الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 في تحليل شخصية صدام حسين

أ.د.قاسم حسين صالح

رئيس الجمعية النفسية العراقية

من المؤسف ان معظم ما قيل بخصوص صدام حسين لدى مثوله امام قاضي التحقيق، كان اما تحليلات سياسية مشحونة بانفعال الموقف منه (معه أو ضده) او اسقاطات ذاتية غير موضوعية فبعضهم وصفه بأنه (بدا وكأنه أسد في قفص تمنى أن يعود الى موقعه، وانه كان رجلاً متماسكاً ومتحدياً)، فيما وصفه اخرون بأنه بدا (منكسراً، ومرتبكاً، ومرتعشاً، ومتعجرفاً)، وما الى ذلك من اوصاف انفعالية لامور سطحية شغلت الناس عن جوهر القضية، وانستهم ان صدام حسين ظاهرة عربية واجتماعية واخلاقية وسياسية ونفسية وسلوكية، ساهم في صنعها ليس فقط تأريخه الشخصي والاسرى والبايولوجي، انما العراقيون والعرب ايضاً، وان في محاكمته انما يحُاكم تأريخ ونظام، وأنظمة عربية مريضة نفسياً ومختلة عقلياً.

سيكولوجية شخصية صدام حسين

ان التحليل النفسي لاي شخصية انسانية يتطلب اخضاع تلك الشخصية للفحص النفسي وتطبيق اختبارات نفسية عليها، وكنت قد طلبت من الدكتور عدنان الباججي في فترة رئاسته لمجلس الحكم أن يوفر لنا نحن النفسانيين العراقيين فرصة اللقاء بصدام حسين، فأجاب في حينه بأنه الان في عهدة القوات الامريكية، وها نحن نوجه الطلب الى السيد رئيس مجلس الوزراء الدكتور أياد علاوي بأن يوفر لنا هذه الفرصة، قبل ان يصدر علماء النفس الامريكيون كتاباً عن صدام حسين، أظنه الان قيد النشر.

ان تحليلنا لشخصية صدام حسين تعوزه المقابلة والحوار معه وتطبيق مقاييس واختبارات نفسية تتمتع بالموضوعية والعلمية، ومع ذلك نستطيع القول بأن شخصية صدام حسين شخصية غير عادية بمعنى أن الناس يغلب عليهم نمط واحد في الشخصية:(انبساطي،انطوائي،نرجسي،...)، فيما شخصية صدام حسين تتصف بأنها مركبة من أكثر من نمط ، البارز فيها أربعة،هي:

1.نمط شخصية المتحدي:

واهم صفاته: الشعور بالثقة العالية بالنفس، وقدرة التأثير في الاخرين، وسعة الحيلة والدهاء، الصراحة، والشهامة،والحسم، وحب السيطرة، والميل للاستبداد والارهاب، وحب المواجهة.

ان جميع هذه الصفات موجودة في شخصية صدام حسين، الايجابية منها والسلبية أيضاً، ففي صفة الشهامة مثلاً، انفعل صدام مبرراً غزوه للكويت بأنه كان موقف الغيور على شرف المرأة العراقية، وبغض النظر عن الذين يفسرون موقفه هذا بأنه اراد ان يعزف على وتر حساس ليثير تعاطف العراقيين معه، وكان الاجدر به ان يعاقب ولده الذي انتهك شرف العديد من العراقيات، لكن ابرز هذه الصفات هو (حب المواجهة)، فالمتأمل للتاريخ الشخصي له على مدى نصف قرن، يجد ان صدام كان لا يرتاح للهدوء والاستقرار، وانه كان يعمد الى خلق ازمة تفضي الى مواجهة ومجابهة، اذا شعر بأن الاستقرار سيطول زمنه، وهذه حاجة نفسية عصابية قسرية في شخصية المتحدي متحكمة فيه.

2.نمط الشخصية المتحمس:

من اهم صفاته: الجرأة، والنشاط والحيوية، ويكون انساناً عملياً، لكنه اندفاعي غير منضبط، يسيء استعمال مواهبه وقدراته، ويستغلها بصورة سلبية، وهذه موجودة في شخصية صدام حسين، فهو يمتلك من الجراة والنشاط ما لا يوجد عند من هم بمنصبه او بعمره، وهو اندفاعي ايضاً استعمل قدراته بصورة سلبية، فغزوه الكويت مثلاً، كان ناجماً عن حالة انفعالية، وما كانت عقلانية قطعاً.

3.نمط الشخصية النرجسي:

واهم صفاته: الميل لاخضاع الاخرين لارائه ولمعتقداته الخاصة، واعتقاده بأنه يمتلك قدرات استثنائية او خارقة، وشعاره هو (انا مميز)، وعليه فأنه يجد نفسه أنه أفهم من الاخرين وأرقى منهم، وأن عليهم ان ينفذوا طلباته.

وواضح ان هذه الصفات موجودة في شخصية صدام حسين.

4.نمط الشخصية السايكوباثي:

وهذا يتصف بالسادية والعنف والقسوة مع الخصوم، ويعد ايقاع الاذى والالم بهم حق مشروع له، ولهذا فهو لا يشعر بتأنيب الضمير عندما يعذب خصومه او يصفيهم جسدياً، وتفيد الاحداث ان هذه الصفات موجودة فيه ايضاً.

والاشتثناء في شخصية صدام حسين ان صفات هذه الانماط الاربعة (بايجابياتها وسلبياتها) اجتمعت في تركيبه وشكلت الركائز الاساسية في شخصيته، ولهذا فانه خلق اكثر من صورة ذهنية في اذهان الناس، فهو عند كثير من العرب وبعض العراقيين يمثل (شخصية المتحدي) التي تثير الاعجاب، وتبرر له اخطاءه، وحتى جرائمه، وهو عند معظم العراقيين (شخصية السايكوباثي) العنيف القاسي الذي لا توجد في قلبه رحمة تجاه خصومه، والنرجسي الاناني الذي احتكر الثروة لنفسه، وانفقها في ترف سفيه، يأكل السمك المسكوف ولحم الغزلان المطعم برائحة الهيل، فيما شعبه يأكل الخبز الأسمر (بل الأسود).

صدام..كيف يرى نفسه؟

لدينا في علم النفس ما نسميه (مفهوم الذات) Self Concept، ونعني به الاراء والافكار والمشاعر والاتجاهات التي يكونها الفرد عن نفسه، وهو يتضمن جانبين:(الذات كموضوع) أي معرفة الفرد لذاته وتقييمه لها، و(الذات كعملية Process ) أي كحركة، وكفعل، وكمجموعة من النشاطات والعمليات العقلية كالتفكير والادراك والتذكير.

ويتشكل هذا المفهوم منذ الطفولة عبر مراحل النمو المختلفة، وفي ضوء محددات معينة يكتسب الفرد خلالها فكرته عن نفسه، وهذه الافكار والمشاعر والاتجاهات التي يكونها الفرد عن نفسه ويصف بها ذاته هي نتاج أنماط التنشئة الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي واساليب الثواب والعقاب والاتجاهات الوالدية، فالطفل الذي يرى والده على انه محبوب وذكي واجتماعي ولطيف، يرى نفسه كذلك، فيما الطفل الذي ينشأ في البيوت المتصدعة والظروف المحيطة بهذا التصدع، نتيجة  وفاة الاب والانفصال الاسري، يميل الى تكوين مفهوم سلبي عن الذات.

والنقطة الجوهرية هنا هي أن (مفهوم الذات) يعمل بوصفه دافعاً أو محركاً لسلوك الفرد، فهو، بتشبيه مبسط، مثل داينمو السيارة يشكل قوة دافعة، توجه وتنظم السلوك وتحدده، وتؤثر في توافقه وطريقة اداركة للناس والاحداث.

ان البدايات الاولى لتشكيل مفهوم الذات لدى صدام حسين ما كانت سليمة بالوصف المعروف عن اسرته، فوجد في حزب البعث ما يشبع فيه حاجة نفسية في ان ينقله من دائرة الاهمال الاسري الى دائرة الاهتمام الاجتماعي، وعزز الحزب لديه مفهوب (الاقتحامي) الذي لا يخاف، ثم تطور الى مفهوم (المناضل) ثم (البطل) ثم (الرمز) عبر خمسين سنة من خبرات متنوعة وعميقة ومتطرفة ومتناقضة، من فشل واحباط ونجاح وتفوق استثنائي، اوحت له بالقناعة بأنه      (بطل استثنائي)، وصادق عليها من كانوا يعدون أنفسهم ويعدهم هو ايضاً (ابطالاً) ولكن دونه درجات، والحق أن صدام يمتلك قدرات عقلية غير عادية، وقابليات جسمية استثنائية، وان في تكوينه البيولوجي ما يشير الى ذلك، فالمعروف لدينا ان الناس يقعون في ثلاثة اصناف من حيث نوعية الجهاز العصبي المركزي، الاول يتمتع بجهاز عصبي قوي، والثاني بمستوى متوسط، والثالث بمستوى ضعيف، وان معظم الناس يكون لديهم هذا الجهاز بمستوى متوسط، فيما القلة منهم يكون جهازه العصبي المركزي قوياً، وصدام من هذا الصنف، والدليل على ذلك ان ما جرى من فقدانه لإمبراطورية وحياة خرافية ومقتل ولديه وتشتت افراد اسرته.. لو انها جرت لشخص اخر لانهار او انتحر، ومع كل ذلك فأنه ظهر امام قاضي التحقيق متماسكاً، واراد ان يظهر للناس بأنه مايزال قوياً، بالرغم مما اصابه من اهانة نفسية، واذلال للكرامة، وانه ينظر الى نفسه بأنه ما يزال الرئيس الشرعي للعراق، واراد ان يوصل رسالة بانه الزعيم الحقيقي للامة العربية.

بطل تراجيدي..أم شرير؟

وعلى وفق هذا المفهوم للذات، فأن صدام ينظر الى نفسه على أنه بطل في مسرحية تراجيدية يمثل الان اخر فصولها، ومعروف ان بطل المسرحية التراجيدية ينتهي بموته في مشهد يثير التعاطف والشفقة وربما (التوحد) به، وانه سيعمل على ان يكون مشهد المحاكمة كذلك، اذا بقي يعد أوهامه حقائق مطلقة، ولم يحصل معه حوار يقنعه بأن معتقداته هذه أوهام ليس الا، ويعترف بأخطائه وجرائمه التي سيجد لها ألف سبب لتبريرها، وسيكسب المشهد ان نجح في تحويله الى محاكمة سياسية.

وسيكون القضاء العراقي في امتحان حقيقي، فاذا استطاع ان يثبت بنزاهة ان هذا الرجل شرير في حقيقته وافعاله، واقتنع الراي العام بذلك، عندها ستنهار صورة (البطل المتحدي) في اذهان المعجبين بصدام، وستكون تلك المحاكمة أفضل جلسة علاج نفسي، ليس فقط للحكام العرب، انما أيضا للمصابين بمرض التوحد بـ(البطل المخلًص).

شركاء..في صنع شخصية صدام

ليس من الصحيح علمياً، أن نعزو سلبيات واخطاء وجرائم صدام الى صدام نفسه فقط، وانما هنالك شركاء في صنع شخصيته، أولهم أسرته.. اذ شاع انها عاملته في طفولته بشيء من الاهمال المادي والنفسي ،مما اضطره الى ان يعيش في بيت خاله، فضلاً عن ان علاقته بأمه سببت له عقدة نفسية لتعدد زيجاتها، وتلقيه معاملة قاسية من أحد أزواجها (وسنفصل في ذلك لاحقاً).

والشريك الثاني هو الحزب الذي انتمى اليه (حزب البعث) واعتماده أساليب التخويف والتهديد والتصفية الجسدية مع الخصوم السياسيين.

والشريك الثالث هم (العراقيون) أنفسهم في مرحلة صعود صدام في السبعينيات تحديداً، وفي مقدمتهم أساتذة جامعة وعلماء ومثقفون وفنانون، أضفوا عيه صفات استثنائية من قبيل (هبة السماء الى الارض)، فضلا عن الحشود الضخمة التي كانت تملأ الساحات تمجد صدام وتعده (بطلا استثنائياً).

والواقع ان تأليه (العراقيين) لصدام حسين وتمجيدهم له (في السبعينيات تحديداً) نابع من حاجة سايكولوجية، وذلك ان السلطة في العراق، وعلى مدى أكثر من ألف وثلاثمائة سنة مارست الظلم والقسوة والطغيان على الناس، وأوصلتهم الى حالة الشعور بالعجز بعدم القدرة على التغيير، خلقت فيهم الحاجة الى (بطل مخلّص)، وقد نجح الاعلام والثقافة في العزف على هذا الوتر النفسي، ليخلق في اللاشعور الجمعي لدى(العراقيين) صورة (الرمز) لهذا البطل المخلص، فضلاً عن أن تأريخ الحكام القساة الذين حكموا البلاد أسهم في تكوينه الادراكي لرجل السلطة في العراق بـأنه لا يمكن أن يعيش ويحافظ على كرسيه الا بأن يكون أكثر قسوة وأشد عنفاً منهم.

معتقدات صدام.. أوهام ام حقائق؟

يعرف المعتقد بأنه فكرة يكونها الشخص بخصوص شيء أو موضوع، ويمكن أن تكون هذه الفكرة عقلانية ويمكن أن تكون غير عقلانية.

ويمكن تعريف الوهم بأنه كل معتقد غير واقعي، وغير عقلاني، أو يستحيل تحقيقه.

والواقع ان الكثير من المعتقدات التي يؤمن بها صدام تبدو لنا أوهاماً، وأول هذه الاوهام هو معتقده بامكانية توحيد الدول أو الاقطار العربية في دولة واحدة، يسودها نظام اشتراكي وتتمتع شعوبها بالحرية، وثاني هذه الاوهام هو معتقده بأنه افضل العرب لرئاسة دولة الامة العربية.

فيما يشير الواقع العربي الى ان الوحدة العربية لم تنجح بين قطرين عربيين، وان صدام لم يمنح الحرية ولم يطبق الاشتراكية في البلد الذي حكمه لاكثر من ثلاثين سنة.

العبرة..للحكام..والشعوب

ان في محاكمة صدام أكثر من عبرة بليغة لحكام العالم الثالث، وللعراقيين ومن سيحكمهم،منها:

·        ان من سيحكم العراق مستقبلاً، عليه أن ينحي جانباً فكرة (البطل)، وينظر الى رئاسة الدولة على أنها وظيفة يشغلها لزمن محدود.

·        وان على العراقيين ان يكفوا عن تمجيد الحاكم، وان يغسلوا لا شعورهم الجمعي من فكرة (الرمز)و(البطل المخلّص).

·        وان على العراقي الذي يهوى السياسة الاّ ينتمي لاي حزب يميل الى استعمال اساليب العنف في تعامله مع خصومه.

واخيراً، فان الحكام العرب سيعتريهم هاجس المصير نفسه في اثناء متابعتهم لمشاهد المحاكمة، وسيوازنون بين انفسهم وبينه في ظلمهم وفي عدلهم، واظن ان اكثرهم غير عادلين، ولا أقول ظالمين.


الحب والصحة النفسية

علي تركي نافل

جامعة القادسية

يوصف المرض النفسي بأنه اضطراب وظيفي في الشخصية، يبدو في صورة أعراض نفسية شتى منها القلق والوساوس والأفكار التسلطية والمخاوف الشاذة،  واضطرابات جسمية وحركية وحسية متعددة. أما أسباب نشوئه فتعود إلى تضافر عوامل البيئة والوراثة معاً، ومن بينها الاضطرابات العصبية والهورمونية، فضلاً عن الصراعات اللاشعورية في عهد الطفولة وما يتبعها من ضغوط أسرية واجتماعية لاحقة. فأسباب المرض النفسي تتعدد وتتفاعل، ومن النادر أن نتمكن من عزوه إلى سبب واحد منفرد. وتقسم أسباب الأمراض النفسية في العادة إلى صنفين.  فالأسباب(الأصلية) ترشح الفرد وتجعله عرضة لظهور المرض النفسي إذا ما طرأ سبب مساعد أو مرسب يعجل بظهور المرض في تربة أعدتها تلك الأسباب الأصلية.  ويلاحظ أن الأسباب الأصلية  متعددة ومختلفة وربما استمر تأثيرها على الفرد عدة سنوات،  ومن أمثلتها : العيوب الوراثية والاضطرابات الجسمية والخبرات الأليمة خاصة في مرحلة الطفولة وانهيار الوضع الاجتماعي. أما الأسباب (المساعدة)، فهي الأسباب والأحداث الأخيرة السابقة للمرض النفسي مباشرة والتي تعجل بظهوره، ويلزم لها لكي تؤثر في الفرد أن يكون مهيأ للمرض النفسي،  أي أن السبب المساعد يكون دائماً بمثابة (القشة التي قصمت ظهر البعير))، ومن أمثلته : الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والصدمات الانفعالية، والمراحل الحرجة في حياة الفرد مثل سن البلوغ وسن الشيخوخة أو عند الزواج أو الإنجاب أو الانتقال من بيئة إلى أخرى أو من نمط حياة إلى نمط حياة آخر.

أما الصحة النفسية فلعلها أكثر تعقيداً في مفهومها العلمي من المرض النفسي، إذ إنها ليست مجرد خلو الإنسان من الأعراض المرضية الظاهرة، التي تبدو للعيان في صورة وساوس، أو توترات، أو قلق، أو هذيان، أو اكتئاب، و إنما هي خصائص موضوعية أيضاً،  تعد (مؤشرات مميزة) تطبع شخصية صاحبها. ومن أهم هذه المؤشرات: قدرة الفرد على عقد علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين، واستمتاعه بالحياة وشعوره بالطمأنينة وراحة البال، وقدرته على احدث تغييرات إصلاحية بناءة في بيئته وشؤون حياته،  وعدم امتثاله المطلق لكل ما يسود في محيطه من تقاليد بالية أو عادات خاطئة، وقدرته على التوفيق بين دوافعه المتصارعة بأسلوب يحقق لها الرضى والتوازن، وقدرته أيضاً على الصمود حيال الأزمات والشدائد وضروب الإحباط المختلفة دون أن يختل اتزانه أو يتشوه تفكيره، ودون أن يلجأ إلى أساليب ملتوية غير ملائمة لحل أزماته كالعدوان ونوبات الغضب أو الاستسلام للخيال بجعله بديلاً للواقع.  كذلك تعد قدرة الفرد على الإنتاج المعقول في حدود ذكائه واستعداداته مؤشراً على الصحة النفسية، إذ كثيراً ما يكون الكسل والخمول دليلاً على شخصية هدتها الصراعات النفسية.

وتعرّف منظمة الصحة العالمية (WHO) الصحة النفسية بأنها حالة من السعادة الكاملة جسمياً وعقلياً واجتماعياً، وليس مجرد الابتعاد عن المرض النفسي.  كما يشير المؤتمر العالمي للصحة النفسية، إلى أن مفهوم الدرجة القصوى من الصحة النفسية لا يشير إلى الحالة المطلقة أو المثالية بل هي تعني الوصول إلى افضل حالة ممكنة وفقاً للظروف المتغيرة.  كما ترتبط الصحة النفسية ارتباطاً وثيقاً بتوافق الإنسان مع نفسه ومجتمعه، إذ يقصد بالتوافق تلك العملية الديناميكية المستمرة التي يهدف بها الشخص إلى أن يغير من سلوكه ويغير من بيئته (بشقيها المادي والاجتماعي) ليحدث علاقة اكثر تآلفاً وتوازناً بينه وبين عالمه.

ويعد (الحب) بمعانيه الواسعة والمتعددة أحد أهم العناصر الشعورية التي تتضمنها عملية التوافق النفسي هذه، إذ صار ينظر إلى الحب في التخصصات النفسية العلاجية والإرشادية على انه مفتاح تحقيق التوازن في الشخصية الإنسانية. فكيف يستطيع الفرد أن يستمتع بتفاصيل الحياة، وكيف يستطيع أن يشعر بالطمأنينة وراحة البال وسط أسرته ومجتمعه، وكيف يستطيع أن يتلمس معنى محدداً وأثيراً لحياته، دون رابطة الحب التي تكاد أن تكون شريان الصحة النفسية النابض؟وقد تشعبت في السنوات الأخيرة الدراسات النفسية التي حاولت أن تجيب على سؤال أساسي مضمونه: ((ما تأثير الحب في الصحة النفسية للإنسان؟)). فجاءت معظم نتائج معظم هذه الدراسات متفقة على أن قلة الحب هي أحد العوامل المؤثرة جداً في الإصابة بالأمراض النفسية وحتى الجسدية.  فلا يغيب عن بالنا العلاقة الوثيقة بين النفس والجسم،  فهما يعملان بوصفهما وحدة متكاملة،  وما يؤثر في النفس،  يؤثر بالجسد وما يؤثر في الجسد فهو يؤثر بالتأكيد في النفس أو ينعكس فيها بشكل أو بآخر. كما توصلت هذه الدراسات إلى أن الأفكار والمعتقدات والأمزجة  بوسعها تغيير عمل خلايا الدماغ، وإنها تؤثر أيضاً في الناقلات العصبية (السيالة العصبية التي تنقل الايعازات من الدماغ واليه)، وتؤثر في الهرمونات العصبية التي بدورها تؤثر على (نظام المناعة) الذي يقرر الصحة.  لذا فان الأفكار والمعتقدات والأمزجة ليست مجرد تجريدات متطايرة فحسب أو عبارة عن ومضات  تنبض في أرجاء العقل وتنتهي،  بل إنها أحداث كهر وكيميائية ذات عواقب فيزيولوجية واقعية جداً. واتضح أيضاً أن هناك علاقة طردية مباشرة بين وفرة الحب في حياة الفرد وبين متانة نظام المناعة في جسمه.

إن إشاعة الحب في حياة الناس لا يتعلق بنيات هذا الشخص أو تلك الجماعة، بقدر ما يتعلق بالتوجهات الفكرية والاجتماعية للبشرية. فحضارتنا المعاصرة تستحق أن توصف من إحدى زواياها بأنها حضارة اللاحب واللاانتماء، يتغرب الناس في متاهاتها، وفي أحشائهم وعلى وجوههم وصمة الأمراض النفسية بكل ما تتضمنه من كرب وبؤس وآلام. ندعو للحب والتسامح ، لا شك في ذلك، ولكن قبل ذلك، ينبغي أن ندعو إلى انتهاج درب العقل والتبصر الموضوعي بالمعطيات والأحداث، فالعاطفة النبيلة لا تنبع إلا من عقل نبيل، والعقول النبيلة وحدها جديرة بالصحة النفسية.


 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة