محاولة تنظيرية في الإنتماء
السياسي
د.
شاكر كتاب *
*
كاتب وباحث عراقي
للإنتماء معان اجتماعية ونفسية وسياسية. من المعاني الأولى
هو الميل الطبيعي للبشر نحو الإلتقاء والنشاط المشترك خاصة
إزاء حاجاتهم المشتركة في مواجهة ظروف تتعلق بمصيرهم
وتطلعاتهم. لذلك يقال إن الإنسان هو كائن إجتماعي بطبيعته.
ولعل من المعاني الإجتماعية الأكثر عمقا هو قناعة ذاتية
لدى الإنسان كفرد بأنه يستحيل عليه العيش وتأمين ظروف حياة
آمنة ومتكاملة من دون الإلتحاق بالجماعة... بالجماعة
تتكامل الطاقات والمعارف والأدوار.. من هنا فإن الغالب على
أهداف التنظيمات الإتسانية جمعاء وعلى الأخص السياسية منها
أن تكون أهدافا إجتماعية تتعلق بالمجموع أكثر مما تعلق
بفرد ما .
من المعاني السياسية للإنتماء هو أن يلتحق الفرد بمجموعة
بشرية ضمن إطار تنظيمي معين لإتفاقه معها على نظريات
وأفكار ومواقف هي سياسية بطبيعتها.. من ذلك شكل الحياة
المراد تحقيقه أي ما نسميه بلغة السياسة مثلا العلاقات
الإجتماعية المراد سيادتها وترتبط بهذا الأمر ارتباطا
مباشرا نظرية الدولة وطبيعة السلطة لدى هذه المجموعة .
كذلك من المعاني السياسية للإنتماء هو اتفاق المنتمي ليس
فقط مع الرؤيا والأفكار إنما مع أساليب العمل المقترحة من
قبل المنظمة سواء من حيث شكل التنظيم أو النشاط الهادف
مباشرة إلى تحقيق الأهداف من ذلك كيفية الوصول إلى السلطة
. لذلك ننوه هنا إلى اشتراط الكثير من الأحزاب في أنظمتها
الداخلية على العضو أن يقر برنامجها ونظامها الداخلي وأن
يعمل في إحدى منظماتها.
وعلى الحد الفاصل بين المعاني الإجتماعية والسياسية
للإنتماء تقع مسألة غاية في الأهمية هي شكل الإنتماء هل هو
طوعي أم إضطراري إجباري ( قسري ) . إن الغالبية العظمى من
الأحزاب السياسية في مختلف بلدان العالم تؤكد حين تعرف
نفسها بأنها أحزاب ذات انتماء طوعي أو اختياري يقوم على
أساس وعي العضو بما يفعل لكن فعله هذا هو طواعية.. والتطوع
هنا في الإنتماء له معان عديدة .. فهو الأكثر ديمقراطية من
أية صيغة أخرى للإنتماء .. لذلك إلى جانب الإنتماء الطوعي
تضع الأحزاب حرية الإستقالة والخروج من الحزب متى يشاء
العضو,, ومن هنا - ربما سنتحدث بتفصيل أكثر في مكان
آخـر..لكننا نضيف الآن معاني أخرى للإنتماء الطوعي -
فالعضو المنتمي طوعيا يتحمل مسؤولية ما يفعل.. وبالتالي
عليه الإلتزام بشكل التنظيم وبأساليب عمل المنظمة وطرق
معالجتها للمشاكل ومن ثم سبل وصولها إلى أهدافها وأن يتحمل
المسؤولية مع بقية الأعضاءعن كل ذلك خاصة عندما تتقاطع هذه
الأنشطة مع الأنظمة والقوانين السائدة أو تتعارض مع مصالح
منظمات سياسية أخرى.. فالصراع السياسي بين الأحزاب
السياسية والسلطة وبينها هي نفسها ينفذه ويقوم به الأعضاء
أولا وقبل كل شئ... ثم هم الذين يتحملون وزر نتائجه..
ومن معاني الطوعية في الإنتماء إن العضو ليس فقط يتحمل
مسؤولية انتمائه ونشاطه إنما أيضا يتحمل كل ذلك دون مقابل
أو تعويضات مادية.. فالحزب هنا لا يدفع لأعضائه ثمنا عن
الأنتماء ولا عن العمل المقام به داخل التنظيم أو لمصلحة
التنظيم.. فالعضو الحزبي ليس موظفا ولا عاملا أجيرا في
المؤسسة الحزبية وبالتالي لا يتلقى أجورا. فالحزب إذن ليس
مسؤولا عن دفع تغطيات لضمانات ضرائبية أو تقاعدية أو
تعويضية في حالة حدوث إصابات أثناء النشاط السياسي..
وبالطبع تستثنى هنا حالات التفرغ الحزبي التام كأن يتفرغ
الناشط السياسي للعمل كليا المصلحة الحزب ومؤسساته ومقاره
.. آنذاك يلزم الحزب أن يدفع ما يكفل للمتفرغ تغطية حاجاته
المعيشية وحاجات عائلته بصيغة راتب شهري تستقطع منه في
الظروف العادية والطبيعية حصة الدولة بصيغة ضريبة لأغراض
الضمان الإجتماعي وحسب قوانين العمل السارية في البلد
المعني. وكذلك يستثنى مما ذكرنا آنفا الحالة المزرية التي
وصل إليها تدهور الخلق السياسي في الإنتماء والمتمثل في
لجوء الكثير من ألأحزاب السياسية الناشطة في العراق في
يومنا هذا إلى ترغيب السذج من الناس للإنتماء إليها مقابل
تقديم المساعدات المالية لهم ( شراء الذمم والنفوس ) والتي
مصدرها غالبا ما يثير الكثير من الشكوك لكننا نتكلم هنا عن
الأحزاب الأصيلة ذات الوزن السياسي والتاريخي إضافة إلى
وزنها الأخلاقي والوطني النزيه وذات الرسالة الشريفة
والأهداف النبيلة.
والإنتماء الطوعي بمعانيه المذكورة أعلاه يثيرإشكالات أخرى
لابد من التوقف عندها من ذلك: الإنتماء الطوعــي
الــواعــــي والإنتماء الإجباري وأخيرا الإنتماء الطوعي
النفسي.
فالإنتماء الطوعي الواعي أقصد به ليس فقط حرية الإنتنماء
طوعا وبإرادة ومعه حرية الإنسحاب متى ما يشاء العضو
لــكــنــي أضفت هنا عنصر الوعي .. وهــذا ما يجعل هذه
الصيغة من الإنتماء أكثر ديمقراطية وجدــديــة وحريــة
لأنها مرتبطــة بالمسؤولية أكثر وبالإرادة الواعية.. لذلك
ليس إعتباطا أن يكون من شروط الإنتماء لدى الكثير من
الأحزاب السياسية هو إن العضو يجب أن يتجاوز الثامنة عشرة
من عمره .. إن هــذا الشرط وعلاقته بالوعي يشكل إشكالا هو
الآخر وبحــد ذاتــه.. ففي الأعم الغالب إن الإنسان في هذا
العمر يكون على وشك مغادرة عمر المراهقة وعلى أبواب
المشاركة الفعالة ( الواعية ) في الحياة الإجتماعية (
الدخول إلى الجامعات، الإلتحاق بمكانات العمل المختلفة ،
إقامة علاقات عاطفية أكثر اتزانا وربما الإقتراب من الزواج
وتكوين عائلة ) وهكذا فنحن إزاء إنسان في عمر يؤهله لأن
يــرى بوعــي مـا يجري في محيطه وأن يتأثر مباشرة به ومن
ثم أن يتخذ المواقف بوعي إزاء هذا الذي يجــري .. ولعل من
دلالات وعيه قراره بالإنتنماء.. لــكن من هنا ننزلق من دون
إرادتنا - لأننا لا نريد الإنزلاق أبدا
–
في طريقين الأول: ماذا
عن البلوغ المبكر لدى الكثير من الناس خاصة إذا ما قارنــا
بين الشباب في بلدان العالم المتقدم إقتصاديا وشباب العالم
الذي لا يزال يئن تحت وطأة الإحتلالات المتنوعة والإستغلال
والعبودية والتخلف الحضاري وما يرافقه من طغيان العقل
الأسطوري والخرافي الذي يشكل أهم العقبات في طريق التفكير
العلمي كما يرى محقا الأستاذ فؤاد زكريا في كتابه المهم "
التفكير العلمي " .
إن النضوج العقلي وبالتالي الفكري ومنه ينبع حتما النفسي
لدى الفرد يرتبط كثيرا بالمستوى الحضاري والعلمي القائم في
المحيط والبيئة التي يحياها . إن المرء الذي ما زال برغم
عمره المديد يتكفله ويتخذ القرار عنه أولياء الأمر والنهي
( كافة أنواع السلطات من أبوين إلى سلطة الدولة أو المجتمع
بما في ذلك المنظمات ) يختلف عن ذلك الذي يتحمل المسؤولية
عن ذاته مباشرة ويقرر مصيره بنفسه.. هذا الأمر بكل ثقله
يبرر شعورنا بالإستهجان عندما نطلع عاى قرار بعض الأحزاب
السياسية عندنا غي العراق بتخفيض سقف عمر المنتمي إلى 16
عاما. ومن المعلوم طبعا إن الغرض من ذلك هو كسب المزيد من
الأعضاء من دون أن نستبعد النيات المسبقة باستغلال عدم أو
في الأقل قلة خبرة الشباب في هذا العمر..صحيح إن الفارق
بين 16 و 18 سنف قليل لكنه على الصعد البيولوجية والذهنية
وبالتالي النفسية يصبح فارقا كبيرا ومؤثرا..
إن شرط الوعي ضروري وأساس في الإنتنماء الطوعي ليكون أكثر
ديمقراطية من غيره لأنه حتما سيكون أكثر إنسانية..من هنا
يأتي أيضا رفضنا ورفض الأخلاق الديمقراطية لما أتبع لدى
الكثير من أنظمة الحكم والأحزاب الشمولية في إجبار الناس
وإرغامهم على الإنتماء إليها متوسلة لذلك بالترغيب
والترهيب .. إن في ذلك أخطارا كثيرة.. فعدا عن لا
ديمقراطية هكذا إنتماء نستطيع أن نتحدث عن لا إنسانيته
أيضا.. فالإنسان المجبر على الإنتماء يستلب منه وعيه
وإرادته وقراره.. أي تستلب منه إنسانيته وذاتــه و إلا
فأين تكمن إنسانية وآدمية الإنسان إن لم تكن في إرادته
الواعية وحريته في اتخذ قراره. إن الفارق الجوهري بين
الإنسان والحيوان هو في الوعي ومكامنه ليست فقط
الفيزيولوجية من قبيل طبيعة الدماغ والمخ وبقية أجزاء
الجهاز العصبي ولكن مكامنه النفسية والذهنية أيضا ومن ثم
في حرية القرار في ضوء هذا الوعـــي ..في هذين الشرطين
حصرا تكمن آدمية الإنسان.. لذلك فإن الإنسان المجبرعلى
الإنتمــاء لحزب ما والمضطر لإتخاذ موقف ما هو أول من يثور
على هذا الحزب ويتخلى عن هذا الموقف مع أول فرصــة سانحة..
إلا إننا ولكي نحافظ على التوازن في تناول المشكلة لا بد
من أن نتحدث عن إجبار واضطرار من نوع آخــر يقف وراء
الإنتماء للتجمعات الإنسانية ومنها خاصة التنظيمات
السياسية.. أقصــد هــنــا بالمعــاني والعوامــل
النفسيــة الكامنة وراء الرغبة والقرار في الإنتماء
والتحاق الإنسان بالمجموع البشري في محيطه.. إن الكثير من
مدارس علم النفس تــرى في قرار الإنتماء عــمــومــا
هـــروبــا واعيا أمام قــلــق مــؤلــم
يــســبـبــه الخوف من
الوحــدة والرغــبة في الــحصول على الأمان في أحضان
الــجــمــاعــة والتطلع الطبيعي لدى الإنسان في أن يتخلص
من مواجهة مصير مجهول وحـده والخشية من تحمل مسؤولية
القرار مما يدفعة في النهاية لأن يتخلــى عن حريتــــه
الشخصيــة لصــالح الجماعة مقابل أن تتخذ هذه الجماعة
القرار عنه وهي التي ستتحمل في المحصلة النهائية مسؤولية
القرار مهما كان نوعـــه.
وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك.. فالإنسان في نظر بعض
علماء النفس منذ أن تلده أمه يغادر أكثر الأمكنة أمانا
واستقرارا واكتفاءا ذاتيا .. يغادر رحـــــم أمـــــه
..حيث توفرت له كل ظروف الأمان والحياة الآمنة السعيدة
وبلا أدنى جهــد.. وتوفرت له أسباب العيش من دون تحــمل
أية مسؤوليــة .. وهــكــذا يفســر بكــاء الطفل الولــيد
بضياعه جنته الهادئة والهانئة حيث يسبــح في دفء وأمان
وإذا بــه يــواجه عالما غريبا مليئا بالصراخ ( رد فعل
المحيطين بعملية الولادة من إطلاق أنواع الأصوات فــرحا
بالمولود ) وباحتضان غريب عليه لذلك لا يسكت . ولعل هذه
اللحظة التاريخية الهائلة في حياة الكائن الحي عموما
والبشري خصوصا تكون حاسمة في نتائجها .. حيث لا عودة
للفردوس المفقود .. لكن البحث عن أساليب للعودة حتى ولو
بخداع النفس يبقى قائما.. وحتى حين يسكت الطفل الوليد ويكف
عن البكاء عندما تحتضنه أمه فهو نوع من الفرحة والإطمئنان
الخادع فلعله يوهم نفسه بأن أمه ستعيده حيث كان أو يأمل في
الأقل بالحصول على ولو جزء يسير مما كان ينعم به قبيل
لحظات في رحم الأم... وفي الحقيقة إن هذا هو كل ما تحاوله
الأم هنا وتتمكن عليه . هذا الإنكسار النفسي الأول والكبير
سيلازم الطفل حين ينشأ وحين يكبر .. فإما أن يتحرر منه
وهذا ما يندر في مجتمعات مثل مجتمعاتنا الأبوية القائمة
على العطف والحنان وبقية أنواع المشاعر والعواطف التي قد
نصفها بالإنسانية برغم أضرارها المميتة أحيانا .. أو أن
يلازمه طوال حياته وهو الأرجح .. ومــنــذ هذه اللحظة
بالذات تنشأ وتبدأ بالنمو حالة نفسية تتمثل برغبة شديدة
وغالبا ما تكون غير واعية لكمونها وارتكاسها في أعماق
العقل الباطن في الإلتحاق بالجماعة لما في ذلك من إمكانية
توفير الأمان وربما الحصول على شئ يشبه إلى حد ما ما كان
يتمتع به في رحم أمه أو في الأقل بشئ من شعور يشبه ذلك
الذي تملكه لحظة احتضنته أمه بعد قذفها أياه خارج رحمها .
إن في تجارب الكثيرين حتى من كبار الفنانين والأدباء
والسياسيين والقادة والزعماء ما يعطي الإمكانية للإستدلال
بها كنماذج وأمثلة على ما نقول . لكن في السياسة أحيانا
نواجه نموذجا مرعبا يتمثل في نمو هذا الإنكسار النفسي
والفشل في العودة للفردوس المفقود ليتحول في الرغبة
العارمة للإنتقام خاصة إذا تفاقمت حالة الحرمان وواصلت
أسواطها المؤلمة في المراحل اللاحقة من الحياة.
إن هذه المعاناة النفسية التي تكمن وراء قرار الإنتماء
للجماعة لها عناصرها النوعية العديدة لكن أهم ما يتعلق
بموضوعنا هنا هو إلى أي حد تتعارض مع مستوى ونوعية الوعي
المطلوب في قرار الإلتحاق بالعمل السياسي تحديدا ؟؟ إننا
نشك في سلامة وعي وراءه قلق وخشية من ضياع وخوف من وحدة
ورغبة في الأمان والعودة إلى الرحم.. لذلك نحن نميل
وبتفاؤل دائم وملازم إلى إن الطفل
–
الإنسان يتحرر من آثار
الإنكسار الأول والكبير الذي يصيب نفسيته لحظة الولادة ..
يتحرر في أثناء حياته وتطوره العقلي وعلاقاته الإجتماعية
المتنوعة وآلاف الحالات التي يضطرالى أن يتخذ قراره فيها
بنفسه وووحده .. لذلك نبقى وبرغم كل ما تقدم مع الإنتماء
الطوعي الواعي والمسؤول للإنسان .. لأنه الأكثر إنسانية ..
والأكثر ديمقراطية ...
|