القطاع العام الناجح
ركيزة اساسية للاقتصاد الوطني
بدر غيلان
منذ سنوات عديدة باتت الخصخصة تشكل واحدة من
المفاهيم الاقتصادية المهمة والحيوية في العديد من بلدان
العالم الصناعية والنامية على حد سواء، مما يتطلب بجدية الى
ضرورة الوقوف عليها ومعرفة ابعادها المختلفة والاثار
المترتبة على تطبيقها.
والخصخصة بمفهومها المتداول تعني عملية تحويل
ملكية المشاريع والمسؤسسات الاقتصادية وغيرها من القطاع
العام أوالحكومي الى القطاع الخاص الوطنياو الاجنبي بحيث
تكون خاضعة لقوى السوق.
وكان موضوع الخصخصة قد طرح نفسه بقوة في
العراق منذ الايام الاولى لاحتلال العراق في العام الماضي
فعلى اثر دخول الطلائع الاولى لقوات التحالف في ارض الوطن
للاطاحة بالنظام السابق حتى تصاعدت الاصوات والتصريحات من
قبل العديد من الجهات ذات العلاقة في داخل العراق وخارجة،
وهي تدعو الى تطبيق الخصخصة في الاقتصاد العراقي وتحويله الى
اقتصاد السوق الحر.
والواقع ان هذه التوجهات كانت قد سبقت دخول
قوات التحالف الى العراق بفترة ليست بالقصيرة، حيث عقدت
العديد من المؤتمرات والندوات في خارج القطر والفت لجان
متخصصة اشترك في عضويتها عدد كبير من الخبراء العراقيين
المتواجدين في الدول الاوروبية والولايات المتحدة خاصة،
للبحث في موضوع تحويل الاقتصاد العراقي الى اقتصاد السوق بعد
الاطاحة بالنظام القائم في حينه، اي بعبارة اخرى اتباع النهج
الرأسمالي البحث في ادارة اقتصاد البلد والتخلص من كافة
المشاريع والمنشأت التي تديرها الوزارات أو المؤسسات الاخرى،
او تشترك في ملكيتها.
ومعلوم ان الحكومة العراقية السابقة في عهد
(عبد السلام عارف) كانت قد عملت في اوائل تسلمها السلطة في
العراق عام 1963 على تطبيق ما يعرف بالنهج (الاشتراكي) حيث
بادرت الى تأميم مجموعة كبيرة من المشاريع الصناعية عام
1964، اضافة الى تأميم القطاع المصرفي، وذلك تماشياً مع
ماجرى في مصر تمهيداً لتوقيع اتفاقية الوحدة بين البلدين،
وبعد انقلاب عام 1968 واستلام السلطة من قبل النظام البعثي
المنهار حاولت الحكومة الجديدة ترسيخ هذا التوجه والامساك
بزمام ادارة مختلف النشاطات الاقتصادية والصناعية والتجارية
والخدمية في القطر بدعوى تطبيق النظام الاشتراكي في البلد،
ولم تدع للقطاع الخاص الا كوة صغيرة حاول منها التنفس لادامة
حياته في السنين التالية العجاف التي عاشها قطرنا تحت سيطرة
الحزب المنهار.
وجدير بالذكر ان بعض الاقتصاديين يرى ان حركات
تأميم المصالح الاجنبية والشركات استهدف القائمون بها توسيع
ملكية الحكومة للمصالح الاقتصادية بقطاعاتها النوعية
المختلفة.
باعتبارها تدابير اقتصادية اقتضتها عملية
ادامة هيمنة الغرب الصناعي المساند لهذه الانظمة في المنطقة
العربية، وذلك عن طريق تعظيم سلطات الحكومات التي نفذت
عمليات التأميم ووسعت القطاع الحكومي واستثماراته.. وبالتالي
توسيع القاعدة الشعبية والمالية التي كانت تفتقدها الحكومات
السابقة التي استلمت الحكم في انقلابات عسكرية في معظمها.
لقد ادت قرارات 1964 في العراق ان
تتحول الدولة مالكة لقطاع صناعي وتجاري ومصرفي كبير،
وبالتالي فقد اصبح القطاع العام يحتل الصدارة في النشاط
الاقتصادي في البلد، الا ان الافتقار الى التجربة العملية في
ادارة هذا القطاع والفساد الاداري والادارة البيروقراطية،
ادى الى استنزاف موارد الدولة وتخلف النشاط الصناعي وضموز
حركة التصنيع فضلاً عن هروب راس المال الوطني.
وعليه يمكن القول ان المشاريع التي آلت
ملكيتها الى الدولة ابان عمليات التأميم التي جرت عام 1964
قد حملت الاقتصاد العراقي اعباء كبيرة، وتدنت ادارات
بيروقراطية تسببت في تبديد موارد الدولة وساهمت في ارتفاع
كلف الانتاج وتخلف نوعيته في الكثير من المصانع.. وبالتالي
فقد حققت العديد من هذه المشاريع خسارات اقتصادية حقيقية رغم
التعتيم عليها في الحسابات السنوية الختامية.
لقد استمر العمل وفق هذه السياقات طيلة اثر من
عشرين عاماً، عانى فيها الاقتصاد العراقي الكثير من الازمات
الاقتصادية، الا أن ما خفف من وقع هذه الازمات زيادة
الايرادات المالية الناجمة عن تضاعف اسعار النفط المصدر اثر
تصحيح الاسعار في اوائل السبعينيات من القرن الماضي، مما ادى
الى زيادة الدخول السنوية للموطنين وتنامي القدرة الشرائية..
الا ان هذه الفترة لم تدم طويلاً فسرعان ما اندلعت الحرب
العراقية الايرانية في ايلول 1980، ثم اعقبها بعد ذلك دخول
العراق للكويت عام 1990 وهو لما يزل يترنح تحت الاعباء التي
خلفتها الحرب المذكورة.
وبالرغم من المساعدات الكبيرة التي كانت تنهال
على النظام البائد من مختلف الدول العربية و الاجنبية في
سبيل ادامة حربه الظالمة مع ايران، فقد واجه الاقتصاد
العراقي ابان تلك المرحلة مصاعب اقتصادية كثيرة وديوناً
عربية واجنبية باهظة، زاد من وطأتها احتلال الكويت وفرض
العقوبات الاقتصادية من قبل الامم المتحدة.
ولاسباب لا يعلمها الا عدد محدود من مسؤولي
السلطة البائدة، وربما لايعلمها احد منهم، انقلبت مفاهيم
الحزب (الاشتراكية) راساً على عقب، فبدلا من ان تكون
المشاريع الرائدة التي تديرها الدولة هي القائدة للقطاع
الصناعي والاقتصادي في البلد، اصبحت هذه المشاريع بجرة قلم
من (الرئيس القائد) عبارة عن (اغطية ثقيلة) يجب التخلص منها،
وهكذا فقد عرضت العشرات من المشاريع الصناعية والزراعية
والخدمية الهامة للبيع وانتقلت الى ملكية القطاع الخاص بابخس
الاثمان، وبعبارة اخرى انتقلت الى هيمنة (الصفوة المختارة)
من عائلة واقارب الرئيس المخلوع، سواء بصورة كلية او الدخول
في مشاركة مع اصحاب رؤوس الاموال الذين يجدون انفسهم مضطرين
لادخال هؤلاء من اجل ضمان الحصول على حصة من هذه المشروعات.
وهكذا فقد تحولت هذه المشاريع الهامة
والاساسية الى ملكية القطاع الخاص الذي بدأ باستغلالها كيفما
يحلو له بعيداً عن الادارة الاقتصادية السليمة التي تأخذ
بنظر الاعتبار مصلحة البلد بالدرجة الاولى، الا في القليل
النادر الذي تجد فيه الدولة نفسها مضطرة للتدخل والضغط على
ادارة هذا المشروع او ذاك من اجل التقيد ولو بالحد الادنى
بالاصول المتعارف عليها في الانتاج والتسعير، الا انه بالرغم
من هذه الصورة القاتمة للقطاع العام، يجد المواطن العراقي
نوعاً من انواع القطاع العام والمختلط الذي تديرة الدولة
ويؤمن انتاج عدد من السلع الهامة في السوق العراقية ويفر
العمل لاللاف من المواطنين مما يساهم في امتصاص اعداد كبيرة
من الايدي العاملة في القطر.
ان صيحات الخصخصة واعادة هيكلة الاقتصاد
العراقي وتحويله الى اقتصاد السوق والدعوة الى انهاء مركزية
الدولة عن طريق المنشآت والشركات الحكومية والمختلطة، اصبحت
من الامور الهامة التي تشغل بال الراي العام العراقي
والمستثمرين منهم على وجه الخصوص ، وذلك في ضوء الحركات
والاجراءات التي اتخذت من قبل سلطات التحالف وبعض المنظمات
الدولية التي تلعب دوراً هاماً في التأثير على مجريات الامور
في القطر.
ولا شك ان للحديث عن الخصخصة ابعاداً اقتصادية
وسياسية واجتماعية كثيرة في بلد مثل العراق الذي مر بالظروف
العصيبة التي واجهته طيلة سنوات الحرب وظروف الحصار الذي
اعقب احتلال الكويت.. حيث يجب التعامل مع هذا الموضوع بحذر
ودقة آخذين بنظر الاعتبار المتغيرات التي شهدها الاقتصاد
العالمي بعد انهيار التجربة الاشتراكية وكذلك النظر في تجارب
الدول الاخرى التي سبقتنا في هذا المجال، حيث تشير تقارير
مؤسسات التمويل الدولية الى ان عدد الدول التي تطبق الخصخصة
قد ارتفع من 14 دولة عام 1988 الى اكثر من (60) دولة عام
1995، وتسير برامج الخصخصة في بعض الدول العربية بخطوات
متفاوتة حيث تحقق انجاز ملموس في كل من مصر والمغرب وتونس
ولا تزال في المراحل الاولى في عمان والاردن.
ولهذا يجب ان تخضع مسألة الخصخصة الى دراسات
مفصلة، سواء من حيث تشخيص مبررات تحويل المشاريع والشركات
الحكومية من عامة الى خاصة، او دراسة انواع الخصخصة التي
تنسجم مع طبيعة الاقتصاد العراقي والمشاكل التي ستنجم جراء
تطبيقها، اذ ان الهدف النهائي هو خلق روافد اقتصادية
واجتماعية تحولها الى ركيزة من ركائز الاقتصاج العراقي
القومي لتخلق ارتباطات امامية وخلفية لمشاريع اخرى وبدرجة
تهيء المناخ المناسب لاقامة مشاريع جديدة تساهم في رفد
الاقتصاد العرقي وامتصاص البطالة التي تضاعفت في السنة
الاخيرة جراء القرارات التي اصدرتها قوات التحالف بخصوص حل
بعض الوزارات والدوائر الامنية.
لقد اجرى مركز الدراسات والبحوث التابع لاتحاد
رجال الاعمال استفتاء في اواسط عام 2003 حول موضوع تطبيق
الخصخصة في العراق كشف عن العديد من النتائج الهامة، من
بينها:
85% يرون ان الخصخصة ضرورة ملحة في الوقت
الحاضر.
95% يرون ان تطبيق الخصخصة يجب ان يتم على
مراحل.
61% يرون ان تكتمل باكثر من خمس سنوات.
84% من رجال الاعمال يرون ان الخصخصة تعتبر
مشروعاً وطنياً.
64% يرون ان الخصخصة تسهم في تطوير الاقتصاد
العراقي بشكل كبير.
69% يرون ان الخصخصة ستقلل من عدد العاملين في
المشروع على المدى البعيد.
وبالرغم من عدم امكانية التيقن من مستوى وجدية
الشرائح الاجتماعية والاقتصادية التي اسهمت في هذا
الاستفتاء، الا ان الاتجاه العام فيه يميل الى اهمية الخصخصة
في الاقتصاد العراقي وامكانية اسهامها في تحقيق التنمية
الاقتصادية، رغم الاختلاف الواضح في المراحل او المدد
المناسبة لتطبيق الخصخصة واثرها في تحقيق التنمية
الاقتصادية، وكذلك دورها في مسألة تشغيل الايدي العاملة
الوطنية والمساهمة في حل مشكلة البطالة.
الا ان ذلك لا يمكن ان يكون دليلاً راسخاً على
القناعة بالغاء القطاع العام في العراق والتوجه نحو استبداله
بالقطاع الخاص، حيث نعتقد باهمية القطاع العام الناجح
(والناجح فقط) باعتباره الركيزة الاساسية للاقتصاد الوطني
الذي يمكن ان يلعب دوراً اساسياً في ايجاد التوازن المطلوب
في حركة التصنيع والتنمية في القطر مع التأكيد على حتمية
الابتعاد عن سيطرة القطاع الخاص وهيمنته على هذه الحركة.
ومن البديهي القول انه يجب قبل الاخذ بمفهوم
الخصخصة في الاقتصاد العراقي دراسة الآثار الايجابية
والسلبية لتطبيق هذا المنهج بكل دقة وموضوعية مع الاخذ بنظر
الاعتبار اهمية ان يكون للخصخصة دوراً فاعلاً في عملية نهوض
الاقتصاد العرقي من كبوته الراهنة، مع دراسة تجارب الدول
النامية وخاصة العربية منها في مجال الاخذ بخصخصة الاقتصاد
الوطني، هذا بالاضافة الى معرفة الدور الذي يمكن ان يلعبه
الاستثمار الاجنبي والتكنولوجيا المتقدمة والاساليب الادارية
الحديثة في انجاح تطبيق الخصخصة، على ان يكون تطبيقها في ضوء
التوجه السليم لإعادة النظر في مسار الاقتصاد العراقي الذي
عاني كثيراً في النصف الثاني من القرن الماضي بما يضمن تحقيق
الحياة الكريمة لعموم المواطنين.
الا انه يجب التأكيد على ضرورة تأجيل هذه
العملية برمتها لحين تشريع الدستور العراقي الجديد وتأليف
حكومة وطنية دائمة في نهاية عام 2005، حيث يمكن ان يتوضح في
ذلك التاريخ العديد من الامور والمعطيات التي يكتنفها الغموض
والتشويش في الوقت الحاضر الذي يطغى فيه الضجيج الاعلامي
وتختلط فيه الاوراق، بحيث يصعب في الكثير من الاحيان الوقوف
على حقيقة الامور وتشخيص مصلحة الوطن والمواطن.
|