أحمد السعداوي
لي صديق، يقيم الآن في إحدى الدول الاسكندنافية، كان يردد في
رسائله دائماً جملة، اعتقد انه مأخوذ بجمالها الشعري، أكثر
مما فيها من حقيقة اكيدة. كان يقول إنه هرب من العراق لسببين
لا أكثر أولهما صدام.. والثاني.. حر الصيف العراقي.
وكان من حقه طبعاً أن يتساءل: كيف كانت الحياة في العراق
طوال عقود وقرون تسير دون (سبلت) أو (أركندشن) أو حتى مبردة
أو مروحة سقفية؟!
وإذا كان صدام قد زال، فان الحر باقٍ لا يزول، وهذه نتيجة
كافية لصديقي الاسكندنافي لكي لا يعود إلى العراق ابداً.
صديق آخر، هو في عمان الآن، كان يقول.. إنه ظل يدعو الإله
فترة طويلة حتى يئس وانقطع رجاؤه، لتحقيق شيء فنطازي، لكنه
مهم بالنسبة لهذا الصديق، وهو أن يدخل في السبات ابتداءً من
نهاية الربيع وحتى مطلع الشتاء، وهو مستغن عن الاشهر الاربعة
أو الخمسة التي تختفي بسبب هذا السباق الجميل، لأنها ثمن لا
بد منه للتخلص من الحر.
كنا نقرأ عن البرنامج الكتابي لنجيب محفوظ، ونعجب لهذا
الانضباط، فهو يكتفي بالقراءة خلال الصيف، ويبدأ موسم
الكتابة لديه خلال الشتاء. ولا أدري هل للحر علاقة بالموضوع
ولكني أعرف أن للحر علاقة بالكثير من النشاطات الابداعية
وغيرها هنا في العراق.
وتيرة النشاط تهبط حين ترتفع درجة الحرارة (في الظل) إلى 45
درجة مئوية.. هناك علاقة عكسية للحياة كما يبدو مع الحر.
يتابع العراقيون اخبار موت أو مرض العديد من مواطني الدول
الاوروبية خلال الصيف.. ومثلها في الهند والدول الآسيوية.
ويعجبون أن يموت الانسان بسبب الحر، ولكن تلكؤ الحياة
وتضعضعها هو شيء مشابه للموت. فان أظل معطلاً بانتظار
الشتاء، وهو شيء يشبه الموت أو السبات.
إن جزءاً جوهرياً من مشكلة العراقيين السايكولوجية في عهدنا
الجديد. هو إن بعضهم متكيفون إلى حد ما مع وجود الديكتاتورية
وحضورها الرمزي والمادي، لذا نرى الآن الكثير من الآثار
السلوكية التي يمكن ردها إلى معضلة التكيف السابق مع
الديكتاتورية. وعدم التقدم في التكيف الجديد المراد مع
الديمقراطية. هذه الصورة ترد إلى ذهني دائماً حين انظر إلى
سائقي النقل الخاص، وباعة الارصفة. وأصحاب المقاهي في باب
المعظم والباب الشرقي، وباعة الخضار والرقي وغيرهم. الذين
يصطحبون بالشمس اللاهبة، ويختمون يوم عملهم بتوديعها إنهم
متكيفون ولا ريب مع الحر العراقي المميز. يساعدهم على ذلك أن
حس المقارنة مفقود. فهم لا يعرفون صيفاً آخر غير هذا الصيف.
حتى وأن ذاب الإسفلت كل سنة وحمل معه إلى شتاء طبعات
الإطارات المختلفة، فهذا هو الصيف!!
صيفنا - وأخشى أن نذعن لذلك - هو صيف مجرد، أنه شمس وهواء
ساخنين على مدار النهار، وأرض وحيطان (فرنية) على مدار
الليل. إنه صيف غير ملطف بشيء غير طبيعي، أو ينتمي للأنجاز
البشري. على الصيف أن يعمل وفق سنن الطبيعة. وعليك أن تتعرق،
وفق سنن الطبيعة ايضاً. والسبب معروف.. لا ماء ولا كهرباء.
على الضفة الاخرى، يتندر العراقيون على حالهم، حيث يذكرون
صورة فردوسية عن علاقة الانسان بالحر، صورة المواطن الخليجي
الذي يهرب من بلاده إتقاء الحر إلى بلاد الله المثلجة، أو
الصورة البديلة عن ذلك.. البيت المسبلت! (من السبلت) الذي
يخرج منه إلى السيارة المسبلتة. ثم ينزل منها إلى مكان عمله
المسبلت جيداً، ثم إلى أماكن الترفيه والتسوق المسبلتة
كالعادة، وهكذا حتى تنقضي محنة اقتراب الارض الموسمي من
الشمس.
التشجير كان واحداً من خطط ثورة 14 تموز 1958، لتخفيف الحر
عن سكان بغداد، وهذا ما لم يتحقق حتى الآن، كذلك بامكاني أن
أتألم وأتندر على عنوان عريض خط في نهاية حرب الثمانينيات
على غلاف مجلة (ألف باء).. (بغداد تنار بالطاقة النووية عام
2000 ولكننا (جزنا) الآن من الطاقة النووية ونريد كهرباءنا
الاعتيادية.. نريد - لا أكثر - أن نسقط الحر الديكتاتوري في
قسوته، والديمقراطية في نعمائه.. بمروحة سقفية في الاقل، حتى
لا نظل نحلم بالسبات أو الهرب، وحتى لا يغدو الحمام - إن
توفر الماء - هو البيئة الطبيعية لحياة الانسان العراقي خلال
صيفه المميز! |