في حوار مع الفنان ((كريم رسن))
* على الفنان ان يكون ريادياً في ترسيخ
الموقف الانساني.
* تجربة (النقد الفني) في العراق، لا زالت
تجربة محدودة..
* انا من جيل (الثمانينيات)، جيل الحروب
والحصار.
حوار- س .
ق
في معرضه الاخير
الذي أقيم في (عّمان)، عرض الفنان (كريم رسن- 1961)، لوحات
ومجسمات ودفاتر رسم، تمثلت موضوعاتها فضاءات الحرب الاخيرة
على العراق ونتائجها.
حيث دلالة
الالوان الصريحة التي استخدمها في اعماله.. هي الوان وهج قصف
الطائرات وانفجار القذائف، هي استعارة خيال هذا المشهد
الغريب. وكأن الفنان العراقي، لم يكفيه انه عاش قسوة الحرب،
بل عليه بعد ذلك، ايضاً ان يكون ساخراً.. كي يصف جمالياتها.
(دفاتر الرسم)
التي قدمها كانت بمثابة يوميات بصرية عن حرائق المدينة وبعض
جدرانها التي لم تهدم والتي أضحت مساحتها نصوصاً وخطابات
يومية، تطالب، وترفض او تأمل زمناً آخر.
بمناسبة معرضه
هذا كان لقاؤنا مع الفنان (رسن)، للحوار عن جيله، وتجربته،
ومنجزه الاخير.
* لقد اصطحبني
بعد سقوط النظام مباشرة في جولة بشوارع (بغداد) وشاهدنا معاً
آثار الدمار والحرب والموت. كان الامر اكثر من سقوط نظام
وكان الثمن كذلك أكثر فداحة. أثناء ذلك، اطلعني على مجموعة
(تخطيطات)ـ توثق فنياً ما حدث....
- أفترض ان هذه
التخطيطات هي بمثابة (يوميات)، عن فترة ما قبل السقوط وما
بعده، كنت اتصور مالذي سوف يحدث، كيف تدخل القوات الامريكية،
وكيف تحتل المدينة وكيف يكون شكل الحرب. كنت أتخيل الجندي
الامريكي (روبوت)، الاقدام عبارة عن عجلات حديدية وسرف
دبابات، ولقد لمست بالفعل بعد الاحتلال، هذه المقاربة،
وشاهدتهم عن قرب مدججين بالاسلحة والاجهزة الغريبة.
اثناء العمليات
العسكرية ومع تصاعد القصف والدمار كان كل منا في وضع يستحضر
فيه خيالات وافكار غريبة. كنا جميعاً مشروعاً للموت، هذا
القادم ما بين لحظة وأخرى.
رسمت هذه
الاحداث في حدود (40) تخطيطاً بالحبر الصيني على ورق، اعتبر
ما انجزته وثيقة مهمة بالنسبة لي...
* تحدثت عما
سوف يحصل اثناء وبعد الاحتلال، وكأن الفنان قادر أيضاُ على
صناعة سيناريو للحرب...!
-شكل
السيناريو هنا يختلف، للفنان القدرة على توثيق ما يحدث
بصرياً وتعبيرياً. وقمت بهذا الدور، رسمت الطائرات المغيرة
والدمار وهو ما حصل بالفعل، على الارض وفي السماء. وأكدت هذه
التجربة خاصة، بعد ذلك، بدفتر أسميته (حرائق بغداد)، وهو عن
تلك الحرائق والدمار واعمال السلب التي حصلت، كان أشبه
بسيناريو شخصي، يوثق برؤية تشكيلية الخراب الذي لحق بأماكننا
الثقافية وما تحتويه من فكر وابداع، (المكتبة الوطنية،
المتاحف، المؤسسات الثقافية الاخرى، لقد كانت كل صفحة منه
تشير الى مكان ثقافي وما لحق به، مع الاستفادة من الدلالة
التعبيرية له، (مركز الفنون، المكتبات، القصر العباسي)، وغير
ذلك من الاماكن التي اصابها الضرر.
* اثناء فترة
الحصار كنت قد انجزت سلسلة دفاتر فنية، كيف بدأ هذا المشروع
معك، وكيف اخترت مواضيع هذه الدفاتر.
-الحقيقة ان
موضوع الدفتر شكل حالة إثارة بالنسبة لي. باشرته منذ عام
1995، وكات قد سبقني إليه، فنانون آخرون، إن مشروع دفتر
الرسم أو ما يسمى بكتاب الرسم، موجود في المنجز والثقافة
الفنية الاوروبية والعربية، وبالنسبة للفن العراقي، هناك
(شاكر حسن آل سعيد)، الفنان (ضياء العزاوي).
فكرة الدفتر
تكون بتمثيل موضوع وما بعدد من الصياغات التشكيلية، فكل صفحة
هي معالجة جديدة لهذا الموضوع.
لقد بدأت بتجربة
سميتها (حياة الحلاج)، ثم تناولت بعد ذلك موضوعة (الحصار)
بدفتر سميته (درب الآلام)، الذي اعتبره منجزاً مهماً.
هناك معالجة
جديدة فيما يتعلق بالرؤية والصياغة الاسلوبية، لقد استفدت في
دفاتري من الاشارة والكتابة القديمة، والموروث الرمزي القديم
لها، وتناولت مواضيع اخرى ذات دلالة واقعية، عن احداث تمت
معايشتها من قبلنا نحن العراقيين.
موضوعة الحرب
والحصار، هنالك دفتر اسميته (حضارة اليورانيوم) عن استخدام
قذائف اليورانيوم في جنوبي العراق.
بعض هذه الدفاتر
عرض في بغداد وعمان وباريس ولندن.
* تستمد بعض
مواضيعك من إحداث مر بها العراق، دعنا نتحدث عن موقف الفنان
وخطابه تجاه مثل هذه الاحداث.
- لا شك ان
تاريخ العراق، مليء بالتحولات والاحداث الكبيرة نحن مثلاً،
جيل الثمانينيات، شهدنا حروباً وحصاراً، وكانت معارضنا
وفعلنا الفني قد تم تقديمه ضمن هذه الفضاءات الملتبسة، والتي
دامت نحو ربع قرن، لقد عاصرنا هذه الاحداث.
وترتب في ضوئها
موقف معارض للحرب والموت والكراهية.
كانت سنوات مرّة
تلك التي عشناها.
ما يتعلق بي،
عدا الموقف الجمالي لتجربتي في ان يكون حداثوياً وطليعياً،
ومعاصراً للاتجاهات والاحداث الفنية الجديدة، كان هناك اتجاه
آخر، يتعلق بموقفي تجاه ما أعيشه، والذي ترتب على الرفض،
ولكنه كان يستعير وسائل فنية في العمل، كنت أشير الى نوع
الخراب، الذي أحياه ويحياه الآخرون.
أزعم ان تجربتي
قد تضافرت مع الحدث، وكما بينته في مواضيع دفاتر الرسم أو
اللوحات التي أنجزتها.
من هنا، أجد ان
على الفنان ان يكون ريادياً في اتخاذ الموقف الانساني.
وإظهاره في عمله، هذا الامر كان بالنسبة لي ولكثير من
الفنانين العراقيين، واضحاً خاصة من الذين عاشوا تجربة
الثمانينيات والتسعينيات.
* ولكن الان،
ومع عمق التحولات التي نشهدها، هل تجد ان على الفنان ان
يكتفي بخبراته الجمالية التي يظهرها من خلال العمل الفني، أم
عليه ان يفترض موقفاً سياسياً وجتمعيناً؟.
- في العراق،
الفنانون كما المثقفون، تدربوا على التفاعل مع الحدث. ولا
اجد ان شكل الموقف هو المعم هنا. ولكن الموقف ذاته هو الاكثر
اهمية. وهو ما يجب ان نتلمسه في العمل الفني، ولكن لا أرغب
بتسميته سياسياً. في معرضي الذي اقمته مؤخراً في (عمان) كان
هنالك في العديد من اللوحات، أثر الحرب والتحولات السياسية
والانسانية التي نشهدها. فلا يمكن لتجربتي ان تكون خارج هذا
المدى، واجد ان التفاعل مع الحدث عملية مؤثرة ومهمة، والا
فان هنالك نوعاً من الخلل الثقافي والفكري.
يبقى العمل
الفني هو خبرة الفنان وخلاصة وعيه الانساني والفكري.
* تتأثر خبرة
الفنان أيضاً، بخبرات فنانين سابقين عليه، اين تجد تأثير
الآخرين عليك، سواء في الفن العراقي أو العالمي.
- في مرحلة
الثمانينيات كانت تأثيرات التعبيرية التجريدية واضحة على
تجربتي، وخاصة التعبيرية الالمانية ومن ثم كانت هناك تأثيرات
(بول كليه) والفنان التونسي (قويدرالتريكي)، وهي ما دلتني
على الاهتمام بالفن البدائي، في بداية التسعينيات، وبالتحديد
في معرضي الشخصي الاول، تجاوزت جميع التأثيرات باتجاه
الاهتمام بسطح اللوحة والملمس والمادة الوسيطة في التعبير،
ضمن هذا المنحى كان هناك تأثير لتجربة (شاكر حسن آل سعيد)
والتي اجدها تجربة تستحق العالمية، ودفعتني للتأمل في الفن
القديم، وأهمية تحول الاشكال الى عنصر إشاري أو رمزي،
والانتباهة الشديدة الى بنية اللوحة. ضمن هذه الرؤية، كانت
موضوعة (التعرية والتراكم) ومجالات تحققها في العمل الفني،
بناء اللوحة ونموها من الداخل، تآلف طبقات وانزياح طبقات
صورية وشكلية، يشبه ما يحصل للقية الاثرية، من هنا بدأت
بمقارنة تجاربي مع تجارب أخرى محلية وعربية.
اجد ان تجربتي
حققت قدرات من الخصوصية، وهو رأي العديد من النقاد، وهي
مستفيدة بالطبع من تجارب فنانين سابقين.
* موضوعة
(التراكم والتعرية)، تعد مفهوم ورؤية انجز فيها (شاكر حسن آل
سعيد) العديد من الاعمال الفنية، هل لا زالت تنتهج ذات
التجربة... أم انك افترقت عنها؟
- اعترف ان هناك
ما يشبه العامل المشترك ما بين تجربتي وتجربة الفنان (شاكر
حسن آل سعيد). ان اعماله في نهاية الثمانينيات، التي تمثل
خلالها ملمح الجدار والاشارة، الجدار المعاصر الذي يحتفظ
بالحدث والفعل الآني.
اتمثلها بشكل
مفارق ومختلف، أني أرجعت هذا الفعل الى تاريخ آخر، الى ما هو
قديم، الى الأثر واللقية، وهي رؤية رغبت باستحضارها
ومعالجتها بشكل معاصر.
أما ما يخص
التقنية والمواد الوسيطة لها وإظهار الملمس البارز، فهي
معالجة متاحة للجميع.
لقد رغبت في
تجربتي ان استحضر التحولات التي تحدث على الاشياء والتأثير
البيئي والتاريخي عليها. وهو الاتجاه الذي دلني على
الاستفادة من موضوعة المخطوطة, الوثيقة، الطرس، كما الاهتمام
بالحدث وطرحه بشكل جمالي، ومن هنا كان استدلالي على معالجات
ومواضيع تختلف كثيراً عن تلك التي تناولها (شاكر حسن آل
سعيد).
* ولكن هل تجد
ان تجربتك هي تطوير للخلاصات الفنية التي توصّل إليها (شاكر
حسن آل سعيد)، أم انها افترقت عن هذا المؤثر، واصبحت هي
خلاصاتك بالتحديد.
- لا أجدني
مهتماً بتطوير تجربة (شاكر حسن)، كما لا اعتقد بوجود فنان
يكمل تجربة فنان آخر. هناك تأثيرات وهو أمر مشروع، إلا ان
شاغلي الوحيد هو تطوير تجربتي. حينما أبدأ بتنفيذ العمل
الفني، هناك هواجس تشغلني، ليس التأثير بالآخر أهمها، فأنا
اعمل تماماً على ان أقود تجربتي باتجاه يختلف عن الآخرين.
* أين تجد
اضافاتك في معرضك الاخير، الذي أقيم في (عمان) فيما يتعلق
بالجوانب التجريبية والشكلية او الموضوعات التي تطرقت إليها.
- هذا المعرض
كان بعنوان (تنقيبات الرسم الجدراني)، موضوعه استحضار اثار
الحرب، من خلال تلك العلاقة بين الرسم الجداري القديم،
والرسوم والآثار التي وحدتها على الجدران والمباني بفعل
الحرب، لقد استخدمت معالجات نفذتها بصبغات لونية صريحة،
سألني الناقد (سهيل سامي نادر) الذي قدم لي هذا المعرض، عن
وجود هذه المساحات التي تتمتع بصفاء لوني وتلك الصياغات
الشكلية ذات الطابع العفوي، والتي كانت غالباً باللون
الاسود، قلت له اني بهذه الاعمال استذكرت فعل الحرب، كنا نرى
لقصف الطائرات والصواريخ اشكالاً وألوانا، كما كنا نتخيل ان
للموت اشكالاً وألواناً، حينما كانت تنفجر القذائف وتتشظى
يظهر وهجها، وكنا نتخيل اننا سنموت مع هذا الانفجار ووهج
الوان هذه القذائف.
ربما لم نتخيل
ان نموت موتة وردية او صفراء، أو موتة حمراء.
* إنك هنا، كمن
يتحدث عن جماليات للقصف..
-كلا، ولكن مثل
هذا الاقتران يضعه الفنان. في الحقيقه ليس هناك لون للموت،
ولكن مثل هذه الاستحضارات يضعها انسان يفكر بالمشهد البصري
بشكل مختلف. ان ادوات الفنان وحساسيته تجاه الحدث هي ليست
ادوات وحساسية الانسان العادي. ولكن الفعل هنا، هو كيف تخرج
من الحدث بنتيجة وانجاز، وبصورة تبين للملتقى، انك قد عشت
هذا الفعل وربما تعلمه كيف خرجت من ركامه.
* من ضمن اعمالك
المشاركة في معرضك الاخير، دفتر للرسم سميته (شعارات الجدران
بعد الاحتلال)، كيف تبلورت هذه الفكرة لديك وكيف تجدها
كموضوع فني.
- لقد اتت
الفكرة بعد توقّف العمليات العسكرية، خرجت الى الشارع بصحبة
كاميرا لأصور الاحداث، المباني المحترقة والفوضى والدمار
الذي لحق ببغداد، استوقفني كذلك ظهور الشعارات للاشخاص
والاحزاب والقوى السياسية على الجدران. بدأت بتوثيق هذه
العملية بشكل يومي، كانت هنالك دائماً شعارات جديدة، وأخرى
تظهر فوق شعارات سابقة، المثير في الامر، ان ظهور هذه
الالوان والكتابات واشكالها الخطية، كانت تمثل ما يمكن
تسميته بخطاب الشارع، ثقافة وخطاب الشارع اليومي المتغير
دائماً. اذ كانت هي المساحة المتاحة والمأهولة للآخرين
للتعبير عن حرية الرأي. نفذت الدفتر وهو كبير الحجم بقياس
(0.56×ام) باستخدام مواد مختلفة نفذت بطريقة الكولاج
والفرشاة السريعة وطريقة الرش.
لقد كانت تجربة
متميزة بالنسبة لي، سواء على مستوى الموضوع او الصياغة
الشكلية والجمالية لها.
* انت من
الفنانين الذين تناولك النقاد بكثرة، إلى مَ تعزو هذا
الاهتمام، وهل تثق تماماً بعملية النقد؟
- نعم، لقد تمت
الاشارة والكتابة عن تجربتي منذ منتصف الثمانينيات وتناولها
العديد من النقاد. ولكن هناك القليل من حاول الدخول الى
تجربتي. في الحقيقة ان لدي راياً شخصياً حول هذا الامر،
فتجربة (النقد الفني) في العراق، لا زالت تجربة محدودة، وان
كثير من الذين يعملون في هذا الاتجاه، هم غير مختصين، فالنقد
الفني له أسسه ومنهجياته. والكثير ممن كتبوا في هذا المجال
لم تكن كتاباتهم سوى كتابات انطباعية عن التجربة الفنية.
فالشاعر والقاص والاديب، الجميع كتبوا عن النقد الفني.وخاصة
ما بعد التسعينيات التي اختلطت فيها انواع متعددة من
الكتابات ولكن هذا لا يعني عدم وجود كتابات جادة ونقاد
جيدين.
* لقد اجبتني
بلغة عامة، هلا تؤشر لي النقاد الجادين الذين تعنيهم.
- لا اعتقد انه يوجد مبرر لذكر الاسماء.. فالامر لا يخلو من
الحرج |