اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

محاولة تنظيرية في الإنتماء السياسي

د. شاكر كتاب *

* كاتب وباحث عراقي

للإنتماء معان اجتماعية ونفسية وسياسية. من المعاني الأولى هو الميل الطبيعي للبشر نحو الإلتقاء والنشاط المشترك خاصة إزاء حاجاتهم المشتركة في مواجهة ظروف تتعلق بمصيرهم وتطلعاتهم. لذلك يقال إن الإنسان هو كائن إجتماعي بطبيعته. ولعل من المعاني الإجتماعية الأكثر عمقا هو قناعة ذاتية لدى الإنسان كفرد بأنه يستحيل عليه العيش وتأمين ظروف حياة آمنة ومتكاملة من دون الإلتحاق بالجماعة... بالجماعة تتكامل الطاقات والمعارف والأدوار.. من هنا فإن الغالب على أهداف التنظيمات الإتسانية جمعاء وعلى الأخص السياسية منها أن تكون أهدافا إجتماعية تتعلق بالمجموع أكثر مما تعلق بفرد ما .
من المعاني السياسية للإنتماء هو أن يلتحق الفرد بمجموعة بشرية ضمن إطار تنظيمي معين لإتفاقه معها على نظريات وأفكار ومواقف هي سياسية بطبيعتها.. من ذلك شكل الحياة المراد تحقيقه أي ما نسميه بلغة السياسة مثلا العلاقات الإجتماعية المراد سيادتها وترتبط بهذا الأمر ارتباطا مباشرا نظرية الدولة وطبيعة السلطة لدى هذه المجموعة .
كذلك من المعاني السياسية للإنتماء هو اتفاق المنتمي ليس فقط مع الرؤيا والأفكار إنما مع أساليب العمل المقترحة من قبل المنظمة سواء من حيث شكل التنظيم أو النشاط الهادف مباشرة إلى تحقيق الأهداف من ذلك كيفية الوصول إلى السلطة . لذلك ننوه هنا إلى اشتراط الكثير من الأحزاب في أنظمتها الداخلية على العضو أن يقر برنامجها ونظامها الداخلي وأن يعمل في إحدى منظماتها.
وعلى الحد الفاصل بين المعاني الإجتماعية والسياسية للإنتماء تقع مسألة غاية في الأهمية هي شكل الإنتماء هل هو طوعي أم إضطراري إجباري ( قسري ) . إن الغالبية العظمى من الأحزاب السياسية في مختلف بلدان العالم تؤكد حين تعرف نفسها بأنها أحزاب ذات انتماء طوعي أو اختياري يقوم على أساس وعي العضو بما يفعل لكن فعله هذا هو طواعية.. والتطوع هنا في الإنتماء له معان عديدة .. فهو الأكثر ديمقراطية من أية صيغة أخرى للإنتماء .. لذلك إلى جانب الإنتماء الطوعي تضع الأحزاب حرية الإستقالة والخروج من الحزب متى يشاء العضو,, ومن هنا - ربما سنتحدث بتفصيل أكثر في مكان آخـر..لكننا نضيف الآن معاني أخرى للإنتماء الطوعي - فالعضو المنتمي طوعيا يتحمل مسؤولية ما يفعل.. وبالتالي عليه الإلتزام بشكل التنظيم وبأساليب عمل المنظمة وطرق معالجتها للمشاكل ومن ثم سبل وصولها إلى أهدافها وأن يتحمل المسؤولية مع بقية الأعضاءعن كل ذلك خاصة عندما تتقاطع هذه الأنشطة مع الأنظمة والقوانين السائدة أو تتعارض مع مصالح منظمات سياسية أخرى.. فالصراع السياسي بين الأحزاب السياسية والسلطة وبينها هي نفسها ينفذه ويقوم به الأعضاء أولا وقبل كل شئ... ثم هم الذين يتحملون وزر نتائجه..
ومن معاني الطوعية في الإنتماء إن العضو ليس فقط يتحمل مسؤولية انتمائه ونشاطه إنما أيضا يتحمل كل ذلك دون مقابل أو تعويضات مادية.. فالحزب هنا لا يدفع لأعضائه ثمنا عن الأنتماء ولا عن العمل المقام به داخل التنظيم أو لمصلحة التنظيم.. فالعضو الحزبي ليس موظفا ولا عاملا أجيرا في المؤسسة الحزبية وبالتالي لا يتلقى أجورا. فالحزب إذن ليس مسؤولا عن دفع تغطيات لضمانات ضرائبية أو تقاعدية أو تعويضية في حالة حدوث إصابات أثناء النشاط السياسي.. وبالطبع تستثنى هنا حالات التفرغ الحزبي التام كأن يتفرغ الناشط السياسي للعمل كليا المصلحة الحزب ومؤسساته ومقاره .. آنذاك يلزم الحزب أن يدفع ما يكفل للمتفرغ تغطية حاجاته المعيشية وحاجات عائلته بصيغة راتب شهري تستقطع منه في الظروف العادية والطبيعية حصة الدولة بصيغة ضريبة لأغراض الضمان الإجتماعي وحسب قوانين العمل السارية في البلد المعني. وكذلك يستثنى مما ذكرنا آنفا الحالة المزرية التي وصل إليها تدهور الخلق السياسي في الإنتماء والمتمثل في لجوء الكثير من ألأحزاب السياسية الناشطة في العراق في يومنا هذا إلى ترغيب السذج من الناس للإنتماء إليها مقابل تقديم المساعدات المالية لهم ( شراء الذمم والنفوس ) والتي مصدرها غالبا ما يثير الكثير من الشكوك لكننا نتكلم هنا عن الأحزاب الأصيلة ذات الوزن السياسي والتاريخي إضافة إلى وزنها الأخلاقي والوطني النزيه وذات الرسالة الشريفة والأهداف النبيلة.
والإنتماء الطوعي بمعانيه المذكورة أعلاه يثيرإشكالات أخرى لابد من التوقف عندها من ذلك: الإنتماء الطوعــي الــواعــــي والإنتماء الإجباري وأخيرا الإنتماء الطوعي النفسي.
فالإنتماء الطوعي الواعي أقصد به ليس فقط حرية الإنتنماء طوعا وبإرادة ومعه حرية الإنسحاب متى ما يشاء العضو لــكــنــي أضفت هنا عنصر الوعي .. وهــذا ما يجعل هذه الصيغة من الإنتماء أكثر ديمقراطية وجدــديــة وحريــة لأنها مرتبطــة بالمسؤولية أكثر وبالإرادة الواعية.. لذلك ليس إعتباطا أن يكون من شروط الإنتماء لدى الكثير من الأحزاب السياسية هو إن العضو يجب أن يتجاوز الثامنة عشرة من عمره .. إن هــذا الشرط وعلاقته بالوعي يشكل إشكالا هو الآخر وبحــد ذاتــه.. ففي الأعم الغالب إن الإنسان في هذا العمر يكون على وشك مغادرة عمر المراهقة وعلى أبواب المشاركة الفعالة ( الواعية ) في الحياة الإجتماعية ( الدخول إلى الجامعات، الإلتحاق بمكانات العمل المختلفة ، إقامة علاقات عاطفية أكثر اتزانا وربما الإقتراب من الزواج وتكوين عائلة ) وهكذا فنحن إزاء إنسان في عمر يؤهله لأن يــرى بوعــي مـا يجري في محيطه وأن يتأثر مباشرة به ومن ثم أن يتخذ المواقف بوعي إزاء هذا الذي يجــري .. ولعل من دلالات وعيه قراره بالإنتنماء.. لــكن من هنا ننزلق من دون إرادتنا - لأننا لا نريد الإنزلاق أبدا
في طريقين الأول: ماذا عن البلوغ المبكر لدى الكثير من الناس خاصة إذا ما قارنــا بين الشباب في بلدان العالم المتقدم إقتصاديا وشباب العالم الذي لا يزال يئن تحت وطأة الإحتلالات المتنوعة والإستغلال والعبودية والتخلف الحضاري وما يرافقه من طغيان العقل الأسطوري والخرافي الذي يشكل أهم العقبات في طريق التفكير العلمي كما يرى محقا الأستاذ فؤاد زكريا في كتابه المهم " التفكير العلمي " .
إن النضوج العقلي وبالتالي الفكري ومنه ينبع حتما النفسي لدى الفرد يرتبط كثيرا بالمستوى الحضاري والعلمي القائم في المحيط والبيئة التي يحياها . إن المرء الذي ما زال برغم عمره المديد يتكفله ويتخذ القرار عنه أولياء الأمر والنهي ( كافة أنواع السلطات من أبوين إلى سلطة الدولة أو المجتمع بما في ذلك المنظمات ) يختلف عن ذلك الذي يتحمل المسؤولية عن ذاته مباشرة ويقرر مصيره بنفسه.. هذا الأمر بكل ثقله يبرر شعورنا بالإستهجان عندما نطلع عاى قرار بعض الأحزاب السياسية عندنا غي العراق بتخفيض سقف عمر المنتمي إلى 16 عاما. ومن المعلوم طبعا إن الغرض من ذلك هو كسب المزيد من الأعضاء من دون أن نستبعد النيات المسبقة باستغلال عدم أو في الأقل قلة خبرة الشباب في هذا العمر..صحيح إن الفارق بين 16 و 18 سنف قليل لكنه على الصعد البيولوجية والذهنية وبالتالي النفسية يصبح فارقا كبيرا ومؤثرا..
إن شرط الوعي ضروري وأساس في الإنتنماء الطوعي ليكون أكثر ديمقراطية من غيره لأنه حتما سيكون أكثر إنسانية..من هنا يأتي أيضا رفضنا ورفض الأخلاق الديمقراطية لما أتبع لدى الكثير من أنظمة الحكم والأحزاب الشمولية في إجبار الناس وإرغامهم على الإنتماء إليها متوسلة لذلك بالترغيب والترهيب .. إن في ذلك أخطارا كثيرة.. فعدا عن لا ديمقراطية هكذا إنتماء نستطيع أن نتحدث عن لا إنسانيته أيضا.. فالإنسان المجبر على الإنتماء يستلب منه وعيه وإرادته وقراره.. أي تستلب منه إنسانيته وذاتــه و إلا فأين تكمن إنسانية وآدمية الإنسان إن لم تكن في إرادته الواعية وحريته في اتخذ قراره. إن الفارق الجوهري بين الإنسان والحيوان هو في الوعي ومكامنه ليست فقط الفيزيولوجية من قبيل طبيعة الدماغ والمخ وبقية أجزاء الجهاز العصبي ولكن مكامنه النفسية والذهنية أيضا ومن ثم في حرية القرار في ضوء هذا الوعـــي ..في هذين الشرطين حصرا تكمن آدمية الإنسان.. لذلك فإن الإنسان المجبرعلى الإنتمــاء لحزب ما والمضطر لإتخاذ موقف ما هو أول من يثور على هذا الحزب ويتخلى عن هذا الموقف مع أول فرصــة سانحة..
إلا إننا ولكي نحافظ على التوازن في تناول المشكلة لا بد من أن نتحدث عن إجبار واضطرار من نوع آخــر يقف وراء الإنتماء للتجمعات الإنسانية ومنها خاصة التنظيمات السياسية.. أقصــد هــنــا بالمعــاني والعوامــل النفسيــة الكامنة وراء الرغبة والقرار في الإنتماء والتحاق الإنسان بالمجموع البشري في محيطه.. إن الكثير من مدارس علم النفس تــرى في قرار الإنتماء عــمــومــا هـــروبــا واعيا أمام قــلــق مــؤلــم
يــســبـبــه الخوف من الوحــدة والرغــبة في الــحصول على الأمان في أحضان الــجــمــاعــة والتطلع الطبيعي لدى الإنسان في أن يتخلص من مواجهة مصير مجهول وحـده والخشية من تحمل مسؤولية القرار مما يدفعة في النهاية لأن يتخلــى عن حريتــــه الشخصيــة لصــالح الجماعة مقابل أن تتخذ هذه الجماعة القرار عنه وهي التي ستتحمل في المحصلة النهائية مسؤولية القرار مهما كان نوعـــه.
وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك.. فالإنسان في نظر بعض علماء النفس منذ أن تلده أمه يغادر أكثر الأمكنة أمانا واستقرارا واكتفاءا ذاتيا .. يغادر رحـــــم أمـــــه ..حيث توفرت له كل ظروف الأمان والحياة الآمنة السعيدة وبلا أدنى جهــد.. وتوفرت له أسباب العيش من دون تحــمل أية مسؤوليــة .. وهــكــذا يفســر بكــاء الطفل الولــيد بضياعه جنته الهادئة والهانئة حيث يسبــح في دفء وأمان وإذا بــه يــواجه عالما غريبا مليئا بالصراخ ( رد فعل المحيطين بعملية الولادة من إطلاق أنواع الأصوات فــرحا بالمولود ) وباحتضان غريب عليه لذلك لا يسكت . ولعل هذه اللحظة التاريخية الهائلة في حياة الكائن الحي عموما والبشري خصوصا تكون حاسمة في نتائجها .. حيث لا عودة للفردوس المفقود .. لكن البحث عن أساليب للعودة حتى ولو بخداع النفس يبقى قائما.. وحتى حين يسكت الطفل الوليد ويكف عن البكاء عندما تحتضنه أمه فهو نوع من الفرحة والإطمئنان الخادع فلعله يوهم نفسه بأن أمه ستعيده حيث كان أو يأمل في الأقل بالحصول على ولو جزء يسير مما كان ينعم به قبيل لحظات في رحم الأم... وفي الحقيقة إن هذا هو كل ما تحاوله الأم هنا وتتمكن عليه . هذا الإنكسار النفسي الأول والكبير سيلازم الطفل حين ينشأ وحين يكبر .. فإما أن يتحرر منه وهذا ما يندر في مجتمعات مثل مجتمعاتنا الأبوية القائمة على العطف والحنان وبقية أنواع المشاعر والعواطف التي قد نصفها بالإنسانية برغم أضرارها المميتة أحيانا .. أو أن يلازمه طوال حياته وهو الأرجح .. ومــنــذ هذه اللحظة بالذات تنشأ وتبدأ بالنمو حالة نفسية تتمثل برغبة شديدة وغالبا ما تكون غير واعية لكمونها وارتكاسها في أعماق العقل الباطن في الإلتحاق بالجماعة لما في ذلك من إمكانية توفير الأمان وربما الحصول على شئ يشبه إلى حد ما ما كان يتمتع به في رحم أمه أو في الأقل بشئ من شعور يشبه ذلك الذي تملكه لحظة احتضنته أمه بعد قذفها أياه خارج رحمها . إن في تجارب الكثيرين حتى من كبار الفنانين والأدباء والسياسيين والقادة والزعماء ما يعطي الإمكانية للإستدلال بها كنماذج وأمثلة على ما نقول . لكن في السياسة أحيانا نواجه نموذجا مرعبا يتمثل في نمو هذا الإنكسار النفسي والفشل في العودة للفردوس المفقود ليتحول في الرغبة العارمة للإنتقام خاصة إذا تفاقمت حالة الحرمان وواصلت أسواطها المؤلمة في المراحل اللاحقة من الحياة.
إن هذه المعاناة النفسية التي تكمن وراء قرار الإنتماء للجماعة لها عناصرها النوعية العديدة لكن أهم ما يتعلق بموضوعنا هنا هو إلى أي حد تتعارض مع مستوى ونوعية الوعي المطلوب في قرار الإلتحاق بالعمل السياسي تحديدا ؟؟ إننا نشك في سلامة وعي وراءه قلق وخشية من ضياع وخوف من وحدة ورغبة في الأمان والعودة إلى الرحم.. لذلك نحن نميل وبتفاؤل دائم وملازم إلى إن الطفل
الإنسان يتحرر من آثار الإنكسار الأول والكبير الذي يصيب نفسيته لحظة الولادة .. يتحرر في أثناء حياته وتطوره العقلي وعلاقاته الإجتماعية المتنوعة وآلاف الحالات التي يضطرالى أن يتخذ قراره فيها بنفسه وووحده .. لذلك نبقى وبرغم كل ما تقدم مع الإنتماء الطوعي الواعي والمسؤول للإنسان .. لأنه الأكثر إنسانية .. والأكثر ديمقراطية ...


لعنــة النفــط .. الاقتصاد السياسي للاستبداد

تأليف: جوردون جوفسون - مجيد الهيتي
ترجمة: معهد الدراسات الاستراتيجية
عرض: علي المالكي

صدر عن معهد الدراسات الاستراتيجية كتاب (لعنة النفط.. الاقتصاد السياسي للاستبداد) للباحثين جوردون جونسون ومجيد الهيتي وقام بترجمة الكتاب المعهد ذاته، ويقع الكتاب بـ(77) صفحة من القطع الصغير، ويعالج الكتاب قضية ايرادات النفط في البلدان المسلمة والادارة الجيدة لتلك الايرادات وعلى النحو الذي يسهم في عمليات التنمية والانعاش الاقتصادي والتحول نحو الديمقراطية اذ يجمع الدارسون والباحثون على ان الايرادات الهائلة للنفط تقود نحو الاستبداد والديكتاتورية وتبديد الثروات ونشوب الحروب، كما يمكن لها في الضفة الاخرى ان تكون سبباً للرفاه الاجتماعي والعدالة الاجتماعية والتحول نحو الديمقراطية شريطة ان تجري ادارتها على النحو الذي توزع فيه ايرادات النفط على المواطنين بصورة متساوية فالحكومات النفطية من السهل ان تتحول الى حكومات ديكتاتورية لانها (تتحرر) من الرقابة الاجتماعية على ممارساتها ويمكنها تمويل آلة قمع ضخمة من الجيوش الجرارة واجهزة القمع الامنية فتستغني عن الحاجة للتمويل الضرائبي، ويعود المواطن تابعاً للدولة.
توزع الكتاب على عدد من المباحث وعرض المؤلفان في المبحث الاول خلفية عامة عن النفط واهميته في البلدان التي يؤلف المسلمون فيها 50% من السكان او اكثر اضافة للقراءة الرقمية لمؤشرات الحرية الاقتصادية التي تعد المعيار على رفاه الافراد في كل الامم كما تناول القسم الاول مخاطر النفط ويلاحظ الباحثان ان البلدان التي تفتقر الى المؤسسات الديمقراطية فأن النفط فيها عمل على تعميق الفساد والطغيان والقمع (وكان صدام حسين مثلاً يجسد المثال المتطرف للمستبد النفطي).
ويتوقف مبحث مخاطر النفط عند معاناة الاقتصاد الوطني، ومعاناة الحكومة الوطنية ومعاناة الامم الاخرى، فالاضرار الناجمة عن سوء ادارة الثروة النفطية لا تقتصر على اضعاف الاقتصاد الوطني وانحراف الحكومات الوطنية الى انظمة استبداد طاغية، بل ان الاثار السلبية تنعكس وتمتد لتشمل امماً اخرى تتجاوز حدود الامة النفطية، ثم الوقوف عند الدرس التاريخي الذي يتلخص في أن (النفط يقود الى الديكتاتورية.. وان احتكار الحكومات العراقية السابقة لعائدات النفط هو السبب للاستبداد والحروب في العراق ارضاً وشعباً".
وتحت عنوان مقاربات لمعالجة (لعنة النفط) يقدم الباحثان خمس مقاربات تمثلت باعادة تنظيم صناعة النفط على أسس لامركزية والشفافية وتشكيل نظام المدفوعات النقدية للشعب من عائدات النفط، وصناديق الاستقرار والخصخصة، والبدائل الاخرى.
ويلاحظ الباحثان ان الخطر الفعلي الذي يتهدد الديمقراطية في البلدان المسلمة لا يتأتى من الدين الحنيف الذي يدعو الى الحق والعدل.. بل يأتي من الحكومات التي لا تحتاج الى فرض الضرائب على المواطنين لكي تمول نفسها وذلك لتوفرها على عائدات النفط.
وفي مبحث (ثروة العراق النفطية.. من اداة للديكتاتورية الى قاعدة محتملة للديكتاتورية) عالج الباحثان التجربة العراقية وعلاقة الدولة بالثروة فيها، ليخلصا الى ان التجربة العراقية قدمت نسخة في غاية التطرف للحكومة النفطية التي تحتكر التصرف بايرادات النفط حيث تتحول تدريجياً نحو الاستبداد والديكتاتورية وتدمير البلاد، وهي مصداق وبرهان على الاطروحة التي قدمتها دراسات عديدة عن وجود (عامل ارتباط قوي ومباشر بين توفر ثروة طبيعية كبيرة وتحكم الدولة بهذه الثروة من جهة وميل الانظمة السياسية نحو الديكتاتورية من جهة اخرى.
ثم ينتقلان لبحث ادارة ثروة العراق النفطية بعد سقوط النظام الديكتاتوري، وقد عرضا نموذج (الاسكا) كخيار لملكية وتوزيع ثروة العراق النفطية، والذي يقود الى تمتع العراقيين بثروتهم التي حرموا منها على مدى العقود الماضية، بل انهما يذهبان الى ان اقامة الديمقراطية الحقيقية في العراق لن تكتمل الا بالتوزيع المباشر للثروة النفطية استناداً لدفاع (كليمونز وبادري) عن تطبيق نموذج الاسكا.
ان كتاب (لعنة النفط.. الاقتصاد السياسي للاستبداد) يتناول قضية تتعلق بالصورة المستقبلية للنظام السياسي في العراق وتأثير ملكية عائدات النفط واليات ادارتها وضرورة ان يأخذ المواطنون حصتهم من حقهم في الثروات الطبيعية او الاستخراجية في البلاد.


في التنوع والاستبداد .. صورة عن الجدل الثقافي والسياسي
 

احمد ثامر جهاد

في الوقت الذي تبدو فيه أوضاعنا المأساوية الراهنة متروكة لأهواء السياسة والاحتلال وقوى الاستبداد الجديد، سنرى هاهنا أن ثمة تناقضات ومفارقات ومخاطر تحيط بنا من كل صوب وترسم حياتنا ومصائرنا. وثمة حاضر ملتبس تتنازعه مصالح ونوايا وقطاعات رأي وكتل تأثير، يُعيد بعضها إنتاج صور الاستبداد في بنى عدة قادرة على أداء وظيفة البنى القديمة، من دون أن يكون لها إحاطة واعية بدلالات التجربة العراقية أو الاكتراث بمسارها الكارثي على مختلف الصعد، خاصة إن فئات واسعة لم تستوعب بعد، على نحو عقلاني، صدمة التغيير الحاصل، إنْ في التفكير أو الممارسة.
وفي إطار التلويح بهذه الإشارة التي نفترض كونها ملحوظة في صورة الحدث العراقي إجمالا، سنحاول طرح بضعة تصورات، نزعم أن لها أهميتها الراهنة :
لاشك إن قراءة واستيعاب مظاهر الاستبداد - أيا كانت - وفضح آلياته ومعارضة وسائله، هي جزء لا يتجزأ من إرادة التخطيط لمستقبل الثقافة في أي مجتمع يسعى لاجتياز مستنقع محنته الشمولية، لينشئ ثقافة لها ملامحها المتحررة والمستقلة والفاعلة ضمن اتجاه السعي المبذول لإرساء دعائم المجتمع المدني بأوسع معانيه. كما إن إعادة كتابة تاريخ الثقافة - العراقية
تحديدا تعني في جانب من جوانبها تفعيل الإمكانات وتوسيع الحدود وتحديث الرؤى للوقوف على ما أنجز وما لم ينجز، لتقرير حاجاتنا الراهنة بروح نقدية تؤسس لوضع صيغ مناسبة للتعامل مع صراعات الحاضر وإشكالياته.
من هنا تحاول مساهمتنا هذه أن تجعل الحاضر مركز اهتمامها الأساس، خاصة هي تتوجه لتمكين وضوح الحاجة من التباس المفهوم. لذا سيكون من أولوياتها اختبار إمكانية ومعنى خلق شراكة ما في الطموح السياسي والثقافي للنخب العراقية التي بات ملحوظا عمق الخلاف الذي يجمعها في ساحة انشغالاتها الحالية لاستعادة البلد ثانية من أيدي العابثين بمختلف أشكالهم وعناوينهم. وإذا ما حاولنا استشراف مستقبل الصراع الثقافي والأخلاقي الذي اخذ يهيمن على اهتمام النخب الاجتماعية والسياسية في الفترة الراهنة، مع العناية بصورة أجلى مخصوصة لـ (المحتل الغربي الذي هزم الدكتاتورية الوطنية)، سنجد إننا أمام تيارين رئيسين متعارضين، أحدهما ليبرالي والآخر محافظ. يتغذى صراع هذين التيارين من التعارضات القائمة بينهما في رسم كيان الدولة وحدودها واتجاه السياسة والمجتمع ووضع الأفراد والجماعات وحرياتهما الواجبة. في الغضون لن يكون الغرب أو أمريكا مظلة حامية لهذا الصراع المتستر بقدر ما تعد برامجهما المعلنة والسرية ركنا أساسيا فاعلا في الصراع وموجها له.
قد يولد النزاع أحيانا من فرضية تفيد : أن كل محاولة تبذلها النخب السياسية الآن لشق الطريق وسط فوضى القوى المتصارعة هي فرصة لتحييد (الآخر) أيا كان، والتعالي المؤقت على الصدام الدائر أو الكامن في منظومة المصالح والقيم، وهي بذلك تركيز لا بد منه للمشكلات التي تسعى الجماعات المتصارعة إلى حلها توافقيا. وحيث لا تصلح التوافقية حلا ناجعا لمسائل خلافية أساسية يعيشها المجتمع العراقي، إلا في حدود تقريب المفاهيم المتعارضة ودمجها القسري حينا، وتكييف الوقائع والتخفيف من حدتها حينا آخر، يصعب التكهن بحال الثقافة ومسؤولياتها وهي بعيدة تماما عن ساحة الصراع الفعلي وعن المحاولات التي تجري في قاعات مغلقة لتقرير شكل الدولة والقانون ودور المثقف وقضايا الحريات العامة والشخصية وحقوق المرأة وما إلى ذلك من القضايا الاشكالية. ربما والحال هذه، سيظل تلميح المفكر ادغار موران اقرب إلى توصيف وضعنا القائم، والذي يذهب إلى : أن السياسة تعالج اعقد المشاكل، وهي التي تسودها اكثر الأفكار تبسيطا واقلها استنادا إلى أساس، بل أقساها واشدها فتكا

قد يشترك الجميع اليوم على نحو ظاهر في التنديد بالدكتاتورية، وفي التصدي لمحاربتها، لكن غالبية ماثلة في المقابل، تصم الآذان عن العار الذي يلاحقها جراء عنفها واستبدادها وزيف ممارساتها. لذلك فإن رفضا مناعيا لثقافة الحوار يمهد الطريق درامتيكيا لاستعادة الاستبداد الكريه بصور مغايرة، تعيد إنتاج الماضي، وتصيب المجتمع بحمى الخوف من الثقافة، الخوف من الحرية، الخوف من الآخر.
عقب التغيير الحاصل عصفت بالشعب المأزوم جملة توسلات وجدانية بارتهانات غامضة، ذهب بعضها لتمني حدوث مصالحة لاتاريخية بين النخب الثقافية والسياسية، تشترط نقطة توافق ما
ان كان ممكنا - بين السياسي والثقافي.. توافق قوامه التخلي عن مواقعهما التقليدية : حينها لن يكون كل المثقفين عملاء للنظام القديم أو ضحايا للغرب الفاسد، ولن يكون معنى المثقف متحققا فقط في كونه معارضا للسلطة. وتباعا يكون السياسي هاهنا أداة لتحقيق قيم المجتمع وقيم الثقافة بوئام أبوي. إلا ان فهما آخر، دنيويا ومهمشا، يعي المرتكزات الاجتماعية والسياسية لنشوء الديكتاتوريات في سياقها التاريخي، يحاول ما أمكنه ذلك إعادة التأكيد على ضرورة ان يكون المثقف مدافعا عن منظومة قيم عالمية تتجلى في التحرر والديمقراطية وحرية الرأي والمعارضة. خاصة ان وظائف المثقف ملتبسة وغير محسومة في مجتمعاتنا، بالنظر لحالها في الغرب الذي انتج عبر تاريخه التنويري معرفة تواصلية جعلت المثقفين حماة مشروع الحداثة والتقدم والرفاهية من خلال التسلح بنظرة نقدية امتلكت بجدارة معرفية وعيها الخاص المشفوع باستقرار ورخاء مجتمعي يجنبها براثن التفكير الديماغوجي، لنرى صور شراكة منشودة تجعل المثقف الغربي داعما لمشروع الدولة في تحقيق القانون والنظام وتعزيز أمن الفرد والمجتمع.
عراقيا كان النظام السابق يستورد ببراعة المحترف شتى فنون الترهيب والفساد والموت، من دون أن نقوى
كمثقفين - على فعل شئ يوقف عجلة الخراب، واليوم تهرب إلينا بضائع الجهل والتخلف وفيروسات العنف والازدراء والتعصب وإلغاء الآخر من دون أن نتمكن برغم إدراكنا إياها من فضح مصادرها وهويات مورديها المحليين او الأجانب. ولن نكون مبالغين بإحصاء المعطيات المبرهنة على مظاهر هذا الاستبداد والاقصاء في مجتمعنا العراقي اليوم. استبداد متعدد الأطياف يفيد ظاهره بأن الخصم هو من يخالفك الرأي. وخصمك مخطئ وكاذب ومتآمر وجاحد على الدوام. ولا مجال لحسن النوايا، أو اجتياز المحنة بالحوار. لاسيما أننا من هذا المنظار التبريري : أمة تقف في مقدمة المستهدفين بغزو كاسح يهدد الثقافات الوطنية والقومية في أهم مقومات خصوصياتها وهويتها التاريخية، مثلما يشير محمد عابد الجابري !
ولنا ان نتساءل : إن كانت هناك ثمة ثقافة عراقية تراهن اليوم على نجاة المركب عبر الدخول إلى وطيس معركة مختلة الأطراف، يتسيد العنف مشهدها الأبرز وتغيب عن أولوياتها، تحت ذرائع شتى، سبل معالجة مظاهر الخراب المرير في حياة الناس والمجتمع ؟
إن استعادة طموحة لتاريخ صراع الأفكار في العالم قد تحتم علينا طرد أشباح الماضي الموجع واقتناص أية فسحة تحول سياسي، لتعزيز ما يدعى بمنظومة القيم العالمية التي توحد الجماعات وتنظم حياة الشعوب مهما تباينت اختلافاتها. برغم ذلك وبسببه يحاول النخبوي أن يكون مستعدا لتحمل مأساته دائما، بوصفه مثقف اليوتوبيات، المثقف النبوي،حارس القيم والمفاهيم، راهب عصر العولمة.. فقد أملت عليه قيم الحداثة وما بعدها أن يغدو شكاكا وممن لا يثقون بالعقل والحقيقة في نهاية الأمر، وان يتذكر عبارة ( فولتير ) : " من انك لن تستقبل استقبالا حسنا إذا ما حاولت تنوير الناس، فسوف تسحق.." وربما يلوذ البعض بوحدته المقدسة، يائسا من صلاح الحال، مرددا مع (رولان بارت) وقد توافق نسبيا مع حس رجل التنوير الفرنسي الذي سبقه بمئات السنوات، حينما ذهب إلى : " أن الأمر الوحيد الذي على المثقف أن يقوم به اليوم، هو أن يتحمل هامشيته وعزلته.."
ولكن ما هو عيني يلزمنا بالقول : بين ثقافة الحوار وثقافة التطرف، بين التنوع والاستبداد، ثمة مسافة فاصلة سرعان ما تتسع، محطمة ما يمكن تسميته الأسس المدنية لكيان الدولة عبر عقود متراكمة من تاريخها الحديث. فلحظة تهشيم مؤسسات الدولة العراقية
عشية الحرب - بأيد وحشية من حديد تعيد إلى الأذهان مديات القسوة التي زرعتها ثقافة الخوف في نفوس الأفراد من مظاهر الدولة المهيبة. انه الخوف والجهل ذاته من اكتناه وممارسة الثقافة المدنية، من فكرة شعور الفرد بأنه باني مؤسساته وحاميها في آن واحد.
ولكن الأشد فزعا بالنسبة لمستقبلنا كعراقيين، أن تكون لحظة الهدم لا البناء، لحظة ديمومة تاريخية ملغمة بالخلط العميق والمستمر بين جملة حدود أساسية لا تحتمل الخلط المفاهيمي، حدود عقلانية ترسم الكيانات البنيوية على هداها بين الدولة والجماعة والفرد والدين والسلطة والمعارضة والرأي...الخ.
في وضع منفلت وشائك وغير مسبوق، يلزمنا لتصويب مساره السياسي والثقافي حاضنة قيمية فاعلة تبذ العنف وتشيع الحوار وتحسن تقدير الوقت بشكل يمكنها من إعادة تأهيل الجماعات البشرية أيا كان دورها وموقعها ودائما في إطار دولة القانون والمواطنة والتمدن ؟
انه السعي الذي يوحدنا الآن، حينما يجعلنا نختط، ما أمكننا ذلك، سبيلا لحوار ديمقراطي يؤمن بإمكانية الوصول إلى ضفاف آمنة تتجاوز المطالبة بحرية الثقافة نحو امتلاك ثقافة الحرية.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة