الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

شعرية الخوف ورعشة الصّرخة قراءة في رواية (الخائف والمخيف) لزهير الجزائري

د.قيس كاظم الجنابي

1

يتصف العنوان في الرواية بأنه العتبة الأولى للنص الذي يقود المتلقي نحو الفهم والتفسير وربما التأويل، لأن القارئ بطبعه وحساسيته يعد نفسه المنشئ الجديد للنص الذي يعمل على الاستفادة منه من خلال موجهات الكاتب التي يبثها بطرق شتى، منتفعاً بتموضع العنوان (في النص المدروس اما بنية أو بنية تناصية أو بنية ميتانصية) ولأنّ رواية زهير الجزائري (الخائف والمخيف) الصادرة عن دار المدى سنة 2003م تستند إلى إحالة نصية واضحة عن الخوف الذي يفسر على انه (ظلمة نفسية لا يكاد يُرى من في داخلها شيئاً، وإذا رأى فأشياء غير واضحة المعالم)، فانها تكشف عن واقع كان تعبيراً عن نية تقوم على الخوف وتعتاش عليه، وتؤدجله لتستثمره بالتالي لصالحها، فقد كانت شخصية (وليد) الاديب واحدى شخصيات الرواية يشحنها الخوف؛ وكأنه (خوفه هو الذي يدفعه إلى موضوع الخوف وتجسيد صورة الخائف والمخيف) فاصبح دليلاً للمتلقي، لأنه صورة حية لاشياء (وقعت فعلاً) حين حاول كتابة رواية (بضمير الغائب ويختفي وراء رواية من التاريخ) فاختار ان يكتب عن (الخائف والمخيف) بوضوح تام، لان المعنى يكشف عن الوقائع والاحداث مثلما كان الخوف (شاغلاً لـ(وليد) حتى يوصل (الخوف) إلى (منتهاه مستنفذا مخاوفه هو بالذات. مخاوفه مما يحدث فعلاً) حتى اصبح الخوف كالعدوى، أو كالنار التي تسري في الهشيم، حتى (وهاب) احد اقطاب السلطة صارت لديه (فلسفة) خاصة تستند إلى فكرة (ان الخوف أكثر دواماً من الحب لان المحبين يترددون في الإساءة إلى المحبوب ويترددون في الأساءة للمخيف) كان ذلك هو دليل القارئ المتلقي نحو تقبل فكرة الخوف بوصفها تعبيراً حياً عن الواقع كتب باسلوب (بانورامي) تصويري يقوم (على صنع الصورة التي تمكن الكاتب الروائي من تغطية مساحات كبيرة من الحياة وتجارب هائلة اكبر بكثير مما يمكن ادخاله في فصول المسرحية) لان الرواية تبسط حضورها على مساحة كبيرة من الواقع، وتحاول ان تناوب بين اتجاهين مختلفين في تفسير الاحداث، احدهما السلطة، وثانيهما من يناوئها لترسيخ حساسية الشعور بالخوف بكل مدياتها؛ وهذه الحساسية هي جزء من رعشة الصرخة التي تتفجر بين آونة وأخرى حين يصارع الصمت المرتبط بالخوف مع صوت الصرخة بوصفها خرقاً لجدار الصمت حين يتجاوز الخوف حدوده.

2

يسرد الكاتب روايته عبر ضمير الغائب لا برؤية شاملة ومركزية يمسك تجلياتها الرئيسة والثانوية تماشياً مع احساسه بضرورة فتح مسار آخر يوازي مساره السردي، لذا حاول ان يضع مساراً ثانوياً آخر يسرده (وليد) بوصفه شخصية سائرة في ركاب السلطة تجرب كتابة رواية ترسم تسلسل الاحداث، كما سمح الكاتب لشخصية (قاسم فنجان) الشاعر الذي سحقته الحرب حتى مات مقتولاً يسرد بعض الاحداث عبر أوراقه التي تركها. والرواية لها مسار سردي رئيس خاص جعلت فيه محاولات السرد الآخر نوعاً من التنفيس عن قبضة الكاتب المهيمنة التي تحاول الامساك بحركة الاحداث حتى لا يتحول السرد من رؤية محددة واضحة إلى تنوع من الرؤى والوجوه، وربما الاصوات.

تضمنت الرواية اتجاهاً سردياً يقوم على الاستفادة من توالي الحكايات داخل سياق السرد الرئيس، أي ان الهيكل العام للرواية مؤطر بإطار خاص، في داخل هذا الاطار تنتشر العديد من الحكايات كما هي حالة حكاية (صبيحة الداكوكة)، وحكاية (الرجال الذين حملوها الضيم) ووعدوها بالنعيم، وحكايات (السفاح)، وحكايات (الحنطة المسمومة) وحكايات (وليد)، وحكايات (قاسم فنجان)، وحكايات (ياسمين) وحكايات (قادر،  سليم، أبي هاشم الجلاد، الغفاري، الحائري، المعتوه، يعقوب، أكرم نور الدين، مجيد، وهاب، اللواء محمد العباس، عبد الوالي)، وحكايات (الحرب).

هذا فضلاً عن توظيف الحلم بوصفه (حكاية). لان الرواية تسير على وفق خط رئيس عام يحتوي اللبنات الفرعية الأخرى بوصفها تعبيراً عن عصر الخوف والقلق،  ولهذا كان السياق السردي سياقاً تداولياً (أو شبه تداولي احياناً) لا تسير فيه الرواية في اتجاه واحد أو وتيرة واحدة؛ وانما تتناوب بين الاحداث في اكثر من قضية واحدة تفضي إلى جانبين متصارعين/متناقضين: السلطة واعداء السلطة لكي تحقق مساراً سردياً يجمع بين بناء شخصية السيرة وشخصية الرواية فمن خلال استحضار بعض الحكايات الراسخة في الموروث العربي كحكاية (الملك الجميل ودولته المنحوسة) حين (تقص الحكاية حتى يدركها الصبح فتغيب. ولن تعود مرة أخرى) مع رغبة (القائد) في كتابة (سيرته) من خلال ما أعطاه الوزير للكاتب من بداية جاهزة ورغبة في ان يخضع الروائي (السيرية لرؤيته الخاصة) ما يشير إلى النزعة (السيرية) المضمرة في كتابة العديد من الشخصيات الروائية والى ان شعرية السرد في هذه الرواية (تقوم على التعارض والتناقض بين المظهر والحقيقة وهي تشمل دالاً واحداً ومدلولين اثنين الاول حرفي ظاهري وجلي، والثاني متعلق بالمغزي، موح بهِ، خفي) مما يولد نوعاً من (التناقض بين الكلمات ومعانيها، وبين الافعال والنتائج، أو بين المظهر والواقع) عبر خيط خفي من التهكم والاحساس بالسخرية المريرة من وقع المفارقة بين الخوف والصرخة، والخوف والصمت، وبين وعي رجل السلطة ووعي المضطهد، كما هي حال (وهاب) الذي يرى ان الحظ أفضل من السياسية.

3

تميزت الرواية بتنوع الشخصيات وقدرتها على رصد العديد من النماذج الانسانية، فقد جاءت شخصية (وليد) موازية لشخصية الكاتب لما تحمله من ثقل واضح في الكشف عن العقيلة الثقافية للسلطة وكيف كان يفكر اتباعها ومع ذلك فان (وليد) شخصية مثيرة ومؤثرة في بناء الرواية، وهي (تذكرني) بشخصية (وليد) الفدائي في رواية زهير الجزائري (المغارة والسهل) مع اختلاف الأزمنة والأمكنة والمواقف، اذ جاءت شخصية (وليد) في (الخائف والمخيف) تجسيداً حياً لجوهر حركية الفعل الروائي لأنه كان (خائفاً من هاجس الكتابة الذي سيقتله) حين سمح له الكاتب بالبدء بكتابة الرواية فجاءته الفكرة (كالصرخة) فقال: (بها سأبدا الرواية: صرخة غامضة مزقت الليل وايقظت هواجس الناس المخبأة ثم انطفأت).

مما وفرّ فرصة لحصول نوع من (التناص الداخلي) في نص الرواية ذاتها حيث يتوازى خط (مسار) السرد الذي رسمه الكاتب لنفسه مع خط كتابة (وليد) لروايته، مما يجعل  فكرة الكتابة دليلا للقارئ المتلقي في تلمس سبيل السرد، فقد كان تتبع (وليد) للتفاصيل الخاصة بشخصية (السفاح) المعروفة بـ(ابي طبر)، نسبة إلى آلة (الطبر) التي يستخدمها مما يوحي فعلاً بانه (كما يقول على لسان الكاتب في الرواية): (دقة التفاصيل هي التي اوحت لوليد بصورة القاتل الذي يصف جرائمه في صحف اليوم الثاني باعتبارها فصولاً من رواية يعرف مقدماً نهايتها.. ولذلك ترك الضحايا في روايته وتابع القاتل. فقد شغلته تماماً الرسالة التي اعتاد ان يتركها في مكان القتلة: (لم اقتل من اجل القتل، ولست متعطشاً للدم وليست هناك ضغائن شخصية على المقتولين، انما اردت ان ابلغ الآخرين من خلالهم رسالة ستظهر فيما بعد..) وتحت الرسالة المطبوعة بخط عريض توقيع القاتل على شكل علامة استفهام نقطتها دم..) وهذا ما يكشف عن كون شخصية (وليد) هي شخصية مركزية مؤثرة في بناء الرواية، وهي الدليل الفاعل نحو فهم تفاصيل سيرورة السرد وحركته لتداخل شخصيته مع شخصية الكاتب، نتيجة تداخل سير سرده لروايته المفترضة مع رواية الكاتب هذه، وبهذا استطاع الكاتب ان يوهم القارئ، المتلقي بوجود اكثر من كاتب، منشئ للرواية، ووجود تناص داخلي ينأى بنفسه عن خط حركة السرد الرئيسة ليؤسس وجوده على مركز حركة الرواية حتى ان الكاتب مارس غواية التضليل في ايهام القارئ بوجود تداخل بين شخصيته وشخصية وليد) نفسه، (اني اكتب عن زمان آخر ومكان آخر) لكنه لم يلبث ان كشف عن غايته من وراء ذلك حينما دفعه للحديث مفصحاً عن الهدف من اختيار شخصية (السفاح) موضوعاً للرواية وذلك بابلاغ رسالة سريعة للقارئ ترى ان (السفاح موجود داخل المواطن العادي، وما يحتاجه لتنفيذ الجريمة هو الشخص البارع الذي يخرج السفاح من الموظف المطيع الذي يفعل تماماً ما تمليه الدولة) حتى ان السلطة هي التي ستسرق فكرته حول (السفاح): فكانت الكتابة عن زمن آخر، ومكان آخر هي مجرد لعبة)، وهي اللعبة ذاتها التي استخدمها الكاتب في عدم التصريح بالأمكنة والأزمنة وإبقاء الأجواء شبه معتمة، والاكتفاء بالملامح البسيطة لها كنوع من البحث عن رؤية شمولية لإدانة القهر ومصادرة الحريات.

جاءت شخصية (وليد) متذبذبة، لكنها تحمل نقاءها وعذوبتها، وهي تستقى بعض ملامحها من (وليد) في رواية (المغارة والسهل) التي وصفها بـ(قصر النفس والجزع البرجوازي الصغير) فكان غالباً (ما يباغته (وليد آخر، أكثر قسوة وأقل حماساً، يراقب اندحاره من الخارج ويحصي له درجات تدهوره ببرود).

تستحوذ شخصية الشاعر (قاسم فنجان) على حيز مهم من الرواية على الرغم من قصر دورها الذي سيق للحرب المحتدمة فلقي حتفه فيها، وحين استنجد بـ(ياسمين) نسيت ذلك وعاشت حياتها، ونسيت صديقه اللدود (وليد)، وقد سرد (قاسم) بعض المشاهد الصغيرة من الرواية من خلال رسائله وأوراقه فقال عن نفسه: (مكاني، الحرب عاشقتي الولهانة.. مشطت في الليل شعرها الاسود الممتد على طول خنادقنا، وملأت ليلنا بالرصاصات الخُلبية) وكانت قصيدة (وليد) إليه بعنوان (رسالة متأخرة لقاسم فنجان) ايذاناً بنهايته بعد ان تخلى عن الجميع حتى ان (وليد) ردد مع نفسه عبر حوار داخلي (منلوج) موجهاً خطاباً إليها (خيانة، زيف، اين أنت يا وليد؟) وتناساه (ياسمين) و(سليم)، وتلاشت اصداء رسالته إلى (ياسمين) التي ارسلها إليها من جبهة الحرب، التي قال فيها: (صورتك معلقة امامي على جدار الخندق.. تبتسمين مثل طفلة ضيق عينيها شعاع شمس حاد).

4

تؤرخ  الرواية لصراع دموي بين السلطة ومعارضيها حيث تتكشف البنى الفكرية الاجتماعية النفسية لشخصيات رجال السلطة وممارساتها لتصبح خلفية لواقع معين يتعرض فيه معارضوها إلى شتى انواع القمع حاول الكاتب عرضه عبر وجهة نظر خاصة تتعاطف مع معارضي السلطة، ولكنها تتخفى وراء حياد قلق بما يجعل بناء الرواية يتصل اتصالاً مباشراً بالتاريخ السياسي حتى يتماشج معه بطريقة حوارية تحاول ان تنشئ صلة حية بين (صدمة) العنف وضياع الحوار السياسي، وتلاشي الكثير من الثوابت وبين البناء الروائي الذي يقوم على استخدام ضمير الغائب بوصفه اقرب الأساليب السردية إلى عرض الوقائع التاريخية السياسية لأنه يضفي نوعا من الحيادية (المقموعة) على السرد الذي حطم جدرانها الكاتب وفتح نحوها افقاً لكشف رذائل السلطة؛ ومن هنا جاء الحوار الفكري المتموضع في الرواية كنوع من التثوير الداخلي لاستنهاض قوة النص باتجاه إدانة واقع متشرذم.

جاء اختيار الشخصيات القمعية ليؤكد الطبيعة النزقة والموهومة بالقوة والتفرد حتى ان (وهاب) وصف نفسه بانه يؤمن بالحظ اكثر من السياسية، والحظ بالنسبة له (مثل المرأة التي تجلس بين ساقيه، تستسلم للمغامر والمغتصب)، علمته مهنة الحماية (ان الزمن لا يرحم، لذلك ينبغي الرد على الفور مستخدماً العنف كرد سريع وأحياناً قبل ان تقع الواقعة (فكان) لا يعرف غير العنف وسيلة لاثبات هذا الاخلاص).

إذا كان (وليد) جعل الصرخة منطلقاً لروايته  عن (السفاح) فان (يعقوب) صحاهو الآخر على صوت الصرخة، وعض (قادر) شفته حين سمعها وهو يهيئ نفسه في المعتقل لتنفيذ فكرة حفر نفق للهرب من المعتقل، فالصرخة كانت القاسم المشترك بين الضحية والجلاد، فقد كان (يعقوب) يؤدي واجبه كمدير للأمن يرى بان اعتقال هؤلاء الأوغاد يحول المديرية إلى دار مجانين، لهذا كثيراً ما يهرب إلى بيت خالته حتى يستعيد تماسكه ويبقي (سوياً وعادياً) حتى كان يتحدث عن اسرار يخاف ان يتحدث عنها في بيوت أخرى، ويشتم من يشاء دون خشية). مما يشير إلى ان عجلة الخوف تحيط بالذين يخيفون الآخرين أيضا، وان الاحساس بالخوف هو احساس مركز ومتراكم ومتغلغل في كل مفردات الواقع مما يجعل الوعي الذي ينهض به الكاتب يتصف بالقصدية، فيغدو اشبه بمفارقة ذاتية، أو تعليل ذاتي من دون نهاية عبر مباطنة تكشف عن فاعلية الوعي (لكونه دائماً فعلاً لشيء، ادراكاً لشيء، حكماً لشيء، توقعاً لشيء، تذكرا لشيئ، حباً لشيء... الخ) أي ان الوعي بالخوف جاء جزءاً من معادلة يصعب الامساك بطرفيها، فحين يذهب (يعقوب) إلى الدراسة ويعقبه (مجيد) تتواصل حركة الضغط والتخويف حتى يصبح هو نفسه (خائفاً) بعد ان طلع على سر (القصص) الكثيرة حول محاولات اغتياله (بحبة زئبق تدس بين الحبوب المنشطة التي يقدمها الطبيب الخاص، الابرة المسمومة في الفراش تدسها واجدة من المرشحات لسريرة) لهذا يندمج مع (وليد) في مصير واحد حين يقول له: (سنكتب الرواية معاً يا سيدي.. منك السيف ومني القلم، منك الافعال ومني الكلمات).

 في حين مثلت (ياسمين)  دور المرأة التي فقدت فرصتها المبكرة في الحياة فاستحالت إلى بغي من نوع خاص وخصوصاً بعد فشلها في زواجها، فكانت عشيقة (منكوبة وموظفة بارزة عند وزير مشهور بعلاقاته النسائية)، فخرجت خاسرة في زواجها وظلت تمارس وجودها كزوجة (ظل) لاحق لها بطفل، فكان ان انغسمت في حياة لاهية حتى تنسى مأزقها ومأزق(قاسم فنجان) فكانت صورة لواقع متآكل مرت عليه العديد من الوجوه، وتناقلته العديد من الأيدي.


الأعرجي يكشف، وينتقد (أوهام المحققين)

 

مؤلف كتاب (أوهام المحققين) الصادر أخيرا عن دار المدى (دمشق ـ 2004 )، هو محمد حسين الأعرجي، وهو باحث وأكاديمي عراقي، يعمل أستاذا في معهد الشرقين الأوسط والأدنى بجامعة آدم مسكيفج بمدينة بوزنان البولندية حيث يقيم، حقق بعض كتب التراث مثل (ديوان علي بن محمد الحمّاني)، و(ديوان بكر بن عبد العزيز العجلي)، كما اصدر مجموعة من الكتب منها: (فن التمثيل عند العرب)، (مقالات في الشعر العربي المعاصر)، (جهاز المخابرات في الحضارة الإسلامية)، (أجداد وأحفاد)، (في الأدب وما إليه)، (الجواهري ـ دراسة ووثائق) وغيرها.

في كتابه الجديد (أوهام المحققين) يخوض الباحث في ميدان خبره طويلا، ويتحرك في مساحة مألوفة لديه، فهو من أبرز المهتمين بالتراث العربي ومصادره، ومن الدارسين لهذا التراث في مروياته ومدوناته المختلفة، لذلك فهو يقدم هنا دراسة علمية خالصة، إذ يضع أهم تجارب المحققين للتراث العربي، على اختلاف أساليبهم ومناهجهم، تحت مجهر النقد والتقييم، وفي الوقت الذي يشير فيه إلى إنجازات هؤلاء المحققين ويثني على جهودهم ويشيد بها، فانه يتصيد أخطاءهم، وهفواتهم ويدين تعجلهم، مقارنا بين الروايات المختلفة، وذلك برؤية واضحة دقيقة وشاملة، وهو يشير إلى ان هدفه في الكتاب ليس الانتقاص من علم أحد أو مما بذل من جهد، وليس هدفه كذلك السخرية من أحد، ولئن ظهرت السخرية في بعض مواضع الكتاب فان الباحث يبرره بالقول: (السخرية مزاج فطرني الله عليه، حينما أرى ما لا يعقل من أوهام).

يقول الأعرجي في مقدمة الكتاب المصاغ بلغة رصينة جزلة،( صار من معاني التحقيق في أيامنا هذه أنْ صار كل من ينشر كتابا قديما على الناس فيؤديه كما تركه عليه صاحبه، أو على أقرب صورة من ذلك، يسمى محققا. والمعنى صحيح ـ يضيف الباحث ـ ولكنه كان في أصله يطلق على العالم الذي يتحقق من مسائل العلم الذي يخوض فيه، والتثبت منها، ومن هنا أطلق الناس على بعض العلماء انهم من المحققين مثل: المحقق القمّي، والمحقق البغدادي، والمحقق

الكركي، والمحقق الكلباسي، والمحقق الحلّي وسواهم.

والباحث في كتابه يقصد المعنَيَين، وهو يبدأ بتوجيه النقد الشديد إلى الباحث المصري المرموق، الملقب بـ (أستاذ الأساتيذ) شوقي ضيف من خلال كتابه (تاريخ الأدب العربي) المؤلف من عشرة أجزاء، ويوضح الأعرجي كتمهيد لنقد ضيف (ان مؤرخ الأدب لا يكفيه أن يعرف آثار العصر الذي يزعم أنه يدرسه، وإنما عليه أن يحدد اتجاهاته مرصودة رصدا تأريخيا لا تفوت منه شاردة ولا واردة في تقديم الأهم على المهم من هذا الأمر أو ذاك. . .فضلا عن معرفة الناس الذين يؤرِّخ لهم، والاطلاع على آثارهم، وحيواتهم)، وهي مهمة صعبة، كما يقر الأعرجي نفسه، لكنه يستدرك في رفض لأي حجة أو ذريعة قد يسوقها المحقق: ( من يخطب الحسناء يعطِ مهرها) في إشارة إلى ان من يتصدى لمهمة جليلة عليه أن يكون أهلا لها، ويتحمل مشاق العمل، غير أن ضيف، كما يرى الباحث، لم يكن أهلا لكتابة تاريخ الأدب العربي حيث يصفه الأعرجي بانه (قليل التثبت والتريث، لا يعطي للدقة في الحكم وزنا مناسبا).

انطلاقا من هذا الحكم ينطلق الأعرجي لتصيد أخطاء ضيف الذي أشرف على عشرات رسائل الدكتوراة، وتخرج من بين يديه مئات الباحثين، وكمثال على عدم دقة ضيف، يقول الأعرجي ـ وهو لا يطلق حكمه إلا مشفوعا بمثال ـ بان لضيف في كتابه اجتهادات عجيبة لا اعرف سببا لولعه بها، لاسيما ان هناك من النصوص ما يغنيه عن مثل هذه الاجتهادات، فمن ذلك وهو يتحدث عن ملازمة الشاعر علي بن الجهم للخليفة المتوكل العباسي قوله (...وقد يكون في منادمته للمتوكل، وملازمته له ما يدل على انه كان ظريفا جميل المحضر)، ويعترض الأعرجي على هذا الاجتهاد، مؤكدا بانه لو اطلع ضيف على كتب التراث والروايات المختلفة لما خرج بمثل هذا الاجتهاد.

وفي موقع آخر يتحدث شوقي ضيف عن محمد بن صالح العلوي قائلا (ولم يتورط فيما كان يتورط فيه شعراء بغداد من التعلق بالجواري، والإماء، فقد كان يَكلَف بزوجته وحدها)، ويتابع ضيف على الصفحة نفسها ( وللعلوي مقطوعة يصور فيها جواري يندبن ويلطمن عند قبر لبعض ولد المتوكل، وهو فيها يتحدث عن فتور عيونهن وجمالها، ويخال كأنما سينفخ هذا

الجمال الفاتن في العظام الهامدات، فتعود مرة ثانية إلى الحياة ... (وهنا يأتي تعليق الأعرجي متسائلا) أفيرى شوقي ضيف أن من (يكلف بزوجته وحدها) يكون من همه أن يتغزل بالجواري الباكيات، ويشغله سحر عيونهن عن رؤية الدمع فيها ؟ أهذا كلام من يكلف بزوجته وحدها (ولم يتورط فيما كان يتورط فيه شعراء بغداد من التعلق بالجواري) ؟ أم أن للتعلق معنى آخر عند الدكتور ضيف؟.

هكذا يمضي الأعرجي في التقاط الهفوات، والأخطاء، والمغالطات التي وقع فيها شوقي ضيف في عمله الضخم (تاريخ الأدب العربي)، دون أن يغفل عن الإشادة بجهد هذا الباحث المصري الجليل، مؤكدا أن غايته من تبيان بعض الأخطاء، وهي غيض من فيض، هي أن يتنبه المحقق إلى عمله جيدا، كما ان غايته هي ان يستنتج ( اننا استعجلنا كتابة تاريخنا الأدبي، فنشرنا الدراسة قبل نشر مصادرها، وأصدرنا الحكم النقدي على أدبائنا قبل حصر آثارهم وهكذا).

وبالأسلوب ذاته ينتقل الأعرجي لينتقد عمل المحقق ابراهيم السامرائي في تحقيق معجم الرصافي ( الآلة والأداة، وما يتبعهما من الملابس، والمرافق، والهنات )، وهو معجم يقوم على الاشتقاق مرة، وعلى التعريب مرة أخرى فيما يخص الآلات، والأدوات كما يدل عليه عنوانه،و يبدو ان إعجاب السامرائي بمعجم الرصافي، قد حمله على ان يستدرك على الرصافي ما فاته من معجمه، لكن هذا الاستدراك من قبل السامرائي ـ كما يوضح الأعرجي ـ جاء ناقصا ومبتسرا، فضلا عن ان السامرائي لم ينتبه إلى بعض ما جاء في الكتاب إذ عاد وكرر بعض المفردات الواردة في المعجم على اعتبار إنها من ابتكاره، وثمة أمثلة عديدة يكشفها الأعرجي لينتقد بذلك السامرائي على تسرعه، وعدم درايته بالموضوع الذي يتصدى له.

وكذلك ينتقد الأعرجي، في فصول لاحقة، الدكتور صلاح الدين المنجّد في تحقيق كتاب (أدب الغرباء) لأبي الفرج الأصفهاني، ويستدرك على بعض دواوين الشعراء المحققة، ويستغرب من تحقيق الدكتورين نوري حمودي القيسي، وحاتم صالح الضامن لديوان عَدِيِّ بن الرِّقاع العاملي فيصف عملهما بالتشويه، لا التحقيق، نظرا للإنشائية، والانتقائية، والتسرع الذي وسم عملهما، معربا عن رغبة في ان يعاد

تحقيق هذا الديوان بأيدي من هو خبير، ومطلع، وجدير، وكذلك ينتقد تحقيق الأستاذين محمد ناصر، وإبراهيم بحاز لكتاب (أخبار الأئمة الرستميين) لابن الصغير، ويعتبر تحقيقهما حافلا بالمشاكل، والعثرات ابتداء بعنوانه، ومرورا بمؤلفه، وانتهاء بما اعتور نصه من تصحيف وتحريف، والأمر نفسه ينطبق على تحقيق نجم عبد الله مصطفى لكتاب ابن الحجاج (تلطيف المزاج)، وهو ما يشير إليه عنوان الفصل المعنون بـ (تلطيف المزاج عبث بابن الحجاج).

وبهذا المعنى فان كتاب (أوهام المحققين) يتصف بالجرأة، وبالأمانة العلمية، فالكتاب يظهر ـ كما يبين العنوان ـ الأوهام التي تدور في ذهن المحقق وهو يقوم بتحقيق كتاب، كما يسلط الضوء على المغالطات التي يقع فيها المحققون، و ينتقد التسرع والعجالة في العمل، وهو ما يعني الوقوع في الهنات، والأخطاء، ويطالب الكتاب المحققين بضرورة التأني، والهدوء، وسعة الاطلاع، والخبرة، والتجربة الواسعة لان تحقيق كتاب ما هو، في نهاية المطاف، نوع من التوثيق لابد وان يكون أمينا للنص، ولكاتبه، وعصره، ولا يجوز للمحقق، بأي حال من الأحوال، ان يتساهل في عمل كهذا، بل عليه ان يكون دقيقا في كل حرف، وجملة، ومعلومة، وحادثة، ورواية، وعليه ان يبرز الاختلافات، ويقارن، ويحاجج، ويجادل، وألا يبني أحكامه على الظنون، والشكوك، والمزاج، وباختصار عليه ان يبتعد عن الأوهام، ويتمسك بالمنهجية العلمية الواضحة، وهذا أمر يتطلب جهدا وتعبا كبيرين وهذا صحيح ، ولكن الصحيح أيضا وكما أشرنا سابقا إلى ما ساقه الأعرجي ( من يخطب الحسناء يعط مهرها)، وبالتالي لا يشفع للمحقق الموهوم أي مبرر أو حجة أو ذريعة طالما قَبِل أن يعمل في هذا الميدان الإشكالي والشائك الذي هو التحقيق.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة