(1-4)
د. توفيق
المراياتي
بعد ان وضعت
الحرب العالمية الثانية اوزارها عام 1945 وما حصل في الدول
الاوربية من خراب ودمار اقتصادي واجتماعي على يد القوات
الالمانية، اعلن الجنرال جورج مارشال عام 1947، والذي كان
وزيراً للخارجية الامريكية آنذاك في خطاب له القاه في جامعة
هارفرد، بان الولايات المتحدة قررت تقديم القروض والمنح
لجميع الدول الاوربية، حيث قال أن أية حكومة اوربية ترغب ان
تساهم في جهد ( الانعاش الاوربي ) ستلقى منا كل عون
ومساعدة.
وفي 22 حزيران
عام 1947 أمر الرئيس الامريكي ترومان بتأليف ثلاث لجان في
تحري مقادير الثروة العامة الامريكية وتقدير امكانية
الولايات المتحدة في تحقيق مشروع مارشال والبحث فيما اذا كان
المشروع يلحق اذى او ضرراً في الاقتصاد الامريكي.
وقد قدمت
هذه اللجان الثلاث تقريرها في اليوم السابع من شهر تشرين
الاول عام 1947 واجمعت على رأي واحد وهو ان الموارد
الامريكية كافية لتمويل وتحقيق مشروع مارشال اضافة الى ذلك
ان المصالح الحيوية للولايات المتحدة تقضي التوسع في هذا
المشروع ورصد اكثر من الاعتمادات المرصودة لحسابه حالياً.
وبعد اعلان
مشروع مارشال اجتمع وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا لتنظيم
دعوة الدول الاوربية التي تنوي ان تشارك في المشروع ثم انضم
اليهما وزير خارجية الاتحاد السوفيتي، غير ان الاتحاد
السوفيتي رفض الاشتراك في مشروع مارشال وشاركه في رفضه جميع
دول اوربا الشرقية اذ انه أراد ان تقتصر القروض والمنح
الامريكية لغرض الانعاش الاقتصادي فقط وان تتخير كل دولة
كيفية الاستفادة من تلك القروض دون الرجوع الى البرامج التي
وضعتها الولايات المتحدة لهذا الغرض، وعدم التقيد بالمبدأ
الذي اعلن عنه جورج مارشال والقائل : بأن من اهم شروط مشروع
الانعاش الاوربي الانتفاع بمساعدة الولايات المتحدة او
بالاحرى اشراك امريكا في صرف الاعتمادات المرصودة للدول
الاوربية وتعيين الوجوه التي يجب ان تصرف فيها تلك
الاعتمادات.
ولم يكن لرفض
الاتحاد السوفيتي كبير الاثر على بريطانيا وفرنسا، أذ سرعان
ما دعت هاتان الدولتان الدول الاوربية الاخرى للاشتراك في
المباحثات لوضع الخطط المشتركة للدول الاوربية لمشروع
مارشال، وقد قبلت هولندا، النمسا، النرويج، ايطاليا،
اليونان، الدنمارك، لوكسمبورغ، البرتغال، السويد، البلجيك،
ايرلندا، تركيا، آيسلاندا وسويسرا، دعوت بريطانيا واشتركوا
جميعاً في وضع الاسس لكيفية صرف المبالغ وتحديد الاتجاهات
الاقتصادية الجديدة لأوربا حسب رغبة الولايات المتحدة.
وفي 23 /
تشرين الثاني عام 1947 دعا الرئيس الامريكي ترومان مجلس
النواب والشيوخ لعقد جلسة استثنائية وقدم لهما مشروع مارشال
للموافقة عليه وطلب اقرار مبلغ ( 17 مليار ) دولار توزع على
الدول الاوربية بصفة قروض ومنح، يضاف الى ذلك قرض قدره اربعة
مليارات دولار تسحب من البنك الدولي. وقد تمت موافقة مجلس
الشيوخ والنواب على مشروع مارشال.
هذه لمحة
تاريخية عن الخطوات التي سبقت اقرار مشروع مارشال، وعلينا
ان نتساءل الان عن الدوافع والاسباب التي حدت بحكومة
الولايات المتحدة الى انفاق مبالغ ضخمة كهذه ورصد اعتمادات
سخية لحساب الدول الاوربية. فهل كان اقدام الحكومة
الامريكية على اتباع مثل هذه السياسة الاقتصادية تجاه
اوربا عملاً انسانياً، وهل هدف امريكا الاول انقاذ اوربا من
حالة الشقاء والبؤس التي كانت تتخبط فيها، ام هناك فوائد
اقتصادية وسياسية تبتغي الطبقة الصناعية والمالية الامريكية
الحصول عليها عن طريق مشروع مارشال ؟
عندما وصل
الرئيس روزفلت الى سدة الحكم ممثلاً عن الحزب الديمقراطي،
فأنه سعى الى توسيع التجارة الامريكية مع الدول الاوربية
بصورة خاصة والعالم بصورة عامة، حتى اصبحت اوربا القارة
التي تستورد الجزء الاكبر من الصادرات الامريكية، حيث شكلت
الصادرات الامريكية الى الدول الاوربية عام 1937 نسبة 41% من
مجموع صادرات الولايات المتحدة الى العالم. اما نسبة
الواردات الامريكية من السلع الاوربية فلم تتعد سوى 15% من
مجموع ما تستورده من بقية انحاء العالم في نفس العام.
وهذه الحقيقة
تظهر ان اوربا وحدها كانت تستورد ما يقارب من نصف الصادرات
الامريكية للعالم فلا عجب ان نرى الولايات المتحدة تنصب
سياستها عن طريق مشروع مارشال على تمكين اوربا من العودة
سوقاً تجارياً لها.
وهكذا يتضح ان
السياسة الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة الامريكية ليست سوى
برنامج من البرامج الاقتصادية التي وضعتها الرأسمالية
الامريكية لتوسعها الاقتصادي، وما مشروع مارشال سوى حلقة من
حلقاتها، ولكنها حلقة اكثر تنظيماً واوفى درساً، اذ انها
جاءت وليدة اختبار طويل ولهذا فرضت الولايات المتحدة على كل
دولة تشترك في مشروع مارشال ان توقع معها اتفاقيات
اقتصادية تخول الولايات المتحدة مراقبة الانشاءات
والمشروعات الاقتصادية الاوربية، بحجة اعادة اعمار اقتصاد
اوربا الصناعي والزراعي واعادته الى المكانة التي كان
يتبؤها قبل الحرب.
ان حكومة
الولايات المتحدة تعتبر مشروع مارشال مفتاح سياستها للتوسع
الاقتصادي والسياسي في اوربا فقد تمكن هذا المشروع من فتح
اوربا التي ظلت مدة طويلة من الزمن مقفلة في وجه رؤوس
الاموال الامريكية والسماح للاستثمارات الأمريكية للعمل
والنشاط في الحقل الاقتصادي الأوروبي، كما ان الرساميل
الامريكية التي جتنتها الطبقة الرأسمالية خلال الحرب
العالمية الثانية ستتمكن من التدفق على اوربا وتحدد
الاتجاهات الاقتصادية التي تنوي الدول الاوربية انتهاجها،
لأن الصناعات الاوربية مثلما هو الأمر بالنسبة لكل المشاريع
الاقتصادية تحتاج حين نشأتها او اعادة اعمارها الى رؤوس
اموال تتلاءم والمقدار التوسعي المرسوم لها، وعندما يبدأ
القائمون على هذه المشروعات بالعمل فيها، يجدون ان المال
ينقصهم لإنجازها، فيلجأون الى القروض الاجنبية او توظيف
رؤوس اموال اجنبية فيها.
ولم يكن
باستطاعة الدول الاوربية بعد الحرب الاخيرة وهي تعاني
افلاساً شديداً في شتى مرافقها الاقتصادية من تنمية ثرواتها
الصناعية والزراعية ، دون ان تعتمد على الاستثمارات
الامريكية بالعمل والنشاط في الحقل الاقتصادي الاوربي.
وهناك من
الحقائق التاريخية والاقتصادية التي يجب عدم نسيان ذكرها في
هذا الخصوص، وهي ان الولايات المتحدة لم تشارك في الحرب
العالمية الثانية، إلا بعد فترة حياد امتدت بين عامي 1939
و1941، مما أفاد الاقتصاد الأمريكي كثيراً، وكأن فرانكلين
روزفلت كان ينتظر بيرل هاربر في السابع من كانون الأول 1941
ليجر الولايات المتحدة إلى الحرب، وهذا ما نجح ولمع في
القيام به الرئيس الأمريكي وود ريي ويلسون عندما تقيد
بحيادية واشنطن بين عامي 1914 و1917 في الحرب الكونية
الأولى، لهذا فإن الولايات المتحدة كانت الممول الاكبر لجيوش
الحلفاء باحتياجاتها المختلفة والعسكرية منها بالذات اثناء
حربها ضد الجيوش الالمانية الغازية.
|