الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

السياسة العراقية بحاجة ماسة الى وقفة صدق مع النفس

د . سعد العبيدي

تجاوز الشق النفسي في الحرب العربية الامريكية كل الحدود، ووصلت عملية الطرق الحاد على الرؤوس والاعصاب درجة من العنف والوحشية فاقت التصور، واحيانا ما تكون الحرب العسكرية، بعنفها ونيرانها، اقل وطأة من هذه الحرب النفسية التي تقودها الولايات المتحدة، ونقرأها ونسمعها ونراها في كثير من أجهزة الاعلام الغربية فوقوع البلاء اخف من انتظاره هكذا يقول المثل العربي، وهو صحيح الى حد كبير.

من نتائج هذه الحرب النفسية ان كثيرا من اصحاب القرار العربي استسلموا ونفدت طاقتهم على الصبر، وخارت قواهم من كثرة التوسل والتسول.. لم يبق في وجوههم ماء يريقونه وهم يطلبون من أصداقائهم الذين يعاملونهم معاملة أدنى من معاملة العبيد، بعد ان وضعوا على قائمة التصفية، أسقطت الولايات المتحدة وبريطانيا الفروق بين صدام حسين والملك فهد بن عبد العزيز، والرئيس حسنى مبارك، وان بقى هناك فرق فهو فرق التوقيت، بين بغداد والرياض والقاهرة، فالقرار صدر، وحرب العراق التكتيكية ليست خطوة نحو هدف استراتيجي هو الاجهاز على الحكم السعودي، والحصول على مصر كجائزة كبرى، وهذا نص كلام المسؤولين في البيت الابيض، وعلى راسهم كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الامريكي. لم يبق امام هؤلاء الا التقدم طواعية.. تضحية بالنفس قربانا على مذبح الادارة الامريكية التي حددت مصيرهم ووضعت نهايتهم بنفسها، ورغم وجود حكام ونظم عربية في هذا الموقف الذي لا يحسدهم احد عليه لا تبدو هناك رغبة في المقاومة، وحماية النفس وحتى كتابة هذه السطور، لم تظهر في الافق بارقة امل تبعدهم عن الجنون النازي الذي أصاب بوش وادارته، وانتقلت عدواه الى رئاسة الوزارة البريطانية في 10 داوننغ ستريت بلندن، والملفت للنظر ان اغلب السياسات العربية، خاصة سياسات هؤلاء المستهدفين مباشرة من الولايات المتحدة وبريطانيا واسرائيل تتوجه فقط الى الخارج ، ولاتعير شعبها التفاتاً.. وفود عربية تغادر واخرى تؤوب، من والى اوربا وامريكا.. ابراء للذمة وطلبا للعفو والرحمة والاستثناء، وهم في سبيل ذلك يقدمون ماهو اكثر من اراقة ماء الوجة، والوقوف على الاعتاب انتظاراً للفرج.

لم نلحظ او نتابع محاولة واحدة للتوجه الى صاحب الشأن، وهو الشعب، المستهدف في الحرب العربية الامريكية، في رسالة واضحة لنا يقول مضمونها: ان هذا النوع من النخب العربية اصيب بالبلادة وانعدام الكرامة، وفقدان القدرة على التعلم.. باختصار تقول لنا ان عقلية النخبة الحاكمة المقصودة لم تتغير، ومازال رهانها على القوى الخارجية، ومازال المواطن خارج حساباتها.. ومع ذلك مطلوب من هذا المواطن ان يضحي ويدافع ويقاوم، في معركة اختلطت فيها التضحية والدفاع عن الارض والعرض والشرف بمقاومة مخطط تصفية هذه النخب وتغييرها من الخارج وهذه ذروة المأساة التي يعيشها المواطن العربي.

من المفترض ان تغير وحشية هذه الجولة من الحرب العربية الامريكية من العقلية الرسمية، سواء ممن هم على خط النار، او من هم في الخطوط الخلفية، فتتجاوز تخلفها وتبدأ تجربة الرهان على المواطن الذي ما خذل امته يوما، وصفحات التاريخ شاهدة على ذلك، فلو احسنت النخب العربية المهددة التعامل معه فسيدافع عن ارضة ويقاوم الغزو القادم من وراء البحار، تقوده قوة غاشمة ترى ان مصالحها باتساع السماوات والارض.. على اليابسة وفي المياه، وبين ذرات الهواء، في العمق وعلى السطح والفضاء، يأتي خطرها الاكبر في تفتيشها عن الافكار وغزو الضمائر، تعمل على التحكم فيما لايمكن التحكم فيه.. في المشاعر والاحاسيس والتوجهات والاراء، لاتكتفي بقهر الجسد، انما تعمل على استلاب العقل، ولاتكتفي بالقمع المادي، وتسعى الى الاذلال النفسي.

لم تكتف امريكا بانها حققت من وراء حربها مع العرب وضدهم اكبر مما تحلم، غسلت عار فيتنام، ومسحت ما جرى لها في كوريا، وانتصرت بهم على الاتحاد السوفييتي وغطت عن طريقهم هوانها مع الصين، وانتهوا عدوا موهوما تصوب اليه كل السهام، جعلت منهم حماة لقاعدة الاستيطان والظلم التاريخي المزروعة في فلسطين مولوا حروب امريكا ضد ثوار نيكاراغوا اللاتينية وايران الاسلامية وغيرهما.. جاءت اولوية تمويل هذه الحروب سابقة على محاربه الفقر والعوز العربي.

 هذه المصائب تستلزم وقفة مع النفس من هؤلاء الذين يتحكمون فينا وفي مستقبلنا، وينتهزون قله حيلتنا للقضاء على البقية الباقية من وجودنا المادي والمعنوي، واول من نطالبه بذلك هو النخبة الحاكمة في العراق، باعتبارها مستهدفة مباشرة في المرحلة الراهنة من الحرب العربية الامريكية، فالمجتمعات مثل الافراد عندما تواجه خطرا عليها ان تتحسب له، فتعيد حساباتها، وترى ماتبقى لها من ارصدة.. تتصارح مع نفسها، وتتكاشف مع غيرها، على قاعدة الصدق مع الذات، وهذا دائما هو سلوك العظماء عاصرناه في ديغول امام ثورة الشباب سنة 1968، وعشناه مع عبد الناصر بعد نكسة 1967، خرج ديغول من ازمته شامخا عملاقا. وضحى بالحكم من اجل كبرياء الذات التي كانت لديه جزءا من عزة الوطن، واستقال عبد الناصر لانه  راى انه المسؤول الاول عن البلاد، ولايمكن ان يخدع شعبه حتى لو كان الثمن حياته من اجل ان يتعافى الوطن اعلن تحمله المسؤولية كاملة واستقال، ولما اعاده الشعب الى مركز القرار والمسؤولية مرة اخرى كان عند حسن الظن.. قاوم بشعبه في حرب استنزاف مجيدة، كانت من اشرف الحروب.. صقلت قدرة جيش عظيم حرمتة الظروف من المواجهة الحقيقية مع العدو، وبه تحقق نصر اكتوبر، في مثل هذه الايام من تسعة وعشرين عاما.

 لانطلب من النخب العربية وان يكون فيها ديغول او ناصر او من هم على شاكلتهما من رجال التاريخ العظام انما نطلب وقفة عز لمرة واحدة.. تقيهم شر ما هو قادم بالنسبة للعراق، لا يختلف اثنان على ان كثيرا من الحسابات السياسية كانت خاطئة ولنختر بعضها، ومنها ان الحسابات المتعلقة بتصفية الجناح المؤيد للوحدة مع سوريا في القيادة العراقية كان خطأ جسيماً دفعنا جميعاً ثمنه ، وكان العمل العسكري لحل المشكلة الكردية في الشمال خطاً اخر، وكان التصدي للثورة الايرانية بداية افول النجم العراقي البازغ كقوة اقليمية كبرى.. كانت املا لتعويض غياب مصر الذي هد حيل هذه الامة.. تحمي امن الخليج بدلا من ان تهدده، كانت المصيبة الاخيرة هي ذلك الدخول المشؤوم الي الكويت ، في لحظة اختل فيها العالم واضطربت الدنيا، ودنت لقوة الشر الكبرى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

نقول هذا من موقع الحرص على العراق وشعبه العظيم، ونقوله من اجل ان يتمكن من مواجهة الغزو الشرس الغشوم. وبعد ان شاهدنا على شاشات الفضائيات العالمية وزير الخارجية البريطاني، وهو يبدي الندم، ويقدم الاعتذار على مسانده الغرب للعراق في حربه مع ايران، والدموع التي ذرفتها جاك سترو على حرب العراق مع ايران ليست سوى دموع التحريض على الحرب والعدوان، واذا كان الخارجية البريطاني ينتقد موقف الغرب زيفا لغرض في نفسه ونفس الادارة الامريكية فلا اقل من ان نقطع عليه الطريق بالصدق مع النفس، والاعتراف بالاخطاء، والعمل على تجاوزها، فالحكم العراقي اولى بتنقية علاقته مع الايرانيين والاكراد والسوريين وفتح صفحة جديدة تقوم على الفهم والتعاون وتصحيح العلاقة، وعلاج مالحق بها بسبب هذه الحسابات الخاطئة.

الشعب العراقي جدير بالحياة والتقدير.. فقد صمد وتحمل حصارا جائرا، ودفع فيه ثمنا غاليا. وقد اختبر معدنه، ونجح في الاختبار، والصفحة الجديدة يجب فتحها على مستوى الداخل، كلفتة تقدير لهذا الشعب العظيم، على موقفه وصمودة وتضحيته خاصة ان من يعارضون الحكم العراقي في الخارج لا يمثلون خطرا حقيقيا فمن يؤيد الحرب منهم عملاء مباشرون للولايات المتحدة، وعلى علاقة بجماعات الضغط الصهيونية لتكون سندهم ضد بلدهم وتزكيهم لدى الادارة الامريكية، اما الباقون فلا يطلبون سوى الحقوق المشروعة التي يتمتع بها المواطن في الدولة الحديثة، بقيام نظام ديمقراطي، يعتمد على المؤسسات والقانون والتعددية، ويحافظ عل حقوق الانسان.. هذا خلافهم مع النظام، واذا ما اتخذت الخطوات الجادة لتحقيق هذا سقط الخلاف، وتصبح العلاقة صحية بين الحاكم والمحكوم.

لماذا لا تكون الوقفة مع النفس من خلال مشروع متكامل للاصلاح السياسي.. اساسه الحوار والوفاق والشراكة في الحكم والثروة والدفاع عن الوطن المهدد، فيه يتآخي العرب والاكراد مع غيرهما من الاقليات العرقية والدينية.. به تقوي الجبهه الداخليه ويتدعم صمود الشعب العراقي، بكل طوائفة وجماعاته، ويرتقي هذا المشروع بالسمو فوق الصغائر، بما يسمح باقرار كل طرف بخطئه واستعداده للصفح والتنازل، وقد يستوجب هذا اعتذاراً ممن اخطأ للتخفيف عن الالام وتضميد الجراح والندوب التي تركتها المرحلة الماضية.

 وعلى هذا المشروع ان يستفيد من حالة الوعي القومي والصحوة العربية الراهنة، التي جعلت المواطن يكتشف عدوه الحقيقي، ويرى ان تغيير نظام الحكم ليس من مهام القوى الخارجية، وان مخطط العدوان على العراق، هو الاساس، وماموضوع اسلحة الدمار الشامل، والتخلص من نظام الحكم الا ذرائع تتخذ تبريرا للعدوان، فأسلحة الدمار الشامل مكدسة لدى الدولة الصهيونية، وليست لدى العراق، فبينما المطلوب هو عقاب صدام حسين ، يكافأ شارون من الكونغرس الأمريكي، باهدائه القدس عاصمة لدولته الاستيطانية، من الاخطر على البشرية اسلحة الدمار الشامل العراقية، غير الموجودة، ام القنابل النووية الرابضة في ترسانة تل ابيب؟ ومن هو الاخطر على العرب والمسلمين والعالم العراق المستنزف المحاصر، ام الدولة الصهيونية الطليقة، المدعومة من الولايات المتحدة، والمنظومة الغربية؟

هذا الوعي العربي يرى في اعتذار جاك سترو علنا، انه ضمن نطاق المخطط الامريكي البريطاني الصهيوني، فهو مكمل لقرار الكونغرس الأمريكي الخاص بالقدس، وتأثيره على الموقف العربي والاسلامي، ويهدف الى دق اسفين ليس بين العراق وايران بل بين العرب والفرس، ليبدو العرب هم العدو المشترك الذي يوحد بين الايرانيين والغرب، وقد يكون هذا الاعتذار مكسبا حققته الدبلوماسية الايرانية، لكنه قد يحوي في طياته شروطاً تستثني ايران من محور الشر، فتتوقف عن دعم حزب الله وتفك تحالفها مع سورية، حتى تتم تصفية الحساب مع العراق، ثم يستدار اليها، وان كنا نستبعد ذلك، فمصدر قوة السياسة الايرانية هو وعيها بمصالحها الوطنية والاقليمية، واستيعابها لدروس تجاربها المريرة مع الغرب.

العراق، الذي من المتوقع ان يقف وحده، عليه ان يقوي جبهته الداخلية، ليس عن طريق الاصلاح المستورد الذي يستهدف زرع نظام لايقل نازية ولا صهيونية عن الادارة الامريكية ذاتها، انما عن طريق مثل هذا المشروع الوطني، كما يقف الفلسطينيون وحدهم، واثقين من ان المستقبل مستقبلهم، فالارض ارضهم، والنهر نهرهم، والبحر بحرهم، والسماء سماؤهم، فيراهنون على انفسهم بثقة كبيرة.. صنعها رصيد كبير من الكفاح الطويل، كشف لهم دوما انهم امة لم تتوقف عن المقاومة لحظة طوال تاريخها المديد، وان بلادهم لم تكن يوما الا مقبرة للغزاة، وهذا هو الزاد الذي يتزود به اصحاب الحق، والمؤمنون بالنصر القريب


العلاقات الفرنسية العراقية عشية نقل السيادة: ما الذي ستفعله باريس لإعادة التوازن لـ(المركب السكران)؟

حسين كركوش/ باريس

(المركب السكران) هي واحدة من أشهر قصائد الفرنسي آرثر رامبو. مراسل صحيفة لوموند الفرنسية واسعة الانتشار استخدم عنوان القصيدة المذكورة ليصف بها، في تقرير له من بغداد نشرته الصحيفة في عددها الصادر يوم 29 حزيران، حال العراق هذه الأيام، عشية نقل السيادة إلى العراقيين، وانتهاء فترة الاحتلال الاميركي.

وإذا كان مراسل لوموند قد ذكر بالأسم عنوان قصيدة رامبو لوصف الأوضاع المضطربة، حاليا، داخل العراق، فإن وسائل الإعلام الفرنسية، خصوصا المكتوبة منها، لم تبتعد كثيرا عن هذه الصورة (المترنحة)، وهي تعالج الحال العراقية الراهنة.

صحيفة لوفيغارو المقربة من الأكثرية الحاكمة طرحت في افتتاحية عددها الصادر في 29 حزيران، السؤال المحدد التالي: (بأي اتجاه سيسير العراق، بعد نقل السيادة،  نحو الفوضى، باتجاه تبني نظام أسلامي، أم نحو إقامة النظام الديمقراطي الذي يأمل الرئيس الاميركي جورج بوش أن يكون مثالا يحتذى في منطقة الشرق الأوسط؟).

هذه الأسئلة لا تجد لها أجوبة شافية، كما ترى الصحيفة الفرنسية، إلا بعد أن يستعيد (المركب السكران) حالة التوازن التي تقول الصحيفة انه افتقدها بعد سقوط نظام صدام حسين، والمتمثلة في استتباب الأوضاع الأمنية وتأكيد هيبة الدولة العراقية، بحيث يتأكد العراقيون أنهم يملكون زمام أمورهم بأيديهم، وتنفيذ الانتخابات العامة المقرر أجراؤها في عام 2005، وتحسين الأوضاع المعيشية، وأخيرا تحديد نوعية العلاقة المستقبلية التي ستربط رئيس الحكومة العراقية المعين، إياد علاوي، مع السفير الاميركي الجديد في بغداد.

لكن، ماذا عن فرنسا الرسمية ؟ ما الذي بمقدورها أن تقدمه لكي يستعيد (المركب السكران) العراقي توازنه من جديد، ويبحر مع غيره من المراكب الإقليمية والدولية المبحرة باتجاه المستقبل؟

رسميا، أعلنت فرنسا أنها (أحيطت علما)، لا أكثر ولا أقل، بنقل السيادة إلى العراقيين من قوات الاحتلال، أي أن فرنسا لم تعبر عن فرحتها، مثلما فعلت بعض الدول الأخرى. هذا الموقف الفرنسي الحذر، حاول وزير الخارجية الفرنسية، ميشال بارنييه، أن يجلوه وان يصقله، في بيان نشرته الوزارة يوم الثلاثاء 29 حزيران.

وقد ورد في البيان المذكور إن (مرحلة جديدة بدأت بالنسبة للعراق وللعراقيين. فالاحتلال انتهى أمس، والحكومة المؤقتة التي عهدت إليها مسؤولية وسلطة كاملة لحكم البلاد بدأت بممارسة مهماتها في عراق ذي سيادة). وأشار البيان إلى (استعداد فرنسا للعمل مع حكومة السيد إياد علاوي) في المجالات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية وفي ميدان التعاون بين البلدين.

وفيما يخص الشأن السياسي، ذكر بيان الخارجية الفرنسية أن فرنسا (تدعم إقامة حوار جوهري ومنتظم حول جميع القضايا) التي تهم البلدين، وان فرنسا مستعدة لاستقبال أعضاء الحكومة العراقية، وبإعادة سريعة للعلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين البلدين. وفي الشأن الاقتصادي، عبر البيان عن تأكيد مشاركة فرنسا، ضمن نادي باريس، في تخفيف جوهري للديون العراقية (بعد أن كانت قد اتخذت) الإجراءات الضرورية اللازمة لإلغاء التجميد الذي طال الموجودات العراقية في فرنسا منذ 1990. وتابع البيان قوله إن فرنسا تعلن عن التزامها بمساعدة العراقيين، خصوصا في مجالات التعليم والصحة وعمليات التنقيب الاثارية والمساعدات الإنسانية، وكذلك المساهمة، سواء عبر الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوربي، أو بصورة منفردة، في التحضير للانتخابات التي ستجري لاحقا داخل العراق، وإعادة هيبة دولة القانون، وإعادة الاعمار الاقتصادي في المناطق العراقية، خصوصا في قطاعات الاتصالات والمياه والطاقة والبيئة، إضافة إلى مجالات أخرى.  بالطبع، أن هذه المشاريع لن تتم إلا بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية التي كان العراق نفسه قد قطعها عام 1990، أي أن فرنسا تنتظر،  وفقا للاعراف الدبلوماسية، أن تبادر الحكومة العراقية نفسها بتقديم طلب إلى السلطات الفرنسية لاستئناف العلاقات بين البلدين، وهو ما يجري العمل به حاليا.

ولكن استئناف العلاقات الدبلوماسية، بين كل الدول، ليس غاية بحد ذاتها، إنما هو وسيلة دخول متبادل. وفرنسا تعرف، تعرف جيدا، أن (بوابة) عراق ما بعد صدام حسين، التي تريد الدخول عبرها هذه الأيام،  أصبحت محروسة، حتى وان انتقلت السيادة، رسميا، إلى العراقيين، ليس بحراس عراقيين، فقط، وإنما، أيضا، بحراس اميركيين، وإن بدأ يطلق عليهم الان اسم (القوات متعددة الجنسيات). وفي هذه الحالة، فان على فرنسا أن تستأذن، حتى تدخل من جديد البيت العراقي، الحراس الأمير كيين، ربما قبل غيرهم من الحراس العراقيين. وهذا أمر في غاية الصعوبة. فالولايات المتحدة التي أخرجت فرنسا من الباب العراقي،  من غير المتوقع أن تسمح لها بالعودة من النافذة العراقية. وحتى إن سمحت لها، فلا بد من ثمن يتعين على فرنسا أن تدفعه، وهو ثمن تصر واشنطن على أن يكون نقدا وعدا، وان يدفع اليوم وليس غدا. وربما كانت صحيفة لوموند الفرنسية النافذة تشير إلى هذا الثمن، عندما وصفت، في افتتاحية عددها الصادر في 1 تموز الجاري، الموقف الذي يواجهه حاليا الرئيس الفرنسي جاك شيراك  فيما يخص العلاقة مع الولايات المتحدة، بأنه (ورطة).

وفي الواقع، فان أي مراقب للعلاقات الفرنسية الاميركية في السنوات القليلة الماضية، ليس بحاجة إلى قراءة ما تنشره الصحافة الفرنسية ليعرف المعادلة الصعبة التي بدأت تحكم العلاقات بين البلدين، خصوصا في الآونة الأخيرة. وكل من استمع إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وهو يرد على الرئيس الاميركي في تركيا، التي تواجد فيها مع زعماء منظمة حلف الأطلسي، « نحن أصدقاء وحلفاء ولسنا خدما)، يدرك مدى المأزق الذي وصلته العلاقات الفرنسية الاميركية. وفي الحسابات العملية الآنية المتحققة على الارضن فان أميركا هي المستفيدة من هذا المأزق، وليست فرنسا.

للفرنسيين مثل يقولونه عن علاقة حب، لم تعد قائمة بين طرفين، إنما من طرف واحد: (أنا احبك، وأنت؟ أنا لم اعد احبك). ما من حالة عشق ينطبق عليها هذا المثل الفرنسي، مثلما ينطبق على علاقة الحب الفرنسية الاميركية، هذه الأيام. فرنسا ما انفكت تصيح، ليلا ونهارا، للحبيب الاميركي (أنا احبك) فيأتيها الجواب ( أنا لم اعد احبك).

 ومن المشاكل الحقيقية الكبرى التي أفسدت علاقة الحب الفرنسية الاميركية، هي القضية العراقية. الولايات المتحدة قررت شن حربها والإطاحة بنظام صدام حسين، فعارضتها فرنسا وحشدت جهدها الدبلوماسي ضد شن الحرب. لكن واشنطن لم تعبأ بالمعارضة الفرنسية، وحققت ما تريده، حتى دون موافقة مجلس الأمن الذي تحتل فرنسا عضويتها الدائمة فيه. وعندما تحقق لواشنطن ما تريد، عادت فرنسا لتقول للحليف الاميركي، دعنا ننسى ما مضى ونتصرف بطريقة براغماتية، ولكنها لم تجد أذنا صاغية من إدارة الرئيس بوش، بقدر ما وجدت، داخل هذه الإدارة، من يطالب بإنزال العقوبة بها، انتقاما لموقفها الرافض للحرب. وعندما احتاجت واشنطن إلى قرارات يصدرها مجلس الأمن الدولي، لإضفاء مشروعية دولية على وجودها داخل العراق في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب، وافقت فرنسا، على مضض، وأعلنت للحبيب الاميركي، هذه المرة أيضا: دعنا ننسى ما مضى، ونتطلع إلى المستقبل، لكنها وجدت أذنا اميركية صماء. وعندما أصدر أخيرا مجلس الأمن قراره المرقم 1546 في 8 حزيران الماضي بشأن العراق، وافقت عليه فرنسا، ورأى، حينها، بعض المتفائلين المتسرعين، في الموافقة الفرنسية، احمرارا في وجنتي العلاقات الفرنسية الاميركية. ولكن سرعان ما كشفت الأمور أن هذا الاحمرار ليس سوى احمرار مرضي سببته عودة حمى العلاقات بين البلدين. إذ حالما أعلن الرئيس الاميركي جورج بوش عن موافقته، بل حثه، أن يقوم حلف الأطلسي بتدريب القوات العراقية، فان الرفض جاءه على لسان الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وليس غيره. ولم يكتف بوش بذلك، بل انه (تعدى حدوده)، على حد تعبير الرئيس شيراك، عندما طالب الاتحاد الأوربي أن يسارع في قبول تركيا في عضويته. التفاصيل

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة