الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

رهانات ما بعد الخراب

قاسم محمد عباس

اطلعت قبل ايام على ملف العدد المزدوج  2 ـ 3 من مجلة الأقلام الذي أريد له أن يتناول خراب الثقافة العراقية ، أو ربما واقع الثقافة العراقية عموماً ومشكلاتها في ظل النظام المباد. وتضمن الملف سبع عشرة مقالة توزعت على عدد من الكتاب ومن مجمل الأجيال. وقد تركزت جميعها في كشف طبيعة صراع الثقافة العراقية مع السلطة والهجمة الدموية التي تعرض المثقف العراقي طيلة عقود . وأعادتني بعض المقالات إلى الاجواء الكابوسية التي عشناها بخوف وبؤس كبيرين. ذلك دفعني شخصياً الى البحث في تاريخ صراع عنيف ودموي ادى الى تخريب الثقافة، مما خلف في نفسي مجموعة من الملاحظات التي تقصدت متابعتها حينئذ. من هنا آثرت ان اتعرض للموضوع على وفق ما وجدته ممكنا وواقعياً، بهدف الابتعاد عن فكرة الرد على الاسئلة الثقافية بقصص وحكايات وامثله عاشها الانسان العراقي عموما وليس المثقف وحسب ان لم اقل ان المواطن العادي عاش اكثر منها قسوة وبشاعة. هذا الامر يتحمل مسؤوليته كل المثقفين، حينما تتم دراسة مرحلة ثقافية خطيرة تجعلنا في مواجهة أسئلة تتطلب الكثير من التحليل والنظر في الشرط التاريخي لفهم ما حدث ومن ثم نقده للتوصل الى درجه في سياق يسمح بصياغة حكم ما او تثبيت صياغة عقلانية للظروف التاريخية والثقافية . أو ربما تحديد ثوابت يمكن تداولها  في حال النظر إلى ماض ثقافي لم تزل تداعياته تتحكم في سلوك أغلب المثقفين . إن الرد على الأسئلة الثقافية المصيرية بقصص وحكايات ربما يكشف عن الجانب المأساوي للظرف الاجتماعي الذي عاشته الثقافة العراقية، ولكنه في مجمل الأحوال لن يسمح بصياغة نظرة واضحة لتجاوز صراع له جذوره في ثقافات شعوب اخرى  لم تقتصر بالطبع على الثقافة العراقية حصراً. لقد عاشت الثقافة العراقية صراعا مع طوطمية غير مستقرة فضلاً عن مواجهتها لخليط فكري ينطوي على خلل ايديولوجي اغتصب الحياة العراقية كلها وعزلها عن العالم بكل متغيراته، الى الحد الذي يمكن تلخيصه بمقولة وردت ذات يوم في جريدة القادسية بعد حرب (تحرير الكويت!) مفادها : نحن لدينا صدام بينما لديهم الديمقراطية . فليستمتعوا بديمقراطيتهم ، لكننا مصرون على أن يكون لنا صدام حسين.

ان الدخول في وصف ما حدث في الساحة الثقافية في العراق ليس بالامر السهل اذا لم نستعن بقراءة تساعدنا على الخروج  بحقائق مفهومة الابعاد عن حالة الخراب الثقافي . فالظواهر معقدة ومتشابكة، إذ هناك ادباء خارج وهنا ادباء داخل . وهناك تقاليد ورثتها الثقافية العراقية عن أجيال سابقة سمحت بتكريس حالة هشة للدور الثقافي منذ الستينيات ونهاية السبعينيات وصولا الى مرحلة التصفية التامة لجسد هذه الثقافة . وعليه فجذور المشكلة متداخلة ولن تسمح باصدار الاحكام او اللجوء الى التصنيف وأمراض كثيرة لن يفلت منها لا ستيني ولا ثمانيني ولا تسعيني ولا من كان في الخارج أو من عاش في الداخل. وفي تقديري إن المشكلة تعود إلى زمن ما قبل وصول صدام الى سدة الحكم، حتى أن القصة لو قدر لها أن تروى (واقصد قصة الثقافة العراقية) علينا التوصل إلى فكرة كتابة تاريخ الثقافة العراقية التي يجب أن تنجز يوما ما .

لقد استعان صدام بالدين والقبيلة والهوية وقضايا الآمة وتحريف القيم المجتمعية جميعها وحشد رأسمال هذه الاطراف في صراعه مع الثقافة على نحو عام. وفي مجمل الاحوال لا يمكن اخراج مأساة الثقافة العراقية خارج مسألة السلطة والثقافة والايديولوجيا، والمشكلات الثقافية المتوارثة، وطالما نجح التاريخ في حماية السلطة، وقدم لها وجها واحدا من وجوهها المتعددة، كي يتوفر لمنتزعي السلطة ان ينخرطوا في المقاومة وأن ينظروا في إمكانية تحقيق ذواتهم عبر بدائلهم الخاصة التي لا يمكن أن تتحقق واقعياً . هذا الظهور التاريخي للسلطة هو الحكم ( التسلط ) لكن الأدب ـ ودون أن يفصح منتجوه ـ نجح في انكار السلطة وانتج نصوصا ومدونات تكشف وجوهها المختلفة وتواجهها. وفي الحالين يستند الاثنان إلى رأسمال رمزي، يتم من خلاله تأٍسيس بلاغتيهما معاً . وهكذا فان الطرفين يشتركان في مؤسسة الراسمال الرمزي بقسميه السلطوي ( الثقافة الرسمية ) والهامشي ( المثقف المعارض )، وظل الطرفان يشتغلان على نزع فاعلية خطاب الاخر وابطال شرعية تحققه في الواقع. لكن الحيادية التي تتجلى فيها اللغة هي ايضا حيادية خادعة طالما ان اللغة في حد ذاتها سلطة لا مفر منها . وهكذا استمر الصراع إلى منعطفات يمكن النظر فيها إلى المثقفين ـ وتحديدا في التجربة العراقية ـ باعتبارهم صورة مصغرة او مصابة من صور السلطة القامعة . ولا يمكن التعامل مع هذه الحال بفهم انها مجرد تماه عرضي يمكن تبئير مواصفاته . فالسلطة استمرت طيلة مدة حكمها باستنساخ آلياتها الامر الذي أدى الى ان تغدو التعبير الوحيد عن كل علاقة يشترك في بنائها اكثر من طرف، الى الحد التي صارت السلطة هي محور العلاقة بين المسيطِر والمسيطَر عليه . وعليه سيكون جليا ان نستخدم الايديولوجي بغض النظر عن تخبطه او خلله في حالة سلطة البعث للدلالة على قدرة ( حتى الخطاب المشوش ) في تفعيل علاقات السلطة بإنتاج معنى أحادي في مقابل الثقافي للدلالة على قدرة خطاب مناهض ينتج تمثلات تسمح بتعددية المعنى.

لقد تجرأ النظام السابق على اغتصاب التاريخ وذبحه ومصادرته بينما انشغل أجيال من المثقفين العراقيين بثقافة الحزب وحشدت أجيال أخرى للتطوع للتنظير لقصيدة النثر أو الانشغال برواية الواقعية السحرية او تركيز الاشتغال النظري بما يصدر إلينا من حالات التفريغ الثقافي، دون محاولة فهم الظاهرة المعاشة ودرجها في سياق يسمح بالنظر الى مكامن إيقافها والاستعانة بحلول يسيرة تضمن عدم تقديم اية تضحيات مادية وثقافية . وتم تجاهل حاجة هذه الثقافة ومنذ جيل الستينيات الذي اخترقته بوادر القوى الفاشيستية، حاجتها لاعادة قراءة تلك العلاقة المعقودة بين  ثقافة الكتابة التي تتعلق باليوتوبيا والايديولوجيا ، في الوقت الذي كانت اليوتوبيا تقدم صورة مشوهة ومنقوصة عن الواقع لارضاء ثقافتها حينما تتجلى السلطة.

وكثير ما استعملت الايديولوجيا من اجل الحرية التي لا تخدم سوى الاستبداد وهذا في واقع الحال خطاب يصبو الى مجتمع حر ولكن عبر منظور يحافظ على يوتوبيا الدكتاتورية التي تزين للحكام السلطة وتبررها لهم وتخفي في الوقت نفسه ثقافة السوبرمان. ذلك أن ميليشيا الثقافة في ايام صدام حسين تصدت لخلق وهم جماعي يزين الفاشستية والقمع في عقول قطاع كبير من المثقفين الجوعى ليصفقوا مذعورين وكأن لا خيار امامهم إلا التوقيع على قصائد مريضة أو الهروب إلى الـUN  في عمان . ويعرف كتاب الداخل أكثر من غيرهم أن قادة الثقافة في ايام النظام السابق لم يضربوا أحدا على يده لكتابة قصيدة في مديح الطاغية اللهم الا في استثناءات معدودة.

ان التعامل مع الوضع الثقافي السابق عبر مجموعة من القصص والاحداث والحكايات والامثلة يقزم من حجم الاشكالية ويقدمها خارج سياق صراع يمتد جذوره الى فكرة الايديولوجيا بما هي منظومة من التمثلات والتصورات ، ونسقاً من المفاهيم السلطوية ومسرحا للعنف المادي والرمزي . لذا لا بد من اعادة النظر في هذا الماضي الثقافي ونقده بعيدا عن النظرة من افق لاحق يقضي على كثافة اللحظة المأساوية حينها. فكما تنشد الدكتاتورية صياغة خطابها القمعي وثقافتها ذات البعد الواحد وعلى نمط استبدادي فهي ايضا، تظل محكومة بقوى مواجهة تعيق بناء نفسها من جديد، وان تشظت صورتها الواحدية. فكما تعرضت مفاهيم الدولة والهوية إلى صياغات جديدة، فالدكتاتورية ليست ببعيدة عن هذه الصياغة المستحدثة. والاهم هو مواجهة قيام شكلها المتعدد الجديد بين هذا الاختلاف والاضطراب والصراع الذي نعيشه الان . ترى هل يجب أن نراهن على الفكر والابداع وحسب ليحمينا من سلطة الرمز والتسلط المتوحش . وقبل ذلك كله هل يمكن التخلص من الإجابة على سؤال عسير يفعل فعله في راهننا الثقافي هو : كيف يمكننا التخلص من الارث الاستبدادي، والفوضى التي تسيطر على نمط التفكير إلى الان؟.

ويبقى الأهم من ذلك كله، كما أعتقد، كامنا في أن نغادر مرحلة البكاء على أطلال ثقافة النظام المباد، وننتقل إلى مرحلة التحليل، لنضع أيدينا على الأسباب الحقيقية التي كانت تقف خلف كل الظواهر السلبية التي خلفتها هذه الثقافة، بأسلوب علمي موضوعي يبتعد عن الشعارية والعبارات الإنشائية الفارغة من أي معنى. ذلك وحده هو الذي سيحررنا من عبء الماضي، ويفتح لنا رؤية مستقبلية تحول دون تكرار ما حدث من مآس.


المسرح..  والمتفرج(*)

 د.نديم معلا

ما الذي يستأثر باهتمام المتفرج المسرحي، ولماذا يقبل على العروض المسرحية التجارية؟ وما الذي يطلق استجابته، بحيث تتحرر من المعوقات كلها، لتلك العروض؟ أليس من آلية موضوعية تحكم علاقة المسرح بالمتفرج؟

 تبدو الدراسات المسرحية العربية، غير مكترثة بعلاقة المسرح بالمتفرج، فقد انشغل المسرحيون العرب في العقود الثلاثة الأخيرة، بإنتاج العرض أكثر من تلقيه، وقد يجد المتابع صعوبة، في تلمس حقيقة هذا الإهمال أو عدم الاكتراث، وإن كنت أميل إلى رده - الإهمال - إلى أسباب سياسية أكثر منها سوسيولوجية. والسياسة هنا لا تبسط سطوتها المباشرة، بمعنى أنه ليس هناك ما يشير إلى خطر أو إعاقة البحث في العلاقة بين المسرح والمتفرج، ولكن هامش الحركة الذي يتطلبه البحث في تلك العلاقة ضيق، وقد يتداخل ويشتبك السياسي بالجمالي أو الفني بعامة، من حيث الأهداف والأغراض المباشرة وغير المباشرة، فيعتقد القائمون على المؤسسات الثقافية، أو يخيل إليهم، أن ثمة خطراً يمكن أن يهدد مواقعهم، والمسرح فن لا يمكن أن يتحقق دون متفرجين، بعبارة أخرى، إن العرض المسرحي لا يستطيع الإعلان عن حضوره، إلا عندما تمتلئ الصالة بالمتفرجين أو نصف مقاعدها أو ربعها على الأقل. وفي حين كشفت بعض الممارسات المسرحية العربية، في طورها التنظيري، عن بعض هموم الإنتاج والتلقي (سعد الله ونوس في بياناته المسرحية) و(فرقة الحكواتي)، وإلى حد ما (المسرح الاحتفالي). إلا أنها لم تطور اهتماماتها وتفحصها على ضوء الواقع العملي.

والكاتب المسرحي العربي، وغير العربي، حين يشكل نصه الدرامي، يضع المتفرج نصب عينيه، وهو لا يكتفي بتخيل شخصياته، وشبكة علاقاتها، وهي تتحرك في فضاء المسرح، وإنما يتخيل أيضاً استجابة المتفرج، لعله مسكون برغبة استثارة المتفرج، أو قل تحريكه من خلال ما يكتبه، وكذلك الممثل والمخرج، حين يشكل عرضه المسرحي، وما التعديلات التي قد تصل حد إعادة كتابة النص، إلا نوع من التفاعل بين طرفي المعادلة: المسرح (العرض المسرحي) والمتفرج. ويعمد كثير من المخرحين إلى تقديم عروض أولية، أو بروفات عامة، لبعض المتفرجين، بغية تحسس استجاباتهم، وأذكر تلك العروض التمهيدية التي كان المسرح التجريبي السوري يقيمها في منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيات، والتي كانت، رغم انتقائيتها، تؤثر تأثيراً فاعلاً في العرض، تطويراً أو تعديلاً.

 يذهب بعض الدارسين إلى أن شكسبير، عندما كان يكتب نصوصه المسرحية كان يفعل ذلك، كان يأخذ بعين الاعتبار ردود الأفعال المحتملة للمتفرجين. وإذا كان المسرحي (رجل المسرح) الإنجليزي يمزج بين الكتابة والممارسة المسرحية، فإنه كان يقف على تفاصيل العلاقة بين المسرح والمتفرج من خلال كونه مخرجاً، وإن كان مثل هذا المصطلح غريباً عن المسرح، في ذلك الوقت (ثمة من تناول شكسبير مخرجاً كما فعلت آن باسترناك سلبتر في كتابها «شكسبير مخرجاً»).

 وليس المسرحي الإنجليزي المرجع المطلق، الذي يعزا إلى ثقافة أخرى ويرجع إليه في بعض الأحيان، آلياً وحده، في هذا المجال. بل إن مسرحياً عربياً، في منتصف القرن التاسع عشر، هو مارون النقاش افتتح مسرحيته بخطبة موجهة إلى المتفرجين، تنطوي على إشارات يراد منها مكاشفة هؤلاء بأنهم الأساس، وبأن العرض لن ينجز إلا بحضورهم.

وكتاب سوزان بينيت «متفرج المسرح» من الكتب النادرة التي انفردت بدراسة العلاقة بين المتفرج والمسرح، كمقاربة نظرية للإنتاج والتلقي المسرحيين. وتقف المؤلفة طويلاً عند المسرحي الشهير برتولت بريشت، باعتباره يجمع بين النظرية الدرامية والممارسة العملية، وباعتباره أحد الذين شغلوا النقاد والمخرجين والممثلين طويلاً حتى اعتبر أهم مسرحيي النصف الأول من القرن العشرين. ولم يشغل المسرحي الألماني الغرب وحده، بل شغل المسرحيين العرب على مدى ثلاثة عقود (الستينيات والسبعينيات والثمانينيات) بل لعله كان أكثر المسرحيين شعبية في عالمنا العربي، الأمر الذي أثار حنق بعض خصومه، أو خصوم مسرحه؛ حتى أن كاتباً مسرحياً عربياً صب جام غضبه على مسرحه، والمفارقة هنا أن الكاتب نفسه لم يفلت من تأثير بريشت. وتأسيساً على شهرة بريشت هذه، وجمعه بين التنظير والممارسة يغدو مثاله الأكثر ثراءً وتعددية في هذا الصدد. نظر بريشت إلى العرض المسرحي ليس باعتباره حدثاً اجتماعياً طقسياً، كما جرت العادة، وإنما باعتباره محفزاً على التغيير، حتى أطلق عليه «مسرح التغيير».

والمسرح الملحمي (مسرح بريشت) لا يخفي أغراضه السياسية، إنه يريد للمتفرج أن يفكر ويعي أن الواقع الذي يعيشه قابل للتغيير، وأن المسرح بعامة مؤسسة اجتماعية، لكن هذه المؤسسة تخضع لسلطة السائد سياسياً واجتماعياً، وما يهمنا هنا أن العلاقة بين المسرح (الخشبة) والمتفرج، ليست علاقة تماهٍ واندماج، وليست ذات أهداف ترفيهية أو مجرد تسلية يقبل عليها المتفرج لينسى واقعه. ويرى بريشت أن العلاقة بين المتفرج والمسرح قد أجهضت، ولذلك يقترح، في كتابه «الأورغانون الصغير»، صيغة تفاعل بين كليهما: لماذا لا يبحث المسرح عن المتفرج، لماذا لا ينطلق إلى الفضاءات المفتوحة والمغلقة «يفتح ذراعيه للجميع» يتعلم ما يحتاجه الناس وكيف يحتاجونه، المهم هو البحث في العلاقة بين الشريحة الحياتية التي تعرض عليه وواقعه الاجتماعي الذي يعيشه، يجب أن يميز المتفرج بين الواقع على حقيقته والمسرحيات والعروض التي تزيف هذا الواقع، وحينما يتوحد المتفرج بالشخصية التي يشاهدها، فإنه يذعن لها، يغرق فيها، وبالتالي لا يستطيع تأملها، أضف إلى ذلك أن الرؤية فردية والمعالجة هي الأخرى فردية، والأبنية الاجتماعية الشاملة خارج الدائرة.

ويضع بريشت علاقته بالمتفرج، أو بعبارة أدق علاقة مسرحه بالمتفرج، في مواجهة المسرح التقليدي، بل نراه يركز على المسرح الطبيعي، الذي يسلبه المتفرج إرادته في المشاركة، في خلق العرض المسرحي؛ المسرح الطبيعي (مسرح أنطوان وزولا وبدايات ستانيسلافكي أواخر القرن التاسع عشر) يريد لمتفرجه أن ينحل في الشخصية، لا أن يقف على مسافة منها.

ولم يكن بريشت وحده الذي نادى بتقويض المسرح التقليدي بعامة وليس الاتجاه أو المذهب الطبيعي فحسب، وإنما مهدت وتقاطعت مع تجربته وندائه هذا تجارب لا تقل أهمية عن تجربته، إن لم تفقها، وهي تجربة الروسي سيرغي إيزنشتاين السينمائية في المونتاج، وما يسمى بالصورة المعنوية، أي «الكادر» المستقل، أي أن كل كادر يشكل ما يسمى بلغة المسرح مشهداً مستقلاً، أخذ بريشت المشهد المستقل، في مسرحه الملحمي، ليشكل نظيراً للكادر المستقل الذي ينهض على تأويلات محتملة. أي: ينفتح على دلالات تشي بمعان مختلفة، والخلاف بين الرجلين كان حول الموقف مما يعرض؛ ففي حين قال بريشت بالمسافة بين المتفرج والمشهد، وبالتالي تأمله ونقده، رأى إيزنشتاين أن الهدف أولاً وأخيراً هو تمثل المتفرج للفكرة أو المقولة، ومن ثم تبنيها والدفاع عنها، والنص السينمائي (السيناريو) والأدبي بعامة منتجان ثابتان، أي أنهما لا يمكن أن يخترقا، لأنهما ينجزان ويحتفظان بسكونيتهما، أما النص المسرحي، إذ يتحول عرضاً مسرحياً، فإنه يتحرك والمتفرج يشارك بشكل أو بآخر في خلق العرض المسرحي.

وفي هذا السياق كانت تجربة الروسي فسيفولد مايرخولد، الذي أعاد النظر في العلاقة بين المسرح والمتفرج، فزرع الممثلين بين المتفرجين، ليلغي أحادية الإرسال والتلقي (العرض مرسلاً والمتفرج متلقياً) وبالتالي يحرر المتفرج من علاقته السلبية، ويدفعه نحو المشاركة الإيجابية في العرض المسرحي، وقد أثارت هذه الطريقة اهتمام المسرحي سعد الله ونوس في مسرحية «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» فوضع ممثلين بين المتفرجين لتعميق المشاركة بين العرض المسرحي والصالة، ولمقاربة هدف سياسي وهو تشجيع الشعب على محاورة السلطة، حول القرارات المصيرية على أساس أن خشبة المسرح تحمل دلالة السلطة (كونها معزولة ومرتفعة) والصالة تحمل دلالة الشعب (كونها منخفضة قياساً إلى خشبة المسرح وصفوفها متراصة ومليئة).

ولم تنجح التجربة في كلتا الحالتين، وعدل عنها ماير خولد وونوس، ولم تتحقق فكرة دمج المتفرج في اللعبة المسرحية دمجاً كلياً، وهكذا ظلت المساحتان متقابلتين: الخشبة في مواجهة الصالة. ولا  يبدو أن التقنيات المسرحية، سواء تلك التي تتناول طريقة أداء الممثل، أو تلك التي تتناول المعمار المسرحي (توضع خشبة المسرح وطريقة جلوس المتفرجين مقابلها أو حولها أو وسطها) قد أفلحت في ترسيخ العلاقة بين المسرح والمتفرج، على أسس جديدة، لأن استجابة المتفرجين هي الحكم الفيصل وليس التقنيات.

الاستجابة المسرحية غير الاستجابة الأدبية، فهذه الأخيرة تنهض على فعل القراءة، والأولى تنهض على لقاء الممثل الحي بالمتفرج وجهاً لوجه، مع وجود مادي ملموس هو خشبة المسرح، وما عليها من دلالات مادية عيانية، تملأ فراغ الخشبة، نظام الاستجابة في كلتا الحالتين مختلف: فعل يشاهد وآخر ينطوي على أنساق كلامية دالة، وفي حالة العرض المسرحي لابد أن تكون الاستجابة آنية راهنة لأنها مؤطرة بزمان ومكان محددين، نحن الآن معنيون بالاستجابة المسرحية، أكثر من أي وقت، لأن عزوفاً خطيراً عن العروض المسرحية، التي تحمل معنى، ولا نقول أكثر من ذلك، يحدث في عالمنا العربي، ومهما أفضنا في التعليل، تعليل العزوف هذا، فإن الحقيقة المزرية تبقى ماثلة للعيان، مسرح مهجور أو شبه مهجور.

الاستجابة تدرس خارج أفقها الجمالي النقدي وداخله، وإن كانت الكيفية العامة للتلقي ضرورية بداية لكي يحافظ على وجود المسرح أو الظاهرة المسرحية، بمعنى آخر، نريد أن نعرف لماذا يقبل المتفرج على نمط من المسرح دون غيره؟ أليست محاولة فهم المتفرجين الجدد تقتضي طرح تصورات جديدة عن المسرح؟ الدائرة كما تبدو مغلقة، وتجاهل ما يجري يزيد إغلاقها إحكاماً، والمتفرج مركز العرض، المسرح والمتفرج ثنائية لا تستقيم بإسقاط أحد طرفيها.

ـــــــــــــــ

 * - النص مستل من كتاب (لغة العرض المسرحي) لمؤلفه د. نديم معلا، الذي سيصدر قريباً عن دار المدى.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة