د. توفيق المراياتي
ومن الزاوية الاقتصادية فان مشروع بوش لإعادة اعمار العراق يعتبر في حقيقة
امره خطة لتحقيق المصالح الاقتصادية الامريكية في العراق
بالسيطرة على منابع نفطية لتأمين حاجة الولايات المتحدة
المستقبلية منها . والارقام التالية تظهر لنا بوضوح هذه
الحقيقة . ففي بداية العقد الاول من القرن الحالي اخذ اعتماد
الولايات المتحدة يزداد علي النفط الخام، ذلك أن إنتاجها بلغ
( 9.3 ) مليون برميل يومياً وكانت تستورد ( 3.2 ) مليون
برميل يومياً عام 1973 ، في حين تراجع انتاجها النفطي في عام
2003 ليصل الى خمسة ملايين برميل يومياً وزادت استيراداتها
النفطية حتى بلغت ( 9.5 ) مليون برميل يومياً في نفس السنة ،
وهذا يعني انها اصبحت تستورد اكثر من ( 75% ) من احتياطاتها
النفطية ، كما تراجع الاحتياطي النفطي الامريكي من ( 60 )
مليار برميل في عام 1973 ليصل الى ( 25 ) مليار برميل في
عام 2003. المصدر : النشرة الشهرية لمنظمة الاقطار العربية
المصدرة للنفط ( اوابك ) ، حزيران 2004. هذه الارقام تظهر
لنا مدى حاجة الولايات المتحدة الملحة للسيطرة على منابع
النفط في دول الخليج العربي وبضمنها العراق لتأمين حاجتها
النفطية في المستقبل ، علماً بان العراق يمتلك اكبر ثاني
احتياطي في العالم . هذا هو الواقع الحقيقي لغزو الجيوش
الامريكية - البريطانية للعراق واحتلاله .
اما النظر لمشروع بوش من الزاوية المالية فقد خصصت الولايات المتحدة ، وكما
سبق ذكره ، ( 17 ) مليار دولار في عام 1947 لتنفيذ مشروع
مارشال لأعادة اعمار أوروبا، ويلاحظ ضخامة هذا المبلغ قياساً
لهذا الوقت في منتصف القرن العشرين حيث كان الدولار الامريكي
يتمتع آنذاك بقوة شرائية وقيمة حقيقية عالية ، نظراً لعدم
تعرضه لعوامل تضخمية كبيرة.
ولكن من المؤسف ان نرى وفي بداية العقد الاول من القرن الواحد والعشرين
مشاركة الولايات المتحدة بمبلغ (18.6) مليار دولار في مؤتمر
مدريد للدول المانحة للعراق (قروضاً ومنحاً) من اجل اعادة
اعماره . فقد بلغ مقدار ما منح للعراق في هذا المؤتمر ( 33 )
مليار دولار وتكون نسبة مشاركة امريكا حوالي (60%). وفي هذا
الخصوص يجب ان لا تفوتنا الحقيقة الاقتصادية ان مشاركة
امريكا لا تساوي في الوقت الحالي اكثر من (9) مليارات دولار
بافتراض ما طرأ على الدولار من عوامل تضخمية خلال مدة ( 56 )
عاماً التي مضت على تنفيذ مشروع مارشال حوالي (50%). علماً
بان الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة من الدول المانحة
المستفيدة اقتصادياً نتيجة لسيطرتها العسكرية والمادية على
العراق .
ان الدول المانحة لم تف لحد الآن بالتزاماتها المالية تجاه العراق سوى
بنسبة ( 10 % ) من اصل القروض والمنح التي تعهدت بدفعها (هذا
ما صرح به الرئيس العراقي الجديد لجريدة الصباح الصادرة في
23 نيسان 2004 ) ، اما الولايات المتحدة فقد اوفت لحد الآن
بمبلغ لا يتعدى الـ ( 3 ) مليارات دولار ، ولكن بنفس شروط
مشروع مارشال ، ومن أهمها ان يكون الصرف والتنفيذ تحت
الرقابة الامريكية والتي تحتفظ لنفسها بحق اختيار الشركات
المنفذة لعقود الاعمار ، فستكون بالطبع شركات امريكية ،
وبمبالغ اكثر من التكلفة الحقيقية للعقود.
لقد ذكر الكاتب الامريكي ( ستيفن وايزمان ) في مقالة نشرتها جريدة (المدى)
في العدد ( 124 ) في 26 / حزيران 2004 ان الولايات المتحدة
تنفق وبهدوء ( 2.5 ) مليار دولار من عائدات النفط العراقي ،
بسبب (المصاعب البيروقراطية) التي تعترض صرف الاموال التي
خصصها الكونكرس الامريكي لإعادة اعمار العراق والتزم
بتسديدها على شكل قروض ومنح في مؤتمر مدريد . وتضيف المقالة
انه خلال الربع الاول من السنة الحالية صار واضحاً ان
ارتفاع اسعار النفط العالمية قد قدم للعراق إيرادات اضافية
غير متوقعة طبقاً لمسؤولي البيت الابيض وكان عليهم اتخاذ
قرار بشأن ذلك ، إما ادخار هذه الاموال الفائضة او رصدها
للانفاق على امور لا تتوفر لها مخصصات في الميزانية العامة
لعام 2005.
وتعقيباً على ما ذكر في المقال أعلاه فان المصاعب البيروقراطية التي تعترض
صرف الاموال .... الخ هو في الواقع ذريعة واهية لا يمكن
التسليم بها حيث ان البيروقراطية الادارية تتفشى في اجهزة
الدول المتخلفة وليست في دولة عظمى متطورة تقنياً وادارياً
وتقدر ميزانيتها ليس بمليارات وانما بتريليونات الدولارات .
ان مد اليد للعوائد النفطية التي خصصت لتمويل الميزانية
العامة العراقية يعتبر تنصلاً واضحاً من الالتزام بالوعد
الذي قطعته امريكا على نفسها في مؤتمر مدريد ، كما لا يحق
للولايات المتحدة ، حتى كونها دولة محتلة للعراق ووفقاً
للقواعد الدولية التي تحدد مهام قوات الاحتلال ان تتصرف
بايرادات البلد المحتل دون موافقته .
اما ما خصص للميزانية العامة للسنة المالية 2004 من ايرادات والتي بلغت (
20 ) مليار دولار فأنها لا تسد جميع احتياجات الوزارات
والمؤسسات الحكومية الاخرى حيث تم تخصيص هذه الايرادات
لأنجاز الامور المهمة والضرورية جداً ، والتي لا تزال
الكثير من هذه المؤسسات العامة تشكو من العوز المالي الكبير
. فالعراق ، وكما قال السيد رئيس الوزراء الحالي، بلد غني
ولكن حكومته مفلسة .
ان تأخر الدول المانحة بالتزاماتها المالية تجاه العراق لحد الآن يمكن
ارجاعه الى سببين ، الاول يتمثل في عدم وجود حكومة شرعية
معترف بها عالمياً، خاصة من قبل الامم المتحدة . ان هذه
الحجة قد انتفت عندما صدر قرار مجلس الامن 1546 الذي اعترف
بشرعية الحكومة الحالية ، والتي شاركت الامم المتحدة في
تشكيلها بواسطة ممثل الامين العام للمنظمة الدولية السيد
الاخضر الابراهيمي ، اما السبب الثاني هو الاهم والاخطر
فيتمثل في عدم توفر الاجواء الامنية المناسبة والمطلوبة لعمل
الشركات الأجنبية ، وذلك لتعرض الكثير من موظفيها والمؤسسات
الانسانية العالمية الى اعمال ارهابية كتدمير مقراتها واعمال
الخطف وقتل العاملين فيها . وكما سبق ذكره في الزاوية
السياسية من هذه الدراسة فأن مسؤولية فقدان الامن الداخلي
تقع بالدرجة الاولى على عاتق قوات الاحتلال نفسها .
اما من الزاوية الدولية فان الولايات المتحدة لم تكترث بمنظمة الامم
المتحدة ومجلس امنها ، منذ ان قررت اجتياح العراق وغزوه ،
فقد أكدت انها ماضية في عزمها اياً كانت مواقف الامم المتحدة
ومجلس امنها والمجتمع الدولي من ورائهما ، وقد تعاملت مع
الامم المتحدة تعاملاً شكلياً إرضاء لبعض حلفائها وعملت على
إضفاء المزيد من الشلل على هذه المنظمة الدولية .
ومن نافل القول ان الاستهداف الأهم للحرب هذه بكل المقايسس والاعراف ، هو
استكمال السيطرة الكاملة والمباشرة على منابع النفط
واحتياطها العظيم في المنطقة وتأمين حماية هذه السيطرة
وحماية كامل المصالح الامريكية وامن ومطامع (اسرائيل)
المدججة بالسلاح الامريكي المتغطرسة كحاميتها الولايات
المتحدة .
|