الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

خير البلاد سكنتموها  ..الطريق الى البصرة

عبد الكريم العبيدي

قبل اكثر من عام (خطفني) احد اصدقائي القدامى الى البصرة.. كان من نشطاء (ادباء الخارج)، لسعته المنافي والغربة فعاد مبكراً الى بغداد، وحالما اشتعل دمه حنينا ً الى (الونبي وابي الخصيب وحمدان) دعاني الى زيارتها فوراً .. كان بحاجة الى انيس من (طينته) فوجدني.. ذهبنا (سراً) وانغمرنا في مفازاتنا القديمة لثلاث ليالٍ سوياً، كتب عنها صاحبي في احدى الصحف الخليجية فأثارت ضجة في (ديوانياتهم) المحافظة والمتطرفة في آن .. فيما انحزت انا، من دونما سبب واضح الى الصمت طلباً للخلاص من الصدمة!

***

هذه المفازة وهذا الانحياز الغامض – ان صح- سيبرران سر برودي المدهش طيلة (168) ساعة بصرية، قضيتها هناك، في فرن البصرة – الفرجة.

ولكنني الآن، ابدو اقل اقتناعاً بصحة مبرراتها، ربما لأن المفازة والانحياز ظهراً للتعجيل بغلق الصدمة مبكراً، ولإحاطتها بذلك البرود الجميل، كي اغرف مما تيسر لي من تحولات مذهلة، ومن شروط بناء المتخيّل والمستجد معاً، ولربما لأن (غربتي في مدينتي) فرضت عليّ وقتها التحايل والمكر لانفذ بقلمي وعدستي من شروط العزاء والرثاء في مدينة (عتبة)! فلقد تجرني دمعة صغيرة الى قلب مهمتي كلها والتكبير في الانفلات من هول الصدمة، او قد اكتفي وهذا ما كنت اخشاه، ببقعة دم واحدة في (قميص) البصرة التي اكلها الغزاة عبر القرون، وكأنها وجبة استعمارية جاهزة !! آمل.. ذلك بالضبط هو ما دفعني الى البرود، واعتبار مهمتي مفازة، وانحيازي صحيحاً.. وهو ذاته، ايضاً الذي يتراخى الآن ويتفكك، ويجعلني اشعر انني كنت اقرب الى المغامرة الصريحة، والى المبالغة في الصبر والترقب .. والآن ايضاً اكتشفت سر الذهول الذي غزا وجه جاري وهو يرى (مظاهر السفر) ويسمعني ارددد: الى البصرة.. حدث ذلك في صبيحة يوم السبت 5/6 .. جاري الذي صُعِق من لحظة التقائنا قال: (في هذا الحر الشديد؟! ثم تساءل: والسلاّبة، وانعدام الامن!؟ .. انت (مجنون)!).

وقتها، اومأت برأسي موافقاً على كل نصائحه ووصاياه، ووعدته بالاخذ بها، ولكنني بعد دقائق من وداعه نسيتها تماماً (!) تركت البصرة والطريق الى البصرة يأخذان حصتيهما مني، ويطالبانني بديونهما المستحقة والمتراكمة منذ اكثر من عقد.. اعرف انها البصرة العنيدة، وان طريقها المميت، طريق الـ(550) كم ليس سهلاً في حزيران، فكيف وهو ليس آمناً وفي حزيران!؟

وداع

بدأت الثواني الاولى وكأنها فقاعات تنتفخ وتتمطى ببطء، تدور وتسبح في فلك غامض، وقبل ان تنفجر في زعيق الهورنات، يكون صمتي و(برودي) قد انفجر الف مرة، في ذلك القبو الفسيح، الذي تلبّسني فجأة وانعم عليّ بنعمة اللامبالاة (المحوّرة) والجميلة على اية حال.. كنت اتلفت كثيراً كمن يبحث عن شيء ما افتقده، او سيفتقده عمّا قليل.. وكان سائق التاكسي يجوس بعينيه هذه اللفتات دون ان يفقه منها شيئاً، لم يعِ قطعاً انه بجانب راكب سيترك اقسى مشاهده النهارية واكثرها صخباً، راكب سيطلّق مشهد (الانتظار القسري والتحرر المؤقت (بالصدفة) من قرية مغلقة الى فنطازية جسر ديالى، (بكراجها) وسوقها القميء وضجيج باعته، ثم محنة العبور اليومي الى الضفة الشمالية من جسر ضيق مؤقت - الجسر الكونكريتي الكبير دمره (فدائيو صدام) لإعاقة زحف قوات الاحتلال بإتجاه قلب العاصمة! __ ثم الى سلسلة طويلة من زحام التقاطعات والكراجات الطارئة والبضائع المكدسة عبر خط الزعفرانية – الكرادة، وصولاً الى نفايات الباب الشرقي وروائحه ومآسيه).

كل هذا المشهد الرهيب اراه الآن (لآخر مرة)، سأغيب عنه (طويلاً) .. اترك قلق ورعب الثلاث ساعات الصباحية من كل يوم - وفي اقصر مدة لوصولي الى الجريدة - فها انا اعبر  الباب الشرقي بإتجاه (النهضة) عبر الطريق السريع اول مرة .. ها انا بلا دوامة صدئة.. انا متحرر يوّدع صاحبه البغيض (موجع القلب باكياً!!) يودع سلاّبة بغداد وانفجاراتها الساعاتية، يودع صخبها وزحام شوارعها وقلق ساكنيها.. فقط سيترك فيها (كرفاناً) بالياً، يُطلق عليه زوراً اسم منزل!.

ذكريات (وقفت)!

ليت الطريق الى البصرة لا يبدأ من هنا، من (كراج) النهضة، من هذه (الخرابة النكرة)، المليئة بنهارات الحروب واماسيها، والمكتظة بالآلام والغربة والقلق.. ليت الطريق الى البصرة يمحو لمرة واحدة، مثابة انطلاقة، سيئة التذكّر.. هنا في هذا المكان تشردنا وضعنا وبكينا.. سهرنا الف ليلة وليلة على تخوت خشبية قديمة في مقاهِ موبوءة، وأُجبرنا على مشاهدة افلام الرقص والجوبي في حفلات (الويلاد) وسهراتهم (البستانية) حفظنا كلمات اغانيهم البذيئة وابوذيتهم الرخيصة، وشاهدنا كيف ينشر الثملون مئات الآلاف من الدنانير على رأس (غزلان وملايين) !! اكلنا الفلافل والجلفراي والشوربة والتريس، وشربنا اردأ انواع الشاي من بائعات بائسات احطن الكراج من جهاته الاربع، وجلسنا نندب حظنا كثيراً بعد وقائع غريبة وعجيبة مع السلاّبة والنشّالة والشقاوات والثملين والمجانين والمتسكعين والـ(...)، اللعنة!! ولكن لماذا يصر طريق البصرة على الاحتفاظ بهذا (الرأس) وان كان خرفاً؟.. كان هذا (الكراج) هو آخر وجه (محروق) اراه لبغداد الساهرة حتى الصباح، آخر وجه مشّوه لمدينة تنتظر، قبل ان اتوجه الى الموت في جبهات القتال، او اعود بإجازة يتيمة وعاصفة الى (جثة) البصرة التي كانت جبهة هي الاخرى في ظل القصف المدفعي الايراني الذي شرّد اهلها في كل المحافظات وتركها مأوى للعمال المصريين وبقايا العوائل البصرية المسحوقة جداً!

صور صدام .. وداعاً

لم ارَ (النهضة من الداخل) منذ اعوام.. كنت منشغلاً، او جعلوني منشغلاً في نسيانه قسراً .. كانت محاولة بائسة مني او منهم ليس غير.. لم اعرف ان طرق حياتي كلها لابد ان تستدير يوماً ما نحو (شبابها) الضائع، امسها القتيل والمفقود – (الغريب ان اسم الكراج هو النهضة (!!) ..)

بعد دقائق عدة، عثرت على الباب الرئيس بصعوبة، تسللت بين عشرات السيارات الكبيرة والصغيرة الواقفة في الشارع، وعلى الرصيف وبجانب الكراج!! واخترقت عشرات من الباعة والمسافرين والسابلة.. اصطدمت كثيراً بالبسطات والجنابر والقمريات، وبباعة الصحف والمجلات القديمة والسكائر والحلوى والهدايا والمتسولين.. لم اجد امكنة مخصصة لوقوف السيارات ولا لخطوط سيرها.. كلها في اشتباك عنقودي خانق، وفي تداخل مقيت خارج الكراج وداخله، واذا شئت الوصول الى مبتغاك، فما عليك الا ان تسير، ان استطعت، على هداية اذنيك فقط، عليك ان تفرز من بين آلاف الاصوات الصاخبة والمتداخلة (جملتك المفضلة) التي قاتلت كثيراً لإلتقاطها، والتي سيقذف بها سائق شاطر، مشيراً الى المدينة التي تنوي الذهاب اليها.. لا تسأل عن مكان وقوف سيارات مدينتك، فلا احد يعرفها، سِر (سماعياً) في فوضى متنامية، فلربما ستصل ولو بعد حين! انا، مثلاً، غصت في بحر الضجيج والفوضى لدقائق عديدة، وبعد نصف ساعة تقريباً سمعت سائقاً يزعق: للبصرة (بالدولفين) وآخر للبصرة (بالبهبهان)!، ثم سمعت سواقاً يهتفون بأعلى اصواتهم: للبصرة (بالكابرس)، للبصرة (بالسلبرتي) للبصرة (بالسوبر) .. آخرون هتفوا للبصرة بالـ  GMC)) وللبصرة بالريم (عالتبريد) ولأول مرة يحدث قطع مريب في بصري، لأول مرة ارى الكراج خالياً من صور وجداريات (القائد الضرورة)!! اختفت كل اقواله المأثورة وشعاراته ووصاياه، وحلت محلها صور متخيلة لبعض الائمة، وصور لبعض المرجعيات والرموز الدينية.. وشاهدت شعارات واقوالاً مكتوبة بخط رديء تمدح وتذم وتهاجم، واخرى تتوعد قوات الاحتلال وتحذرهم!.. لأول مرة ارى (النهضة) خالياً من الجنود البؤساء والانضباط العسكري وشرطة النجدة والمخربين.. لأول مرة ارى تلك الخرابة وقد ازداد خرابها، جدران عتيقة ومحال بائسة وحفر وبحيرات مياه آسنة ونفايات، وتلول عالية من المزابل تظهر برؤوسها من كل زاوية داخل وخارج الكراج (!) .. متى اغادر هذا المكان؟.. من يخلصني من روائحه؟ (سيارتنا) احاط بها باعة العلك والسكائر والقداحات والاقلام والحلوى البيبسي والهدايا الرخيصة، وزارها لمرات عدة، الشحاذون (جميعاً)، وباعة الصحف والمجلات والصور، وباعة قناني المياه والحَب والكرزات والموز!!.. بعد اكثر من ساعة عثرتُ على ضالتي .. نفذت سيارتنا (الكارثية) من بين الزحام والضجيج والروائح الخانقة.

التفاصيل

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة