الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

بمناسبة الذكرى السابعة لرحيله محمد مهدي الجواهري.. وأنا

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

قد يشي عنوان المقال بوجود علاقة ما شخصية،  وحصول صداقة بين الشاعر الكبير، وشخصي المتواضع؛ فـ (واو)  العطف الواضحة المستخدمة في العنوان و (الانا) الفصيحة، القوية، التى ينفر من استخدامها ويتجنب ذكرها الناس العاديون،  توحي الى وجود مثل تيـنك الحالتين ؛ واسارع الى القول ، بان ما اقصده هو محض انطباعات ذاتية خاصة بيّ، تولدت عندي  تجاه الشاعر الكبير، رغم ان الجواهري ظلّ  محتفظاً ومقدراً  (لهديتي): التى قدمتها له قبل نيف واربعة عقود، تلك (الهدية) التى ساشير اليها والى موضوعها فيما بعد، وظلّ متطلعاً، كما فهمت، لاحقاُ، من احد افراد عائلته، ان يقابلني ليؤكد اعتزازه بيّ ويتعرف علىّ عن كثب.

على اني لا انوي في مقالي هذا، محاولة استنطاق ما كان يمكن ان يكنّه الشاعر العظيم من احاسيس تجاهي؛ فتلك مسألة شخصية،  قابلة لشتى التأويلات، كما انها لو صحت، فانها قطعاً لا تهم الاخرين، فما معنى التبجح في اشهار واقعة،  مفادها ان شخصا ما، يقدّرك، حتى ولو كان ذلك الشخص... الشاعر الجواهري نفسه ! فأذن ما يرد لاحقاً هو انطباعات شخصية، مقرونة بتسجيل حوادث معينة، بفضلها اتيحت لي فرصة التقرب  والتعرف على الجواهري شخصياً والتمتع بالاصغاء اليه والحديث معه.

تعود (معرفتي) باسم  الجواهري وبشعره، عندما بدأت أعي ، وانا طالب في  المرحلة الثانوية بمدى الظلم والاجحاف الواقع علينا، سيما نحن الفقراء، ساكني هذا البلد الذي اسمه - العراق؛  (الذي  مابرحت موارده الكثيرة المتعددة الغنية، التى يتحدث عنها الكثيرون، نهباً للاخرين، دون سكانه الاصليين، الذين ظلوا لعقود وما زالوا  اسيري آفات الامراض والفقر والجهل، رغم تبدل الحكام وتغيير الانظمة)؛  ومما زاد في التركيز على هذا الوعي وتأجيج شعور الاحساس به،  انتسابي الى عائلة ينتمي  جل ّ افرادها الى اليسار، وينادي بعضهم الى ضرورة التغيير الثوري كحل مناسب وحتمي   لتبديل وضعنا المزري. وازعم بان منطقة الجنوب العراقي التى انتمي اليها جغرافياً، كانت آنذاك، تمور بمثل تلك الاحاسيس والافكار، وهو ما اطلعت عليه ميدانياً اثناء  زياراتي واقامتي  ولقاءاتي مع الكثيرين من سكنة تلك المناطق، والعيش بين  ظهرانيهم.

كان اسم (الجواهري) وقتذاك، عنوانا للامال المتطلعة نحو التغيير، كان الشاعر الذي جسد في شعره طموحات الكثيرين، الطموحات المتطلعة والساعية وراء آمال  لآفاق جديدة، افاق ينعم الشعب  فيها بالحرية المفقودة ويتلمس مزايا  العيش الكريم؛ وربما كان هذا الجانب المعرفي من شعر الجواهري ،هو الجانب  الاكثر قرباً وفهما عند الكثيرين، الامر الذي مكن خطاب منجزه الشعري  ليكون خطابا هاما ومهيمنا على مشهد الاحداث الوطنية والثقافية في عموم البلاد.

 

 

بالنسبة لنا: سكنة الارياف والمدن الصغيرة، البعيدين نوعا ما عن مدن ومراكز الثقافة ومصادرها، كان مجرد ذكر اسم الجواهري،كافياً  لتتزاحم مباشرة في الذاكرة صور عديدة من الإباء والشهامة والعبقرية والتحدي والنضال. فقد كان بقامته المديدة وصوته المميزّ وتقاطيع وجهه المألوفه لدينا ، المحفورة باثار  جدري سابق، يجسد مثالا للوطنية وللتغيير، شاعرا متمكنا باقتدار ان يرسم لوحة احلامنا وان يعبر بحكمة عنها. ولم نعر انتباها الى ما يمكن ان تحمله قصائد الشاعر من فخامة لغوية وقوة تعبيرية  وفضاء شعري مترع بذائقة فنية ممّيزة، كان يهمنا (او بالاحرى كان يهمني، ويهّم اقراني في الاقل)، حدث القصيدة ومناسبتها وتداعياتها، تلك التداعيات التى ما انفكت ان قادت مؤلفها الى الاعتقال والمنافي. باختصار شديد كان اسم الجواهري وسلوكيته وشعره، وقتذاك يرتقي بالنسبة لنا، الى مصاف الاولياء الصالحين والقديسين، (اولئك الاولياء الذين تجوب امهاتنا واخواتنا البراري الشاسعة ويقطعن السبل من اجل   زيارة اضرحتهم العديدة المبثوثة  في بقاع مناطقنا، بحثا عن ملاذ ونذر وامل قد  يخفف عنا وعنهن هذا الضيم الابدي، او قد  يرفع عنا  وعنهن  ضروب الحيف السرمدي الجاثمة بكل ثقلها على انفاسنا جميعا بدون رحمة ولا رأفة!)،  فهو ليس مثقفا عاديا كونه شاعرا فحسب، بقدر ما كان يجمع في شخصه  ايضا  صفة المناضل التائق للحرية والمنشد لها، المتماهي مع شخصية بطل مقدمة ديوانه الشهيرة (على قارعة الطريق)  تلك الشخصية العارفة والمفكرة،  والعازفة بقوة عن  مغريات السلطة واحابيلها !

 

...في عصر يوم  من ايام الخمسينيات، وكنت في احدى زياراتي النادرة الى بغداد، طرقت سمعي، وانا في شارع الرشيد الفخيم، نداءات بائعي صحيفة (اليقظة) المسائية، يعلنون عن قصيدة جديدة للجواهري القاها في دمشق مؤخراً، مطلعها:

خلفتُ غاشيةَ الخنوع ورائي

واتيتُ اقبس جمرة الشهداءِ

ودرجتُ في درب على عَنَت السُّرى

القٍ بنور خطاهـُم وضاء

كان المارة واصحاب الدكاكين على جانبي الطريق يستعجلون الباعة في الحصول على نسختهم من الجريدة التى احتلت القصيدة صفحتها الاولى. كان مشهداً رائعاً بامتياز؛ مشهدا، ان اكون انا، بنفسي شاهدا ، على مدى الحب والتقدير والتبجيل الذي يكنه الاخرون للشاعر العظيم: شاعري الاثير؛ عندما رأيت  نسخ الصحيفة تتلقفها الايدي ولتبحث العيون بسرعة وتستقر عند كلمات ابيات القصيدة العصماء !

ظلّ ذلك المشهد البغدادي محفورا في ذاكرتي طويلا، اعيده واستعيده مراراً،  كاحد شواهد تلك المرحلة الزمنية التى اتسمت (بنفحة) حضور لمعارضة، بدأت وكأنها مشروعة، اقول (بدت) لاني على امتداد عقود من السنين التىاعقبت تلك الحادثة، لم ار تكرارا لها،كما لم تتسنَ  لي،  ولا للاخرين ممارستها؛ فقد (بلعت) الانظمة المتعاقبة كل مظاهر السلوك المتحضر وهمّشت جميع ادواته وشوهت كل مفرداته، وابانت شرهها المتنامي نحو الممارسات الدكتاتورية والجنوح باتجاه التوتاليتارية، والنأي بعيدا عن اية محاولة لاظهار نوع ما من تسامح، او تغاضٍ عن تبني فكرة معارضة،  او تكوين ادراك مفاهيمي خاص  خارج نطاق دائرة اهتمامات الحكام ونظراتهم القاصرة القصيرة. واني هنا لا اتكلم، فقط، عن مفهوم ممارسة قبول الاخر، اياً كانت (جرعات) تلك الممارسة، ولكني اشير ايضاً، الى (حدث) صدور جريدة مسائية وقتذاك. وقد تكون واقعة اصدار جريدة مسائية امراً عادياً لدى الاخرين، لكنها في بلدنا  تحمل دلالات كثيرة ومتعددة، فيؤشرحضورها  على جانب  مقدار استتباب الامن والامان في ربوع البلاد، كما يدل جانب اخر فيها على مدى حيوية وطبيعة دينامية المجتمع، ذلك المجتمع المتعطش للقراءة و التواق  للمعرفة والباحث عن اساليب اضافية لتعزيز مداركه الثقافية والابيستمولوجية عموماً. وقد كنت اعتقد، وما زلت، بان حدث صدور جريدة مسائية في مدينة ما، يعني نوعا ما من التمتع برفاهية ثقافية ومعرفية، وتدل في بعضٍ منها على وجود انسجام في فئات  المجتمع وتوافق في مكوناته. والملاحظ ان صدور جريدة مسائية في العراق توقف منذ ذلك الحين؛ عندما فطن الحكام الدكتاتوريون الى لعبة التلذذ بتحديد ساعات منع التجوال، وساقوا سكنة الحواضر المتنورين، عاليي الثقافة نحو الاعتقال المنزلي باجبارهم على المكوث في بيوتهم، والبقاء فيها لساعات عقابا لهم بدون وجه حق،  بحجة الدفاع عن (الثورات) العديدة التى افتعلوها،او بداعي  الذود عن مكتسباتها!

... عندما نلت مقعدا من مقاعد دائرة البعثات للدراسة  بالخارج على حساب الدولة في نهاية الخمسينيات، وتحديداً في صيف عام 1959، منحتنا (الدائرة) كعادتها دفعة مالية مخصصة الى الطلبة المبعوثين، من اجل شراء ملابس اضافية  تتواءم  مع الاجواء الباردة الاوروبية، التى ستضحى دولها مقرا ً لدراستنا المستقبلية. لا اذكر مقدار المبلغ في التحديد، لكنه كان مبلغاً كبيرا؛ بالنسبة لي كان مبلغاً خيالياً، لا يصدق: ثمانون ديناراً او نحوها !. فلأول مرة ارى في حياتي ( مجرد رؤية، وليس اقتناء!) (نوط ابو الخمسة) بهذة الكثرة والعدد، كما كانت تدعى  الاوراق النقدية بقيمة خمسة دنانير!؛ بحيث اقترح علىّ صديقي ان يسير ورائي ليراقب جيبي الخلفي الذي امتلأ  فجأة بهذه (الاوراق) النقدية، ويحرسه من    ايدي النشالين والحرامية ! وسهل اقتناء هذا المبلغ الكبير تحقيق امور كثيرة منها... اللقاء بالجواهري !.

اذ راودتني (فكرة) ان اشتري ديوانا لشعر الجواهري، واذهب اليه مباشرة ليوقع عليه، ومن ثم احتفظ بالكتاب الموقع  كتذكار، طيلة مدة بعثتي في البلد الغريب الذي انوي السفر اليه. كان البحث عن  الديوان في مكتبات بغداد الكثيرة شأنأ هيناً، كما ان تحقيق شرائه امر ميسور، سيما وانا، الان، املك هذا المقدار الكبير من المال؛ لكن الصعوبة (والجرأة ايضاً)  تكمن في الذهاب الى الشاعر، والطلب منه التوقيع على الكتاب. فهذه الممارسة؛ ممارسة توقيع الكتب، التى تعرفت اليها عبر قراءاتي  فقط؛ لم تكن ممارسة معروفة في الوسط الثقافي المحلى ربما حتى وقت  قريب، فما بالك في فترة نهاية الخمسينيات؟ . واذا سلمنا (بعادية) و(مألوفية) تلك الممارسة، فمن يضمن بان الشاعر يعرفها او مطلع عليها؟. والامر المحيرّ الاخر، هو كيف تسنى لي، انا الريفي الخجول، والصغير عمراً نسبيا (18 سنة )، ان تراودني مثل تلك الافكار التى اعتبرها الان طليعية..  وغريبة نوعا ما؟!.

وبلمح البصر، اقتنيت (ديوان الجواهري) من (المكتبة العصرية) الواقعة في اواخر شارع المتنبي، بالقرب من مدخل (سوق السراي) المعروف ؛ وكانت وقتئذٍ من اقدم واشهر مكتبات بغداد واكبرها. وبلمح البصر ايضا، صعدت ومعي (الديوان)  متسلقا سلم جريدة   (الرأي العام) في شارع المتنبي، التى كان يصدرها الشاعر آنذاك. لم يكن ثمة حراساً او موظفي استعلامات؛ وفجأة وجدت نفسي امام الجواهري، في غرفته، لم يكن جالساً، كان يسير في غرفته جيئة وذهاباً، وبيده سيجارته، وجدته رجلاً ضعيف البنية، بيد انه طويل، طويل وضعيف؛ سلمت عليه وباغته بطلبي: التوقيع على ديوانه.

- هل عندك قلم؟

سألني ولم تبد عليه،  كما توقعت، اية دهشة او استغراب من طلبي..

- لا، لا املك قلما.

كان جوابي سريعاً... ماكرا  وخبيثاً؛ ذلك لاني شعرت بحسي الريفي باني اذا اعطيته قلماً مباشرة (وكنت احمله) سوف تنتهي المقابلة بسرعة، وهو امر لم يكن في صالحي؛ في صالحي كان البقاء معه  اطول وقت ممكن..؛ ورأيته يفتش في جيوبه العديدة، ثم وجده: قلم: باندان؛  بحبر اسود،

- ماهو اسمك؟

- خالد السلطاني

وكتب في الزاوية العليا من اول صفحة داخلية من الديوان:

(الى الاخ خالد السلطان

مع التحية)

ثم وقع باسمه مع ذكر التاريخ كما اتذكر؛ كتب اسمي من دون اضافة حرف (ياء) النسبة الاخير ؛ ربما سمعها (السلطان) مني هكذا..، ولم اعترض طبعاً.

عندما كان يكتب، ادهشتني رؤية اصابعه؛ كانت اصابع طويلة ودقيقة؛ اطول مما ينبغي؛ لم ارَ سابقاً اصابع بهذا الطول، وبتلك النحافة؛ لقد اخذني المشهد، وجعلني اركزّ مبحلقاً عليها، على تلك الاصابع النحيلة المستدقة المعروقة، الماسكة بالقلم، دون اية محاولة للتعرف على ملامح وجهه او بذل اي مسعى لاستذكار تقاطيع ذلك الوجه؛  لا ادري لماذا تذكرت، فجأة، قصة (ستيفان زفايج): (24 ساعة من حياة امرأة)؛ ففي تلك القصة يتناول المؤلف عبر ابطال القصة،  الحديث عن الاصابع: اصابع الاشخاص: اشكالها وهيئاتها، وماذا بمقدورها ان تعكس من مزايا شخصية، وسمات ذاتية.. لقد كانت اصابعه تشبه الى حد كبير، كما ساعرف لاحقاً،  اصابع الموسيقي، او عازف البـيانو تحديداً... وليست ثمة غرابة في ذلك، فقد عرفت، لاحقاً ايضا ً، بان الشاعر كان يصطفي  ايقاع قصيدته وصوتها الموسيقي، قبل ان يملأها في جُمل فيما بعد، وعندما كان يشتغل على قصيدته وينظمها،  كان اولا  (يحدي) شفاهياً بموسيقاها قبل ان تتحول تحريرياً الى ابيات شعر من كلمات ! ولعل هذا التآلف (وربما التثاقف، ايضاً) الذي نزع الجواهري لتأسيسه في منجزه الشعري، جعل منه منجزاً يتسم معماره على حضور طاغِ  (لميلوديا) موسيقية تطمح الى تأثيث حساسية جديدة  بمرجعية نادرة، مرجعية  تحرص لان تتصادى مع اجناس معرفية متنوعة.

ارجع لي  الكتاب المُوقع ضاحكا، ومدارياً خجلي، ومقدرا مبادرتي؛ مستفسرا مني عن مكان اقتناء الديوان، وفيما اذا كان ثمة نسخ اخرى منه، لا تزال عند صاحب المكتبة؟ واجبته بسرعة عن اسم المكتبة، وليس عندي علم عن الاعداد المتبقية ؛ وفكرت لماذا يثير هذه المسألة معي؟ هل يريد ان يعرف نفاد تلك الطبعة من السوق؛ ام  مجرد ان يرغب في ابداء شكوى بصوت عالٍ للحالة غير الشفافة وغير الصريحة التى طالما اكتنفت علاقة المؤلف بالناشر؟ ؛ لا ادري؛ وتركته سريعاً متأبطاً الكتاب المُوقع، كذخيرة غالية  وفريدة، احتفظت بها لسنين عديدة، وتركتها في بغداد، ضمن ما تركت هناك، اثناء خروجي الاضطراري من بلدي.

..في موسكو التى امست مكاناً لدراستي المعمارية، تعرفت فيها على الكثيرين: المقيمين فيها، او زوارها؛ وما اكثر زوار موسكو حينذاك !؛ تعرفت على غائب طعمة فرمان،وحسب الشيخ جعفر واحمد ماضي، وجيلي عبد الرحمن، ومجيد بكتاش، وكذلك عبد الوهاب البياتي، ملحقنا الثقافي، و على السفير عبد الوهاب محمود - احد الشخصيات الوطنية العراقية المرموقة، الدبلوماسي والمثقف المتنور، الذي لم تعرف سفارتنا بعده رجلا مثل مكانته وحضوره، وبمثل حسه الوطني ورغبته الصادقة في تمتين اواصر الصداقة الحقيقية بين الشعبين العراقي والسوفياتي انذاك. اذ شغل ذلك المنصب من بعده ناس عديدون؛ وما عدا غافل جاسم، وبدرجة اقل شاذل طاقة، فقد تبوأ ذلك المنصب افراد ليس لهم علاقة لا بالدبلوماسية ولا ادركوا اهمية المنصب الذي شغلوه، كان جلهم من الافاقين، عسكر وسياسيين مغضوب عليهم، وتجار سوق سوداء، ورجال مخابرات ولصوص عاديين، كان اخرهم (لص بغداد) الذي وجد في حسابه الشخصي (!) مبلغا قدره (30  مليون دولار)، مسجلاً باسمه في احد مصارف  موسكو، كما اوردت ذلك وكالات الانباء مؤخرا.

...كان خالد الزبيدي: صديقي وابن بلدتي - الصويرة؛ وفاته المفجعة والسريعة لا تزال بمثابة غصة في نفسي، استاذا لي في التعاطي مع الاخرين؛ كان يعرفني على المثقفين العرب الذين يلتقي بهم، ويرشدني كونه اكبر مني عمرا في بعض شوؤني الحياتية. كنا نجتمع عادة في (فندق موسكو)، وهو فندق فخم بالمقاييس السوفياتية وقتذاك، يقع في قلب موسكوبجانب الساحة الحمراء وبجوار اسوار الكرملين، نجتمع حول طاولات نحتسي القهوة او غيرها. في بداية الستينيات لم يكن امراً مألوفاً ان تجلس في مقهى بموسكو، بل لم تكن ثمة مقاهٍ بهذا المفهوم: المفهوم (الباريسي) الشائع والمعروف لدينا او في الاقل في مخيلتنا؛ عن طاولات صغيرة وكثيرة مبثوثة في الداخل والخارج وعلى الارصفة، روادها ناس متميزون متنوعو الاهتمامات والاختصاصات،  لكل واحد منهم  مقهاه وطاولته المفضلة. كانت هناك مطاعم، تستقبل روادها مساءا لقضاء السهرة، والدخول لها  كان مقنناً وغاية في الصعوبة، كما كانت ثمة امكنة خاصة  قليلة جداً  لتناول المثلجات او العصائر، وندرة في اعداد البارات المخصصة للجعة فقط.

وعندما افتتحت (مقهى) لاول مرة، في بهو (فندق موسكو) كنا من اوائل روادها، اذ كان المكان المفضل لالتقاء المثقفين العرب والعراقيين خاصة؛ مكاناً بمقدورك ان تتجاذب فيه الحديث مع صديق وتحتسي قهوة بسعر رخيص او تتناول جرعة من الكونياك الارمني الشهير باسعار تفضيلية، فماذا عساك كارهاً لها؟!

كانت مدرستنا المعمارية التى ندرس فيها، تقع في مركز المدينة ايضاً، اي ان طريقنا الموصل بين مكان سكنانا في الاقسام الداخلية والكلية يمر عبر فندق موسكو، وكثير منا كان يفضل الجلوس  في المقهى على سماع محاضرات كنا نراها مملة، وغير ذات  فائدة؛ حسب تبريرنا لعدم الحضور.

بات (فندق موسكو)  بالنسبة الىّ والى اصدقائي بمثابة (بيتنا) - البيت الذي نعرف فضاءاته  وطوابقه ومطاعمه العديدة وحتى خفاياه، وبالمقابل فان موظفي الفندق ومستخدميه خبرونا وتعرفوا على الكثير منا. ورغم ان الدخول الى الفندق كان شبه ممنوع على المواطنيين الروس العاديين،  كنا ندخل ونخرج بحرية. بالطبع كنا  نعلم  بان الفندق مخصص لسكن اعضاء المؤتمرات الحكومية والحزبية الكثيرة، وغالباً ما كنا نشاهد في اروقته، (ابطال) العمل الاشتراكي والعسكريين ذوي الرتب العالية، باوسمتهم اللماعة العديدة على صدورهم، وهم يقفون معنا في (الطابور) الذي يتشكل بسرعة امام البارات واكشاك الاكل السريع.

كان بمقدورنا المكوث داخل الفندق ساعات اليوم بكاملها؛ اذ كنا ننتقل من فضاء الى آخر، وفضاءات الفندق واسعة وفسيحة ومتعددة، ان تزييناتها  فائضة  على  المطلوب؛ وقتذاك كان هّم المعمار السوفيتي اغراق (انترير) المبنى بمزيد من المفردات التشكيلية والمعالجات الفنية: ثمة عناصر كلاسيكية كثيرة  وحضور كبير لقطع نحتية عديدة، وصور جدارية وسقفية ضخمة وثمة مرايا متنوعة تعكس الانوار والالوان الفاقعة. لا يمكنني ان اجزم بان كل ذلك كان امرا جميلا ومقبولا، لكني اعرف تماما بان مثل تلك المقاربة التصميمية كانت امرا لازما وضرورياً لتلك الحقبة الزمنية، اذ سعى المعماريون السوفيت الى خلق (اميج) تصميمي متخيل، لازم في العادة معالجات  عمارة الابنية العامة،   ليكون (نموذجا) لما يمكن ان تكون عليه طبيعة البيئة المبنية (الاتية) (والتى لم تات طبعاً)؛ ذلك (الاميج) العمراني - الذي يفترض ان  يعم تخطيطات وبناء مدن ومراكز التجمعات السكانية السوفيتية باكملها.

كنت مّطلعاً  بان (الكسي شوسيف) - هو مصمم الفندق، وهو احد المعماريين المهمين والاساسيين في حقبة الحكم السوفياتي وقبلها ايضاً، فقد صمم قبل الثورة  محطة قطار (كزانسكي) المشهورة  في موسكو؛ كما انه هو الذي اعّد تصاميم  (ضريح لينين) في الساحة الحمراء في العشرينيات - فخر العمارة السوفيتية ومنجزها المهم؛  وكان قريباً  من مصادر القرار السياسي؛ ولهذا فقد حصل على حرية كاملة في مسعاه  لاضفاء مختلف العناصر التزيينية العديدة والمختلفة في المبنى،  من دون ان يجد اية  مناهضة او معارضة من احد .

في البدء، لم يعتد نادلو المقهى وموظفوه لطريقة وأسلوب جلوسنا؛ فقد كنا نجلس جميعا تقريبا ملتفين حول طاولة واحدة، لنتمكن من ان نتجاذب الاحاديث، كما ان فترة جلوسنا كانت تمتد لساعات، واذ تقبل موظفو الفندق والمقهى على مضض طريقة جلوسنا المشترك الصاخب، فقد كان من الصعب عليهم ايجاد تفسير او تبرير مقنعين لطول فترة جلوسنا، اذ كان يدهشهم، ويثير اعصابهم (الدوام) شبه اليومي لاناس محددين بعينهم، يتواجدون يومياً في المقهى .

- ماذا تفعلون هنا؟ اذهبوا الى اعمالكم، اوليس لديكم اعمال؟!

كنا نسمع صراخ هذه التساؤلات مرارا  في البداية. فقد كانوا واثقين بصوابية ومصداقية الشعار الذي يتردد في عموم ارجاء الاتحاد السوفياتي الواسعة: (من لا يعمل، لا يأكل !)، ونحن المتلذذين بطول الجلوس،الكسالى،، ليس فقط نأكل اكلاً جيدا، وانما نشرب ايضاً، ولم يكن الماء  لوحده  يروينا ! كان سلوكنا بالنسبة اليهم يمثل امراً سوريالياً غير قابل لا للفهم، ولا للتصديق !؛ ام ياترى ثمة خلل في النظرية، والعياذ بالله؟. وفي الاخير اقتنعوا باننا مجرد (استثناء)، ذلك الاستثناء الذي يصاحب، عادة،  القواعد. وبمرور الزمن تقبلوا سلوكنا وتعرفوا علينا اكثر، وبتنا اصدقاء.

كنا ننتقل من مكان الى آخر من اروقة  وابهاء الفندق الفسيح، ونصغي احيانا الى اصوات الموسيقا والغناء الصادرة من المطاعم، التى لم يكن الدخول اليها ميسرا دائما لنا، بحكم المصاريف الاضافية التى يستوجب انفاقها  فيها ؛ كنا نفضل الجلوس في (البوفيه) المجاور لنأكل ونشرب باسعار معقولة، وقد حفظنا (ريبرتوار) المغنين  و(ذخيرتهم) الموسيقية، ولاسيما مغني محدد، بعينه، كان يكرر اغنية واحدة  كل مساء. بالطبع لم يفطن احد  لعملية الاعادة والتكرارالمملتين التى لا تنتهي، اذ كان رواد المطعم يتغيرون كل امسية، وحدنا كنا نعرف ذلك، وكان هذا يثيرنا ويزعجنا اعادة سماع الاغنية بذاتها مرات عديدة، كان (غائب) لا يحتمل صوته، في حين يأخذ  (مجيد بكتاش)  في اصدار تعليقات حادة وساخرة، يفتخر بانه تعلمها من دروب (المهدية)-  منطقة سكناه في بغداد!، حتى تساءل، مرة، خالد الزبيدي، ماذا ياترى، بوسع هذا الرجل ان  يعمل؛  فيما اذا خطر لـ (انستاس ميكويان)، وكان رئيسا للاتحاد السوفياتي يومها، اصدار (مرسوم) بمنع هذه الاغنية في عموم الاتحاد السوفياتي؟

وفي هذا الفندق الذي تعمدت ان أصفه بشئ من التفصيل التقيت به.. الجواهري، مرة اخرى. وكان ذلك اثناء انعقاد (مؤتمر  موسكو لنزع السلاح) صيف عام 1962؛ والذي حضره مفكرون ومثقفون وعلماء ورجال سياسة مشهورون من غالبية انحاء العالم، بضمنهم وفد العراق الذي كان في مقدمتهم الشاعر الجواهري  الذي القى في المؤتمر قصيدة بعنوان (اطفالي واطفال العالم)؛ و ترجمت القصيدة في حينها  الى عدة لغات ونشرت في عدة صحف عالمية؛ مطلعها:

لي طفلتـانِ اقنصُ الخيالا

عبريهمـا والعِـطر والظـِلالا

اسوءُ حالا كي يُسـّرا حالا 

كنت قد عملت، سابقاً، تخطيطاً شخصياً للشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي سرعان ما نشره في ديوانه (القمر الاخضر) الصادر بالروسية. واذ عرفت بان الجواهري سيحضر هذا المؤتمر، عملت له ايضا تخطيطا شخصيا منقولا عن صورة فوتوغرافية، رسمتها بتأن وبدقة، ومزجتها مع (مشعل) الحرية، ولهيبه المتوهج الذي يفترض ان ينير (دروب) دعاة الحرية ومناصريها. ومع ان الرسم التخطيطي كان مثقلا بذهنية ومزاج تلك الايام وتصوراتها المتخيلة، فقد كنت صادقاً واميناً ومخلصاً في التعبير عن احاسيسي تجاه شاعري المفضل.

رغبت ان اسلمه التخطيط  في المقهى ذاته، اذ كان المكان محط مجلس عدد كبير من المثقفين المعروفين المشاركين في المؤتمر؛ فقد كان يجلس هناك بالاضافة الى (مجموعتنا): الجواهري وعزيز شريف وحسين مردان من العراق وميخائيل نعيمة من لبنان وكثير من المثقفين المصريين، فضلا عن (جون بول سارتر) ورفيقة دربه (سيمون دي بوفار)  ومثقفين مشهورين اخرين  من بلدان متعددة مشاركين في المؤتمر اياه.

كان (مجيد بكتاش) كالعادة،  يكرر دائما بصوته المميّز، مقولة منسوبة الى الجواهري ارسلها  الشاعر  الى احد محرري صحف بغداد الصادرة في نهاية الخمسينات وبداية الستينيات، اثناء اشتداد المعارك الفكرية بين مناصري الجمهورية وخصومها. وفي حينها كانت تصدر جريدة مبتذلة ، مليئة بمقالات اتسم خطابها ببذاءة لغوية وتعابير وقحة  وشتائم كلامية رخيصة موجهة الى جميع انصار الثورة ومن ضمنهم بالطبع الجواهري  وجريدته (الرأي العام)؛ وفي حينها ايضاً، اصدر احد اقدم صحافيي العراق جريدة ذات اتجاه معاكس لتلك الصحيفة (الصفراء)، ساعياً الى دحض اكاذيبها  (وتفكيك) اتهاماتها ومقولاتها الفاحشة بمقالات مضادة ومناصرة الى للجواهري وصحبه الاخيار، ويقال ان الشاعر حرر رسالة مفتوحة تضامنية مع رئيس تحرير هذه الجريدة نشرتها (الرأي العام)، وباتت مجال اهتمام الوسط الثقافي والسياسي المحلي؛ وقد عنونها كالاتي:

(عزيزي طه لطفي البدري، اقبل يديك الراعشتين !).

كان (مجيد) يكرر هذه العبارة يومياً، بمناسبة وبدونها، حتى امست (لازمة) له، ورغبت عند تقديم المخطط الى الجواهري ان اقبل يديه، تماما كما كان يرغب هو في رسالته المشهورة، التى كررها (مجيد) على اسماعنا مرارا وتكرارا ً؛ كايماءة مني   على شعور  الاحترام والتقدير والتبجيل والمحبة الذي اكنه له. واثناء جلوسه في مقهى موسكو العتيد، محاطاً بكثير من اصدقائي ومعارفي العراقيين، اظهرت المخطط الذي وضعته في اطار، وقدمته له؛ كانت مفاجأة  بالنسبة اليه، وظهر عليه ارتباك، لكنه سرعان ما ابدى اعجابه به ورضاه عليه، عند ذاك صاح اصدقائي، وكانوا يعرفون مسبقا عزمي ونيتي في تقبيل يديه:

- قبله.. قبله !

بيد ان الجواهري تراءى له ان مناشدة  اصدقائي موجّه له شخصياً، وليس لي، ولهذا سارع الى تقبيلي، وانا في حيرة من امري ومندهش لسير الامور في اتجاه مخالف تماما  لما كنت (خططت) له ، وبات قصدي في تقبيل (يديه الراعشتين) امرا صعب التحقيق، بعد (سيل) القبلات التى غمرني بها الشاعر الكبير !

لم يكن التخطيط، الذي رسمته للشاعر، تخطيطاً محترفاً ذا قيمة فنية عالية، واعترف بعد تلك السنين من ميقات رسم التخطيط، بانه احتوى على اخطاء وعيوب فنية وتكوينية عديدة.  انه لا يجاري  قطعاً، لا من ناحية قوة الخطوط ورهافتها، ولا من ناحية التكوين الطليعي لذلك التخطيط الجميل والرائع الذي عمله (جواد سليم) له، لكنه كما اعتقد، كان التخطيط الشخصي الثاني للشاعر في ذلك الحين . واود هنا ان اثير موضوعة اهمية مخطط (جواد سليم) اياه. فهذا المخطط الذي عمله (جواد) للجواهري في باريس (؟ ) اوخر الاربعينات (؟) لم يحظ َ بعناية  واهتمام من قبل  جميع كتاب  الدراسات النقدية التى تعاطت مع منجز جواد سليم الفني؛ علماً ان هذا المخطط السريع، المشغول بالحبر الصيني، والمعمول مباشرة من (الطبيعة)؛ يرتقي، في رأيي، باسلوبه المحترف المتقن  وفنيته العالية الى مصاف اهمية التخطيطات الكرافيكية التى عملها (هنري ماتيس)،  تلك التى ساهمت في بناء شهرته وتكريس حضوره في المشهد الفني العالمي. ولولا الحاح الجواهري  في تكرار نشر التخطيط كلما اعاد طباعة ديوانه، لظل هذا التخطيط الرائع اسير النسيان والاغفال،  تماما كما هو منسي في دراسات نقادنا الفنانين، الذين (اجمعوا) في توافق مريب على تغاضي هذا التخطيط، وعدم الاشارة اليه مطلقاً، مع انه عمل اصيل في مسار الانجاز الفني  لجواد سليم ،كما انه  حدث مهم في تاريخ الفن العراقي الحديث . ويماثل مصير اغفال ذكر تخطيط (جواد سليم) مصير حادثة اهمال الدراسات النقدية وقصورها في التعاطي مع اهمية نص  مقدمة الديوان الشهيرة (على قارعة الطريق)، تلك المقدمة التىاتسم اسلوبها الكتابي بوجود  نَفَس  طليعي،  مفعم بحس حداثي مبكر، سواء كان ذلك لجهة  تكريس  معمار تجديدي في طريقة  بناء تعاقب نصوصها؛  ام  في حضور تساوق مدهش لمفرداتها المختارة بعناية تامة؛ وقد بلغ اعجابي الشخصي (بالمقدمة) ان حفظت عن ظهر قلب نصوصها النثرية،  تماما، كما يحفظ الاخرون ابيات القصيدة الشعرية !

اقول، رغم ان  التخطيط المقدم للشاعر،  في مقهى موسكو،  لم يكن بمعايير فنية كاملة، فاني وددت به ان اعبر عن احترامي وتقديري للشاعر، شاعري المفضل، الذي سبق ان  قابلته اول مرة،  في احدى بنايات شارع المتنبي ببغداد. بالطبع، لم اذكر له الحكاية: حكاية توقيع الكتاب، وحتى لو ذكرتها، فانه قطعا لا يتذكرها؛ لكني  عرفت، لاحقاً، بانه كان شديد الاهتمام والرعاية لهذا التخطيط، وظل مصاحبا له في كثير من المدن التى مرّ بها. وعندما استقر ببغداد في السبعينيات علق التخطيط في غرفة الضيوف اعتزازا به. وذات يوم، من منتصف السبعينيات، وكنت اعمل استاذا في جامعة بغداد  بكلية الهندسة، وكان يعمل معي في الكلية نفسها  ابن الشاعر وصديقي د. كفاح، اخبرني الاخير بان الجواهري يود ان يراني مرة اخرى ليعبر لي عن تقديره الشخصي واعتزازه بالتخطيط.

وزرته في داره  بحي الحارثية  بصحبة الصديق كفاح، الذي قدمني اليه على اني الشخص الذي رسم التخطيط، ذلك التخطيط  المعلق  في جدار غرفة الضيوف، التى كانت وقتها  غاصة بزواره، اذكر  منهم مهدي المخزومي النحوي البغدادي المعروف وعلي جواد الطاهر، واستقبلني الشاعر بحرارة،  وشكرني على  هديتي،  التى ابدى اعجابه بها وامتنانه لي. وقد فهمت لاحقاً، ان الجواهري ابدى رغبة شخصية وحرصا شديداً  بوجوب  نشر ذلك التخطيط في احد اجزاء  دواوينه الصادرة ببغداد في السبعينيات، وتم تحقيق ذلك !

..وشاهدته عن كثب، وهو في حديثه واصغائه للاخرين، يقترب من تلك (الصورة) التى سبق وان (نسجتها) له: الانسان المسكون بالشعر وقضاياه،  ومرت بي سريعاً مراحل الشاعر العديدة، تلك المراحل التى اتسمت على تنويع مدهش في المواضيع والاساليب، والتى جعلت منه سيدا من اسياد الشعرية العربية ورمزا لها؛ ولئن تعاطى انجازه الشعري الفخم مع مواضيع سياسية صاخبة، أرخ بها على وجه الخصوص مسار بلده العصيب والمضطرب، ومسار المنطقة عموما، فانه كان يدرك ايضاً بان منحى الشاعر  ومنهجه قد يختلف عن برنامج السياسي  و( اجندته)، من حيث تنوع ثيماته الشعرية ومقارباته عالية الذوق والفنية التى نأت بعيدا عن محدودية واطر ومواضيع الهم اليومي المشغول بها عادة رجل السياسة. لقد كان منجزه الشعري لصيق الصلة  بـ(رواق)  البلاغة العربية المتأنقة الجليلة، ذلك (الرواق) الذي تتفاعل فيه، وبه الثيمات الملتزمة جنبا الى جنب مواضيع الخلجات الذاتية، في تناغم باهر بين فضاءات منفتحة على منجزالموروث الشعري وذاكرته، والنزعة الجامحة لتأسيس شعرية جديدة مفعمة بذائقة فنية حداثية !

..لم تكن (اثاث) الدار، اعتمادا على نوعية تأثيث غرفة الضيوف تليق بمقام الشاعر واهميتة الادبية، بل ان عمارة (الدارة) نفسها لم تحتو على قيمة فنية تشي باهمية (ساكنها)؛ كما ان موقعها ظل بعيدا عن نهر دجلة، الذي طالما تاق الشاعر ان يسكن بجواره وعلى ضفافه؛ وقارنت بين طبيعة (القصور) التى بدأت تشيد بشكل سريع لسكن (حكام) العراق الجدد وازلامه الموغلين بدم الشعب وسارقي ثرواته، وبين المسكن المتواضع للشاعر الكبير، وصعقني مجرد التفكير بتلك   المقارنة ونتائجها المجحفة  والظالمة والجائرة  وغير العادلة بحق احد رجالات العراق العظام !  بيد ان الشاعر ومن خلال حديثه وانفعالاته لم احس ّ بانه يقترب من (محيط) منطقة الافكار التى راودتني، وظل منسجما مع نفسه ومع ضيوفه غير مكترث بالحالة التى بها، متمسكا باسلوب حياته: اسلوب المثقف الكوني الذي لا يملك شيئا، ولا يملكه شيء، بتعبير المتصوفة !

وكانت تلك الزيارة اخر عهد لي  بالجواهري، كما كانت اخر مرة، ارى فيها  التخطيط الاصلي.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة