الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

الدفاع عن المتهم صدام

زهير كاظم عبود

لا يخفى أن مهمة الدفاع عن المتهم من قبل المحامي تعد من المهمات القانونية التي أناطها القانون بالمحامي، ويكون المحامي أميناً على ما قام المتهم بتوكيله للدفاع عنه وإيجاد أية ثغرات قانونية يمكن أن تكون لصالح موكله، إضافة الى قيام المحامي بالطعن بالقرارات والأحكام التي تصدر ضد موكله وفق الطرق القانونية والمدد المحددة في النصوص من قبل المحامي لمعرفته بها أكثر من غيره.

ومهمة الدفاع عن المتهم بمثابة التصدي لكل ما يخالف الحقيقة لكون المحاماة جزء فاعل وأساسي في العملية القضائية، وكون المحاماة قضاءاً واقفاً يسعى الى كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، ولا يعقل أن يكون المحامي ظهيراً للمجرم أو مسانداً له، انما تتحدد المهمة الإنسانية القانونية النبيلة لعمل المحامي في معرفة الطرق القانونية والدفاع عن الاتهامات التي تسند لموكله في حال براءته منها، والعمل على تعزيز قناعة المحكمة لهذا الأمر بتقديم الشهادات والأسانيد وعرض القرائن والسندات على محكمة الموضوع من اجل ذلك.

وفي قضية المتهم صدام حسين ليس هناك مشكلة أن يكون محامي عربي أو أجنبي للدفاع عنه في التحقيق والمحاكمة، وهذا الأمر يمكن أن يكون في عدم ثقة المتهم صدام بقدرات وأمانة المحامي العراقي، أو لعدم قبول التوكل عنه من قبل محامين أتصل بهم بواسطة جهة ما أو أشخاص من اجل  القبول بهذه المهمة، وفي جميع الحالات فأن أمر اختيار المحامي متروك للمتهم نفسه فهو حر في هذا الجانب ، لأن التعاقد مع المحامي بموجب عقد وكالة يبرم بين المحامي والمتهم شخصياً يقتضي بموجب هذا العقد ان يؤدي المحامي الموجبات التي تتطلبها احكام الوكالة وأداء العمل القانوني الذي اعتاد المحامي أن يؤديه لموكله مقابل أتعاب مالية يتم الاتفاق عليها.

وفي القضايا الجزائية صار على المحكمة المختصة أن تسأل المتهم عن وجود محامي يحضر معه في التحقيق والمحاكمة، وعند عدم وجود محامي تقوم المحكمة بانتداب أحد المحامين المسجلين في جدول النقابة وكيلا للمتهم وتقوم المحكمة بتخصيص أتعاب له من خزينة الدولة تدفع بعد اكتساب الحكم الدرجة القطعية.

وقانون المحاماة العراقي المرقم 173 لسنة 1965 المعدل منع العمل في المحاماة من غير المحامين المسجلين في جدول نقابة المحامين العراقية، الا انه وفقا لنص احد الفقرات أن يأذن نقيب المحامين العراقيين للمحامي غير العراقي بالتوكل في قضية معروضة أمام المحاكم العامة والخاصة في العراق،  ويتوجب ان يصدر الاذن بكل قضية بشكل مستقل وأن يوافق وزير العدل، وعليه فأن النص   لا يمنع المحامي العربي من التوكل في قضية مواطن عراقي ولكن يشترط عليه  أن يتم أستحصال موافقة نقابة المحامين العراقية  خطياً على هذا التوكل في كل قضية وترتبط الموافقة بالتعامل بالمثل مع بلد المحامي العربي ، فأن لم يستحصل المحامي العربي هذه الموافقة الخطية، أو لم يتقدم بطلبها  لا تسمح المحكمة له بالحضور مع المتهم أو ممارسة عمله القانوني في هذه القضية في العراق.

وأعلنت مجموعة من المحامين العرب استعدادها للدفاع عن المتهم صدام البائد، ولا مشكلة في رغبتها واستعدادها للدفاع عن الطاغية العراقي، المشكلة تكمن في أطلاق التصريحات السياسية التي تخرج عن باب اللياقة وتتعارض مع المهمة القانونية وتوقع المحامين العرب تحت طائلة القانون العراقي.

حيث دأبت هذه المجموعة على شتم أعضاء الحكومة العراقية ورئيس الوزراء وتحقيرهم ووصفهم بالعملاء وحكومة العراق بأنها غير شرعية، كما عمدت الى إهانة القضاء العراقي ونعت القاضي المختص في التحقيق بنعوت غير مؤدبة ولا تتناسب مع سمعة القضاء العراقي وحقيقة المهمة المناطة به ولا في تاريخه، ويبدو أن الطابع السياسي والإعلامي غلب على جميع تصريحات وأفعال وأعمال هذه المجموعة أكثر من الجانب القانوني، لذا لجأت هذه المجموعة الى التصريحات المهينة للشعب العراقي وأدخلوا انفسهم في دوامة تحدي الشعب العراقي وتهميش تضحياته والحط من قيمة شهداءه واستفزاز أهل المجني عليهم من ضحايا الدكتاتور المتهم.

ولم تسمع الناس من هذه المجموعة  أي تعليق قانوني أو مناقشة فقهية أو قانونية في قضية المتهم، إضافة الى أنهم استعجلوا في تصريحاتهم وإعلانهم قبل أن يكونوا وكلاء حقيقيين للمتهم، فقد زعموا أن الوكالات من زوجات وأولاد المتهمين، وأنهم لم يلتقوا بالمتهمين لحد الآن، وأنهم لم يستحصلوا على موافقة نقابة المحامين العراقيين لحد الآن  بل أعلنت النقابة أن أي منهم لم يتقدم بطلب اليها حول الموضوع، وانهم لم يحضروا الى المحكمة المختصة بالتحقيق لحد الان.

أن هذه المجموعة التي اعلنت رغبتها في الدفاع عن المتهم صدام تتوزع ضمن ثلاثة أحتمالات.

الأول: أن قسم من هؤلاء المحامين من الذين يلتزمون بخط سياسي وفكري بعثي يجد في شخص صدام حسين قائداً للأمة العربية وقائداً لبلدانهم وهم ملزمين امام رفاقهم ومؤيديهم في هذا النهج السياسي ان يكونوا في مقدمة المنادين للدفاع عن الطاغية العراقي بأعتباره رمزاً لهم وعنوانا لتنظيمهم السياسي، كما أن هذا القسم من المحامين يؤدون مهمة سياسية اكثر منها قانونية، ولذا تنطلق التصريحات السياسية والعريضة التي تصرح بها هذه المجموعة أكثر من غيرها.

والثاني: ينطلق من باب كسب الشهرة والدخول في عالم الأعلام والصحافة والانترنيت والفضائيات العربية والأجنبية، بالنظر لتردد الاسم وأجراء المقابلات الصحفية والتلفزيونية، مما سيولد لهذا المحامي دعاية مجانية ومعرفة بالاسم في كل أنحاء المنطقة العربية، إضافة الى اشتهاره في بلده، إضافة الى مسايرته للخط العام الذي يعم الأوساط الشعبية في البلد الذي يقيم به من خلال نظرة تعم المشهد العربي في العداء للولايات المتحدة الأمريكية دون النظر للجانب القانوني في محاكمة الطاغية، وهذا الربط يجعل من كفة العداء الأمريكي يطغي على قضية تقليب الاندفاع للدفاع عن المتهم الطاغية العراقي.

وبالنتيجة فأن هذه المجموعة ستحقق كسباً نفسياً ومعنوياً اكثر من الكسب المادي في عملية حصولها على بريق الاسم وتداوله ضمن هذه الفترة بصرف النظر عن النتائج.

أما الفريق الثالث :  فلا يعدو كونه الا أمين بالحصول على مكاسب مادية كبيرة توفرها عائلات المتهمين من الأموال الوفيرة التي غنمتها من العراقيين حين كان المتهمين في رأس السلطة وبالطرق غير المشروعة وغير القانونية، وهذه المجموعة لا يهمها سوى المنفعة المادية التي تحققها هذه الوكالة في الدفاع عن أي متهم مهما كانت اتهاماته ومهما كانت قضيته والخصم فيها ونتيجة الحكم.

وإذا كان فريق الدفاع عن المتهم صدام جميعهم من العرب إذ لم يتقدم أو يتطوع محامي عراقي واحد، فأن الأمر جدير بأن يجلب الانتباه  والتدقيق، ولذا فأن على فريق الدفاع عن المتهم صدام وهم من المحامين العرب  أن يتقدموا بطلب إلى نقابة المحامين العراقيين تطلب موافقتها على العمل بالترافع أمام المحاكم والدفاع عن المتهم صدام في العراق، وسيتم النظر في طلبهم وعلى الأغلب أن النقابة ستوافق على الطلب الذي لن يغير من الحقائق شيئاً ولا يمكن للمحامي العربي أن يقلب الحقيقة أو أن يكون ظهيراً للباطل بالنظر لتعارض الأمر مع شرف المهنة وضمير المحامي الذي يدفع باتجاه كشف الحقيقة، إضافة الى كون القضية المعروضة أمام القضاء العراقي وهو مؤسسة نظيفة وفاعلة وعريقة تتمتع بسمعة وتاريخ مشهود ومشرف  لا تستحق الإهانات والتسخيف الذي طالها من مجموعة  صغيرة من المحامين العرب، إضافة الى طعنهم بشرعية المحكمة مثلما طعنوا بشرعية الحكومة المؤقتة التي أعترف بها المجتمع الدولي بما فيها دولتهم التي يعملون بها، وسيطعنون بكل حكومة ومحكمة تتشكل في العراق مستقبلاً مادامت لم تحظ بموافقة وبركات الطاغية المتهم.

ستوافق نقابة المحامين العراقية على منح الزملاء المحامين العرب موافقتها، وسيحضر المحامين العرب الى العراق ولا مبرر لإجبارهم أن يزوروا ضحايا المقابر الجماعية ولا أجداث الشهداء وضحايا النظام السابق، ولا يخصهم أن يتلمسوا ضحايا الأنفال وحلبجة الشهيدة،أو يتعرفوا على ضحايا الكيمياوي،  ولا أن يستمعوا الى الجرائم المرتكبة بحق الكرد الفيلية أو عوائل ضحايا الاغتيالات السياسية، وليس من مهمتهم أن يطالعوا تخريب البيئة العراقية وجرائم الحروب العراقية الإيرانية أو حرب احتلال الكويت وإعدام المدنيين من الأسرى الكويتيين،  وليس من اختصاصهم أن يتعرفوا على الخيانات الوطنية في هزائم العراق وتوزيع مياهه واراضية أسلاب للغير، ولا في جرائم التطهير العرقي والتسفيرات التي شملت الشيعة من اهل العراق، ولا في قتل علماء الدين الشيعة ورموزهم الفكرية، وليس من مهمتهم مناقشة قضية الاستحواذ على أموال  الخزينة والتفريط بمال العراقيين في الرشاوى وشراء الذمم، ولا في الخروقات الدستورية والقانونية التي أرتكبها المتهم حين كان يشغل منصب الرئيس في العراق، ولا في قضايا القتل الشخصي التي ارتكبها المتهم شخصياً او بالواسطة بحق العراقيين.

ليس أمام المذكورين سوى الدفاع عن موكلهم في القضايا المنظورة امام محكمة التحقيق والمحكمة الجنائية المركزية في حال الإحالة وتوفر الأدلة  التي تكفي لهذه الإحالة، وهو حق قانوني مقرر بمقتضى   قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي المرقم 23 لسنة 71 المعدل، ومن حق نقابة المحامين العراقية أن تبت بطلبهم الترافع امام المحكمة وفقاً لنص قانوني في قانون النقابة حدد أسباب وشروط لمنح الموافقة من عدمها.

ومهما يكن الأمر ومادام القضاء العراقي حريصاً على تحقيق العدالة التي تقتضي الحرص على التطبيق القانوني السليم لنصوص القوانين، ومادام رائد الجميع أن تتم محاكمة عادلة على آثر تحقيق عادل ونزيه ومتجرد من الانفعالات والتلبيسات السياسية، فأن الأمر يقتضي شيئاً من التروي في التصريحات والهدوء والجنوح الى سلوك الطريق القانوني، لأن جميع ما حدث من تهاتر ومن تصريحات يصطدم بجدار الحقيقة ولن يؤثر في القضية التحقيقية المعروضة على قاضي التحقيق بشيء، وأن على من يريد أن يكون وكيلاً عن متهم يريد له العدالة وسلوك الطريق القانوني الأصولي وتوفير الضمانات الأساسية للتحقيق والمحاكمة العادلة، عليه أن يحترم هذه العدالة ويوقر هذه المحكمة باعتباره وعلى الأقل جزء من العدالة والمحكمة.

أن وجود محامي عراقي كردي أو عربي أو كلداني أو تركماني أو آشوري أو عربي أو أجنبي حق من حقوق المتهم، إضافة الى أنه شكلاً أساسيا من أشكال استكمال مشروعية الجلسات القضائية  وسلامتها وعدالتها ، ويجب أن يكون الهدف هو تطبيق قضائي وقانوني سليم وتدقيق وتمحيص للأدلة المتوفرة من عدمها، من خلال ما يوفره القضاء العراقي من حقوق للمتهم ومن ضرورة متابعة دقيقة لما يجري مع المتهم حتى لا تختلط الأمور على المحامين العرب الراغبين في الدفاع عن الطاغية لأي سبب من الأسباب التي ذكرناها أعلاه.

أن التحقيق مع المتهم يجري من قبل جهة قضائية عراقية مختصة بقضية التحقيق وبأشراف قاضي عراقي معين بموجب مرسوم جمهوري إضافة الى خضوعه لكل موجبات النصوص القانونية في قانون أصول المحاكمات الجزائية، كون قراراته خاضعة لطرق الطعن القانونية وفق الأصول، وجميعنا نعرف أن التحقيق يعني البحث عن الحقيقة وهو عبارة عن الإجراءات التي يتخذها شخص مخول قانوناً بقضايا التحقيق وفقاً لنصوص الأصول الجزائية ووفقاً لبقية القوانين الشكلية في ضوء ظروف القضية المعروضة أمامه تحديداً ووفقاً للمقدرة والخبرة الشخصية لإثبات وقوع الفعل وتنسيب الفعل الى فاعله ومن ثم تدقيق الأدلة وفيما إذا كانت تكفي للإحالة على المحكمة المختصة للإحالة، وفي عدم كفايتها يصار الى الإفراج عن المتهم لعدم كفاية الأدلة.

أن ما تم نشره من تصريحات للزملاء المحامين العرب لم يكن له تأثير أو قيمة في إجراءات التحقيق ولن يكون له تأثير في إجراءات المحاكمة أن صار الأمر بيد المحكمة، وهو سياق خارج الموضوع القضائي، وما يقوم به بعض الزملاء لا يمكن أن يقوموا به في بلدانهم.

القضاء في العراق محترم وشرعي ويسلك الطريق القانوني الذي يبيح له أن يقضي بأمانة وباسم الشعب مما ينبغي أن نحترم هذه المؤسسة ونوقرها ونقدم لها كل الاحترام والتبجيل لما نعرفه عنها من سمعة وخبرة وتجربة يعرفها العالم كله قبل العرب، فالمؤسسة القضائية العراقية لا يمكن الطعن بشرعيتها ولامس جوانبها وسمعتها البيضاء وجديرة بأن تكون التجارب القضائية العربية تحذي حذوها في السلوك والعلمية القانونية والاجتهاد والسوابق القضائية، كما أن على الجميع أن يتمعن في التجربة القضائية الكردستانية في العراق والتي شكلت مفخرة ومأثرة أخرى من مآثر الكرد في العراق، مما يوجب أن ننحني إجلالا لهذه التجارب التي لم تخضع للسلطات الغاشمة والقمعية والدكتاتورية  ولا خنعت أو قبلت أن تكون من المؤسسات التي يمتطيها الطغاة في كل بلد من البلدان العربية التي ابتليت بهذا النمط من السياسيين.


الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي(3)

ميثم الجنابي

إن تحويل هذه الهوية الثقافية إلى مرجعية سياسية وطنية هو الكفيل بصنع آلية متجانسة للقومي والوطني في العراق على أسس ثقافية وليس عرقية. وهي آلية تضمن إمكانية المساهمة الفعالة في بناء أمن المنطقة، واستقرارها السياسي والقومي، وتوحيد مكوناتها التاريخية الثقافية. وهي عملية معقدة ومتداخلة وذات مسؤوليات مشتركة من جانب مختلف القوميات والأعراق والأديان والطوائف. بمعنى انها مرتبطة أساسا بالمدى الثقافي في الرؤية القومية والعرقية والدينية والطائفية (أو بصورة أدق المذهبية) تجاه النفس والآخرين من جانب الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والفكرية.

وهي فكرة تتحقق أبعادها الاستراتيجية بالنسبة لبناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني في حال تأسيسها على ما ادعوه بفلسفة الاستعراق، بوصفه الإطار الذي يضمن للعراق إمكانية العمل الموحد انطلاقا من أن الأبعاد القومية القصوى فيه لا ينبغي أن تتعارض مع هويته الوطنية الخاصة. وهي الفكرة التي يشكل فيها الاستعراق فلسفة الحد الأدنى الضروري والعام للوحدة الوطنية. والمقصود بذلك الفكرة القادرة على توفير الشروط الضرورية لوحدة الدولة والمجتمع. مما يعطيها على الدوام أهمية وفاعلية سياسية آنية ومستقبلية أيضا. انطلاقا من أن كل شئ فيه، و كل فعل، ينبغي أن يخدم ديناميكية تكامله الداخلي من اجل تجاوز الخلل البنيوي القائم في تاريخ وآلية الدولة العراقية الحديثة. وبالتالي فإن أي نشاط يتعارض مع مضمون واتجاه الاستعراق سوف يؤدي بالضرورة إلى الاندثار الفعلي من واقع العراق وتاريخه.

والقضية هنا ليست فقط في أن أي فعل من هذا القبيل محكوم عليه بالفشل بسبب الوحدة التاريخية الثقافية لأرض الرافدين، بل ولان أية قوة تظهر عليه ينبغي أن تعمل من اجله، وإلا فإنها ستنقرض بالضرورة. فهو القدر الذي كوّن العراق والقائم في أقدار توازنه الداخلي. وذلك لان هوية العراق تاريخية ثقافية وليست قومية أو عرقية. وبالتالي فان أية محاولة للنظر إليه من وجهة نظر القومية أو الأرض أو العرق هي رؤية لا معنى لها وضعيفة المحتوى وسهلة التفنيد. وهو المقصود بعبارة (القدر الذي كوّن العراق). وفي هذا يكمن أيضا معنى (أقدار توازنه الداخلي). بمعنى أن كل محاولة تقف بالضد أو خارج مكوناته التاريخية الثقافية تؤدي في نهاية المطاف إلى خلخلة أوزانه الداخلية. وهي أوزان ثقافية من حيث الجوهر. أي أن أية محاولة (قومية) أو (عرقية) في إعادة تقسيمه أو انتزاع جزء منه أو بناء نظامه السياسي عليها، تحت أية حجة كانت، سوف تؤدي بالضرورة إلى إثارة ردود فعل مشابهة من حيث مظاهرها (القومية) و(العرقية)، مع ما يترتب على ذلك من دمار هائل للقوى الحية في المجتمع. حينذاك سوف يتخذ الصراع طابعا يتجاوز صراع السلطة مع

(الاقليات)، بل يتحول إلى (صراع قومي) و(عرقي). وهو أمر يتنافى مع مجمل الحكمة التاريخية للعراق. كما انه مؤشر على ان القوى القائمة وراء هذه التصورات والأعمال لا علاقة جوهرية لها بالعراق بوصفه كينونة تاريخية ثقافية.

إن إدراك هذه الحقيقة يؤدي أولا وقبل كل شئ إلى الانفتاح على النفس، ومن خلالها على الآخرين. وهو الأسلوب الوحيد القادر على بناء مؤسسات الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. كما انه أسلوب تحرير النفس من أسر العرقية عبر الانتقال بها إلى مصاف الرؤية الثقافية للنفس والآخرين. وهو الأمر الذي يشير إلى أهمية إدراك الأبعاد العملية (الأيديولوجية) للاستعراق، أي النظر إلى الاستعراق باعتباره أيديولوجية الكينونة العراقية التي يمكن أن تتعايش فيها جميع القوميات والأعراق والأديان والمذاهب بصورة متساوية ومنسجمة. وهي أيديولوجية تهدف إلى إرساء أسس الرؤية الثقافية للوطنية الكبرى، أي الوطنية التي تذلل الأبعاد العرقية والقومية الضيقة والطائفية عند الجميع دون إلغاء المقومات الخاصة بوصفها مكونات مهمة للثراء الثقافي للعراق. بمعنى تأسيس نوع من المرجعيات المتسامية عن المكونات الجزئية للعراق أيا كان نوعها وحجمها، عبر تخليصها وتحريرها من بقايا العرقية والتاريخ القومي الضيق. أننا نعرف بان الأحداث التاريخية أيا كانت هي خط فاصل بين قوتين ونوعين من الوجدان. إذ بإمكان حادثة واحدة  أو شخصية تاريخية معينة أن تثير الاستحسان والاعتزاز والفخر عند طرف، والإدانة والتسخيف والحزن عند الطرف الآخر. إذ يعتبر الأكراد على سبيل المثال، شخصية بدر خان إحدى أهم الشخصيات القومية التاريخية عندهم، بينما يعتبره الكلداآشوريين إحدى الشخصيات الأكثر دموية وإبادة لهم، تماما كما يعتبر الأكراد صدام انموذجاً للإبادة والدموية، بينما اعتبره البعض (بطلا قوميا). وهي إشكالية يصعب حلها ضمن حد الرؤية القومية الضيقة، لكن يمكن قبولها في حال وضعها ضمن الإطار المعقول والمقبول للوطنية الكبرى. بمعنى البحث عن نماذج معقولة ومقبولة من الناحية التاريخية والقومية والثقافية للفكرة الوطنية الكبرى. وهو موقف يمكن تطبيقه على مختلف جوانب الحياة والتاريخ. ذلك يعني أن مضمون الاستعراق هنا يتطابق مع أيديولوجية الوطنية الكبرى، المبنية على أساس الوطنية الثقافية، القائلة، بان العراق ليس تجمع أعراق، بل وحدة تاريخية ثقافية. وهي وحدة لها أسسها الخاصة وممكنة التحقيق في ظروف العراق الحالية في حال وضعها ضمن المسار العام لما ادعوه بمعاصرة المستقبل. أي أن تكون مرجعياته مستمدة من الرؤية الثقافية البديلة، وليس من حثالات التاريخ المنقرض. وهي مرجعيات ممكنة التحقيق في حال تذليلها طموح الطابع الجزئي لمكونات وعناصر القومية والعرقية والمذهبية في الوعي السياسي والاجتماعي والقومي. ويفترض في ظروف العراق الحالية التحرر من قواعد

اللعبة السياسية واليات طموحها النفعي الضيق، كما نراه الآن عند اغلب الأحزاب السياسية العراقية الحالية، (القومية) منها و(الأممية)، الدينية والدنيوية. إذ عوضا عن أن يجري التعامل مع الأشكال المتنوعة للعمل السياسي من اتفاق واختلاف ومهادنة ومساومة على انها أساليب سياسية ضمن المسار العام الهادف لترسيخ قواعد الحياة الديمقراطية، فإنها تصبح جزءاً جوهريا في لعبة المؤامرة والمغامرة.

إن لهذا النقص الجوهري والخلل البنيوي في التفكير والعمل السياسي المعاصر في العراق أسبابه الواقعية الناتجة عن تدمير فكرة الدولة ومنظومة المؤسسات الشرعية، وسحق اغلب مكونات المجتمع المدني، وغياب التقاليد الديمقراطية، واستفحال النزوع الاستبدادي، وضعف الرؤية الاستراتيجية عند الحركات السياسية قاطبة. وهي نتائج تجد انعكاسها المباشر وغير المباشر في صعوبة، بل استحالة بلوغ ما يمكن دعوته بالحالة الوطنية الكبرى بسبب الانكسار والتهشيم والتهميش الذي تعرضت له الكينونة العراقية وهويتها الثقافية. الا أن العراق يحتوى في تاريخه الثقافي على مكونات مرجعية في ميدان القومية والسياسة والتاريخ قادرة على انتشاله من هذا الضعف الجوهري والخلل البنيوي المؤقت الذي يعاني منه الآن. إذ يمكن تحويل الوطنية الكبرى إلى مرجعية للفكرة القومية في العراق، بمعنى جعل الاستعراق الحد الأقصى للقومية فيه. أما مرجعية السياسة فهي فكرة الشرع والشرعية، في حين يمكن جعل وعي الذات الثقافي مرجعية وعي الذات التاريخي الوطني والقومي.

وهي مرجعيات تهدف في نهاية المطاف إلى تذليل النزعة العرقية ومختلف أصناف اللاعقلانية كالأرض والدم وأشباهها في المواقف القومية والوطنية والاجتماعية والسياسية. وهي بقايا يمكن العثور عليها بوضوح فيما يسمى بقانون إدارة العراق المؤقت، حيث نعثر عليها في إحدى المواد(58) النقطة الرابعة في (ب) و(ج)  التي تتكلم عما تسميه (بتلاعب النظام السابق بالحدود الإدارية بغية تحقيق أهداف سياسية). من هنا مطالبتها بالعمل من اجل حل لذلك من الجمعية الوطنية. وفي حالة عدم التوصل إلى حكم عادل يتفق عليه الجميع! أو في حالة تعذر ذلك(!) (فعلى مجلس الرئاسة أن يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تعيين شخصية دولية مرموقة للقيام بالتحكيم المطلوب). كما تدعو إلى تأجيل (التسوية النهائية للأراضي المتنازع عليها)(!) ومن ضمنها كركوك(!). بل إننا نعثر في الصيغة الأولية للنص كلمات (سكان الأرض الأصليين)! وهي أفكار يتضح منها بقايا الرؤية العرقية والقومية الضيقة، التي عادة ما تميز في المرحلة الأخيرة المواقف الصريحة للحركات القومية الكردية قاطبة! والقضية هنا ليست فقط في جعل (الحدود الإدارية) داخل الدولة موضوعا للجدل السياسي والقومي، بل ومحاولة (تدويلها) من خلال الرجوع إلى (هيئة الأمم المتحدة) و(التحكيم) في حال (عدم الإجماع)

على الحلول! وينطبق هذا على فكرة (الأراضي المتنازع عليها) و(بضمنها كركوك)، والدعوة إلى الاسترشاد (بالسكان الأصليين)؟! فهي جميعا عبارات تدل على رؤية قومية ضيقة للغاية وتفتقد إلى ابسط مقومات الشرعية والرؤية القانونية، دع عنك افتقادها الشامل للرؤية الوطنية العراقية. فهي لا تفعل في نهاية المطاف الا على إثارة النزوع القومي المتطرف عند الجميع. إضافة إلى إثارة قضايا لا تحصى حول التاريخ المعاصر للحركات القومية الكردية ومعنى سلوكها في ظل المرحلة السابقة واتفاقاتها مع الطغمة الدكتاتورية وشرعية ما كانت تقوم به، إضافة إلى مستوى شرعية وطبيعة المواقف والاتفاقات التي أبرمت سابقا من وجهة نظر الحركات القومية العربية والوطنية العراقية الحالية والمستقبلية. ثم من هم (السكان الأصليين) في العراق؟! وما معنى شمال العراق أو (كردستان) العراق من وجهة النظر التاريخية والثقافية للسكان الاصليون، أي للآشوريين وأحفادهم. فهم ليسوا (هنودا حمر) ولا (سكان استراليا الأصليين)، وما معنى العراق العربي والعراق العجمي في الرؤية التاريخية العربية الإسلامية، وأين محل (أهل الجبل) أو (الكرد) منهما بالمعنى التاريخي والثقافي والجغرافي والقومي. إضافة إلى المئات من القضايا الأخرى التي لا يمكن حلها في نهاية المطاف الا بالقوة في حال تثوير خلافات الأرض على أسس قومية وعرقية.

كل ذلك يشير إلى أن الصراع من اجل الأرض في العراق هو صراع مزيف لا معنى له. والقضية ليس فقط في أن الأرض في العراق لم تكن في يوم من الأيام قومية، حتى قبل مجيء الأكراد إليها بآلاف السنين، بل ولطبيعة التراكم التاريخي الثقافي فيها الذي يحيل إمكانية تملكها القومي. ويكفي المرء إلقاء نظرة على الخرائط التي يرسمها التركمان والأكراد والآشوريون لشمال العراق ليرى بأنها الأرض نفسها! وهو واقع يشير إلى انها ارض ثقافية، بمعنى انها حصيلة تراكم تاريخي هائل ليس وجود الأقوام عليها اكثر من تمثيل أدوار مختلفة ومتنوعة من حيث تأثيرها وقيمتها المحلية والعالمية. أما في الواقع، فان قيمتها الفعلية والاستراتيجية مرتبطة بقيمة العراق ومكوناته الرافدية العربية الإسلامية، أي القيمة التي جعلت من حق (تملك) الأرض قوميا وعرقيا فعلا لا قيمة له. وجعلت من قيمة العيش عليها وفلاحتها مضمون الوجود الإنساني. وهي الفكرة التي تنبغي إعادة تفعيلها فيما أسميته بالمرجعية الثقافية للوطنية الكبرى في العراق أو الاستعراق. وذلك من خلال التأسيس للفكرة القائلة، بان حقائق (الأرض) هي حقائق الثقافة فقط وليست وقائع الانتشار السكاني. أي أن (الحفريات) الوحيدة الممكنة هنا هي حفريات الذاكرة التاريخية المدونة في العمارة والفن والمدن والأنهار والسدود والمزارع والكتابة والفن والنقوش، وليست بقايا العظام والجماجم ومدى انتشارها. فهي الرؤية التي تحرر الجميع من حق الملكية القومية والعرقية للأرض في العراق وتنفي إمكانية ظهور

مشكلة (الأرض المتنازع عليها) أو (تدويلها) وما شابه ذلك من نماذج الانتهاك الفض للقانون والحقائق التاريخية والثقافية والوطنية. فهي الرؤية التي تضمن بقاء المجتمع العراقي ضمن الهوية التاريخية الثقافية عن القومية والعرق والدين والطائفة وبالتالي إرساء أسس الرؤية العقلانية والأخلاقية، مما يؤدي بالضرورة إلى إدراك قيمة الحق و الحقوق في نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والقومية. حينذاك يصبح الاستعراق نمطا عاما للحياة وضمانة للبقاء ضمن الهوية التاريخية الثقافية للعراق مع الاحتفاظ الجميل بالأصول القومية الذاتية له.

إن مرجعية الاستعراق بالنسبة للوعي السياسي الاجتماعي والقومي في العراق لا تكمن فقط في طابعها العملي والعقلاني، بل وفي قدرتها على تكوين نمط خاص ومتميز للعراق في المنطقة. وهي مهمة معقدة نسبيا، لكنها ضرورية بالنسبة لاستراتيجية معاصرة المستقبل. وبهذا المعنى يمكن لنمط الحياة هذا أن يكون انموذجا يحتذى به لحل القضايا القومية العالقة، وضمانة لحرية واستقلال المنطقة ودورها الفعال على المدى البعيد. وفي هذا السياق يمكنه أن يكون ضمانة البقاء الفعلي ضمن الهوية التاريخية الثقافية. لاسيما وأنها الهوية الوحيدة القادرة على توليف القيم المتسامية في التنوع القومي والثقافي. أما الخروج على الاستعراق من حيث كونه أيديولوجية ونمط حياة فهو رجوع إلى العرقية، ومن ثم فهو خروج على منطق الهوية الثقافية للعراق وعلى مكونات وجوده الجوهرية. وذلك لان الخروج على منطق الهوية التاريخية الثقافية له سوف يؤدي بالضرورة إلى السقوط في مستنقع التعصب القومي بمختلف أشكاله الشوفيني والضيق أو الانغلاق العرقي وما يترتب عليه من نفسية الانعزال ورذائلها العديدة. وفي هذا تكمن ما يمكن دعوته بالحكمة التاريخية التي لم يجر تمثلها سياسيا بصورة كافية من قبل الحركات القومية بشكل عام والراديكالية منها بشكل خاص في العراق المعاصر. وهي ظاهرة جلية في طبيعة الصراعات القائمة حاليا بين الأحزاب القومية الكردية والتيارات العراقية الأخرى. حيث نعثر عليها في الكلمة نفسها، عندما يجري الحديث عن (الأكراد) و(العراق). وهي حالة انفصام واقعية لها أسبابها العديدة، التي يتحمل مسؤوليتها، وان بمستويات متباينة، جميع القوى السياسية والاجتماعية في العراق. الا أن مخاطرها الأساسية ما بعد  سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية بدأت تتركز في الحركة القومية الكردية ومطالبها الضيقة. بمعنى نزوعها الفعلي صوب القومية الضيقة والعرقية. وهي ممارسة يمكن تفهم الكثير من بواعثها، الا أن تبريرها بأي حجة كانت يشكل خطرا هائلا للجميع. بمعنى انها تساهم في دفع الآخرين في اتجاه الخروج على الاستعراق من حيث كونه أيديولوجية وطنية كبرى ونمط حياة بديلاً، وبالتالي الخروج على منطق الهوية الثقافية للعراق وعلى مكونات وجودها الجوهرية. أما النتيجة الحتمية لذلك،

فإنها تؤدي إلى الخروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق، وبالتالي الخروج على القانون بالمعنى التاريخي والثقافي والحقوقي أيضا. وليس المقصود بالخروج على الحكمة الثقافية لتاريخ العراق سوى الجهل بقيمة التاريخ الثقافي بالنسبة لبلورة وعي الذات التاريخي القومي والوطني، وما يترتب على ذلك من جهل بقيمته السياسية. فالتاريخ هو ليس مجرد فكرة وعبرة، بل شرط معاصرة المستقبل في العراق، بفعل المأساة الشاملة التي لحقت بالعراق من جراء الخروج على مضمون الحكمة التاريخية السياسية المتراكمة فيه. وهو الأمر الذي فسح المجل أمام صعود الهامشية والراديكالية والأقلية إلى السلطة والعمل بمقاييسها الضيقة. أما النتيجة الجلية لذلك فهو خروج تام على القانون. وهي نتيجة لم تتصف بها التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية فقط، بل ومرشح لها كل من يهمل تأمل نتائجها في حال الخروج عما أسميته بالحكمة الثقافية السياسية في العراق. لان إهمالها وتجافيها يؤدي بالضرورة إلى الخروج على القانون بالمعنى التاريخي والثقافي والحقوقي أيضا.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة