بعض المعتقدات الاجتماعية الخاطئة
حول العلاج النفسي
د.هيثم الزبيدي
يعاني مفهوم
(العلاج النفسي) من التباس كبير في أذهان شريحة واسعة من
أفراد المجتمعات العربية والنامية عامة ومجتمعنا العراقي
خاصة.ولعل هذا الالتباس مرده الفصل أو العزل الذي تقيمه
العقلية الشرقية بين مفهومي (الجسد) و(النفس).فقد اعتاد
الناس في مجالسهم حينما يكون بين الحضور طبيب مختص بالأمراض
الجسمية،أن يدور الحديث حول بعض هذه الأمراض وعن الجديد الذي
توصل اليه الطب،ويتسابقون بكل جرأة وبمسمع من الجميع،على
الاستفسار الدقيق عما يعانونه هم أو ذووهم من أمراض.فقد
يشكو أحدهم من مرض السكر الذي أرهق أمه،وقد يشكو الثاني من
ارتفاع ضغط الدم الذي أصاب والده بجلطة دماغية.فتتوالى
شكاوى الحاضرين تباعاً دون شعور بالاحراج أو الخجل.ولكن في
المقابل،اعتاد أغلبية هؤلاء الناس أن لا يفعلوا الشيء نفسه
اذا كان الحاضر استشارياً نفسياً،اذ غالباً ما يتكتمون على
أي اضطرابات نفسية يعانون هم أو ذووهم منها.واذا تحدثوا
عنها،فغالباً ما يكون ذلك على سبيل الاستغراب
والسخرية،تفادياً لتلك النظرة الدونية التي ربما ينظر بها
بعض الحاضرين اليهم.كما يلاحظ في حالات كثيرة،أن المضطرب
النفسي أو ذويه يهون عليهم أن يعترفوا بأن ما اعتراهم من علل
نفسية انما كان بسبب الجن او السحر أو الحسد،وليس بوصفها
أمراضاً نفسية،ذلك لأنهم يرون أن تلك الامور الغيبية انما
حدثت بفعل اعتداء عليهم لا ذنب لهم فيه مما يعطيهم الحق في
المعاناة,أما الاعتراف بالمرض النفسي فمعناه عندهم الاعتراف
بالنقص والقصور وقلة القيمة.
ويمكن أن نحدد
مجموعة من الأفكار والاتجاهات الخاطئة واسعة الانتشار في
حياتنا الاجتماعية،والتي وجدنا عدداً غير قليل من الناس
يحملونها في أذهانهم عن الاضطراب النفسي والعلاج النفسي على
حد سواء،مما يجعلهم سلبيـين في نظرتهم وتعاملهم مع هاتين
الموضوعتين المهمتين،الأمر الذي يترك أثراً مؤذياً على صحتهم
النفسية:
المعتقد الخاطئ
بأن العلاج النفسي مجرد جلسات كلامية
يعتقد الكثير
من الناس بعدم الحاجة الى المعالج النفسي،فيستعيضون عن ذلك
ببعض الحوارات البسيطة التي يجرونها بأنفسهم مع المريض
النفسي بهدف طمأنته ليس الا،مستبعدين أي امكانية للاستعانة
بالمعالج النفسي لخوفهم أن (يشوش) هذا المعالج أفكار مريضهم
المشوشة أصلاً.والواقع أن العلاج النفسي (غير الدوائي وغير
الجراحي) ليس مجرد حوار مع المريض،انما هو مجموعة من
التكنيكات العلمية التي تتبع منهجاً وبرنامجاً محددين،ولذلك
فان
من يقوم بها يجب ان يكون من المتخصصين ذوي التحصيل
الأكاديمي. ولدينا اليوم عدة انواع للعلاج النفسي،منها
:
1-العلاج
بالاسناد الاجتماعي: وفيه يقوم المعالج بطمأنة
المراجع(المريض)،وتوجيهه وارشاده،وتوضيح مختلف الامور له،
ومحاولة تخليصه من مشاعر الوحدة أو العزلة أو العجز بزجه في
برامج ارشادية ذات طابع جمعي.
2-العلاج
السلوكي : وفيه يقوم المعالج بتعديل بعض سلوكيات المراجع
المرضية،واستبدالها بسلوكيات مناسبة،باستخدام تكنيكات منهجية
محددة.
3-العلاج
المعرفي: وفيه يقوم المعالج بتقويم وتصحيح أساليب
التفكير الخاطئة لدى المراجع التي ينظر بها الى نفسه
ومستقبله والناس من حوله،ومحاولة استبدالها بأساليب صحيحة .
4- العلاج
بالتحليل النفسي: وفيه يقوم المعالج بمحاولة سبر أغوار اللا
شعور (العقل الباطن) لدى المراجع،لاستكشاف العقد المستعصية
وتفتيتها،باللجوء الى طرائق (التداعي الحر)، و(تحليل
الأحلام)،و(التنويم الايحائي)،وغيرها.
المعتقد الخاطئ
بأن المعالج النفسي شخص غير سوي
لعل
أحد أهم أسباب العزوف والتوجس الذي يشعر به الناس في
المجتمعات النامية نحو العلاج النفسي،هو ما دأبت عليه وسائل
الاعلام والأعمال السينمائية والدراما التلفزيونية في هذه
البلدان من اظهار المعالج النفسي بصورة مشوهة،فهو ذلك الشخص
الغريب الاطوار،ذو النظرات الزائغة والحركات غير المتزنة
والملابس غير المتناسقة.كما قد يظهر منفوش الشعر مرتدياً
نظارات سميكة تتدلى على أرنبة انفه،مما يزيد من غرابة
مظهره.وكل ذلك بسبب أن البعد الكوميدي الفج أكثر اهمية من
البعد الاجتماعي القائم على توعية الجمهور وتنويره،عند منتجي
هذه الأعمال .
وفي الحقيقة فان
الاستشاري النفسي ما هو الا انسان عادي تماماً.وقد أجريت بعض
الدراسات العلمية حول هذا الأمر،فلم يتم التوصل الى فرق
احصائي واضح يثبت ان المعالج النفسي أكثر اضطراباً من
الناحية النفسية من غيره. ويبدو أن تركيز الناس في نقدهم على
المعالج النفسي دون غيرهم من المعالجين،له دور كبير في تكوين
هذا المعتقد،فضلاً عن أن هناك بعض الاستشاريين النفسيين (وهم
ندرة)،اختاروا الدراسة النفسية لما يعانونه من بعض المصاعب
النفسية التي يبحثون لها عن علاج،والتي قد تبدو على تصرفاتهم
بعض الشيء،فيلاحظها الناس ويبالغون في تفسيرها،ولو كانت عند
غيرهم لما لاحظوها.كما يعتقد بعض الناس بأن شخصية المعالج
النفسي قد تتأثر مع الزمن بشخصيات مراجعيه،فتصيبه بعض العلل
النفسية.وفي الحقيقة أن هذا الاعتقاد لا سند علمياً
له،وانما هو مجموعة من الاوهام نشأت بسبب النظرة الاجتماعية
المتوجسة من العلاج النفسي .
المعتقد الخاطئ
بأن الاضطرابات النفسية أعراضها نفسية بحتة
ولا يمكن أن تظهر بأعراض عضوية
هذا اعتقاد
خاطئ
آخر، فالاضطرابات النفسية يمكن ان تظهر بأحدى ثلاث صور :
أولاً:
مجموعة من الاعراض النفسية دون ان يصاحبها أية اعراض عضوية
.
ثانياً:
مجموعة من الاعراض العضوية (ذات المنشأ النفسي) كالغثيان
والقيء وآلام الظهر والبطن والأطراف،دون ان يكون هناك أعراض
نفسية واضحة مصاحبة.وهذا يجعل المريض وذويه يعتقدون بأن
المرض عضوي لا نفسي.مثال ذلك أن الاكتئاب عند كبار السن في
المجتمعات الشرقية بشكل خاص،قد يظهر في أحيان كثيرة مصحوباً
بأعراض عضوية.وما تلك النوبات المتكررة من أوجاع الظهر التي
تصيب بعض النساء المسنات أحياناً الا نوبات متكررة من
الاكتئاب،بالرغم من أن العامة يصفونها بأنها أعراض
الروماتزم.كذلك الحال عند بعض الرجال المسنين ممن فقدوا مع
تقدم العمر بهم دور الآمر الناهي داخل الأسرة،فلم يعد لهم
دور مهم وبدأ يتسرب الى أنفسهم الشعور بأنهم أصبحوا على هامش
الحياة،فنراهم بين الحين والاخر يشكون من بعض الاوجاع،أو
يبالغون في الشكوى من بعض ما يعانونه من أمراض سابقة بطريقة
لا شعورية.وكل ذلك من أجل جلب اهتمام من حولهم والشعور بأنهم
ما زالوا محط احترام وتقدير الاخرين.
وقد يحدث
العكس،فتظهر الامراض العضوية بأعراض نفسية ،كما هو الحال في
اضطرابات الغدة الدرقية والحمى المالطية وغيرها .
ثالثاً:
قد
تأتي الاضطرابات النفسية مصحوبة بمجموعة من الاعراض النفسية
والعضوية في آن واحد،وهو ما يحدث في أغلب الاحوال،كشكوى مريض
القلق مثلاً من خفقان القلب والتعرق والرجفة في بعض انحاء
الجسم،فضلاً عن شعوره بالخوف والتوجس وعدم الشعور
بالاستقرار.
المعتقد
الخاطئ
بأن الأمراض النفسية
لا بد أن تكون مرتبطة بالجنون والتخلف العقلي
وهذا يؤدي الى
التردد في زيارة المعالج النفسي،والخجل من ذلك،بل ربما
الامتناع عن الاقدام عليه اصلاً،بالرغم من الحاجة الشديدة
اليه.ولذلك نرى بعض المرضى يجلس متلثماً في صالة
الانتظار،والبعض الآخر يتعمد أن يتأخر في الحضور الى
العيادة النفسية حتى يتأكد من أن أكبر عدد من المراجعين قد
انصرف،بل قد تجد بعض المرضى أحياناً يحاول جاهداً مع معالجه
أن يكون لقاؤهما خارج العيادة.ومن مضار هذا الاعتقاد الخاطيء
أن يتأخر الناس في احضار مريضهم حتى يستفحل عنده المرض
جداً،مما قد يجعل من الصعب علاجه،أو يتطلب مدة اطول من
العلاج.ولعل التقليد الطبي السائد في عزل المرضى النفسيين في
مستشفيات خاصة،هو الذي يعزز هذه النظرة الخاطئة وغيرها من
النظرات السلبية تجاه العلاج النفسي.
|