بقلم: د. عماد مجيد الشمري
الديمقراطية نظام اجتماعي يعتمد مبدأ الأغلبية. وهذه هي
الإشكالية الأولى في بلدنا. فالمبدأ الثاني للديمقراطية وهو
العدالة والمساواة لا يمكن تحقيقه في ظل التصويت وفق المبدأ
الأول. ذلك أن مجتمعنا يتكون من أقليات كثيرة. فكل ما نستطيع
تحقيقه إذن هو سلطة الأكثرية. وهذا يتنافى مع جوهر
الديمقراطية الذي ينفي كل اشكال الهيمنة.
كان قانون إدارة الدولة المؤقت مرحلة متقدمة في طريق التحول
الديمقراطي لمجتمعنا وبناء المؤسسات التي تنسجم مع هذا
التحول وتداول السلطة بشكل حضاري وضمان عدم نشوء دكتاتورية
فردية أو حزبية ولكنه لم يضع آليات لمنع نشوء دكتاتورية
ديمقراطية واعني بها حصراً دكتاتورية الأغلبية.
إن أروع ما وضعه المشرعون العراقيون هو اعتبار المواطنة
أساساً للدستور. وهذه هي الاشكالية الثانية. فمبدأ المواطنة
الذي لا يميز بين مواطن وآخر مبدأ عائم فهو لا يحدد شيئاً.
ذلك أن الحديث يدور حول المساواة أمام القانون دون التطرق
إلى قضية الأقلية. ما هي حقوقها؟ فمن الذي سيصوت على شرعية
القوانين غير الاكثرية المنتخبة؟! يعني المواطن الذي ينتسب
إلى الأقلية يخضع لقوانين تعتبرها الأكثرية شرعية، حتى إذا
كان يرفضها جملة وتفصيلاً. فالمواطنة تتجلى في محتواها
كمواطنة للأكثرية. وهذه ينسف قوانين الديمقراطية من أساسها.
نحن نتناول مسألة الأقلية ككتلة لها حقوق دستورية وليس
كأفراد، وخاصة إذا تعرضت للتجاهل من قبل الأكثرية وفي إطار
التصويت ذاته.
يمكننا طبعاً تجاوز كل هذه الاشكاليات المعقدة بأن يعتمد
دستورنا العلمانية في النظر إلى المواطنة. وهذا احتمال
معقول. فسوف يجنبنا قضية اختراع اشكال من التصويت تراعي
مسألة التمثيل الديني والمذهبي والطائفي ومات يحمله في طياته
من إمكانية التحول إلى تقسيم المجتمع فعلياً على هذه الأسس
وعدم ذوبانها في إطار المواطنة العام.
المشكلة في التشريع - وفق التنظيم الحالي للجمعية الوطنية
أنها تتكون من مجلس واحد يضم (275) عضواً (ممثل واحد لكل 95
ألف مواطن تقريباً) - أنه تشريع تسنه الأغلبية؛ فهو مجلس
واحد يقترح القوانين والمجلس ذاته يناقشها والمجلس نفسه
بشخوصه عينهم يصوت عليها ويقرها بأغلبيته ذاتها. شيء غير
معقول!! وهذه الإشكالية الثالثة التي يجري فيها إهمال رأي
الأقلية، ويجب تجاوز هذا الأمر.
الإشكالية الرابعة أننا بدون تقاليد ديمقراطية سابقة لعهدنا
الحالي. صحيح أن هناك رقماً طينية جاءتنا من حياتنا السابقة
عن أشكال من الديمقراطية عاشها سكان بلادنا ولكنها موغلة في
القدم (يزيد عمرها على أربعة آلاف عام). ونحن عندما نناقش
قضية نناقش صياغتها القانونية ووضعها في الدستور، ولا نعتمد
على النيات الحسنة، ففي هذا سذاجة. فلو كان المشرعون كلهم
على غرار حميد مجيد موسى وإبراهيم الجعفري ومسعود البرزاني..
لما شغل بالنا هم، ولكن المشكلة هي أن قسماً من المشرعين
سيكونون على شاكلة أخرى. ولهذا بالضبط نحن بحاجة إلى تطوير
آليات دستورية لممارسة الأقليات مبدأ المساواة في الحقوق.
وهذا ما يجب أن يهتم به المشرعون ايضاً.
يضاف لهذا إشكالية أخرى وهو الإرث الفاشي الذي يحمله الكثير
من عناصر النظام المنهار، والذي تبوأ العديد منهم مراكز في
السلطة وربما سيجد بعضهم طريقه إلى البرلمان..
وهناك إشكالية التطرف بكافة عناوينه: الأصولية والشوفينية
والآيديولوجية.. (وكل واحدة من هذه مبحث كامل)
وإشكالية أخرى وهي وجود أعداد كبيرة من المجرمين أطلق النظام
السابق سراحهم ويمارسون نشاطهم كمافيات منظمة.
وهذا الأمر نتفرد به نحن في العراق. كمصيبة إضافية. كأنما
تنقصنا المصائب! على الرغم من أن السلطة الجديدة بإمكانها
حله بسهولة فكل ما عليها هو إعادة محاكمتهم. لأنهم سيستخدمون
للتاثير على مراكز صنع القرار. وصقلية كمثال ليست ببعيدة!
وهناك إشكالية أعمق وأكثر تعقيداً. فالديمقراطية كنظام حكم
تحتاج إلى بنية اقتصادية ملائمة كي تستطيع أن تنطلق وتتطور.
(ندعو اختصاصينا إلى الكتابة عن هذا الموضوع)! وليس المقصود
جيوش العاطلين عن العمل، فهذا كارثة وليس إشكالية.
ومن أعقد الإشكاليات التي تواجه ديمقراطيتنا هو الإشكالية
الثقافية. فنحن عملياً بلا إرث ثقافي لا في مجال الديمقراطية
ولا في مجال حقوق الأقليات ولا في مجال حقوق الإنسان. والكل
هنا سواسية: رجل الدولة ومؤسسات المجتمع المدني ومنظماته
(ومنهم كوادر الدفاع عن حقوق الإنسان) والمواطن الاعتيادي!
ويجب تنشيط مجالات تقديم المحاضرات وفتح مجال التلفزيون
والصحف والترجمة والطباعة وتعلم المفاهيم.. وهذا مجال حيوي
تتوقف عليه المسيرة اللاحقة لديمقراطيتنا..
ولا ننسى قضية تحويل العراق إلى ملعب للإرهاب العالمي..
ووجود ملايين قطع الأسلحة (الخفيفة والثقيلة) بيد وفي متناول
المدنيين والعسكريين السابقين والمجرمين..
يجب أن يكون للأقليات، في مكان ما، من حلقات التشريع، حق
الفيتو. لا أعرف أين يجب أن يكون هذا بالضبط! ومع ذلك أمامنا
احتمالات متعددة منها: أن يكون لنا هيئتان برلمانيتان الأولى
تنتخب على اساس مبدأ الانتخاب العام وفق النسب السكانية
والثانية تنتخب على أساس مبدأ الانتخاب المخصص وبالتساوي بين
مختلف القوميات، أو أن تشكل محكمة عليا بطريقة معينة تساعدها
على اعتماد مبدأ التصويت القومي! وقد يتطلب الأمر تشكل محكمة
عليا بطريقة معينة تساعدها على اعتماد مبدأ التصويت القومي!
وقد يتطلب الأمر تشكيل (مجلس قوميات) فيه نسبة تمثيل
متساوية. باختصار يجب أن يكون هناك فيتو في طريق التشريع
لقطع الطريق على ديكتاتورية الأغلبية.
بالتأكيد يمكننا أن نتجاهل هذا الأمر إذا كنا نرغب بان نترك
قنبلة موقوتة في البيت العراقي. ولكن المبادرة الآن بأيدينا.
الدستور الدائم يجب أن يقر ليس باستفتاء شعبي عام متساو
ومباشر بل باستفتاء مخصص تشارك فيه الأقليات ويتم اعتماد
مبدأ الأكثرية في إطار هذه الأقليات كل على حدة. ويتم تعديل
الدستور على أساس هذا التصويت المخصص. فلا نريد دستوراً، مثل
الدستور اللبناني، يوفر لنا أرضية لحرب أهلية أو طائفية.
فلا الأغلبية البسيطة (50+1) ولا أغلبية الثلثين أو حتى
ثلاثة أرباع.. يمكنها أن تجنبنا التحكم المنفرد للأغلبية في
اتخاذ القرار السياسي أو المالي.
وتناقش المسألة أحياناً وفق شعور الأغلبية بالتفوق أو
الوصاية على الأقلية.. وكلا المسألتين ليست ديمقراطية وليست
عادلة. وهي إشكالية يمكن تجاوزها.
يجب أن يكون الدستور الدائم دستور الجميع وليس دستور
الأغلبية. فلا يجوز توزيع الحقوق وفق النسب السكانية. انظروا
إلى (رواندا) تروا كيف أدت سيطرة الأكثرية إلى مجازر وكيف
أدت سيطرة الأقلية إلى مجازر. مليون ونصف المليون قتيل من
الهوتو والتوتسي (في أسبوع زمان!).
لنفترض أن السياسة الخارجية تتعلق بموقف الحكومة العراقية من
مشكلة الشعب الكردي في تركيا مثلاً، أو من البروتستانت في
أيرلندا الشمالية، أو من الأتراك في قبرص.. أو أن السياسة
الداخلية تتعلق بالشؤون المالية فيما يرتبط بتقسيم الحصص على
المحافظات أو المناطق مثلاً.. ونقوم في هذا وذاك بتجاهل حقوق
الآخرين من الأقليات..
المساواة تقتضي مشاركة الأقليات في رسم السياسة الخارجية
(ومنها عقد المعاهدات الدولية) وفي أمور الدفاع وفي السياسة
المالية للحكومة المركزية.
من الإشكاليات الأخر قضية الفدرالية، التي يجري التعامل معها
أحياناً وكأنها منة من القومية الكبيرة أو مكرمة.. ويدور
الحديث عن فدرالية جغرافية وفدرالية إدارية وفدرالية سكانية
(ناسين أن بغداد هي أكبر مدينة كردية في العالم... وتجنباً
للمماحكة، برغم أن هذا لن يغير من الأمور شيئاً أقول: بغداد
يسكنها عدد من المواطنين الأكراد أكثر من أية مدينة أخرى في
العالم).. وكأن الشعب الكردي قد حصل على الحكم الذاتي من
براثن الدكتاتورية لأنه شعب غير مقاتل!.. أو أن القادة
الأكراد يمكن أن تمر عليهم هذه التخريجات ولا يعرفون أن
مطلبهم هو الحكم الفدرالي القومي بالذات.. وليس أي شكل آخر
من الفدرالية.. إن كردستان أقرب من أية منطقة عراقية أخرى
إلى الفدرالية فلديها دستور وبرلمان وقضاء وحكومة وقوات
مسلحة.. ولا تحتاج لممارسة فدراليتها لأكثر من إقرار الدستور
العراقي والبرلمان المركزي وتوقيع الرئيس العراقي. ويرتبط
بهذا موقف دول الجوار.. والذي وصل صداه إلى قرارات مجلس
الأمن الدولي.
إشكالية جديدة هي إشكالية التوازنات. فليس منطقياً أن تفرض
مواد دستورية تقبل بها الأقلية وفق مبدأ (يجب أن تقبل!) فقد
يقبل تشبثاً بالبقاء ولكن هذه ليست ديمقراطية، بل إرهاب. ذلك
أن القبول بدون قناعة وإنما خوفاً من أن تستخدم ضده القوة هو
خطأ استراتيجي يرتكبه الأقوياء الآن بحق الأجيال القادمة..
يوفر الأرضية لعدم الاستقرار اللاحق.
الوطن يتسع للجميع. ولا فرق بين مواطن وآخر. ذكراً أو أنثى.
ويجب أن يتساوى فيه الجميع دستورياً وأمام القانون. الأكثرية
والأقلية، العرب والكرد، والتركمان والكلدان والآشوريون.. كل
من يحمل جنسية البلد (وهذه إشكالية مضافة من النظام السابق:
إشكالية التعداد السكاني، والمهجرين، والمهاجرين، والمسقطة
جنسيتهم، وازدواجية الجنسية..).. ويجب أن يكفل لهم الدستور
هذا بشكل واضح وشفاف ودون صياغات (ذكية). كل المواطنين
والمواطنات سواسية ويحق لهم الترشيح لجميع مناصب الدولة بما
فيها رئاسة الجمهورية.
ولسنا على عجلة من أمرنا في إقرار دستور دائم (لأننا نريده
دستوراً يوفر مستقبلاً آمناً)، وليس دستوراً هشاً يقدم لنا
هدنة سلام اجتماعي مؤقتة، ثم يدفع أبناؤنا أو أحفادنا رقابهم
ثمناً لخطأ استراتيجي نرتكبه الآن. علينا نحن، أنفسنا، أبناء
هذا الجيل، أن نتعرض للمخاطر وندفع الثمن، إذا كان لابد من
ثمن يدفع؛ ولكن أن تعيش أجيالنا القادمة بأمان وسلام.. وتبني
هذا الوطني وتزدهر وتنتشي وتغرد.
|