الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

العالمُ الحرُ يَمْهُرُ العراقَ الجديدَ بخاتم الشرعية الدولية

د. شاكر النابلسي

-1-

منذ بدأت أول حصوة من حصى الديكتاتورية تنهار في العراق مع فجر التاسع من نيسان 2003  قلنا، بأن العراق الجديد قد بدأ أولى خطواته نحو شرعية الدولة الجديدة، ونحو شرعية العراق الجديد. ولكن العربان أبوا إلا أن يكابروا وينكروا ويصيحوا صياح المستنجدين من الغرق في بحر الظلمات الذي هم فيه الآن. وهكذا كان.

منذ أول خيط من خيوط فجر التاسع من نيسان 2003  قلنا، بأن العراق والعرب الراغبين معه، المؤمنين به، الداعمين له، سوف يحققون الهدف الأكبر المنشود، وهو حرية العراق وديمقراطية العراق، ولكن بعد فداء كبير، وتضحيات عظيمة، ودماء غزيرة. فلا شيء أغلى من الحرية.وهكذا كان.

-2-

العرب لا يريدون الاعتراف بحقائق التاريخ الجديد.

هكذا هم فعلوا مع القضية الفلسطينية، حين أنكروا الوضع الجديد في فلسطين عام 1948، وركبوا رؤوسهم، وناطحوا الصخور، ورفضوا التقسيم، فأضاعوا فلسطين كلها، وليس أقل من نصفها كما كان مقرراً في عام 1948.وانظروا ماذا يجرى الآن في (المستنقع الغزاوي) المرشّح لأن يصبح دولة طالبانية جديدة، بفضل (حماس)، و (الجهاد الإسلامي)، و(كتائب الأقصى)، والشيخ ياسر، وغيرهم من الفصائل الدينية الفلسطينية المسلحة؟ وهكذا فعلوا الآن في العراق.

فمنذ اللحظة الأولى لفجر التاسع من نيسان 2003، كانت كل الثوابت تقول أن العراق الجديد سيكون شرعياً ، ولو كره الكافرون به. وأن العراق سينال حريته، ويحقق ديمقراطيته، ولو كره المرتزقون من حربه.وأن الديكتاتورية لن تعود إلى العراق ولو قال القائلون.

-3-

قرار مجلس الأمن 1546 في 8/6/2004 ، كان هو الختم الشرعي الدولي الذي مَهَرَ الشرعية العراقية الجديدة بخاتم الشرعية الدولية، وجعل من العراق الجديد دولة ذات سيادة، ليست سيادة العبيد، كما كانت قبل التاسع من نيسان 2003، ولكنها سيادة الأحرار الذين عرفوا كيف يتحالفون مع الشياطين من أجل القضاء على الديكتاتورية، كما تحالف من قبل هارون الرشيد مع شارلمان ملك فرنسا (الشيطان) للقضاء على الدولة الأموية في الأندلس، وكما تحالف تشرشل مع الشيطان الشيوعي الروسي من أجل القضاء على الديكتاتور النازي الألماني، والديكتاتور الفاشي الايطالي، في الحرب العالمية الثانية.

نعم، كان على ضمير العالم الحر أن يستقيظ أخيراً، ويقف إلى جانب الشرعية العراقية المتمثلة بالوزارة الجديدة والرئيس الجديد الذي نلفت النظر إلى أنه ليس شيخ قبيلة كما يصفه الإعلام العربي مكراً وسخرية وحطاً من قدراته، ولكنه رئيس جمهورية جدير برئاسة العراق. فهو المتعلم المتعولم العلماني بفكره وسلوكه وخطابه السياسي. وهذا يكفي لأن يكون رئيساً جديراً. وهو لن يحكم  العراق بعِقاله وغُترته وشماغه وعباءته المُقصّبة، ولكنه سيحكم بما تعلمه في (جامعة البترول) وفي جامعة (جورج تاون)، وليس في (الكتاتيب) السياسية.نعم، كان على ضمير العالم الحر أن يفيق من غفوته التي طالت عاماً كاملاً لأسباب سياسية وتجارية محضة لا علاقة لها بشرعية النظام البائد، ولا بشرعية النظام العائد بالحرية والديمقراطية التي خطفها قُطّاع الطرق.

نعم، كان على ضمير العالم الحر أن يتحرك ويُصوّت بالاجماع إلى جانب المشروع الأمريكي - البريطاني الخاص بتسليم الشرعية العراقية لأصحابها. وهكذا أوفى الأفياء بوعودهم، ولم يمارسوا الاحتلال طويلاً كما تمنّاه العرب لهم، حتى تكون لدى العرب حجتهم في دفع آلاف المرتزقة إلى الجحيم العراقي، الذي أرادوه نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.

-4-

وما زال العرب ينكرون على العراق سيادته، برغم قرار مجلس الأمن 1546 هذا.العرب يقرأون الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن في هذا القرار، على غرار القراءات السبع للكتاب المقدس!

القراءة الأولى تقول، أن العراق اليوم بلد سيد، حر، مستقل. وهذه قراءة المثقفين العرب من الليبراليين الجدد، وهم عملاء المخابرات الأجنبية كما يُطلق عليهم!القراءة الثانية تقول، أن العراق، اليوم، بلد واقع تحت الاحتلال، وهو ليس سيداً، ولا حراً، ولا مستقلاً. وهذه قراءة القومجيين العارفين ببواطن الأمور وظواهرها!

القراءة الثالثة تقول، أن العراق بهذا القرار أصبح خازوقاً مؤلماً في قفا العالم العربي. ويجب نزعه أو الجلوس عليه. وهذه قراءة المستشارين السياسيين  للزعماء العرب.القراءة الرابعة تقول، أن الشرعية العراقية مطعون فيها ومرفوضة، حتى ولو اعترفت بها الأمم المتحدة ومجلس الأمن.  وهذه قراءة الإعلام العربي الحكومي، الذي لا إعلام غيره.القراءة الخامسة تقول، أن الديمقراطية العراقية تحت ظلال الحراب الغربية مرفوضة. وأن الديمقراطية الوحيدة المقبولة المشكورة، هي الشورى تحت ظلال السيوف الدينية. وهذه قراءة تنظيم (القاعدة) والفصائل الدينية المسلحة الأخرى.

القراءة السادسة تقول، أن العراق سيظل محمية أمريكية برغم الغطاء الشرعي الدولي الجديد في القرار 1546. وهذه قراءة حزب البعث.القراءة السابعة تقول، أن العراق برغم هذا الغطاء الشرعي، تحكمه شلّة من عملاء المخابرات الأمريكية والبريطانية. وكأن لا زعيم عربياً يعمل لدى مثل هذه المخابرات، وبأجور أعلى! وهذه قراءة الراغبين بالعمل مع المخابرات الأجنبية، ولكنهم مرفوضون لعدم الكفاءة!

-5-

الشرعية الدولية من مجلس الأمن على الرأس والعين العربية، عندما تُقرر بالاجماع أن قوات التحالف في العراق هي قوات (احتلال)، وليست قوات (احلال) نظام ديمقراطي محل نظام ديكتاتوري كما قلنا في مقال سابق، وكما جرى في العراق وخلال عام واحد فقط، وليس احتلالاً لمائة وثلاثين عاماً كما جرى لاحتلال فرنسا (التي تتبجح الآن بالشرعية الدولية) للجزائر.ولكن هذه الشرعية الدولية من مجلس الأمن مرفوضة ومشكوك في قراراتها عندما يقرر مجلس الأمن بالاجماع شرعية النظام العراقي الجديد، ويقرّ السيادة العراقية. برغم أن الأسياد في فرنسا والمانيا وروسيا واسبانيا، بصموا على ذلك، ورضخوا للقرار الدولي أخيراً، بعد أن تأكد لهم اصرار الشعب العراقي على نيل حريته، وتحقيق ديمقراطيته.

-6-

قرار مجلس الأمن 1546 في 8/6/2004 سيمنح الشرعية الدولية للحكومة العراقية المؤقتة والتي من المقرر أن تتولى السلطة في 30 حزيران الجاري. كما سيُعطي القرار الحق للقوات المتعددة الجنسيات التي تقودها أمريكا باتخاذ جميع الإجراءات الضرورية للحفاظ على السلام. فماذا يعني هذا القرار الدولي؟

انه يعني بكل بساطة أن العالم أجمع قد اتفق على أن العراق يجب أن ينعم بالحرية والسلام والديمقراطية. وأن اعتماد مشروع القرار الجديد سيضع حداً لفترة طويلة من الصعوبات الدولية بشأن الملف العراقي، كما قال رئيس المفوضية الأوروبية رومانو برودي. وأن العراق أصبح في يد قوة أمينة متمثلة بحلف الناتو، وليس بالقوات الأمريكية أو البريطانية فقط، كما أعلن الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي(الناتو) ياب هوب شيفر، الذي قال أنه سيكون من الصعب غضُّ الطرف إذا طلبت الحكومة العراقية في الأسابيع أو الأشهر المقبلة تدخل الحلف في بلادها. وأن هذا القرار يعني كما وصفه كوفي عنان - المطلوب رأسه من قبل منظمات الارهاب الدينية المسلحة مقابل كيلوات من الذهب العائد من تجارة الأفيون الأفغاني والباكستاني - بأنه (التعبير الحقيقي لعزم المجتمع الدولي على بناء العراق الجديد).

-7-

لفَّ العُربان وداروا حول القرار 1546 الذي أزعجهم، وآلمهم، وقضَّ مضاجعهم، وأنبت الشوك في ظهورهم وخواصرهم، وحاولوا أن يجدوا فيه وله بعض الخوازيق، كعادتهم في نكران وتجاهل الحقيقة السياسية الواقعية، ودفن رؤوسهم في رمال الصحراء العربية المُحرقة.فقالوا: في الوقت الذي حظي فيه مشروع القرار الاميركي البريطاني حول مستقبل العراق بإجماع كافة أعضاء مجلس الامن بعد معالجة بعض المخاوف الفرنسية، انقسم العراقيون بشأن القرار بعد تهديد الأكراد بالانفصال عن العراق اذ لم يتم تضمين القرار اعترافاً بالدستور المؤقت الذي يمنحهم مزايا سياسية.وقال العُربان: أن هذا القرار قد أثار حفيظة الشيعة. وأن أي اعتراف بالدستور المؤقت يعني (بداية الحرب على الديمقراطية). فلماذا سبب هذا القرار كل هذا الألم والغضب والخوف للعُربان من المستقبل القريب، وأنبت الشوك في الظهور والخواصر العربية الرهيفة؟

انها أسباب بسيطة منها:

- أن العرب قد اقتنعوا قناعة شديدة، بأن الغرب لم يعد قادراً على قبول وغضِّ الطرف عن الأنظمة الديكتاتورية القائمة في العالم العربي. وما أن تجرؤ دولة عظمى كأمريكا على اقتلاع ديكتاتورية ما بالعصا الغليظة، حتى يستجيب ويرضخ المجتمع الدولي للوضع الجديد المتمثل بتطبيق استحقاقات الحرية والديمقراطية، ولو بعد عام من الدماء والضحايا.

- أن العرب أصبحوا على قناعة تامة بأن الارهاب الدموي الديني والقومي، وإرسال فلول المرتزقة الزرقاوية والحمراوية والخضراوية والسوداوية، لانقاذ الديكتاتورية المنهارة في أي بلد عربي لن يجدي نفعاً. وأن النظام العالمي الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي كان داعماً للديكتاتوريات العربية الاشتراكية الثورية في مصر وسوريا والجزائر والعراق وجنوب اليمن وغيرها قد فرض نفسه بقوة السلاح وبقوة المصالح وبقوة الواقعية السياسية الجديدة.

- أن العرب أمامهم خياران أحلاهما مُرُّ:

فإما الاصلاح الشامل من الداخل، وهو ما لا يقدروا عليه، لأن الاصلاح ليس فتوة سينمائية مصرية بطلاها فريد شوقي ومحمود المليجي، ولكنه إصلاح يتطلب آلية علمية واقتصادية وثقافية عالية المستوى، وهي المفتقدة لدى العرب.فالدرس لا يتم إلا بالتلميذ والأستاذ. والعرب يريدون أن يكونوا هم التلاميذ وهم الأساتذة ايضاً.فلا إيمان لدى العرب قدر إيمانهم بقدرتهم الذاتية الأسطورية الوهمية المتفوقة الخارقة. إذن، فلا إصلاح من الداخل. وكل دعوة إلى الإصلاح من الداخل ما هي إلا تهريج عربي ممجوج، وزفّات عرس سياسية ذات عطر رخيص كعطر المومسات، تعوّدنا عليها منذ العام 1952 إلى الآن.والخيارُ المُرّ الثاني، هو الاصلاح من الخارج. وهو يعني اقتلاع كافة الاشجار القديمة المتيبسة التي أصبحت كالعرجون القديم كما وصفها القرآن، وحرث الأرض من جديد بأحدث (تراكتورات) الحراثة، وزراعتها من جديد، طبقاً لأعلى مستويات التقنية السياسية التي نراها سائرة في العراق الجديد الآن.وهذا خيار مُرٌ ومرفوضٌ في العالم العربي، الذي ما زال يرى في نبات الصُبّار السياسي ياسميناً، ويرى في نبات العُلّيق السياسي ورداً جورياً!وهكذا بدا العرب هذا المساء كالمُنبت. فلا ظهراً أبقوا، ولا أرضاً قطعوا!


إشكاليات الديمقراطية في بلدنا وحقوق الأقليات الدستورية

بقلم: د. عماد مجيد الشمري

الديمقراطية نظام اجتماعي يعتمد مبدأ الأغلبية. وهذه هي الإشكالية الأولى في بلدنا. فالمبدأ الثاني للديمقراطية وهو العدالة والمساواة لا يمكن تحقيقه في ظل التصويت وفق المبدأ الأول. ذلك أن مجتمعنا يتكون من أقليات كثيرة. فكل ما نستطيع تحقيقه إذن هو سلطة الأكثرية. وهذا يتنافى مع جوهر الديمقراطية الذي ينفي كل اشكال الهيمنة.

كان قانون إدارة الدولة المؤقت مرحلة متقدمة في طريق التحول الديمقراطي لمجتمعنا وبناء المؤسسات التي تنسجم مع هذا التحول وتداول السلطة بشكل حضاري وضمان عدم نشوء دكتاتورية فردية أو حزبية ولكنه لم يضع آليات لمنع نشوء دكتاتورية ديمقراطية واعني بها حصراً دكتاتورية الأغلبية.

إن أروع ما وضعه المشرعون العراقيون هو اعتبار المواطنة أساساً للدستور. وهذه هي الاشكالية الثانية. فمبدأ المواطنة الذي لا يميز بين مواطن وآخر مبدأ عائم فهو لا يحدد شيئاً. ذلك أن الحديث يدور حول المساواة أمام القانون دون التطرق إلى قضية الأقلية. ما هي حقوقها؟ فمن الذي سيصوت على شرعية القوانين غير الاكثرية المنتخبة؟! يعني المواطن الذي ينتسب إلى الأقلية يخضع لقوانين تعتبرها الأكثرية شرعية، حتى إذا كان يرفضها جملة وتفصيلاً. فالمواطنة تتجلى في محتواها كمواطنة للأكثرية. وهذه ينسف قوانين الديمقراطية من أساسها.

نحن نتناول مسألة الأقلية ككتلة لها حقوق دستورية وليس كأفراد، وخاصة إذا تعرضت للتجاهل من قبل الأكثرية وفي إطار التصويت ذاته.

يمكننا طبعاً تجاوز كل هذه الاشكاليات المعقدة بأن يعتمد دستورنا العلمانية في النظر إلى المواطنة. وهذا احتمال معقول. فسوف يجنبنا قضية اختراع اشكال من التصويت تراعي مسألة التمثيل الديني والمذهبي والطائفي ومات يحمله في طياته من إمكانية التحول إلى تقسيم المجتمع فعلياً على هذه الأسس وعدم ذوبانها في إطار المواطنة العام.

المشكلة في التشريع - وفق التنظيم الحالي للجمعية الوطنية أنها تتكون من مجلس واحد يضم (275) عضواً (ممثل واحد لكل 95 ألف مواطن تقريباً) - أنه تشريع تسنه الأغلبية؛ فهو مجلس واحد يقترح القوانين والمجلس ذاته يناقشها والمجلس نفسه بشخوصه عينهم يصوت عليها ويقرها بأغلبيته ذاتها. شيء غير معقول!! وهذه الإشكالية الثالثة التي يجري فيها إهمال رأي الأقلية، ويجب تجاوز هذا الأمر.

الإشكالية الرابعة أننا بدون تقاليد ديمقراطية سابقة لعهدنا الحالي. صحيح أن هناك رقماً طينية جاءتنا من حياتنا السابقة عن أشكال من الديمقراطية عاشها سكان بلادنا ولكنها موغلة في القدم (يزيد عمرها على أربعة آلاف عام). ونحن عندما نناقش قضية نناقش صياغتها القانونية ووضعها في الدستور، ولا نعتمد على النيات الحسنة، ففي هذا سذاجة. فلو كان المشرعون كلهم على غرار حميد مجيد موسى وإبراهيم الجعفري ومسعود البرزاني.. لما شغل بالنا هم، ولكن المشكلة هي أن قسماً من المشرعين سيكونون على شاكلة أخرى. ولهذا بالضبط نحن بحاجة إلى تطوير آليات دستورية لممارسة الأقليات مبدأ المساواة في الحقوق. وهذا ما يجب أن يهتم به المشرعون ايضاً.

يضاف لهذا إشكالية أخرى وهو الإرث الفاشي الذي يحمله الكثير من عناصر النظام المنهار، والذي تبوأ العديد منهم مراكز في السلطة وربما سيجد بعضهم طريقه إلى البرلمان..

وهناك إشكالية التطرف بكافة عناوينه: الأصولية والشوفينية والآيديولوجية.. (وكل واحدة من هذه مبحث كامل)

وإشكالية أخرى وهي وجود أعداد كبيرة من المجرمين أطلق النظام السابق سراحهم ويمارسون نشاطهم كمافيات منظمة.

وهذا الأمر نتفرد به نحن في العراق. كمصيبة إضافية. كأنما تنقصنا المصائب! على الرغم من أن السلطة الجديدة بإمكانها حله بسهولة فكل ما عليها هو إعادة محاكمتهم. لأنهم سيستخدمون للتاثير على مراكز صنع القرار. وصقلية كمثال ليست ببعيدة!

وهناك إشكالية أعمق وأكثر تعقيداً. فالديمقراطية كنظام حكم تحتاج إلى بنية اقتصادية ملائمة كي تستطيع أن تنطلق وتتطور. (ندعو اختصاصينا إلى الكتابة عن هذا الموضوع)! وليس المقصود جيوش العاطلين عن العمل، فهذا كارثة وليس إشكالية.

ومن أعقد الإشكاليات التي تواجه ديمقراطيتنا هو الإشكالية الثقافية. فنحن عملياً بلا إرث ثقافي لا في مجال الديمقراطية ولا في مجال حقوق الأقليات ولا في مجال حقوق الإنسان. والكل هنا سواسية: رجل الدولة ومؤسسات المجتمع المدني ومنظماته (ومنهم كوادر الدفاع عن حقوق الإنسان) والمواطن الاعتيادي! ويجب تنشيط مجالات تقديم المحاضرات وفتح مجال التلفزيون والصحف والترجمة والطباعة وتعلم المفاهيم.. وهذا مجال حيوي تتوقف عليه المسيرة اللاحقة لديمقراطيتنا..

ولا ننسى قضية تحويل العراق إلى ملعب للإرهاب العالمي.. ووجود ملايين قطع الأسلحة (الخفيفة والثقيلة) بيد وفي متناول المدنيين والعسكريين السابقين والمجرمين..

يجب أن يكون للأقليات، في مكان ما، من حلقات التشريع، حق الفيتو. لا أعرف أين يجب أن يكون هذا بالضبط! ومع ذلك أمامنا احتمالات متعددة منها: أن يكون لنا هيئتان برلمانيتان الأولى تنتخب على اساس مبدأ الانتخاب العام وفق النسب السكانية والثانية تنتخب على أساس مبدأ الانتخاب المخصص وبالتساوي بين مختلف القوميات، أو أن تشكل محكمة عليا بطريقة معينة تساعدها على اعتماد مبدأ التصويت القومي! وقد يتطلب الأمر تشكل محكمة عليا بطريقة معينة تساعدها على اعتماد مبدأ التصويت القومي! وقد يتطلب الأمر تشكيل (مجلس قوميات) فيه نسبة تمثيل متساوية. باختصار يجب أن يكون هناك فيتو في طريق التشريع لقطع الطريق على ديكتاتورية الأغلبية.

بالتأكيد يمكننا أن نتجاهل هذا الأمر إذا كنا نرغب بان نترك قنبلة موقوتة في البيت العراقي. ولكن المبادرة الآن بأيدينا.

الدستور الدائم يجب أن يقر ليس باستفتاء شعبي عام متساو ومباشر بل باستفتاء مخصص تشارك فيه الأقليات ويتم اعتماد مبدأ الأكثرية في إطار هذه الأقليات كل على حدة. ويتم تعديل الدستور على أساس هذا التصويت المخصص. فلا نريد دستوراً، مثل الدستور اللبناني، يوفر لنا أرضية لحرب أهلية أو طائفية.

فلا الأغلبية البسيطة (50+1) ولا أغلبية الثلثين أو حتى ثلاثة أرباع.. يمكنها أن تجنبنا التحكم المنفرد للأغلبية في اتخاذ القرار السياسي أو المالي.

وتناقش المسألة أحياناً وفق شعور الأغلبية بالتفوق أو الوصاية على الأقلية.. وكلا المسألتين ليست ديمقراطية وليست عادلة. وهي إشكالية يمكن تجاوزها.

يجب أن يكون الدستور الدائم دستور الجميع وليس دستور الأغلبية. فلا يجوز توزيع الحقوق وفق النسب السكانية. انظروا إلى (رواندا) تروا كيف أدت سيطرة الأكثرية إلى مجازر وكيف أدت سيطرة الأقلية إلى مجازر. مليون ونصف المليون قتيل من الهوتو والتوتسي (في أسبوع زمان!).

لنفترض أن السياسة الخارجية تتعلق بموقف الحكومة العراقية من مشكلة الشعب الكردي في تركيا مثلاً، أو من البروتستانت في أيرلندا الشمالية، أو من الأتراك في قبرص.. أو أن السياسة الداخلية تتعلق بالشؤون المالية فيما يرتبط بتقسيم الحصص على المحافظات أو المناطق مثلاً.. ونقوم في هذا وذاك بتجاهل حقوق الآخرين من الأقليات..

المساواة تقتضي مشاركة الأقليات في رسم السياسة الخارجية (ومنها عقد المعاهدات الدولية) وفي أمور الدفاع وفي السياسة المالية للحكومة المركزية.

من الإشكاليات الأخر قضية الفدرالية، التي يجري التعامل معها أحياناً وكأنها منة من القومية الكبيرة أو مكرمة.. ويدور الحديث عن فدرالية جغرافية وفدرالية إدارية وفدرالية سكانية (ناسين أن بغداد هي أكبر مدينة كردية في العالم... وتجنباً للمماحكة، برغم أن هذا لن يغير من الأمور شيئاً أقول: بغداد يسكنها عدد من المواطنين الأكراد أكثر من أية مدينة أخرى في العالم).. وكأن الشعب الكردي قد حصل على الحكم الذاتي من براثن الدكتاتورية لأنه شعب غير مقاتل!.. أو أن القادة الأكراد يمكن أن تمر عليهم هذه التخريجات ولا يعرفون أن مطلبهم هو الحكم الفدرالي القومي بالذات.. وليس أي شكل آخر من الفدرالية.. إن كردستان أقرب من أية منطقة عراقية أخرى إلى الفدرالية فلديها دستور وبرلمان وقضاء وحكومة وقوات مسلحة.. ولا تحتاج لممارسة فدراليتها لأكثر من إقرار الدستور العراقي والبرلمان المركزي وتوقيع الرئيس العراقي. ويرتبط بهذا موقف دول الجوار.. والذي وصل صداه إلى قرارات مجلس الأمن الدولي.

إشكالية جديدة هي إشكالية التوازنات. فليس منطقياً أن تفرض مواد دستورية تقبل بها الأقلية وفق مبدأ (يجب أن تقبل!) فقد يقبل تشبثاً بالبقاء ولكن هذه ليست ديمقراطية، بل إرهاب. ذلك أن القبول بدون قناعة وإنما خوفاً من أن تستخدم ضده القوة هو خطأ استراتيجي يرتكبه الأقوياء الآن بحق الأجيال القادمة.. يوفر الأرضية لعدم الاستقرار اللاحق.

الوطن يتسع للجميع. ولا فرق بين مواطن وآخر. ذكراً أو أنثى. ويجب أن يتساوى فيه الجميع دستورياً وأمام القانون. الأكثرية والأقلية، العرب والكرد، والتركمان والكلدان والآشوريون.. كل من يحمل جنسية البلد (وهذه إشكالية مضافة من النظام السابق: إشكالية التعداد السكاني، والمهجرين، والمهاجرين، والمسقطة جنسيتهم، وازدواجية الجنسية..).. ويجب أن يكفل لهم الدستور هذا بشكل واضح وشفاف ودون صياغات (ذكية). كل المواطنين والمواطنات سواسية ويحق لهم الترشيح لجميع مناصب الدولة بما فيها رئاسة الجمهورية.

ولسنا على عجلة من أمرنا في إقرار دستور دائم (لأننا نريده دستوراً يوفر مستقبلاً آمناً)، وليس دستوراً هشاً يقدم لنا هدنة سلام اجتماعي مؤقتة، ثم يدفع أبناؤنا أو أحفادنا رقابهم ثمناً لخطأ استراتيجي نرتكبه الآن. علينا نحن، أنفسنا، أبناء هذا الجيل، أن نتعرض للمخاطر وندفع الثمن، إذا كان لابد من ثمن يدفع؛ ولكن أن تعيش أجيالنا القادمة بأمان وسلام.. وتبني هذا الوطني وتزدهر وتنتشي وتغرد.


 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة