"موجــــز
تاريــــخ المــــــوتى" ..
كتــــــاب رؤيوي جديــــــد لروائي شاب
ترجمة/ عادل العامل
كيفين
بروكمير روائي امريكي شاب يستحق كما تقول ميغان أورورك،
كاتبة هذا المقال، ان يكون معروفاً أفضل مما هو عليه الآن
من شهرة فهو بأبتعاده عن تجريب ما بعد الحداثة المتسم
بالضجيج، وواقعية شريحة الحياة المقيدة، يكتب القصص
القصيرة المخرفة
fabulist المتأثرة
بالحكايات الخرافية والقصص العلمي، فنجد في نتاجه، كمثال
على هذا، زواج رجل يتحطم والسماء تغوص متجهة نحو الارض،
وفي مثال آخر، نتعرف على حياة "رامبيلستيلتسكين" بعد ما
تنتهي الحكاية الخرافية، ماشياً بخطوات ثقيلة بصعوبة بالغة
بغضب بحيث انه شق نفسه الى إثنين، وقد سمح الادب القصصي
لبروكمير، الذي يستعير مادته من طرز النوع الادبي البدئية،
ان يكتب بكآبة مكدرة عن مجتمعنا المتعرض للسخرية من دون أن
يصبح عاطفياً او مستقلاً بفتور، وقد بدا، أحياناً في
كتابيه الأولين، "أشياء تسقط من السماء" 2002، و"الحقيقة
بشأن سيليا" 2003، أشبه بزائر الى عصرنا من كونه واحداً من
أهله. لكن بروكمير، الآن، في كتابه الجديد، "موجز تاريخ
الموتى"، قد كتب رواية تتناول مخاوف عصرنا الحديث من
الارهاب والاضمحلال المستقبلي بصورة رشيقة- وكتاباً يجعلنا
نشعر، للحظة، كم غريباً ان يعيش البشر في صناديق زجاجية
ومعدنية مؤجلة فوق الأرض، وهذا، بعد كل شيء، ما يستطيع
الخيال ان يفعل بشكل أفضل: ان يجدد احساسنا بالدهشة.
ولكون رواية "موجز تاريخ الموتى" فنتازيا رؤيوية
apocalyptic،
فإنها تقدم انعطافة قوية في الطريقة التي نتصور بها الموت،
فهي تبدأ في مدينة غامضة من دون حدود، يسكنها بلايين الناس
الذين لا يشيخون وتستحوذ على فكرهم قصة "عبورهم".
"فعندما وصل الرجل الأعمى الى المدينة، زعم أنه كان قد قطع
صحراء من الرمل الحي"، كما نعلم، ووصلت امرأة اخرى فيما
بعد وببساطة "بدأت تثلج"، وبالرغم من ان هؤلاء الأشخاص
يعيشون فيما يبدو حيواتٍٍ مميزة- أحدهم صحافي، والآخر
شحاذ، وآخرون يلعبون لعبة الماهجونغ الصينية- يتضح لنا
تدريجياَ ان هؤلاء موتى ويقيمون في نوعٍ من المحطات
الوسطية, ولا أحد منهم يظن خطأ انها الجنة. فقط الذين
كانوا يصلون حديثاً يستفهمون عن ذلك.
وما أن تبدأ الرواية، حتى يكون ملايين الموتى حديثاً قد
غمروا المدينة، واختفوا سريعاً منها، وكأن قمعاً خفياً قد
آمتصهم. وببطءٍ، وبمساعدة صحيفة يومية يصدرها رجل اسمه
لوكا سيمز، يدرك السكان الباقون أن شيئاً ما غريباً يحدث
على الارض: كارثة سريعة الحركة، تُعرف بـ"الومضات
the Blinks"
قد أهلكت الكثير من سكان
العالم، بتأثيرات غريبة على هذا العالم الآخر. ويستيقظ
سيمز ذات يوم ويجد نفسه لوحده تقريباً في مدينة الموتى.
وتنضفر مع قصة الموتى هذه قصة لورا بيرد التي لا تزال على
قيد الحياة، وهي "أخصائية في الحياة البرية" وموظفة لدى
كوكا كولا، أرسلت للعمل في جزءٍ ناءٍ من قارة انتاركتيكا
حول القطب الجنوبي كجزء من حملة
PR
تصورية لدرجة عالية (في
هذا المستقبل المتخيل، يكون الارهاب هائجاً، وتشكل الحرب
البايلوجية قلقاً مستمراً. وأنتاركتيكا هذه، التي تذوب،
تعود عائديتها جزئياً لكوكا كولا). ويحصل حادث يترك لورا
ورفاقها عاجزين عن الاتصال بقاعدتهم في الوطن، ويروحون
يعانون ببطء من افتقاد المؤونة، وينتظرون شخصاً ما يلاحظ
أنهم يهلكون: "كانت الريح تهب لمدة ثلاثة وعشرين يوماً...
وكانت الألواح المسخنة تتعطل بشكل واضح.." وبعد ان ينطلق
رفاق لورا لايجاد مساعدة ولا يعودون، تدرك هي ان عليها
القيام برحلةٍ خطرة عبر الجليد بنفسها، بحثاً عن العون.
ومعظم هذا السلك الناظم للقصة يتعلق بحملتها الشاقة على
مزلجة ذات محرك، والتي تتأمل خلالها حياتها:
عصف الثلج بالارتفاعات، مخلفاً بقعاً جُرداً من الجليد
الزلق، لكن ركاماتٍ طويلة تكونت في المجوفات الأرضية وجعلت
الرف يبدو اكثر أستواءً مما كان عليه في الواقع. وكانت
هناك حشود من الناس في أفكارها، وحشود خلفها، امها وأبوها،
اسرتها الواسعة... الناس الذين كانت تراهم كل بضعة أيام في
محل البقالة او في المصرف، والناس الذين كانوا يعيشون في
بناية شقتها.. وبالرغم من انها كانت تعرف أنها وحيدة، كان
هناك جزءٌ منها يرفض تقبل ذلك).
وبالرغم من أن "موجز تاريخ الموتى" يمكن ان تمثل قصة
علمية، فإن أهتمامات بروكمير مختلفة جداً عن الاهتمامات
التي تحرك كتاب القصص العلمي. فغالباً ما يميل هذا النوع
الأدبي الى الترتيب الاستعادي أو المجازي. (بالرغم من
النوعية الغريبة
foreigner للمشهد)
أو الى صنمية الغريب.
ولكن، وكما هي الحال مع
Never let me go
لكازو إيشيغورو، تتحول
هذه الرواية الى مستقبلية خيال- علمية للإمساك بشيءٍ ما
على مقدار الأجنبية التي قد يبدو لنا عليها مستقبلنا
القريب فبروكمير لا يبدو هنا مهتماً بأختراع تعقيدات عالم
بديل (أو حتى بمقاضاة الرأسمالية) انه مهتم بالأحاجي
والالغاز الميتافيزيقية
–بمتابعة
فكرة الى اقصى حدودها من اجل مواجهتنا بشعور من الاغتراب
عما هو معروف. وكما هو الحال مع كافكا، يظل يستنطق
الاستعارة حتى تغدو حرفية, وهكذا نجد المفهوم المجازي بأن
الموتى "سيظلون يحيون في ذاكرتنا" يصبح في "موجز تاريخ
الموتى" حقيقة حرفية فمع أختفاء المزيد والمزيد من سكان
المدينة الموتى، تدرك القلق المتبقية من السكان تدريجياً
انها تستمر في الوجود لأن شخصاً حياً واحداً يتذكرها: هو
لورا بيرد. وانه لأمر مثير حقاً ذلك التوتر بين البساطة
الرشيقة للفكرة واللاواقعية المروعة للدمار الشامل العالمي
الانتشار الذي تتضمنه.
ان السلكين الناظمين للقصة من الطراز البدئي حين يبدآن-
تصويراً ميثولوجيا للعالم الآخر، وقصة استمرار في البقاء
قطبشمالية- لكنهما معاً ينضمان الى التأمل الاصيل في ما
يعينه التذكر لنا بالطريقة التي يفعل بها ذلك فلم كريس
ماركر الرائع "La
Jetee حاجز الماء"
(1962).
وفي كليهما، تكون متابعة التذكر هي نفسها البحث المركزي،
الامر الذي يمكنه من ان ينقذ العالم من الابادة، ويصبح
للتفصيلات الصغيرة رنينها وآنعطافها بالمعنى:
تذكر الرجل الذي أشعل مصابيح الغاز في منطقة المسرح اخذه
علبة فاصوليا من هرم السلع المعروضة في سوبر ماركت شاعراً
بخفقة فخر ثم بخفقة أستمتاع بفخره عندما لم تقع العلب
الاخرى. وتذكر اندرياس أندروبولوس، الذي كان قد كتب شفرةً
لألعاب كومبيوترية للأربعين سنة الماضية كلها من حياته
الراشدة، وثوبه ليقطف ورقةً من شجرة، وفتح مجلة أزياء ليشم
اوراق العطر المقحمة فيها، وكتابة آسمه في الرطوبة العالقة
بكأس البيرة، لقد أستحوذت عليه- هذه الذكريات الخفية
العديمة الشكل كانت تبدو أثقل كثيراً مما ينبغي أن تكون
عليه، وكأنها كانت حيث ينطرح معنى العبء الحقيقي لحياته).
إن كتاب الموتى هذا يبحث بشكل بارع في الكيفية التي تستطيع
بها الميثولوجيا او الفنتازيا اعادة تشكيل الطريقة التي
نفكر بها فيما يتعلق بالتذكر. غير أن الكثير من الروايات
التي يقصد بها البحث في حالة الاندهاش
wonder
تعاني من نوعية سكونية
معينة (والاندهاش ربما اكثر ملاءمة للشعر، او، على وجه
الاحتمال، للصور الوصفية الأدبية القصيرة، مثل صور إيتالو
كالفينو) وانشغال بروكمير بالاستعارات يعني أن كتابته يمكن
ان تبدو ساكنةً
airless احياناً،
كا لو كنا ماخوذين داخل شيء منفوخ الزجاج، حيث كل شيء
معمول على نحوٍ رائع لكن ما من شيء هناك يمكنه ان يتنفس او
يتحرك. ولا شك في ان رواية "موجز تاريخ الموتى" تعاني من
هذا الى حدٍ ما. فهي تزحف خارجاً، فقط حيث يمكن ان تتوقع
تحولاً دراماتيكياً في الاحداث.
ومهما كانت الحال، فعندما تنتهي الرواية، تذكرنا بأن
الاختراعات الفنتازية لا يمكنها ان تستمر الى الأبد، وبأن
كل التواريخ موجزة، بطريقتها هي.
|