الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

الليبرالية العربية الجديدة! مفاهيم عصر راهن لا تلغيها الثيران الدموية الهائجة!

 

د. سيّار الجميل

ما كنت اريد ان اتحدث عن قناة الجزيرة ولا انتقد برنامج الاتجاه المعاكس الذي يقّدمه الاخ فيصل القاسم لولا الهجمة غير المبررة التي شنّها في الحلقة الماضية ضد الليبراليين العرب الجدد.. وما كنت لانشر شيئا عن نشر غسيل غير نظيف ابدا تمارسه قناة الجزيرة ضد العراق ونخب العراقيين وضد غيرهم من الساسة والقادة والمفكرين وهم كثر وبوسائل اعلامية مثيرة ليس لها اي صلة بالواقع ولا بحقائق الامور لولا الهجمة غير المبررة التي طالت كل من له نزعة ليبرالية فكرية او سياسية مستحدثة.. والمشكلة ان هذه القناة الاعلامية المؤثرة ماضية في تشويه الحقائق السياسية والمفاهيم الفكرية العربية قبل غيرها .. ويستمع اليها العرب في كل مكان من دون ان تتأمل قليلا في مشروعها الديماغوجي ولا اقول تبدّله او تغيِّره، بل لتصحح بعض ما تقوم به.. فمن الخطأ الشديد بقاء هذا التشويه الا اذا كانت القناة المذكورة تدرك متعمّدة ما تقوم به وما ترّوج عنه، ولها اجندة خاصة خفية متفّق عليها لاعتمادها في ضرب من تريد وتشويه ما تريد من دون طائل ولا نتيجة!

اين الربّاط بين الليبراليين الجدد وبين المحافظين الجدد؟

 لم اكن اتخيّل ان يصل الامر الى ان يقرن الليبراليون العرب الجدد بالمحافظين الامريكيين الجدد ، اذ لا علاقة منطقية او جدلية بين الطرفين.. ابدا! ومن البديهي ان يعتمد كل الذين نعرفهم من الليبراليين العرب الجدد على مرجعيات فكرية وتاريخية تختلف اساسا عن تلك المرجعيات التي يعتمدها المحافظون الجدد في امريكا! ومن الخطأ الجسيم ان يوصم كل الليبراليين العرب الجدد بالاصولية والالغاء وقتل الاخرين وقمع الاصوات وكل التهم البليدة.. فهم على ما ازعم الوحيدون في فضاء هذا العالم العربي البائس من يعطيك حق الرد ويسمح لك بالمشاركة السياسية ان كان الذي يقابلهم مفكرين بررة وسياسيين مهرة لا ثيران هائجة في حلبة صراع فوضوي غير متكافىء ابدا.. الليبرالية يا عزيزي فيصل القاسم: مذهب سياسي قديم منتشر في كل ارجاء هذا العالم الرحب، ولا يمكن ان يحتكره بضعة كتّاب عرب يحملون على كواهلهم هموم العرب ومآسيهم التي لم يشاركوا في صنعها ابدا، ربما اختلف مع بعضهم في ما يطرح ولكنهم كلهم ليسوا خونة ولا مرتزقة ولا منتفعين ولا عملاء ولا مأجورين .. والليبراليون العرب الجدد لا يجمعهم حزب ولا تنظيم ولا خنادق ولا اجندة سياسية معينة ولا علاقات خفية او علنية.. فثمة اختلافات فكرية وسياسية في ما بينهم، بل لا يعرف احدهم الاخر شخصيا الا ما ندر..

 والليبراليون العرب الجدد لا يعرفون لغة الاقصاء كما تصفهم ، لأنهم لا يملكون سلطة ولا قوة ولا نفوذ ولا اعلام متمرس او متمترس .. سلاحهم الوحيد قواسمهم المشتركة في حريتهم وافكارهم وانفتاحهم وارائهم المتنوعة ومشروعاتهم التي من مقوماتها الاختلاف السياسي والحرية السياسية ومقارعة الحجة بالحجة والشجاعة في قول الحقيقة او مقاربة للحقيقة باعلان الواقع وفضح زيفه وعدم التستر على الجناة والطغاة والبغاة.. وعدم استخدام اية وسائل غير سياسية في بناء الحياة السياسية العربية، واذا كان الليبراليون لهم وسائلهم البراغماتية ورؤاهم الواضحة، فهم اناس واقعيون عمليون لا يؤمنون بالشعارات الواهية ولا بالطوباويات الخاوية.. اما ان كان بعضهم قد دان المقاومة هنا او هناك، فلا يمكن لأي عاقل له ذرة من الانسانية ان يؤيد قتل المدنيين ومباركة الارهابيين باسم المقاومين!

معنى الليبرالية اليوم

 ولعل الليبرالية والليبراليين هم من ابعد الناس عن حمل ايديولوجية مغلقة او التمذهب في اصولية معينة.. وبالرغم من ان ثمة اخطاء قد تحصل عند البعض من الليبراليين العرب القدماء والجدد، فليس معنى ذلك ان هناك عطبا في المبادىء والقيم الليبرالية، بل لأن واقعنا العربي هو غير واقع امم اخرى لم يعد لها سبيل سياسي الا التعامل ليبراليا بعد سقوط كل الايديولوجيات العقيمة سواء دينية مذهبية متكلسة كانت كالتي توارثها العالم عن القرن الثامن عشر، او قومية فاشية كالتي شاعت وانتشرت وتوارثت في القرن التاسع عشر، او اشتراكية شيوعية منغلقة كالتي تسلطت وامتدت وتعاظمت في القرن العشرين. وبالرغم من معاداة كل الايديولوجيات للمبادىء الليبرالية، فان المنتصر الوحيد اليوم عند فاتحة القرن الواحد والعشرين هو الليبرالية في ارجاء هذا العالم.. وان كل التغيرات الجذرية التي حدثت في كل العالم منذ 15 سنة، أخذت تتعامل مع قضاياها ليبراليا بدءا بالبيروسترويكا والغلاسنوست الروسيتين وصولا الى متغيرات الصين الداخلية انتقالا الى انقلابات دول الكتلة الاشتراكية ودول امريكا اللاتينية ومستحدثات دول جنوب شرق آسيا.. فهل كل هذا العالم الليبرالي الجديد الذي ولد عند نهايات القرن العشرين من اجل بناء تقدم القرن الواحد والعشرين يقترن بالمحافظين الامريكيين الجدد؟؟

 واذا كان كل من العالمين العربي والاسلامي يعيش ارهاصات تراجعية مخيفة سياسيا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا تحت مظلات انقسامية مريعة واجندة عمياء بليدة، فهل سيكون الليبراليون العرب الجدد مسؤولون عن ذلك؟ هل هناك ثمة حاكم ليبرالي عربي واحد في تاريخ العرب الحديث والمعاصر قتل الناس وعذّبهم وسامهم سوء الحياة؟ هل صنع الليبراليون العرب القدامي ساسة ومفكرين لانفسهم عروشا وجعلوا اولادهم حكاما وطغاة؟؟ هل كان الليبراليون العرب القدامى خونة لاوطانهم واحزابهم وترابهم واهلهم حتى يكون الليبراليون العرب الجدد كذلك؟ من اتى بالاستقلالات الوطنية للبلاد العربية ابان النصف الاول من القرن العشرين وأسس الاحزاب الوطنية الرائدة وشرّع الانتخابات حتى ان كانت مزيّفة؟ ما الذي اتى به الانقلابيون والثوريون من العسكريتاريا العربية الذين نحروا الليبرالية العربية على مذبح شعاراتهم واهوائهم وتسلطهم وقراراتهم الصم؟ ما الذي اتى به الراديكاليون والمتسلطون من القوميين الفاشيين ومن الشيوعيين الفوضويين ومن الاسلاميين الاصوليين الذين ناصبوا الليبراليين العداء منذ مائة عام؟ لست من المدافعين عن تيار او حزب او تكتل او خنادق او اصوليات.. بل ادافع عن افكار ورؤى وتجارب وحريات.. ولسنا في منازلة مع بقية التيارات السياسية والفكرية على الساحة، فكل الليبراليين العرب الجدد كانوا قد تخّلوا من خلال قناعاتهم عن خنادق بالية وقد تحّولوا اليوم الى الليبرالية بعد تجارب فكرية وسياسية ونضالية مريرة، شيوعية وماركسية وراديكالية واشتراكية وقومية وبعثية ودينية وطائفية ومذهبية.. بعيدا عن التطرف وبعيدا عن الوصاية ومقاربة للحرية واتباع الوسائل الديمقراطية التي لا يريدها الاخرون من الفوضويين والفاشيين والاصوليين والمتسلطين..

دعوة مشكورة لا احققها

 عندما ارسل لي الاخ فيصل القاسم بالاي ميل مقالته عن الليبراليين العرب قبل 3 اسابيع وكلها شتائم وسباب بحقهم، اجبته على الاي ميل بكلمات جميلة وشكرته.. وقلت لنفسي: من المؤكد أن الرجل سيخصص حلقة من برنامجه عن الليبراليين العرب الجدد، وقد فعل.. وله الحق وكل الحق في ذلك اذا ما اخذ بنظر الاعتبار مسألة التكافؤ بين الضيفين ومسألة الحيادية في توزيع الاسئلة بين الضيفين ومسألة الامانة والموضوعية في التقييم.. فضيفه الاول شاكر النابلسي باحث ومفكر له تجاربه وابحاثه ويشهد الجميع بامكاناته ونزاهته وتاريخه النقي ولم يكن في يوم من الايام يستجدي الصدقات والارتزاق عند بوابات بغداد ايام صدام حسين!! اما ان يحدث العكس بحيث تنصب كل الاتهامات على ضيف واحد هو الاخ شاكر.. ويغدو الرجل وكأنه في سجن الباستيل يحاكم محاكمة الكوميونات الثورية ويمنع من ابداء رأيه بأن يقاطع حديثه دوما ومرارا وتكرارا.. ويترك الحبل على الغارب للضيف الاخر الذي لم يعرف كيف يضبط اعصابه وهيجانه وسيل اتهاماته وسبابه وشتائمه وبلغة ركيكة.. فهذا غير مقبول اخي فيصل ابدا! ولنا في التجارب التي قدّمها البرنامج منذ اكثر من اربع سنوات شواهد مؤلمة عن اخوة واصدقاء وزملاء كتاب ومفكرين عرب ضيفهم البرنامج وخرجوا منه وهم يحملون منه اسوأ الذكريات نظرا لما تعرضوا له من القدح وسيل الاتهامات ووصل الامر الى سباب وشتائم لا مكان لها من الاعراب!

 ان من السهولة استعراض العضلات والتشدق بالعبارات الجديدة امام الجماهير التي ربما تجهل مغزى الليبرالية والراديكالية وبقية المفاهيم الاخرى التي ولدت في هذا العصر كما ولدت كل المستحدثات الاخرى، ولكن هناك تاريخ وهناك نخب وهناك اصحاب رأي وهناك سلطات وهناك مساحة من الحريات التي لم توفرها اي اتجاهات اخرى لا علاقة لها بالليبرالية في حياتنا نحن العرب على امتداد تاريخنا المعاصر.. وهنا نتساءل ونطالب الاخرين بالجواب: ما المصلحة السياسية والفكرية التي يمكن جنيها من التعرض الى الليبرالية والليبراليين العرب الجدد بهذه الوسيلة؟ اقول: ان هذا يذكرني بما كنت اسمعه من البعثيين في سنوات صدام حسين الاخيرة عندما جعل اعلامياته البائسة تشتم الديمقراطية والليبرالية من دون اي اسباب واضحة لأنه عدوها ليس لأنها قادمة من امريكا، بل لأنها التي ستغدو بديلا منه شاء ام ابى .. فكل الذين مهددة مصالحهم وقوتهم وسلطاتهم يجدون في امتداد التفكير الليبرالي وممارسته السياسية خطرا عليهم، وهم يرون أن العالم لم يعد في اغلب قسماته الا ليبراليا بشكل او بآخر!!

مقترح هل تقبلونه

 ان من شاهد حلقة يوم 15 حزيران 2004 من برنامج الاتجاه المعاكس على شاشة (قناة الجزيرة)، وموضوعها المقارنة بين (الليبراليين العرب الجدد) في الحياة العربية اليوم و(المحافظين الامريكان الجدد) في الولايات المتحدة الأمريكية، يدرك ادراكا مباشرا أن (الليبيراليين الجدد) قصد بهم تلك النخبة من الكتاب والمفكرين والساسة والمثقفين والمبدعين في موقع (إيلاف) الالكتروني، وأن الهمز واللمز بمن يحتويهم يشير الى (موقع إيلاف) بدلالة اتهام ضيف البرنامج الاخ الدكتور شاكر النابلسي بكتاباته والطعن به وبزملائه! وهنا اوجّه سؤالا واحدا الى الاخ فيصل ان يقبل منازلة من نرشّحه ويقابله امام الملايين وفي الموضوع نفسه من دون ان يكون هناك تدخل من اي مدير حلقة.. هل يقبل ان يكون لوحده ازاء من نريد نحن ترشيحه بمنازلته من اجل ان نحقق الامانة والموضوعية.. ومن دون اي استفتاء لا يمت للواقعية باية صلة مع احترامنا رأي الجماهير قاطبة فهل تتقبلون ذلك؟ علما بأن هناك من يرفض رفضا قاطعا تلبية دعوة (الاتجاه المعاكس) وانا في مقدمتهم كما فعلت عندما اتصل بي الاخ شويري منظم البرنامج لأكثر من مرة بسبب الاسلوب المتّبع الذي لا يخدم حياتنا العربية سياسيا او اعلاميا ابدا.. انني اقدر حرص الاخ فيصل على نجاح برنامجه ومهمته، ولكن اطالبه بأن يترك هامشا حقيقيا لحق الرد من دون اي محاكمات او اتهامات او تجاوزات او شتائم وسباب وكأننا في حلبة لصراع الثيران الهائجة. ومن ذا الذي يخسر في النهاية؟ ان الذي يخسر هو الثور الهائج الذي سيقع في نهاية المطاف ببركة دمائه!

واخيرا: ماذا اقول؟

 لا اريد ان القن الاخرين دروسا في اساليبنا الاعلامية، ابدا فهم الاقدر على تقديم الدروس منّي.. ولكن من حقنا ان نعبِّر عن مثل هذا الذي يسود في حياتنا العربية ويؤثر بالضد على تفكير اجيالنا.. فاذا كنتم تؤمنون حقيقة بالرأي الاخر وبالحريات وبالشفافية ( التي بدأت تتحدث بها حتى زمر المتخلفين والمتكلسين والديماغوجيين )، فلماذا تدينون غيركم ادانات لا معنى لها.. وهم لا سلطة ولا قوة بايديهم فليس هذا البعض من الكتاب الليبراليين العرب الجدد من صناع القرارات.. ولا من اصحاب المليارات ولا المؤسسات الاعلامية الضخمة، فاغلبهم من الموظفين والباحثين والاساتذة والمثقفين والمبدعين الاحرار.. ولم يكونوا في الحقيقة الا نتاج مرحلة تاريخية بائسة ونتاج عصر ادركوا متغيراته علينا وعلى كل الشعوب، فهم يعبرون عن افكارهم وامنياتهم وطموحاتهم في معالجة الاوضاع القائمة التي ما كانوا بمسؤولين عنها مسؤولية احزاب فاشية او حكام طغاة او مسؤولين بغاة او موقّعي معاهدات او اعلاميين جناة..

 ان كل الليبراليين العرب الجدد معروفون على الساحة وكلهم ليس لهم الا كلمتهم وسعيهم للعمل من اجل لقمة عيش شريفة على عكس من يأتي هائجا على سقوط طاغية جلاد كونه خسر ما كان يدفعه اليه النظام السابق وبعد ان خسر بغداد التي كانت محطة حقيقية لكل المرتزقة من كل الاصناف! وخسروا موائدها التي تقدم كل الاصناف! يأتي هائجا ليتهم هذا ويشتم ذاك وينال من سمعة اناس لا علاقة لهم بالموضوع.. انني اذ ادافع عن الحق من دون اسماء، احيِّي كل التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية العربية الجديدة مهما كانت توجهاتها السياسية التي ستخدم مستقبلنا وتفكير اجيالنا القادمة وان تغدو لنا اساليبنا الليبرالية الجديدة في اعادة الاصلاح والبيروسترويكا والانفتاح والمكاشفات والشفافية واحترام الرأي الاخر وممارسة الديمقراطية باسمى صورها العربية.. فلا يمكننا التشدّق بها جميعا من دون ممارستها او تطبيقها! وليعلم الاخرون بأن لا مجال لمن لا يؤمن بمثل هذه الاساليب ان يجادل غيره باسمها! ومهما حاول الاخرون اعاقة السيرورة التاريخية، فان المستقبل سيكون لها مهما كانت التحديات الداخلية ضد حجم المتغيرات.. وهي الوحيدة الكفيلة بحل قضايانا الشائكة التي ورثناها من القرن العشرين.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة