أ.د. المهندس حيدر كمونة
جامعة بغداد
ينظر رجل الاقتصاد على أن قطعة الأرض عبارة عن سلعة يتاجر
بها في السوق، لذا فإنها معرضة لقانون العرض والطلب، وطبقاً
للنظرية التقليدية فإن السعر يصبح دالة للاستعمال الذي يجعل
الأرض منتجة، أي أن الأرض تنتج خدمة لها قيمة ودالة للدخل
الحقيقي أو العائد الناتج من تنمية الأرض. وبهذا تعتبر أرض
الحضر لها قيمة لأن لها انتاجية كامنة تنتج دخلاً في
المستقبل. وهذه القيمة موضوعة على أساس أي شيء يبرره المنمي
للأرض ويبرر اقتصادياً المبلغ الذي سيدفعه طبقاً لتخطيط
يفترضه لاستعمال وتنمية الأرض.
ويتأثر سوق الأرض في المدينة طبقاً لموقعها في إطار الشكل
العام لاستعمال الأرض وطبقاً لبعض المواقع الأخرى، حيث أن كل
قطعة أرض لها علاقة طبيعية مع كل القطع الأخرى. وبهذا فإن
مواقع محددة لها قيمة أعلى، مثل مناسبة بعض القطع أكثر من
غيرها لاستعمالها في السكن لوجود السوق التجارية والمدرسة
ومكان الترفيه وبهذا يكون سعرها أكثر إغراءاً. كما إن قطع
الأراضي التي تقع على الشوارع يكون سعرها أعلى نظراً
لإمكانية استعمالها لاستخدامات معينة، مثل محلات تجارة
المفرد لمناسبة موقعها بالنسبة للسابلة.
يوجد شكل مبسط لوضع هيكل أسعار الأرض في معظم المدن الصغيرة
والمتوسطة، وهو أن قلب المدينة أو وسطها الذي يمثله المركز
التجاري والحكومي والأنشطة الأخرى تكون أسعار الأرض فيه أعلى
ما في المدينة. ويمثل رجل الاقتصاد هذا السعر بجبال شاهقة
الارتفاع كجبال - الهملايا - ولما كانت الأسعار عالية جداً
لهذا نجد أن استعمالات الأرض فيه تكون مكثفة. ثم إذا خرجنا
من هذا القلب قليلاً وجدنا مواقع للصناعة وللأعمال الأخرى
وتكون أسعار الأرض لهذه الأنشطة أقل من أسعار الأرض في الوسط
ويمثلها رجل الاقتصاد هذا السعر بجبال شاهقة الارتفاع كجبال
- الهملايا - ولما كانت الأسعار عالية جداً لهذا نجد أن
استعمالات الأرض فيها تكون مكثفة. ثم إذا خرجنا من هذا القلب
قليلاً وجدنا مواقع للصناعة وللأعمال الأخرى وتكون أسعار
الأرض لهذه الأنشطة أقل من أسعار الأرض في الوسط ويمثلها رجل
الاقتصاد بالهضاب - أما المساحات السكنية الواقعة في أطراف
المدينة فإن أسعار الأرض بها أقل من السابقة ويمثلها رجل
الاقتصاد بالتلال. ولهذا تقل كثافة التنمية على أطراف
المدينة حيث تقل أسعار الأرض.
ومن هذه المناقشة يتضح أن أسعار الأرض تقل كلما بعدت المسافة
عن قلب المدينة، كما تشير بعض الدراسات أن سعر الأرض يقل
كلما زاد موقع الأرض بعداً عن الطرق الرئيسة، وبالطبع أن هذه
النظريات يمكن تطبيقها بشكل واضح على المدن الصغيرة. أما
عندما تنمو وتكبر المدينة وتتعقد فإن هذه النظريات تتعقد
أيضاً كما تتعقد العلاقات بين مختلف العوامل فمثلاً تتغير
قيمة الأرض بتغير الاستعمال، وتتغير قيمة الأرض بالمسافة أو
البعد، وتؤثر قيمة الأرض على كثافتها، وتتغير كثافة التنمية
على الأرض مع الزمن عندما تتغير قيمة الأرض.
ونخرج من هذا كله بأنه يوجد شكل عام للاستعمالات والكثافة
والقيمة وهذه العوامل متداخلة ومرتبطة مع بعضها ومع أن هذه
العوامل تبدو واضحة إلا أنه توجد عوامل أخرى مرتبطة بالنواحي
التاريخية والاجتماعية والاقتصادية تؤثر على استعمالات
الأرض.
ويمكن من دراسة التاريخ معرفة سعر الأرض، فالمواصلات مثلاً
كانت عاملاً رئيساً في تحديد سعر الأرض في العشرينيات من
القرن الماضي في بعض مدن الدول الصناعية. فمنذ البداية نشأت
المدن ونمت بشكل نسيج، ولقد تتبعت التنميات عالية الكثافة
مسار خطوط المواصلات (السكك الحديدية) وفي الثلاثينيات عندما
اخترعت السيارة أثرت في الشكل العام لعمليات التنمية. وأصبحت
هذه التنميات منتشرة كانتشار لآلئ العقد المنثور - ثم تبع
ذلك ظهور المراكز التجارية في الضواحي.
وتؤثر استعمالات الأرض في المدينة بصورة مباشرة على البيئة
السكنية إذ تبلور توزيع المحلات التجارية والحرفية نتيجة
للقوى الاقتصادية والاجتماعية دون أن يكون للقيود التنظيمية
أثر فعال في منع تغلغل تلك المحلات في المناطق السكنية. إذ
أنه من الطبيعي وجود ذلك الاختلاط (أي اختلاط التجارة
والسكن) حيث إن ذلك يتبع قانون العرض والطلب. فيوجد مثلاً في
المناطق السكنية طلب يومي ومستمر لبعض أنواع المواد والسلع
التي يتداولها بعض المحال التجارية (كالمخابز والبقالة
والقصابة) فوجود تلك المحال مندمجة مع السكن هو أمر مفروغ
منه، ولكن لا يمكننا القول بأن هناك طلباً يومياً ومستمراً
لبائعي الموبيليات والمجوهرات والحدادين مثلاً، فوجود هذه
المحال مندمجة مع السكن ليس بالضروري، خاصة أن بعض تلك
المحال (كالحداد والنجار) يسبب الإزعاج للسكان الذين يقطنون
بالقرب منها. هذا ويمكننا التكهن بالأسباب التي أدت إلى وجود
الحرف الثقيلة في المناطق السكنية أهمها هو ارتفاع نسب
الإيجارات في المناطق التجارية الرئيسة للمدينة وسبب آخر هو
قرب مكان العمل من البيت الذي يسكنه صاحب العمل عدا إن تلك
المحال تكون فرعية وليست لها صفة رئيسة، وتكون أحياناً مكان
عمل فقط حيث لا تباع المنتجات فيها مباشرة وإنما تعرض في
المحال الرئيسة المعدة لذلك ولغرض البيع.
وعلى سبيل المثال نجد بأن قيمة الأرض في مركز مدينة بغداد قد
ارتفع نتيجة عوامل متعددة يمكن إجمالها بما يلي:
- برزت بعض الفعاليات إضافة إلى السكن مثل المباني التجارية
وتجارة الجملة والأعمال والورش والمخازن، والتي ظهرت في فترة
لا يوجد للتخطيط الحضري في القطر أية مفاهيم واضحة ولا
قوانين رادعة تسيطر على استعمالات الأرض في المدينة.. حيث أن
المالك لا يهمه سوى الربح والاستفادة المادية التي يجنيها في
حالة تأجيرها كورشة أو مخزن جملة أو معمل صغير بدلاً من
استعمالها كسكن. وأدى ذلك إلى تغيير موازنة استعمال الأرض
وجعلها ذات استعمالات مختلفة، وهذا أدى إلى تنافس هذه
الاستعمالات فيما بينها وسبب رفع قيمة الأرض في مركز مدينة
بغداد.
- لقد أدى هذا الاختلاط في استعمالات الأرض في مركز المدينة
إلى هجر المالك الأصلي الذي كان ساكناً في تلك المنطقة،
خصوصاً أصحاب الدخول العالية إلى منطقة الضواحي وفي نفس
الوقت ظهر طلب واضح على تلك المساكن من قبل ذوي الدخول
الواطئة وأصحاب المحال التجارية لاستخدامها كورش أو مخازن أو
مبان تجارية أو مكاتب وغير ذلك. وهذا أدى إلى تغيير في
التراكيب الاجتماعية والاقتصادية للسكان.
- إن الموقع المتميز لمركز مدينة بغداد أدى إلى زيادة الطلب
على الأراضي الواقعة فيه وذلك لقربها من جميع الفعاليات
والخدمات الأخرى ولسهولة التحرك والانتقال بين أجزائه.
من هنا يتبين أن وجود الحرف والمحال التجارية التي ليست لها
علاقة وثيقة بالمناطق السكنية ليس لإيفاء متطلبات تلك
المنطقة ولكن لأسباب اقتصادية سلبية. لذا فإن وجود تلك
المحال في المناطق السكنية شيء غير طبيعي ومفتعل، وهنا يجب
تدخل القوى التنظيمية لفصل تلك المحال عن السكن وإيجاد أماكن
ملائمة لها.
هناك علاقة وثيقة بين الأرض كعاملاً اقتصادياً والتطور
الاقتصادي للبلد، وذلك لأن قيمة الأرض واستعمالاتها يؤثران
على عملية التطور الاقتصادي الذي يكون مصحوباً بالتصنيع
والتحضر العالي وكلاهما يؤثران على قيمة الأرض واستعمالها.
إن أي بلد يمر بمرحلة تطور في اقتصاده في مجالات التصنيع
والعمران وغيرها سوف تتزايد طلباته على الأراضي المخصصة
لتشييد المدارس والأبنية الصحية والخدمية والشوارع ومواقف
السيارات والمباني العامة وغيرها.
إن زيادة الطلب على الأراضي المخصصة للفعاليات الأخرى في
حالة عدم وجود تخطيط للمدينة.
هناك ناحية أخرى تجاهلتها الأنظمة المعمول بها وهي عدم
اعتبار عامل الاهتزاز حيث ظهر أن هناك بعض الأمراض العصبية
التي يكون لهذه الاهتزازات دور في حدوثها. كما إن هناك
عاملاً آخر قد أهمل أيضاً وهو حركة التحميل والتفريغ مما أدى
إلى وجود المستودعات في الشوارع الرئيسة مما يؤدي إلى الضجيج
وعرقلة السير في هذه الشوارع خاصة في المناطق القريبة من
مركز المدينة.
إن اصحاب العقارات والأراضي لا يهمهم طريقة استعمالات
الأراضي وإنما يستغلون الفضاء لأجل الحصول على أكبر كمية من
الربح للعقارات التي يملكونها، سواء عندهم ما إذا استعملت
البناية للسكن أو المكاتب أو خليط بين الاثنين. فنجد الخياط
بجوار عيادة الطبيب ومكتب المحامي والمهندس والبقال والورشة،
وكل هذا في بناية واحدة، ويحدث هذا الخليط في استعمال
الأراضي في وسط المدينة، حيث الإغراء التجاري. فنجد أن كل
طابق في البناية فيه استعمال يختلف عن الطابق الذي يليه
فهناك المحال التجارية والمقاهي على اختلاف أنواعها في
الطابق الأرضي للبناية كما قد يحتل الطابق الأول المصانع
الصغيرة مثل الأحذية والمحافظ ومكاتب تجار الجملة وإلى غير
ذلك. وتشغل الطوابق الأخرى عيادات الأطباء ومكاتب المحامين
والمهندسين ومكاتب الأعمال التجارية، ونجد أن الطوابق
العلوية مشغولة لغرض السكن.
|