب لكيشا كاسل- هوغز البالغة 13 عاماً الترشيح للأوسكار، قد اعتبر فلماً كبير الميزانية، التي تقارب الستة ملايين دولار. وقد بلغ عدد طاقم العاملين في انجاز ثلاثية (الخواتم) 100 ضعف عددهم في ذلك الفلم، وفقاً لتقدير منتجه، جون بارنيت.وذلك التباين الكبير يذهب بعيداً باتجاه ايضاح لماذا تعيد صناعة كاملة- او أمة كاملة بمعنى آخر- تقويم مستقبلها.ومع هذا، فان بعض صانعي السينما النيوزلندية يخشون ان تصعد افلام الخارج الكبيرة الميزانية من تكاليف الانتاج وتزيد من تهميش صناعة الافلام المحلية، بينما هناك من يقلقه ان تندفع الصناعة (والحكومة) اكثر مما ينبغي لتطوير مشاريع خارجية فاتنة التأثير فتؤدي بالانتاج المحلي الى الذبول. وكما قال بارنيت: (ليس هناك من غاية في الاتيان بالناس الى هنا ان لم تكن هناك خدمات لدينا). وهو، مع هذا، ينسب لثلاثية (الخواتم) تزويد تجارة السنيما بدعم عام. ويذهب آخرون الى ما هو بعد من ذلك.

(ان الادراك الكامل لمسألة من نكون، نحن النيوزلنديين، يتغير)، كما قالت رينيلوب بورلاند، الرئيس التنفيذي لاتحاد (نيوزلاند سكرين بروديوسر آند ديفيلوبر). وينظر الى النيوزيلنديين، الذين طالما اعتبروا براغماتيين وعمليين، على انهم أناس يتميزون بالابداع وحتى بالبراعة، كما قالت بورلاند، مضيفة الى ذلك: (وجزء من ذلك هذه الكبرياء المطلقة في (سيد الخواتم).

وفي اغلب اماكن البلاد، لم تتفوق تلك الكبرياء على البراغماتية. فالنيوزلنديون يبحثون عن طرق لاستثمار (سيد الخواتم) أطول ما يمكن.وقد دشنت الحكومة هذا الاتجاه قبل سنتين باعادة تسمية ولنغتون، العاصمة، (الارض الوسطى) للاحتفال بالعرض الاول لـ(سيد الخواتم: صحبة الخاتم)، وهو التنصيب الاول للثلاثية.فراحت الفنادق والمطاعم ومسارح السينما تقدم التشجيعات المتصلة بـ(الخواتم)، وشركات السفر تصطاد السواح المتعلقين بفكرة (الخواتم)، يدعم ذلك بحث في العام الماضي وجد ان 10 بالمئة تقريباً من الزوار العالميين قد وضعوا (سيد الخواتم) في مقدمة الاسباب وراء زيارتهم. وفي ماتاماتا، اجتذب هوبيتون، وهو الموقع الوحيد المتبقي من الفلم، آلاف الزوار، الذين دفع كل منهم اكثر من 33 دولاراً لجولة قصيرة فيه. وكان العدد يزداد 200 شخص كل يوم تقريباً.(وقد وفر لنا هوبيتون فرصة لتحقيق الارباح)، كما قال رسل أليكسندر، الذي تمتلك اسرته حقل الاغنام الذي بني عليه الموقع.فقد راح يجلس في مكتب ضيق مليء بالقمصان، والاقلام، وسلاسل المفاتيح التذكارية، مسجلاً المفاتن السياحية الاخرى التي تجتذب الزوار ليحث على ابقاء عجلة الربح تدور، طير فخاري يصيح، سماء تهبط، كرة الوان، لعبة غولف. (فليس هناك وقت لرعي الاغنام)، كما قال!.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة