الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

الطريق إلى البصرة: قبل خرابها أم بعده؟

-الاختطاف .. حديث الساعة لدى البصريين

-سوق الحرامية في البصرة القديمة مازال ساري المفعول ودخل في أطوار جديدة!

عبد الكريم العبيدي

في أول (شرجية)، فاجأني شعور صريح: البصرة هي سوق الحروب، المعلنة والمجهولة! وهي الآن مشغولة بمتابعة حربها (الصيفية) مع تمرد (الشمس والبحر والغبار والعواصف)، لم أجسر على ازعاجها، فثمة مسرة جداً  قديمة ومتجددة آسرتني وانا اتصفح كتاب الدمار والعزلة لمدينة أدركت، منذ نشوئها ان هذا الخراب (الولادي)، الذي ضُرب به المثل قديماً هو سر مجدها الذي لا يطاله التلف!؟

كنت صغيراً في وسطها (أراوس) التشوهات بالصمت، واشتري عذابها المزمن (بدرجة حرارة 45 مئوي)، قلت: البصرة في امسها القريب تبدو اجمل..

فلها صفحات انكليزية وهندية وصينية، ولها صحبة (متجددة) مع الغزاة، فلأذهب اذن إلى ذلك الوشم، أو إلى بقاياه!!.

نهر العشار

(يا بو بلم عشاري)!!

لم يحتفظ نهر العشار بصورته البصرية القديمة.. باعها إلى الذاكرة الجمعية (بنكبات معدودات)، وبدت مياهه الخضراء الملوثة وهي تتحرك ببطء كأنها شهادة مزيفة حصل عليها بعناد من اهمال العهود وتقلبات الأزمان وحركة الحياة البصرية البطيئة دائماً!

يقول الحاج عوفي مصبّح الحمود: (كان نهر العشار حافلاً بالحياة والحكرة الدؤوبة من بدايته من شط العرب حتى نهايته قرب نظران في البصرة القديمة، وكانت تسير فيه المهيلات والمراكب والسفن والقوارب (والأبلام)، وكانت إذا سقطت من احدنا بيزة اوروبية ـ عملات نقدية قديمة ـ نتابعها بحسرة وهي تتقلب وتنزلق حتى تستقر في قعر النهر(!!).. كان هذا النهر (يضيف الحاج عوفي) من أهم وسائط النقل القديمة، كونه يخترق البصرة القديمة وتتفرع منه العشرات من الأنهر في كل الاتجاهات، التي تتفرغ بدورها إلى مئات الأنهر والجداول... أما ضفافه الجميلة فقد كانت مليئة ببساتين النخيل والكثير من الخانات والمقاهي والاسواق، وكان غنياً بالاسماك المختلفة من (الكطان، والبني، والبياح، والحمري، والصبور، والزبيدي، والشانك) وكان يمثل مركزاً تجارياً مهماً لمختلف البضائع والمحاصيل الزراعية، وقد استفاد منه الانكليز في نقل معداتهم العسكرية، وكنا نشاهد الكركه (الجنود الهنود) على طول ضفافه حتى شط العرب).

دوك ـ داكير

عبرت جسر العشار باتجاه سوق الهنود، لم أرَ مقهى واحدة من مقاهي الستينيات القديمة، ولم اشاهد قارباً واحداً في مياهه، عدا الدهون والأوساخ والصخور!، دخلت إلى سوق العطارين الضيق والتفت يميناً وشمالاً فلم المح محلاً واحداً من محاله القديمة والجميلة.. فقط توقفت امام دكاكين صغيرة ما زالت تحتفظ بشيء من رائحة ايام زمان.. وقبل ان يحدثني احد أصحاب هذه الدكاكين (السيد يوسف الهاشمي) فاجأنا قريبه الحاج عبد الله سلمان الفهد بزيارة مباغتة وعندها قال سيد يوسف (لا يحق لي الكلام بعد الآن، فقد حضر أهل مكة وأشار إلى الرجل العجوز، فقلت له: (اذن حضر الماء)..

يقول الحاج عبد الله الفهد: عندما وصل الجيش البريطاني إلى البصرة في بداية القرن الماضي وتمكن من احتلالها، بادر فوراً إلى بناء ثكنه عسكرية كبيرة لجنوده واغلبهم من الكركه (الهنود) ـ ما زالت إلى الآن موجودة، حيث تحولت في ما بعد إلى مدرسة تسمى مدرسة المربد، التي تخرج فيها الكثير من رموز البصرة الثقافية والأدبية ومنهم القاص محمود عبد الوهاب وغيره.

وأضاف (الفهد): لقد كانت هذه المنطقة مكتظة بالجنود الاتراك سابقاً ثم بالجنود البريطانيين والكركه.. والاتراك هم الذين شيّدوا منزلاً لمدير الشرطة، وكانت داراً كبيرة وفخمة سميت الدوك وسميت منطقتها بمنطقة الدوك، ثم نحت البصريون هذ االاسم فاصبح (الداكير) وهي المنطقة التي توسعت فيما بعد واصبحت تسمى بمدينة الخندق ! ما زالت محتفظة باسمها إلى الآن.. وأضاف الحاج: (الدوك ـ الداكير) أي الخندق، كان قد سكنها الصينيون في الحرب العالمية الاولى لفترة طويلة (!) وكانت مركزاً تجارياً مهماً للعلافين ـ تجار الاعلاف الحيوانية، بالإضافة إلى تجار الحنطة والشعير، وكان مركزهم التجاري الرئيس يقع على نهر الداكير. وأضاف (الاتراك هم الذين بنوا الأسواق القديمة في البصرة مثل سوق العطارين وسوق الخضارة وسوق الهجانة وكذلك اسسوا مركزاً كبيراً للشرطة يسمى (القلّق) وشيّدوا منزلاًَ فارهاً لمدير الشرطة كان يحيطه الحرس والخيول (!)، وهم الذين بنوا الحمام الرئيس الأول في البصرة ـ يسمى حالياً حمام الحسيني، من املاك عبد الرزاق السبتي وحالياً ملك المرحوم الحاج عبد الحسين صالح سبتي الحجاج -ويقع في سوق قديم يدعى (سوق العطية).

كان هذا الحمام مشهوراً ويمثل معلماً من معالم البصرة القديمة، وكان مكتظاً دائماً بالجنود العثمانيين ثم بالانكليز والكركة..

أما سوق العطارين فقد وجد بدايته الحقيقية (تقريباً) بعد الاحتلال الانكليزي واشهر التجار الكبار/العطارين الذين ما زالت اسماؤهم شاخصة في ذاكرة اهل البصرة (سيد صالح وسيد نور وسيد آغا الهاشمي وسيد كاظم البحراني وسيد جليل (ابو ناظم) والحاج خضير العطار.. وكان ثمة عطارون (صغار) يشترون بضاعتهم من محال العطارين الضخمة ويبيعونها على الناس..

لقد كان هذا السوق (يضيف الحاج الفهد) مزدحماً دائماً بالناس الذين كانوا يراجعون (اطباء ايام زمان) ويحصلون على دوائهم منهم بعد تشخيص امراضهم وارشادهم بمختلف النصائح.

أما (الأدوية) وهي مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعشاب والأوراق والعروق النباتية فقد كانت تستورد من عدة دول عربية واجنبية مثل اليمن وايران والصين والهند.. فكانت الاعشاب التي تدخل في كثير من ادويتهم تأتي من إيران اما البان ذكر (البنفسج) فكانوا يجلبونه من اليمن.. في حين تحتكر الهند والصين الكثير من الاعشاب النادرة والمهمة التي كانت تصدرهما بالمراكب والمهيلات في رحلة طويلة عبر المحيطات والبحار، وكانت تعبأ بـ (الكواني) (أكياس كبيرة) بالإضافة إلى علب الصفيح (التنك) والصناديق الخشبية الكبيرة.

بالأسود والأبيض

لقطة بصرية نادرة وقديمة جداً، تأسست من احاديث اهالي البصرة العجائز، وهي خلاصة حشد قديم، لأسماء مدن واسواق وانهر وغيرها، ظهرت فيها البصرة القديمة في بداية القرن الماضي وكأنها حياة لعالم منقرض، لم يبق منه سوى بعض اسمائه الغريبة، والمنحوتة من لغات ولهجات أجنبية، أو بعض امكنتها، أو جزء منها، وقد تحولت إلى أحياء ومحال تجارية!

* سوق الحاج موسى العطية، يسمى حالياً سوق العطية ويزدحم بدكاكينة الضيقة..

* سوق الكماليات ويسمى بسوق الكنائس لكثرة الكنائس فيه!

* سوق الهنود، سمي بهذا الاسم لكثرة اصحاب دكاكينه من الهنود، باعة الكاري والبهارات ويسمى حالياً بسوق المغايز المشهور ببيع الألبسة الجاهزة.

* سوق هرج المتخصص ببيع السكراب والسلع المنزلية القديمة.

* ساحة ام البروم.. كانت مليئة (بالشقاوات) ولا يعبرها ليلاً إلا اصحاب الجاه والنفوذ!

* شارع (ابو الاسود).. كان شارع الأنس والطرب والبغاء وتناول المشروبات الروحية!

* الخربطلية.. حي قديم يسمى حالياً الحكيمية.

* المفتية.. وهي مصفاة نفط قديمة بناها الانكليز بعيد احتلالهم للعراق في منطقة تدعى (الصوفية) تقع على ضفاف شط العرب، وهي الآن جزء من منطقة الرباط الكبير، بعد هدم بيوتها الطينية وصرائفها القديمة!

* بريهة: منطقة قديمة يملكها بريهة الهاشمي.. وهي الآن واحدة من ارقى الاحياء في البصرة..

* الماركيل.. وهي منطقة المعقل القديمة وتشمل (الابلّه) وشط الترك والسكك.

* (مقام الامام علي(ع)): وهو المكان الذي يعتقد ان الامام علي عليه السلام، صلى فيه أثناء قدومة من المدينة الى البصرة لملاقاة اهلها في موقعه الجمل.. وما زال الكثير من العراقيين يزورونه للتبرّك به وطلب قضاء حوائجهم من الله.

* الفاو: قضاء قديم اقترن بحروب صدام، والدم الذي سُفح من اجل استعادته من قبضة القوات الإيرانية بعد احتلاله وتشتهر مدينة الفاو بزراعة الحناء ذات النكهة البصرية الخاصة إضافة إلى اشتهارها بأفضل انواع النخيل على الاطلاق وهو نخل (البرحي).

* ثمة اسماء غريبة اخرى مثل الفداغية ـ السيبة ـ الساعي ـ سيد كرم ـ العالية ـ ام الدجاج ـ النشوة…

الاختطاف… حديث الساعة!

بعدما خطفني (امس البصرة) لساعات حارة (وقديمة) حرّرني بائع السكائر منه بنصيحة مرعبة.. عجوز في السبعين من العمر قال وهو يناولني علبة سكائر: احذر من الخاطفين!!، تذكرت نصائح جاري السائق، ونصائح الأقارب والأصدقاء، وانا اصغي الى أقوال العجوز قال: في البصرة، لا توجد انفجارات يومية كتلك التي نسمع عنها في بغداد ومحافظات اخرى.. حالة الأمن في البصرة، ربما افضل من غيرها، ولكننا نخشى على بناتنا وأولادنا وضيوفنا من الخطف(!) فظاهرة الاختطاف هي الاكثر فزعاً في هذه الايام.. وعوائل الاغنياء واصحاب الشهادات والوظائف الكبيرة، والاهالي عموماً ترعبهم اليوم اخبار الاختطافات اكثر من اخبار (الاغتيالات والاختفاءات والمحاكم السرية)!!، ثم ذكر لي اسم القبيلة التي يُشتبه، انها المسؤولة الأولى عن موجة الاختطاف، والتي تردد اسمها كثيراً في احاديث المقاهي وسيارات الاجرة وبيوت الاقارب والاصدقاء!!، قالك كثيراً ما سمعنا بهذه (…)! ولكنني لا أنسب جميع الاختطافات اليها.. لقد تفشت هذه الظاهرة في البصرة وصارلها عصاباتها الكثيرة من الشباب العاطلين عن العمل، ثم روى لي صراعاً دار بين (القبيلة المشتبه بها) مع قبيلة اخرى، بعد خطف اثنين من افرادها، وكيف ردت القبيلة بتحرير المختطفين بالقوة وخطف (افراد مهمين) منها، لم تطلق سراحهما إلا بعد توسلات ووساطات (سمعت بهذه الحادثة من مصادر عديدة).

الصحف البصرية تحدثت عن ظاهرة الخطف، وروت حوادث عديدة حصلت للكثير من العوائل البصرية حسمت بدفع الفديات الباهظة عن طريق وسطاء، احترفوا هذه المهنة، وشهد لهم بنجاحهم وتفوقهم فيها!!

احاديث الركاب في (السيارات الصفر، والخشبية القديمة) التي تشتهر بها شوارع البصرة دون غيرها من المحافظات، تطرقت الى هذه الظاهرة، وروى اصحابها حكايات كثيرة عن الخطف والفدية واسم القبيلة المعنية!!

لا ماي.. ولا جاي!

من زقاق ضيق، الى  آخر اضيق منه.. ومن برك مياه المجاري الطافحة الى القفز المتكرر لتلافي المزابل والقاذورات المنتشرة قرب ابواب المحال والبيوت القديمة، توقفت في ذلك المساء الحار عند مقر اتحاد ادباء وكتّاب البصرة.. كان مختفياً في زاوية مظلمة خلف احد الفنادق القديمة، وكانت صدمتي به كبيرة جداً.. فالحال التي آل إليها، وربما هي حالة دائماً، تثير القرف.. البناية قديمة وضيقة.. واثاثها سكراب قديم، ووجوه الادباء متعبة وتغرق في همومها.. حاورت بعضهم، واجريت مقابلات مع البعض الآخر، وقبل ان ينقطع التيار الكهربائي فزت باستكان شاي من قبل احد الزملاء.. أما في زيارتي الثانية، فجلست امسح العرق عن وجهي، لأكثر من ساعة وانا اتطلع في وجوه الادباء وفي حالهم وحال اتحادهم الذي ينتظر التفاتة سرعية لإنقاذه ودعمه بما يتناسب مع قيمة تلك الشريحة المثقفة والواعية التي تنتسب إليه.. لم اذق قطرة ماء بارد أبلل بها فمي، وكان العامل في الاتحاد يصفق بيديه وهو يردد: لا ماي ولا جاي!!؟؟.. فقط احسستُ، وانا اجلس قبالة باب الاتحاد على تخت خشبي (راقص) مع حشد من الادباء، باحاديث مهموسة وتهكمات واتهامات كثيرة تخرج من ثورة كبيرة ولكنها خفية، ما تزال في اطوارها، قبل الساخنة!

سوق الحرامية!

في منطقة البصرة القديمة التي تضم مجموعة كبيرة من الاحياء السكنية والمحال التجارية والاسواق والدوائر الحكومية، يمتد سوق طارئ طويل من تقاطع مستشفى البصرة العام تقريباً إلى نهاية الشارع عند تقاطع شارع بشار في وسط المدينة.

هذا السوق هو من مخلفات موجة الحواسم، وآخر صورة بصرية (خالدة) لها.. أسسه، بعيد سقوط النظام، مجموعة كبيرة من العصابات واللصوص والسلابة، وظل (ساري المفعول) ويمارس طقوسه النهارية بانتظام، بل انه تطور كثيراً ودخل في اطوار جديدة ودائمية!

يحتل هذا السوق الشارع برمته، ويتجاوز على الجزرة الوسطية، ويحتل نصف الشارع المجاور له، تاركاً ممراً ضيقاً للسيارات والسابلة معاً..

ومنذ (كساد) موجات السلب والنهب، بدأ باعة هذا السوق بالتعامل اليومي مع العوائل لشراء حاجاتهم المنزلية القديمة، بل ان بعضهم زاد على ذلك بتعامله المباشرة مع بعض الدول المجاورة، فراح يستورد السكراب من الكويت، بمختلف انواعه، ويتاجر بكافة انواع المخدرات من إيران، ويشتري جميع انواع الادوية من العاملين في المذاخر والمستشفيات الحكومية والصيدليات (غير الخافرة).. وهكذا ازدهر هذه السوق كثيراً، وتعددت اغراضه، وبات مستعداً لتزويدك بكل المشروبات الروحية وحبوب المنشطات الجسدية (والجنسية) والمخدرات وزيادة الوزن والافلام والمجلات الاباحية!!

اما من يرغب في السفر العاجل، دون الحاجة لمراجعة الدوائر الرسمية والانتظار الطويل لحين صدور جواز سفره، فبإمكانه (في لمحة بصر) ان يحصل على جواز سفر مزوّر، مطابق لكل المواصفات العراقية والعالمية بنسبة 100%!!

الأوجع من كل هذا وذاك هو ان السوق مستعد لتزويدك وتزويد أي شخص اجنبي وافد من الخارج بهوية الاحوال المدنية العراقية، الاصولية والمختومة (والصحيحة) تماما!!

اما الاسلحة والمسدسات والعتاد بمختلف انواعه، والقاذفات والرمانات اليدوية، فسوق الحرامية (الذي جاء لتلبية احتياجاتنا) جاهز لتزويد كل من يريد اقتناء هذه (الممنوعات) في أي وقت!!

وبإمكان المشتري طبعاً ان يجرب السلاح، ويرمي اطلاقة الاطمئنان على صلاحيته في وسط الزحام وعلى الهواء مباشرة!! ملاحظة السوق مفتوح لاستقبالكم من السابعة صباحاً وحتى التاسعة مساءاً!!؟

دكتور، جرح الأولي عوفه!!

لا أدري لماذا تذكرت هذه الاغنية القديمة جداً، بعد انتهاء تجوالي المقيت مباشرة في مستشفى البصرة العام.. كنت اقارن (صحتنا) بين عهدين متعاقبين، عهد صدام الاسود وعهد النفس الأول من وعود الحرية!.. تساءلت مع نفسي امتى أشاهد المستشفيات الجميلة التي اراها في الافلام الاجنبية، موجودة هنا في البصرة وبغداد وكركوك؟ وهل سياتي ذلك اليوم فعلاً؟!

المستشفيات في البصرة، لا يختلف حالها عن حالات البصرة جميعها.. اوساخ ونفايات تستقبلك في كل مكان.. الرعاية الصحية هامشية.. وجبات الاطعمة رديئة، والعناية بالمرضى ضعيفة جداً.. أما الادوية والمساعدات (فتنزلق) سريعاً إلى الارصفة وسوق الحرامية! شاهدت طابوراً امام شباك صيدلية في احدى ردهات مستشفى البصرة العام، سرعان ما تحوّل إلى اشتباك وتدافع بالايدي بين الرجال والنساء والاطفال!

تقول السيدة بشرى فاضل وكانت تحمل طفلاً رضيعاً (الراجيتة) التي حصلت عليها بعد أكثر من ساعة انتظار امام عيادة الطبيب، لم (اغنم) من السبعة انواع من الادوية التي كتبها الدكتور سوى على هذا النصف شريط باراسيتول وقنينة شراب(!) إياهما أرتني ـ ثم أضافت: الصيدلي يقول: نفد الدواء.. رغم اننا في الساعات الاولى من الصباح كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة ـ ولكن تضيف (أم نصير) لماذا كل انواع الادوية متوفرة في السوق السوداء!؟

تجولت بصحبة احد اصدقائي الاطباء، في ردهات الباطنية والكسور والعيون .. قال احد المرضى (الطبيب يزورنا لمرة واحدة فقط صباحاً وبشكل سريع (ما نلحق نسأله عن حالتنا وتطوراتها)! والعلاج قليل وناقص دائماً، فنضطر إلى شرائه من الارصفة.. لا توجد خدمات.. رائحة الردهة لا تطاق.. وفي الليل تزداد اوجاعنا فنصرخ ونستغيث ولا احد يستجيب لنا.. فالطبيب الخافر، اما مجاز أو نائم أو في (تعليلة ليلية) في ردهة أخرى!..

الممرضون لا نسمع سوى (ضحكاتهم) في غرفهم الخاصة.. والاستشاريون القدماء هاجر بعضهم واغتيل الآخر!

احد المرضى في ردهة الباطنية قال: في أي حالة طارئة تحصل في هذه الردهة يصاب اهالي المريض بالذعر، فيهرعون إلى ردهات المستشفى ودهاليزها بحثاً عن أي طبيب خافر لفحص مريضهم!

حادثة قتل

مرافق لاحد المرضى قال: قتلوا اخي في هذه المستشفى قبل عام(!) كان يعاني من فتحة ولادية في القلب، وعندما تدهورت حالته الصحية وشعر بالاختناق، هرعت إلى كل الردهات بحثاً عن قنينة اوكسجين، وبعد جهد كبير (اشتريت) واحدة بهدية كبيرة دفعتها لهم (!) ورحت ادحرجها باقصى سرعة.. كانت المسافة بعيدة عن ردهة الجناح الخاص التي كان يمكث فيها اخي، وكان يعيقني كثيراً المارة والسيارات والأرصفة والحدائق.. وبعد وصولي إلى الردهة علمت ان شقيقي قد فارق الحياة!

وأضاف: اصبت بالهستريا وانطلقت نحو إدارة المستشفى وانا اصرخ باعلى صوتي: قتله... مجرمون.. انتم قتلتم اخي...!!

المسؤولون في ردهة الجناح الخاص، سرعان ما اخرجوا قنينة اوكسجين وركنوها إلى جانب السرير، لتحاشي التفتيش والمساءلة.. كانت مخبأة عندهم (للحاجة الماسة)  ـ الخاصة ـ ولمن يدفع(!؟) ولم اكن اعلم بهذه الجرائم إلا بعد فوات الاوان.

المفارقة الكبرى حصلت حين رفضوا تسليم الجثة إلا بعد دفع التأمينات!! بعد خروجي من آخر ردهة، شاهدت عجوزاً يتوكأ على عصا ويولول غاضباً.. قال: كنت اتسلم شهرياً حصتي من دواء الامراض المزمنة (الضغط والسكري) اما الآن: فكل شهر يقولون لي (بعد عشرة أيام.. بعد خمس عشرة يوماً.. راجعنا في الشهر القادم)!.. وبعد كل هذه الانتظار اتسلم (نصف حصة)!!

موظف يعمل في ميناء أم قصر قال: بعض المساعدات اكتشفت انها نافدة (اكسباير) فرفضت من قبل الجهات الصحية.. ومرة وصلت باخرة محملة بالحنطة وبعد فحص عينات منها، اكتشفت انها تالفة وتنقل امراضاً معدية!!

التفت إلى صديقي الطبيب وسألته عن رأيه فيما شاهده وسمعه فاومأ برأسه موافقاً قال: كل ما رأيت وسمعت هو الحقيقة وهو صحيح100% ثم اضاف هذا هو حال صحة البصرة وحال البصرة.. وحالنا!!

فيصل حمود

في كل تجوالي الطويل في البصرة، لم اعثر على أي مكتبة فيها.. جميعها تحولت إلى محال للاحذية والكماليات والملابس الجاهزة.. فقط اكتشفت ان المكتبة الاهلية في البصرة القديمة ما زالت موجودة، بعد ان تنقلت من مكان إلى آخر، واستقرت اخيراً في أزقة البصرة القيدمة.. كان صاحبها (فيصل حمود) رحمه الله واولاده يستقبلوننا بلهفة، وكانت المكتبة مزدحمة دائماً بالمثقفين والطلبة في سبعينيات القرن الماضي.. كنا نسميها مكتبة فيصل حمود وليس (الاهلية)!

ذهبت إليها، تقودني رغبة مشاهدتها بعد أكثر من ثلاثة عقود، بصحبة مندوب جريدتنا في البصرة.. لم يعرفني صاحبها السيد غازي فيصل، سألته عن احوال الصحف في البصرة، فقال: الصحف التي تأتي في أول الصباح تجد من يشتريها.. اما التي تصلنا في (الثامنة) مساءً فلم تجد من يقلّبها وتبقى إلى اليوم الثاني والثالث.. ثمة ادارات صحف فرضت علينا صحفها بدون (مُترجعَ)، مما اضطرنا إلى تقليص حصتنا منها تحاشياً للخسارة!..

ثم دار حوار ثقافي بيننا سرعان ما انقلب (كالعادة) إلى حوار سياسي ساخن عن المشهد العراقي وتداعياته وشجونه.. أكثر من ساعتين قضيتها في المكتبة، لم ارَ فيها سوى اثنين أو ثلاثة صبية يدخلون إليها لشراء قلم أو دفتر!! لم اشاهد شخصاً واحداً يقلب الكتب الكثيرة المركونة على الرفوف! ولم تدخل امرأة واحدة قط!

بعد خروجي من المكتبة، تجولت في شوارع البصرة القديمة، وشاهدت عدة صحف بغدادية وبصرية، ولم ارَ سابلة تتوقف امامها لقراءة عنوانين صفحاتها الأول، كما يحصل على ارصفة بغداد!

ربما سبب ارتفاع درجة الحرارة، وربما لاسباب أخرى عديدة!!

 

مشهد بصري خاص

في احدى سيارات الاجرة، ادركت لاول مرة كيف يتحول المشهد البصري بكل آلامه ومعاناته إلى سيل من النكات اللاذعة والسريعة..

* قال الأول: اين تعمل هذه الايام؟ فاجابه الآخر: مع الزرقاوي

* آخر قال: توجد فرص عمل.. فسأله صاحبه بلهفة: اين؟ فأجاب في الكوفة والفلوجة!

* قال احد الركاب: ماذا اعطي لسائق السيارة بدلاً عن اجرته؟ فأجابه صاحبه خمس صابونات من الحصة!! فسأله: واجرة التاكسي في العودة: فاجابه: كيلوين تايت!!

* تساءل احد الركاب: تمثال السياب لم يُسرق؟! فأجابه آخر: لان الشيش مالته موشي!!

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة