المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ماذا يريد المثقف من وزارة الثقافة؟ .. ادباء ذي قار: من المؤسف ان نكتب بكبرياء وننشر بذل

حسين كريم العامل  - ناصرية
عانى المبدع العراقي وما زال من سياسة التهميش والاهمال التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة حتى بات موته على ارصفة مواقف الباصات او في غرفة منعزلة من غرف فنادق الدرجة العاشرة او في ركن منزو في صقيع الشتات امرا مالوفا وماركة مسجلة باسمه، هذا الاسم الذي سيصبح بعد موته مادة دسمة لوسائل الاعلام من خلال حفلات التابين وخطب المسؤولين الذين سيستعيرون دموع التماسيح لهذه المناسبة.
المدى وتزامنا مع تشكل الحكومة الجديدة توجهت إلى ادباء ذي قار لتسالهم عن الدور الذي يجب ان تقوم به وزارة الثقافة في المرحلة الراهنة.

تقاليد وسياسات ثقافية جديدة
القاص محسن الخفاجي الذي امضى ثلاثة اعوام في سجن بوكا الامريكي من دون ان تتدخل وزارات الثقافة في الحكومات السابقة لاطلاق سراحه قال:
- من اهم الاولويات التي على وزارة الثقافة ان تطلع بها في المرحلة الراهنة هي حماية التراث الثقافي العراقي من الضياع ومن التخريب في ظل الانفلات الامني الذي يؤثر على عمل المؤسسات الثقافية والاهتمام بالكتاب العراقي ومبدع هذا الكتاب وتحسين الحالة المعاشية للكتاب بكافة اصنافهم والتاكيد على الحرية في الكتابة للتعبير عن اراء التكوينات والاطياف المختلفة عرقيا وفكريا ومحاولة نشر الثقافة العراقية الجديدة خارج القطر فالابداع العراقي اذا ظل محصورا ضمن حدود البلد فانه سيموت واعتقد ان ما يمكن عمله الان هو استحداث قنوات ثقافية على غرار قناة النيل الثقافية وايجاد مواقع الكترونية رصينة تابعة للوزارة وغير تابعة للاحزاب والتوجهات السياسية الضيقة،مع التركيز على الانشطة الثقافية كالمهرجانات والندوات والمؤتمرات وايجاد تقاليد ادبية راسخه كجائزة الكتاب العراقي الافضل في العام ولكافة الصنوف الادبية واستحداث موقع الكتروني يشتمل على قاعدة بيانات عن الادباء العراقيين وذلك لاتاحة الفرصة امام الدارسين والباحثين لتسليط الضوء على الادب والمبدعين العراقيين كما ارى انه لا بد من تكريم الادباء الراحلين منذ تكوين الدولة العراقية لا سيما البارزين منهم واعادة طبع كتاب المختارات الادبية والفكرية لتقديم فكرة عن الواقع العراقي في مرحلة ما مع انشاء دار نشر متخصصة بنشر الادب العراقي باللغات الحية.

الثقافة في المحافظات ودور المركز
في حين عبر المخرج والناقد المسرحي ياسر عبد الصاحب البراك عن رايه قائلا:
- لا شك في ان وزارة الثقافة الحالية سيكون عليها عبء كبير اوله ان يقنع وزيرها السياسيين باهمية وزارته كي يتم تخصيص الاموال اللازمة التي تؤهل الوزارة ودوائرها للقيام بالاداء الجيد، والعبء الاخر ان تكون الوزارة وزارة (ثقافة عراقية) بمعنى انها تستقطب مختلف الثقافات العراقية بتنوعها الطيفي وان لا تكون الوزارة (وزارة بغدادية) تهتم بالمشهد الثقافي والفني في العاصمة فقط وتترك المحافظات الاخرى، عندها سنتحدث عن(وزارة مركزية) اكثر من وزارات النظام السابق، على وزارة الثقافة ان تمد اذرعها إلى المحافظات وان تفتح لها دوائر ومؤسسات في المحافظات اسوة ببقية الوزارات، فلماذا تكون وزارة الثقافة متمركزة بنشاطاتها داخل العاصمة مع العلم ان الوضع الامني في العاصمة لا يمنح المثقفين فسحة للامان والعمل، اننا نعتقد ان وزارة الثقافة يمكن ان تكون من (الوزارات السيادية) فيما اذا بدات برامجها من المحافظات اولا صعودا إلى العاصمة لانها وقت ذاك ستعيد الحياة للثقافة العراقية وسوف تسهم في البناء الروحي للانسان العراقي الذي هشمته الحروب العبثية اضافة إلى ذلك ينبغي ان تكون الوزارة منصفة فيما يتعلق بالمهرجانات العربية والمشاركات الخارجية لا ان يحتكر تلك المشاركات من هم امام مكتب الوزير او وكيله، على الوزارة ان تثبت عراقيتها ايضا من خلال توزيع الفرص على الجميع.
اما الفنان التشكيلي حسين الشنون فقد اختصر رايه بجملة واحدة قائلا:
- المطلوب ان يكون الوزير مثقفا ليشعر بهموم المبدعين.
ومن جانبه عبر الفنان عبد الرزاق سكر رئيس اتحاد المسرحيين عن رايه قائلا:
نرنو بعين الامل إلى ان تحقق وزارة الثقافة طموحنا المشروع باقامة مسرح متكامل للعروض المسرحية في المحافظة وفتح فرع للفرقة القومية للفنون مع تامين الدعم المادي للاعمال المسرحية وتهيئة فرص عمل مناسبة للفنانين كما نامل من الوزارة تخصيص بناية خاصة لاتحاد المسرحيين في المحافظة.

اعادة بناء الثقافة والتصدي للاقلام المأجورة
بينما قال القاص كاظم الحصيني:
- ربما تكون طلباتنا كثيرة ومتشعبة تبدا من هم تقديم الزاد اليومي للمثقف ولا تنتهي عند طبع الكتب بل تصل حد السفر لاكتساب الخبرات ولكننا نتساءل هل ستضج اصواتنا دفعة واحدة حتى يضيع الصوت الواضح؟ اننا لا نريد ذلك ونريد ان نرتكن إلى واقعنا فهموم خمسة وثلاثين عاما لا تنجلي ضمن قرار او نوايا حسنة فقط بل نحن بحاجة إلى تخطيط يخلو من المحاصصات التي دخلت حياتنا في كل شيء ونحن بحاجة إلى مزج الثقافة العراقية، فبدلاً من ان تحيلنا هذه الفسيفساء من الدول الغنية بالتجارب والتراث إلى الفتن وبذلك يطفح الادب الساذج المرتكز على العواطف، علينا ان نقطع الطريق امام الاقلام الماجورة التي تريد ان يطول عمرها في المربع الاول من خلال الضجيج الذي تفتعله تحت خيمة الديمقراطية علينا الالتفات إلى الادب القابع في الادراج وفتح دار طباعة في كل محافظة بدلاً من ان تكون امتعتنا على اكتافنا ونحن ننتظر امام ابواب دار الشؤون الثقافية وبعضنا وانا واحد منهم لو انتظر الزمن كله فلن يحظى برد السلام من قبل السادة مسؤولي الدار الذين اجهلهم جميعا، فقد قال لي الاستاذ احمد الباقري يوما (عليك ان تذهب إلى بغداد برفقة احد الاصدقاء من اصحاب المعارف عسى ان يحصل لك على موافقة طبع كتاب) قلت من المؤسف ان نكتب بكبرياء وننشر بذل فعلى وزارة الثقافة ان ترفع هذا الذل.

اطلاق الابداع وتحريره
في حين قال الشاعر علي الشيال:
- لا بد للثقافة من ان تبقى مستقلة عن المحاصصة السياسية وعن الرؤى المؤدلجة لجهة ما او طائفة معينة . فقد اعترضنا منذ البداية على ان تكون وزارة الثقافة ضمن حصص الكتل وطلبنا ان تعطى لواجهة الثقافة العراقية أي اتحاد الادباء والكتاب مع باقي المؤسسات الثقافية لترشح شخصا بعيداً كل البعد عن محاصصة القوائم والكتل. وبعد الذي حصل يجب على الوزارة الجديدة ووزيرها الجديد ان ياخذوا بنظر الاعتبار دعم الثقافة في البلد لان المثقفين هم نواة دولة المؤسسات كما يجب الاخذ بنظر الاعتبار الظرف الماساوي الذي يعيشه عدد غير قليل من الادباء والكتاب فضلا عن الاهتمام بالمطبوع العراقي الذي نامل ان يصل إلى القارئ العربي والعالمي.
ووافقه الرأي الفنان المسرحي علي بصيص قائلا:
المطلوب في الظرف الراهن عدم تسيس الثقافة العراقية واطلاق عملية الابداع لتكون في خدمة الانسانية مع اعطاء المبدع العراقي كامل حقوقه وعدم تهميش دوره في جميع مجالات الحياة.
وفي ختام حديثه خاطب بصيص وزير الثقافة قائلا:
- سيدي الوزير لا تعزل المحافظات عن بغداد.
وفي الختام اختصر الفنان المسرحي كريم عبد جابر رايه قائلا:
المطلوب من وزار الثقافة (الثقافة) فقط لا غير.


هذا السيل الجارف من الكتابات المجانية!

فاضل ثامر

ليومين متتاليين يزورني أديبان شابان يلقي الاول على مكتبي مجموعة من الملفات المطبوعة بصورة أنيقة.
- "ما هذه ؟"
- "أعمال روائية وقصصية انجزتها".
-"جميل"
تصفحت على عجالة هذه الملفات ثم سالته مجموعة من الاسئلة:
* هل لديك فكرة عن طبيعة الكتابات الروائية والقصصية اليوم؟ وهل اطلعت على تجربة القصة العراقية وتطوراتها؟ وما هي النماذج الروائية التي اعجبت بها أو تحب ان تكتب مثلها؟
تردد قليلاً، بعد ان احتبست الكلمات في حنجرته:
- الحقيقة انا لا أحب الادب، فانا رجل علمي.
* لكن كيف كتبت هذه الاعمال الروائية والقصصية وما هي مرجعياتك الثقافية؟ اجابني بشيء من الصراحة وهو يتلعثم قليلاً:
"انا اشاهد التلفزيون ولدي افكار معينة، واحاول صياغتها بطريقتي الخاصة.
وجدت نفسي محرجاً امام هذه الحالة فسألته:
* ما هو تخصصك العلمي؟
- مهندس
* هل تقبل بأن يأتيك شاب يحمل سلماً ويقول لك أريد الصعود الى الفضاء الخارجي؟
وهل يجوز لشاب يرتدي حذاء رياضياً ان يقتحم ملعباً رياضياً محترماً ليعلن عن رغبته في المشاركة في فرق النخبة، مع انه يجهل مبادئ الكرة وقوانينها؟"
فاجاب وهو يحس بالاحراج "طبعاًً هذا غير ممكن".
وخلال حوار طويل ومضنٍ اعترف الشاب بانه يجهل بشكل كامل كل الاسماء الروائية والقصصية التي ذكرتها له، بل انه لم يقرأ لقاص عربي- حتى لنجيب محفوظ- اما في الرواية العالمية فلم يستطع ان يذكر اسماً واحداً. اما النقد الادبي فلم يقترب منه مطلقاً.
بقيت محرجاً بعض الوقت، لكني وجدت نفسي مضطراً للحديث معه بصراحة:
"انت شاب موهوب هذا مؤكد، وتمتلك الرغبة الصادقة في الكتابة، لكن عليك اولاً ان تلم بمبادئ الكتابة القصصية وان تعرف معنى هذا الجنس الادبي وحدوده وان تلاحق بدقة تطور المشهد القصصي والروائي في العراق والعالم، وبعد ذلك توظف موهبتك هذه بصورة علمية سليمة. عند ذلك فقط بامكانك ان تكتب، وتراجع ما تكتب وتصحح كل الاخطاء الاسلوبية والسردية واللغوية التي يمكن ان تكون قد ارتكبتها سابقاً.
في اليوم الثاني تماماً زارني شاب آخر، أكبر من زميله السابق قليلاً.
قال انه شاعر ورغب في ان يطلعني على بعض تجاربه الشعرية، واستمعت اليه. كانت بعض تجاربه تنتمي الى القصائد العمودية، واخرى الى الشعر الحر، لكني لاحظت ان كتابته لا علاقة لها بالحساسية الشعرية التي تبلورت خلال هذه العقود. وبعد حوار طويل اكتشفت ان الرجل لا يعرف شيئاً عن مبادئ الشعر وقوانينه ولا عن الشعر الحر ومراحله واجياله، وانه يقرأ احياناً في الصحف والمجلات، بل لم يجرؤ على القول انه قد قرأ ديواناً شعرياً كاملاً.
هل كان الرجل موهوباً، بالتأكيد، فهو يمتلك مقومات اساسية للكتابة لكن بينه وبين الشعر الحقيقي مسافة ماراثونية.
هذان النموذجان من أدباء هذا اليوم ليسا الاستثناء الوحيد، إذ شهدت الحياة الادبية العراقية بعد سقوط النظام الدكتاتوري ظهور موجات من الادباء والمتأدبين: بعضهم بالتأكيد موهوبون ويتقنون فنون الكتابة، لكن بعضهم الاخر من انصاف الاميين أو ممن يفتقدون الخبرة والممارسة والاطلاع الكافي على فنون الادب المختلفة واجناسها، ان بعض كتابات هؤلاء لا ترقى الى الموضوعات الإنشائية التي يكتبها طلبة الثانويات، وهي لا تلبي الحد الادنى من شروط الكتابة الابداعية، ومع ذلك فان امثال هؤلاء هم الذين يبادرون الان الى نشر دوواين شعرية واعمال قصصية وروائية، ويصرون على ان يقرأوا قصائدهم من على منابر الشعر ومهرجاناته المعروفة!
لست ضد احتضان امثال هؤلاء الكتاب لكني انصحهم بان يبدأوا بداية صحيحة وان لا يحرقوا مراحل الكتابة والابداع ويستعجلوا النشر والشهرة، لان البدايات الضعيفة غالباً ما تورث صاحبها سمعة سيئة.
قبل أكثر من عقد، زارني شاب موهوب وأقرأني في نماذج قصصية كان قد كتبها، رحبت به واثنيت على موهبته لكني اشعرته بان الطريق امامه مازال طويلاً وانه بحاجة الى دراسة ومعاينة وتجريب قبل النشر. ووضعنا معاً خطة للقراءة والدراسة والتدريب تحتاج الى سنوات. ونسيت الامر وعاد لي بعد اربع سنوات وذلك بلقائنا السابق وقال لي: لقد نفذت البرنامج الذي اقترحته علي وبدأت الكتابة ثانية واكتشفت بعد هذه السنوات الاربع، بأنني مازلت في بداية الطريق.
وحقاً قال بعض الحكماء ان القليل من العلم يشعر صاحبه بالامتلاء والاكتفاء والغرور، ولكن الكثير من العلم يشعر صاحبه بالتواضع وحتى بالجهل.
فمتى يتخلص الوسط الثقافي من هذا السيل الجارف من الكتابات المجانية!؟


الحاضر الغائب د. عوني كرومي .. في اتحاد الأدباء

متابعة / المدى الثقافي
تصوير / نهاد العزاوي
وانا في الطريق إلى اتحاد الأدباء، لحضور الحفل التأبيني لأستاذ المسرح العراقي، الدكتور عوني كرومي، شعرت وكأنني ذاهب إلى منتدى المسرح في شارع الرشيد، لمشاهدة (ترنيمة الكرسي الهزاز)، والاستمتاع بأداء أنعام البطاط وإقبال نعيم، وأشعار عريان السيد خلف، وأحداث فاروق محمد، كل ذلك الذي جمعته بوتقة عوني كرومي، أخذني الخيال إلى تلك الفترة من الزمن، زمن الحروب، وسرعان ما ساقني الخيال إلى مسرح (الستين كرسي)، وعروض عوني كرومي، المتألق في فضائه، عوني كرومي الإنسان الطيب، وتساؤلات مسرحية، وكشخة ونفخة، وغاليلو غاليلي، وكوريولان، ورؤى سيمون اشار، والقائل لا القائل نعم، وتداخلات الفرح والحزن، والآنسة جولي، والمسيح يصلب من جديد، ومشعلو الحرائق، وبيروشناشيل وانتيغونا، وليل السكاكين الطويلة. عوني كرومي الهارب من جحيم الرقابة على حسه الفني السليم، صوب منافي الدنيا، لم توقفه المنافي، لم يوقفه الألم، فكان مسرح دار ثقافات العالم في برلين ملاذاً آخر، لابداعه المسرحي فاستدعى إليه رائد محسن تلميذه النجيب، وعزيز خيون، وإقبال نعيم، وعواطف نعيم، وفرح طه، وقدمهم هناك في عمل لهاينر مولر الألماني، نعم إنه مشروع جديد، ابتكره الراحل مع جهات ثقافية ألمانية، ضمن برنامج بغداد برلين. بقي حتى آخر يوم في حياته، يبتكر كل ما هو جديد، يصب في عالم المسرح.
في اتحاد الأدباء الذي اعتلت منصته د/ عواطف نعيم، ليؤبن الراحل، ما كان من الحضور إلا أن يقفوا دقيقة حداداً على غيابه.
مصابنا كبير بفقدان شخصية كبيرة ومهمة في المسرح العراقي، هكذا بدأت كلامها زميلته عواطف نعيم في مستهل كلمتها، لتضيف بعد ذلك: كان شخصية وطنية، عراقياً يحمل العراق بين عينيه، ذلك هو عوني كرومي الذي نذر نفسه للمسرح العراقي، وقدم أعمالاً تبقى في الذاكرة إلى أمد طويل، سواء عندما كان في العراق، أم عندما كان في الخارج!
ثم تحدث د. عقيل مهدي قائلاً: افتقد المشهد الثقافي العراقي برحيل د. عوني كرومي واحداً من انصع رموزه الإبداعية والفنية والجامعية. ربما لم يحن الأوان بعد للتوقف برهة لتقويم جهوده المسرحية النظرية والتطبيقية لرحيله المباغت. كيف يمكن لنا تصديق انطفاء شلال من النور، كان يكشف لنا عن خرائط وعوالم سرية، يجسمها أمام جمهوره، وهي تحمل إحساسات مرهفة عن نمط رفيع. كان يحرص على تلوين كل عرض بمنظور لوني وتشكيلي خاص، وكانت فعاليته المتميزة معروفة للمسرحيين وسواهم، عراقيين وعرباً وحتى أجانب.
وأضاف: بمقدورنا وضع مقترحات نظرية، تنظر في الماضي، والموروث الفني، وما أنجزه تطبيقياً، من تطوير وتعديل وطرح بدائل نابعة من ضرورات المسرح الحديث وجمالياته التي طورت خطاب الحداثة بما أنجزه المخرجون العالميون.
ثم تلاه الأستاذ الفريد سمعان، الأمين العام للاتحاد العام للأدباء في العراق قائلاً: تلمست اشياء كثيرة من خلال ما نقلت عنه الصحافة في الفترة الأخيرة، إننا لانؤبن عوني كرومي، وإنما نحتفي بالمسرح العراقي، لأهمية دوره في هذا المسرح العملاق، الذي أنجب العديد من المسرحيين، وخلق إبداعاً لا يضاهيه إبداع. وتأتي أهمية هذا المسرحي الكبير، كونه نذر نفسه للمسرح وبات قديساً في دروبه.
بعد ذلك قرأ الفنان عزيز خيون كلمة طويلة واقفاً تقديراً للراحل الكبير استهلها قائلاً: اخترت موتك بنفسك، مذ غادرت بغداد سرة حياتك، مطلع التسعينيات، قاصداً اللاجهة، اللامكان، مصمماً على اللا عودة تفتش عن فضاء غير مكبل لروحك المتمردة، ينعش رئة المسرح الذي تفكر وتطمح، بعد أن سدت بوجهك فضاءات الوطن، ضاقت بطيور حلمك سماوات الروح، تقزمت الفرص، تصحرت وردة الحياة، واختنقت دوائرك المسرحية، بجدارة حقد هذا، غيرة وحسد أولئك، وغدر ونفاق ذاك.
واختتم كلمته قائلاً: وفي ترمل الوفاء، كنت الوفي، لأصدقائك.. فسلام من النخل والرافدين عليك، ومن بغداد افتقدتك، وحنت إليك، سلام عليك صفياً أصيلاً، عراقياً نبيلاً، علماً مسرحياً وصوتاً لا يموت.
ثم تلاه حسين الحيدري بكلمة بدأها بالسلام وأنهاها بالسلام أيضاً وهو ينحني أمام صورة الراحل تقديراً، أنه سلام لصاحب أجمل ابتسامة عرفناها، سلام لإنساننا الطيب داخل الوطن وخارجه، سلاماً لمن كنا له ترنيمته الحزينة، واصبح لنا كرسياً هزازاً لنغفو على راحتيه، سلاماً للذي أصبح بئراً نرتوي منها واصبحنا له شناشيل يتغنى بها في دروب سفره الطويل.
وكانت لفاروق محمد كاتب مسرحية ترنيمة الكرسي الهزاز، كلمة استذكارية قصيرة، تمنى فيها أن يكون الراحل بيننا اليوم، لنستذكر معاً ذكريات المسرح والتألق والإبداع والتواصل في دروب الفن.
أما الفنان رائد محسن، فألقى كلمة مرتجلة لخص فيها ذكرياته مع الراحل، ومعاناته مع السلطة وكيفية منعه من أداء رسالته الفنية قائلاً: كان عوني عوناً لي، وهو أستاذي، ولي معه ذكريات طويلة وأعرف تفاصيل كثيرة عن معاناته مع الرقابة والمسؤولين وهم يمنعون أعماله المسرحية من استمرار عرضها. لذلك كان سفره هو الموت بذاته وإن جاء متأخراً، وعندما غادر العراق، ترك قلبه فيه ينبض بحبه.
بعد ذلك تحدث الدكتور مالك المطلبي قائلاً: أهم شيء نقدمه لعوني كرومي، هو تأسيس خزين مسرحي له وتوثيق أعماله الخمسين التي قدمها طوال حياته. ينبغي أن نحول كل ذلك إلى نقاش وحوار ودراسة، لأن عوني كرومي هو المسرح. وعن سبب مغادرته العراق قال: كان نقيضاً للوضع السائد آنذاك، لأنه أنطلق من الحرية! وجاءت أهميته كونه ظهر بعد جيل العمالقة، واستطاع أن يؤسس منحى خاصاً به.
فيما قال الأستاذ فاضل ثامر عن الراحل: خسرت الحياة الثقافية والمسرحية في العراق هذه الأيام واحداً من مبدعيها الكبار: الفنان المسرحي د. عوني كرومي الذي وهب حياته وفنه لخشبة المسرح وكان مثالاً للراهب المتبتل في محراب الفن، ولم يكن الراحل تقليدياً، بل كان يمتلك رؤيا شخصية ثاقبة للحياة والمسرح وكانت قضيته الحياتية الكبرى هي الإبداع من خلال المسرح.
واختتم د. صباح المندلاوي الحفل التأبيني قائلاً:
يظل عوني كرومي من بين أقرانه وزملائه محبوباً يتوقد حماسة وحيوية واندفاعاً وطموحاً، له ما يؤهله ليكون محط أنظار الطلبة والأساتذة.
وكانت الكلمة سياحة جميلة في حياة الراحل، مستذكراً فيها تفاصيل كثيرة عن حياة الراحل.
واختتم كلمته قائلاً: من هذا المنبر أدعو إلى تأسيس منتدى باسم عوني كرومي يأخذ على عاتقه أرشفة وتوثيق كل ما كتبه أو نشره أو نشر عنه فضلاً عن أعماله المسرحية. ويا حبذا لو بادرت الجهات المعنية إلى إقامة مهرجان مسرحي كل عام أو عامين يحمل اسمه ويكشف عن وجهه المشرق ويرفع عالياً مشاعل إبداعه واصالته.


مرثيتان
 

فاضل السلطاني

أمي

انتِ هنا في غرفتيَ الصغيرة
النقطة الأقرب في الكون إلى السماء
أسمع طول الليل، يا أمي،
صلاتك الأخيرة
وأرقب الجبين، وهو ينحني، إلى الإله
أنتَ هنا، أيتها الميْتةُ،
في غرفتيَ الصغيرة،
النقطة ُ الأقربُ في الكونِ..
إلى الحياةْ

أر.أس. توماس*


مثلك، أنا أيضاً،
أسمع أحياناً في الصمتِ
عواء كلابٍ في بابلَ،
وأرى أحياناً في العتمةِ
حداتٍ تنقضُ على جثتيِ المرميةِ في بغداد
لكني، مثلك، أسمع أحيانا
خفقَ نوارسَ في بحرٍ ما
وتكسٌرَ موجاتٍ فوقَ ضفافٍ ما
وأرى أسماكاً تتوالدُ ثم يقذفها البحر إلى الساحل ِ
كي تدخل شبك الأبدية.
*
مثلك، أنا أيضاً، أسمع أحياناً
موسيقى غامضةً منتصفَ الليلِ
وأصواتاً تدعوني
فأغادر بيتي
علّي أبصرَ صوتاً أعرفهُ..
لا صوتَ هناك.
من كان إذن يدعوني
أو يدعوكَ طوالَ الليلْ
لا أحد؟
أصواتٌ ضائعةٌ في البريِّةِ؟
من كان إذن يتسمعُ خلف الباب
صوتَ الموتْ
وهو يدبٌ على جدران الغرفةِ
أنا.. أم أنت؟

*
الشاعر المتصوف والكاهن الويلزي الذي رحل عام 2001 عن91 عاما، وقد كتبت القصيدة قبل رحيله بثلاثة أشهر


الشيخ يوسف كركوش..مؤرخ الحلة

مهدي شاكر العبيدي

أدركته معلماً في احدى مدارس الحلة الابتدائية عام 1959 يتزيا بزي علماء الدين، فكان منظره مألوفاً في عيون اجيال متعاقبة منذ ثلاثينيات القرن الماضي من الفتيان الحليين الذين احسن ذووهم تنشئتهم وتربيتهم واعدادهم، قبل ان تمنى هذه الحاضرة التاريخية المنجبة للعلماء والمصلحين ومناهضي الحكومات الاستبدادية على توالي العصور، بداء الخلف والافتراق الحاد بين شبيبتها في توجههم ونزوعهم لانتهاج سبل الاصلاح لمشكلات بلدهم وابتداع الوسائل الكفيلة بتحديد علاقتهم وارتباطهم بالاقطار العربية بين ان يؤيدوا مشروع الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة القائمة يومذاك بتجاهل الطابع السكاني الخاص الذي درجت عليه البلاد منذ قرون، وبذلك يكون تنفيذ هذه الخطوة مشوباً بالتسرع والارتجال، وبين ان يتأنوا ويمهدوا لهذا المشرع الذي يحلم به العرب اجمع باقامة شكل من الفيدرالية معها على سبيل التجريب وامتحان سريرة الطرف الآخر واحتراساً من استغلال هذه الوحدة المنشودة في سبيل الاستحواذ وانتهاب كل شيء من موارد البلد وتعطيل امكاناته وقدراته.
وكذا مرت الفيحاء بظرف حافل بالتوتر والانقسام بين مختلف شرائحها، ومشحون بالمقت والكراهية بدلا من الحب الذي يملأ الصدور قبل يوم 14 تموز، حيث انبرت هيئات واوساط معلومة تشتغل على صعيد الدين واستغلاله لماربها الاشعبية في سبيل واد كل فكرة تقدمية منطلقة، كانما الدين يحوي نصوصا تحض على التعصب وتكرس الانغلاق والرجعية، غير متورعة عن اشهار العداوة بوجه رموز الثقافة والنضال والتحرر، وحكومة بغداد تعي ما يجري ويستجد في الحلة وغيرها من مدن العراق ولا تفعل شيئاً، وهي ماضية وجادة في استحداث الموازنة بين متنوع التيارات والاتجاهات، مغضية عن تناحر الاهالي وتقاطعهم، لكن انصافاً نقول ومن باب الموضوعية انها لم تن في انفاذ خطتها لانعاش حياة الفقراء وتقريب المسافة بينهم وبين ذوي الغني واليسار، فنشطت في تنفيذ مشاريع الاسكان وظهرت احياء جديدة في مدن القطر كافة مع تشييد مرافق اخرى من مدارس ومستشفيات فيها تقتضيها الحياة العصرية المتحضرة.
وابان تلك الايام البعيدة التي يكتنفها التعدد والتباين في مشارب الناس وارائهم في التماس حياة راقية ومستقرة بحيث لا تشيع بين فئات الشعب فيها الانقسامات والنعرات المذهبية المذمومة، وحرصاً على ان يظل الدين بمنأى عن استثماره وتسخيره لخدمة ذوي الاغراض والاهواء، طلع الشيخ يوسف كركوش على الناس بمبدأ العلمانية من خلال سلسلة مقالات نشرتها تباعا جريدة الحضارة التي يحررها محمد حسن الصوري المقيم اليوم ومنذ سنين في الصين ان لم يتوفه الله فقد ظل موافياً احبابه برسائله هنا الى ما قبل عشر سنوات، ورد عليه متشككون بنياته وداحضون حجته بعض المتشنجين وضيقي الافق من خصوم العقل والتنوير في جرائد معلومة وذات وجهين يومها.
حتى اذا ادى ذلك التشاحن والتصادم اللذان عانى منهما الجمهور ما عانى، وظل يأمل ان تعدل قيادة البلاد عن سياسة الموازنة بين الاطراف المتصارعة وتكف عن ان تدع ركاب القطار يتراشقون بالتهم ويطعن بعضهم بعضاً ويرميه بشتى النعوت والاوصاف الجارحة والقطار مواصل رحلته ليقف عند المحطة النهائية كما جاء في خطب الزعيم مرة والتي سخر منها احد الهازلين لدى توديعه الجنائز (روح خلصت من خطب الزعيم)، قلت اسفر هذا الانصراف للتباعد والتجافي، عن قيام الانقلاب المنحوس في 8 شباط 1963، مطوحا بالحكومة الوطنية ومقتصا من قاعدتها الشعبية العريضة رغم ما اكتوت به من جحد لسهرها المضني الطويل واخلاصها النادر للزعيم وشمل ذلك الانتقام حتى من عزل نفسه عن السياسة وتوارى بعيداً بعد ان ادرك ان لا قبل له باحتمال سياسة الموت البطيء ونزع ثوريته منه.
فاتضح كذب ما يعلنونه من شعارات وزيف ما يتمشدقون به من قيم ومبادئ، وعمت العراق الوان متنوعة من الجرائد والشناعات والمخازي التي لا ينتهي منها العد والاحصاء، واودع في السجون الوف الناس الذين خالفوهم في الراي وباينوهم في وجهة نظر ذات يوم مع انهم لا يمتون بصلة إلى الاحزاب وشمل العنت والعنف حتى الشيوخ العجزة ممن عايشوا عهود التخلف والرجعية ولم ينفتحوا على قدر من الوعي والحرية العقلية ومن دلائل ذلك ان قصد الشيخ يوسف كركوش وهو رهين الاعتقال في سجن الحلة احد هولاء المساكين السذج وخدينه في الاعتقال ايضا مسائلا ما اذا كان مخطئا في تصرفه او اقترف ذنبا، ذلك انه نطق بلفظ الجلالة اثناء دخوله دورة المياه فهل هذا جائز ومغفور، فطمأنه الشيخ يوسف بقوله ان لا تثريب عليه، هنا انبرى احد الظرفاء من شهود خلوته وانزوائه في سجنه مازحا انه يسألك ياشيخ يوسف هل ان صنيعه هذا يتوافق مع وجهة نظر السوفيت في السياسة الدولية ام انه ينحاز لمعسكر الصين الذي ابتعد عن موسكو وانفرد براي وموقف خاصين؟
فتدبر ما تجني سياسة التخليط والتهويش على الناس ما تجني، وتأمل كم هي نفوسهم عليه من التهافت والهلوسة والضعف والاضطراب، فلا وحدة افلحوا في تحقيقها بعد ان صكوا اسماع الملأ بها وثرثروا طويلا عبر التعسف والاستبداد، ولا تركوا الناس لشأنهم حتى وان انتووا تطليقهم وعيافهم لكل شأن وعمل سياسي.
وبرح الشيخ يوسف سجنه وهم موقنون سلفا باستقلاله الفكري قبيل او بعيد 18 تشرين الثاني 1963، وانشغل بمراجعة كتابه (عن تاريخ الحلة) المطبوع بصيدا بداية الثلاثينيات من القرن الفائت فشمله بالتشذيب والتنقيح واضاف الى موضوعاته ما استجد طوال هذه المدة الطويلة من حوادث ومتغيرات، وطبعه ثانية مستهلاً اياه بالاية الكريمة "إنما الايام نداولها بين الناس" وللقارئ ان يستجلي ويكتنه ما وراء هذه الاشارة من معنى او رمز.
وقبلها صدر له كتاب (راي الاعراب) ربيع 1958 بتقديم الدكتور الراحل مهدي المخزومي، متضمنا اراءه التجديدية في تيسير النحو العربي، وبهذا يتجلى تشعب اهتماماته في ميدان الثقافة وعمله الصامت في غاية من الزهد في الشهرة وحتى ان ينوه باسمه ويشار اليه.
وعندما زارت وفود مؤتمر الادباء العرب السابع المنعقد ببغداد نيسان 1969 مدينة بابل الاثرية قدم الشيخ يوسف كركوش نسخة مجلدة من تاريخ الحلة الى ادارة المؤتمر ممثلة في شخص اديب مصري كبير وبطلب من قيادة حزب البعث لتجميل صورتهم في انظار الادباء عامة ومباهاة باحتضانهم وايلائهم الرعاية والتشجيع وربما تعبيرا عن ندامتهم واحساسهم بالاثم جراء ما الحقوا بالشيخ يوسف من جحود وكنود واذى ايام 1963 ولانه اكبر الباحثين سنا في هذه الحاضرة التاريخية العريقة.
وكذا غادر هذا العالم وفي هذا الزمن الرديء في 4 حزيران عام 1990 قبل ان تستشري الاحقاد والضغائن بين الناس وتطغى النعرات المقيتة وتتحكم في مسالكهم وتصرفاتهم، فصرنا احوج الى الاسترشاد بمنهجه الهادي في احترام ادمية الانسان وشعوره ومواطنته، علما انه كان مطويا في سنواته الاخيرة على كمد ولوعة لتغييب احد اصهاره بتلفيق تهمة انحيازه لحزب الدعوة، هو الذي يختلف عنهم في نزعته المذهبية، فتامل ماذا تعني المصاهرة عند العراقيين واواصر المحبة التي يجهد المخربون الاشرار لفصمها وبالتالي تفريقهم وتشتيتهم.؟


زيارة الى مقام الحلاج

مفيد الصافي

تصوير نهاد العزاوي

طافت امام ناظري خيالات من محاكمة الحلاج ونهايته المأساوية ونحن نعبر الازقة في طريقنا الى زيارة مقامه في محلة المنصورية في الكرخ، وبينما كنا نحث الخطى بين الشوارع والمنازل القديمة، ونتوقف أحيانا سائلين عن العنوان.
زيارة الضريح
عبرنا منطقة العلاوي من موقع سينما بغداد متخذين خطا مستقيما،وفي نهاية الشارع واجهنا ضريح الشيخ معروف الكرخي، المتصوف المشهور، وهناك سألنا عن ضريح الشيخ منصور الحلاج فأرشدنا اليه. قبل الوصول إلى محلة المنصورية واجهنا صرح كبير ، يسمونه قبر الست زبيدة في الحقيقة هو تربة زمرد خاتون-،وأخيرا قادنا طفل نحيل في الثانية عشرة من العمر إلى موقع ضريح الحلاج،قرب كلية طب الأسنان، خلف مستشفى الكرامة.التف حولنا بعض الصبية وشاهدنا عددا من الأولاد يسرعون لمناداة شخص، اطلقوا عليه كلمة (جدو- جدو) والذي تبين بعد ذلك انه الشيخ المسؤول عن الضريح.
كان شيخا طاعنا في السن قد فقد بصره، في نهاية السبعينيات من العمر ولحيته البيضاء الطويلة زادته وقارا، رحب بنا وفتح لنا الباب لنطل منه على عالم الحلاج الواسع.
مشاهد المقام
البناء حديث العهد، مبني بقطع الطابوق الحسن الشكل،أعيد بناؤه عام 1992، يقف على مساحة لا تتجاوز مئة متر مربع، وفي الماضي كان منزلا عتيقا يتألف من غرفتين داخلية وخارجية، وكانت الغرفة الداخلية صغيرة المساحة، لا تكاد تتسع إلى الزوار الذين يحضرون من كل مكان.أما الغرفة الخارجية فتقدر مساحتها بأربعة أمتار في ثلاثة.وحينما أعيد البناء جعلوه غرفة واحدة، يقف قبر الحلاج في جهتها الغربية بشكل متعامد مع اتجاه القبلة!! قياساتها نحو خمسة امتار في ثمانية وارتفاعها نحو أربعة امتار، تتوسط السقف قبة صغيرة تنزل منها ثريا صغيرة، وعلقت على الجدار المواجه للباب صور عن مكة المكرمة ووصايا لقمان الحكيم. وهنالك نافذتان على الجانبين علقت عليهما ستائر خضر.
اما مقام الحلاج فهو صندوق من الخشب وقد غطي بقطعة قماش اخضر اللون كتب عليها اسم الله، يتراوح طوله متران وعرضه متر، وكان موضوعا بشكل متعامد مع القبلة وهذا أمر أثار استغرابي،ولم يستطع الشيخ ان يجيبني عن ذلك!
قال الشيخ سبع إبراهيم رشيد الشيخلي، 79 عاما " ان الحلاج هو من نهاوند وهو شيخ صوفي، أحب الله فأحبه الله، فأعطاه القدرة اذا مد يده الى السماء فانها ستمطر دراهم بأمر الله، وان صاحب المقام رجل له كرامات"
وعن سبب تسميته بالحلاج ذكر انه كان يحلج القطن وقد أعطاه استاذه مرة كمية كبيرة من القطن وطلب ان يكملها بأسرع وقت، وكم كان تعجب الاستاذ شديدا حينما فوجئ بأن الحلاج قد أنجز عمله قال الشيخ "ان الملائكة ساعدته؟ فما تقول انت؟ فكنت حذرا في اجابتي فقلت " لاشك في ان الرجل كانت له كرامات كثيرة".
رائحة المقام
ثم قال الشيخ سبع " إن رائحة المقام تنبعث كالمسك " ثم اكد لي ان المكان كان لا ينقطع من الزوار الذين يأتون من كل مكان وحتى من فرنسا وبريطانيا، وقال واثقا " لقد اكد لي احد الصحفيين الفرنسيين، انهم هنالك في فرنسا، متأثرون ومعجبون بشخصية الحلاج كثيرا " لقد اسلم الكثير من الفرنسيين بسبب كتبه!!
سألته " هل كان الحلاج هو الاول في زمانه في المذهب التصوفي فقال " كلا، لقد كان تلميذا عند متصوف كبير وهو الشيخ جنيد البغدادي، لقد عاصر زمن المقتدر العباسي، وقد قتلوه بعد ان تعرض الى الضرب، لقد ضربوه 77 جلدة ثم اعدموه بالسيف وقيل احرقوه ورموا برماده في نهر دجلة،ولقد فاض النهر في ذلك العام واغرق الناس حزنا على الشيخ.
مقبرة الاطفال
ثم اضاف الشيخ سبع "ان القبر هذا، مقام له كان يصلي فيه وكان الحلاج له غرفة هنا، و قبل ان يتم تعمير المكان كان مقبرة للأطفال فكان الناس الذين يأتون الى زيارته لا يعثرون على المكان بسهولة لانه يتوسط المنازل.
وعن عمله قال الشيخ سبع مضى علي هنا خمسة عشر عاما وكنت مؤذنا في الاوقاف وحينما أحلت على التقاعد، عملت في المقام، في البداية كنت أعود مساء الى منزلي في العطيفية وبعد ذلك جعلوا لي منزلا اسكن فيه في المنصورية بجوار المقام وقد اقتطع منه، لدي ستة أولاد، وأنا أقرا القران في المقام واقوم على خدمته، وحينما سألناه لماذا يسمونه جدو ضحك قائلا " الأولاد يحبونني هنا فليس لدي وجه مكروه"
وضوء الدم
في قصة الحلاج او وضوء الدم لميشال فريد غريب، وهي قصة تاريخية تقول " ما ان ولج الحلاج قاعة المحكمة حتى أيقن ان ثمة مؤامرة تحاك لقطع عنقه: ابو عمر قاضي بغداد للضفة الشرقية يرأس الجلسة.... شيخ حسن المظهر انيق الملبس يفوح من تحت ابطيه شذا المسك والعنبر اما فتاواه فتشم منها روائح سمك غير طازج.اما الوزير حامد.... فبقي مصمما على انجاح مخططه مهما كلف الامر.....جماعة من الشهود يناهز المائة يقفون وراء الباب بانتظار دورهم.....لم يمض على هزيمة الزنج سبع سنوات حتى اندلعت ثورة اعنف وابعد مدى كادت تطيح مرارا بالدولة العباسية الا وهي ثورة القرامطة.... في مجتمع يسوده الحرمان والطغيان والفوضى
عذابات الحلاج
وفي كتاب الحلاج شهيد التصوف للكاتب طه عبد الباقي سرور..... (ثم قام الحراس فشدوا وثاقه (الحلاج) الى الة الصلب واخذوا يتفننون في ايلامه وعذابه بالسنتهم وسياطهم. ومضى يوم..... ليلة باتها مقيدا مصلوبا مقطوع اليدين تنزف جراحه دما وبات جمهور البغداديين حوله على الضفة الغربية لدجلة يرقب الماساة. وجاء صباح اليوم الثاني فتضاعف كما يقول (ابن كثير) عدد البغداديين حول مصلبه واجتمع من العامة عدد لايحصى، وبدأ العذاب من جديد في يومه الثاني فقطعت رجله اليمنى ثم اليسرى ومع قطرات الدم ارتفعت السياط). يقول الخطيب البغدادي سمعت فارسا يقول "قطعت اعضاء الحلاج عضوا عضوا وما تغير لونه وما فتر لسانه عن ذكر الله". وعن ابن فاتك قال لما قطعت رجلا الحلاج كان يقول....اقتلوني ياثقاتي ان في قتلي حياتي ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي- ان عندي محو ذاتي من اجل المكرمات - وبقائي في صفاتي من قبيح السيئات- فاقتلوني واحرقوني- بعظامي الفانيات- ثم مروا برفاتي في القبور الدارسات- تجدوا سر حبيبي في طوايا الباقيات.
ثم تتابعت مشاهد العذاب.....ومضى الليل بطوله وبهوله وجاء اليوم الثالث بعذابه ومع الفجر طافت جموع الشعب في بغداد تحطم وتدمر وتطالب بانقاذ الحلاج.
ويقول ابن كثير لما كان اليوم الثالث تقدم الوزير حامد الى الخشبة فتلا امر الخليفة ثم قرا فتوى الفقهاء بان في قتل الحلاج صلاح امر المسلمين ثم امر الجلاد بقطع رأسه والاجهاز عليه. ويقول الحلواني قدم الحلاج الى القتل وهو يضحك فقلت يا سيدي : ما هذا الحال؟ فقال" دلال الجمال الجالب اليه اهل الوصال". ويقول ابن خفيف ثم ضرب عنق(الحلاج) فبقي جسده ساعتين من النهار قائما ورأسه بين رجليه وهو يتكلم بكلام لايفهم فكان اخر كلامه :احد، احد.
ويروي ابن انجب الساعي عن الشيرازي انه قال: لما صلب الحلاج بقي ثلاثة ايام لم يمت فانزلوه وفتشوه فوجدوا معه ورقة مكتوبة بخطه وفيها اية الكرسي وبعدها هذا الدعاء: اللهم الق في قلبي رضاك واقطع رجائي عمن سواك واعني باسمك الاعظم واغنني بالحلال عن الحرام واعطني ما لا ينبغي لاحد غيري وامتني شهيدا.
ثم لف جسده في بارية وصب عليه النفط واحرق وحمل رماده على راس منارة لتسفه الريح في السادس والعشرين من ذي القعدة سنة 309 هجرية- 26 مارس 922 ميلادية.
في هيئة الاثار والتراث
قال دكتور حميد محمد حسن من هيئة الاثار، متخصص بالاثار الاسلامية.
يقع هذا المرقد بالقرب من مقبرة الشيخ معروف الكوفي وبالقرب من مستشفى الكرامة بالجانب الغربي من بغداد. وهو الولي الشهيد ابو مغيث الحسين بن منصور الحلاج. من اشهر رجال التصرف الاسلامي،و هو على رأس الزهاد بعد الجنيد والسيد احمد الرفاعي واويس القوني. واصله من بيضاء فارس وقد عرف بالبيضاوي.
ولد في حدود عام (244 هـ / 858 م) في الطور بالقرب من البيضاء من اعمال فارس. وهو حفيد مجوسي من عبدة النار. وقيل انه من سلالة الصحابي ابي ايوب الانصاري، نشأ بواسط العراق ثم انتقل الى البصرة وقضى الاعوام من سنة (260
282 هـ) في خلوة مع شيوخ الصوفية ومنهم التسنري وعمر والجنيد البغدادي ثم انفصل عنهم وخرج الى الدنيا يدعو الى الزهد والتصوف وظهر امره في سنة (299 هـ) فاتبع الناس طريقته في التوحيد والايمان ثم كان يتنقل في البلدان وينشر افكاره طالباً اصلاح ما افسده الترف واللهو والانصراف الى الله. فظنوا انه يطلب الثورة على الدولة باسم الدين فمكروا به ودبروا له ما دبروه. وكثرت الوشايات الى الخليفة المقتدر العباسي فأمر بالقبض عليه فسجن وعذب وضرب ثم قطعت اطرافه الاربعة وهو ساكت لايتاؤه او يستغيث وجز رأسه واحرقت جثته ولما صارت رماداً القيت في دجلة ونصب رأسه على جسر بغداد. وقيل انه لم تحرق جثته وانما دفنت وكان ذلك يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي العقدة سنة (309 هـ) وترك خلفه مؤلفات عديدة واقوال اهل السير فيه كثيرة حوتها عدة كتب ورسائل ومن اشهر هذه التآليف (الحلاج ولي الله) للقاضي جلال الدين المنصف، ولبعض المستشرقين فيه مؤلفات شتى لا تخلو من الدس الرخيص على هذه الشخصية الفذة وعلى امثاله من اعلام الاسلام.
قال ابن النديم في وصفه: انه يدعي كل علم جسوراً على السلاطين والحكام خارقاً للنظام وله ستة واربعون كتاباً كلها عربية التسمية.
والمعروف ان الحلاج احرقت جثته والقيت رماداً في دجلة اما القبر المذكور فهو لمحمد بن احمد القطان المعروف بابن الحلاج كما ذكر البحاثة المحقق الدكتور عماد عبد السلام رؤوف في جريدة البلد البغدادية بتاريخ 30 كانون الثاني 1966م.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة