على الشوك
يبدو ان سحر
ألف ليلة وليلة يبقى ممتنعا عن البلى على مر الزمن. فبعد عشر
سنوات على صدور كتاب (الليالي العربية) لروبرت إروين، الذي
لقي رواجاً، يعاد طبعه الآن، مع مقدمة جديدة. هذا الكتاب
يتحدث عن (اعظم انجاز أدبي في العالم العربي). وليس ذلك
فحسب، بل ان هذه الليالي العربية لا يزال لها سحر كبير على
المخيلة الغربية، كما يقول كيفن جاكسون. هذا على الرغم من
الصراع الحقيقي والمفتعل بين العالمين الغربي والاسلامي،
وعلى الرغم من الصورة القاتمة عن العالم الاسلامي عند الغرب،
التي تنعكس في فتاوى طالبان والاسلاميين المتشددين الآخرين،
ومفجري القنابل الانتحاريين، الخ.
فبالرغم من
هذه الصورة القاتمة عن العالمين العربي والاسلامي هناك
التماعات إيجابية، من بينها تلك النزعة المتنامية في الغرب
نحو نظرة أكثر تعاطفاً مع العالم الاسلامي بحكم دوره،
الحضاري. فقد صدر كتاب (الحمراء) لإرفنخ ونفدت طبعته الأولى
في غضون أسابيع، وسيقدم على الشاشة الصغيرة، كما أن الطبعة
الثانية من (الليالي العربية) ستشفع بسلسلة من خمس حلقات
بعنوان (ألف ليلة وليلة)، تذاع من القناة البريطانية
BBC
الرابعة، ويتحدث كيفن جاكسون عن الوصفة
الإيكزوتية التي غزت العالم الغربي عن طريق الليالي العربية،
وكيف ان لعبة الكرة والدبابيس القديمة كانت مزينة بصورة
مثيرة عن مشاهد كانت مثار اعجاب المخيلة الأوروبية: (بيضة
الرخ الهائلة، والجاريات بسراويلهن الشفافة، والرجال ذوو،
الانوف المعقوفة المتفننين في استعمال السيوف المعقوفة،
الخ).
وقد تبدو هذه
اشياء تافهة، لكنها نافست وربما فاقت، مشاهد من شكسبير، أو
هوميروس، في ما تنطوي عليه من عنصر الإدهاش. قال خورخة لويس
بورخس مرة عن (الليالي) إنه (كتاب من السعة بحيث لا يتعين
عليك قراءته)، مع انه قرأه، وظل متأثراً بقراءته بلا انقطاع.
ويقارن روبرت
إروين بين الف ليلة وليلة والكتاب المقدس، في حضورهما في
الذهن أكثر من قراءتهما. ولربما فكر القراء الأكثر ثقافة في
شهر زاد، وبراعتها في الافلات من الموت برواية قصصها على مدى
ألف ليلة وليلة، بيد ان القراء لا ينسون السندباد، وعلاء
الدين ومصباحه، وعلي باب والأربعين حرامياً.. فهذه القصص هي،
حقاً، نظائر لقصص مثل (Snow
Whife)،
وبينوكيو، وهرقل، وابطالها مثل اولئك الأوروبيين الذين
اسهموا في خلق عالم امبراطورية ديزني.
على ان حضور
(الليالي) في الذاكرة لم يكن مجرد شيء ذي طابع جماهري بسيط،
قد يذكرنا بلعبة الكرة والدبابيس والتمثيل الإيمائي. فقد زعم
فولتير انه قرأ قصص ألف ليلة أربع عشرة مرة، وانتحلها في
قصصه؛ وقال هوراس والبول: (إذا قرأت السندباد فسوف تعرف من
انياس [بطل إنياذة فرجيلى]؛ أما كوليرج، فقد زعم أنه قرأ
الحكايات وهو في السادسة من عمره، حيث أرعبه بعضها، مثل دي
كوينسي؛ (وورد زووث)، وتنيسون، وديكنز الذين اغنوا ذاكرة
طفولهم بهذه الحكايات العربية، مع عبارة سكورج، احد ابطال
ديكنز (يا عزيزي المخلص القديم علي بابا)، اما المؤلف غيبون
فقد تعاطف بحرارة مع الخلفاء العباسيين في (انهيار وسقوط
الامبراطورية الرومانية)، وهو انعكاس مباشر لهيامه بالليالي
العربية في طفولته.
وقدم روبرت
لويس ستيفنسون (ليالي عربية جديدة) لعصره؛ وفي أمريكا كان كل
من إدغار ألن بو، وميلفل مسكوناً بالأرابيسك.. وهكذا؛ نرى ان
ذكرى شهرزاد تترجع عند مارسيل بروست، وجيمس جويس، وبورخس،
وآخرين، بمن فيهم سلمان رشدي. وقد صدرت روايتان حديثتان في
بريطانيا متأثرتان بكتاب روبرت إروين عن (الليالي)، هما
(الجن وعين البلبل) (A.S.
byatt)
و (شهر زاد) لأنتوني أونيل.
ولم يقتصر
الحال على الأدب، بل تعداه إلى عالم السينما، والموسيقى،
والمسرح، والفنون التشكيلية، كما هو معروف. فكيف حصل هذا
الغزو الجميل؟ سؤال كبير استغرق روبرت إروين أكثر من 300
صفحة للاجابة عنه (جزئياً كما يؤكد). ولعل الجواب السريع هو:
حجرات نوم الأطفال. وكما ينبغي، واحياناً بغباء، كان النص
يتعرض إلى البتر، والتصرف لتشذيبه من السموم الضارة (بما في
ذلك الكرم الوافر على الجنس، والعنف المخيف، والصورة عن
المجرم العربي في القرون الوسطى بما يضارع أي شيء في الأدب
الأليزابيثي واليعقوبي).
وكانت هذه
الصيغ المهذبة من (الليالي) تعتبر ملائمة جداً للعقول الغنية
التي كانت تتلهف إلى غذاء كهذا من الفناتازيا والاعاجيب.
وهكذا، على غرار رحلات غوليفر، أو روبنسون كروزو، أصبحت
السرديات التي كتبت للبالغين مادة صالحة لمخيلة الأطفال.
وكانت فرنسا
أول من تعرف على هذه الليالي. كان انطوان غالان (1646 ـ
1715) أول مترجم أوروبي لها. لقد نشرت ترجمته بين 1704ـ
1717، ولقيت نجاحاً منقطع النظير.
ومن الجدير
بالملاحظة، أن صيغاً عربية لبعض الحكايات لم تظهر إلا بعد
ترجمة غالان ما يعني أنها قد تكون ترجمت إلى العربية من
الفرنسية. ثم تبعتها ترجمة انكليزية في 1708، تشتمل على
مختارات من الحكايات، يبدو انها كانت سطواً على ترجمة غالان،
وبعد ذلك بقرن ظهرت ترجمة جوناثان سكوت في 1811 بعنوان
(تسليات الليالي العربية). وكانت هذه الترجمة بشيراً بظهور
ألف طبعة وطبعة للأطفال، على حد قول كيفن جاكسون، وفي
اعقابه، وبفضل انتعاش الحركة الاستشراقية كمؤسسة نافعة
ومدفوعة الأجر بسخاء في ما تقدمه من خدمات لأعظم امبراطورية،
كانت الترجمات الرئيسة ترجع مباشرة إلى مصادر محققة ومطبوعة
حديثاً: إدوارد لين في 1838 ـ 1841، وجون بين
Payne
في 1882ـ 1884، والسير ريتشارد بيرتن، بعشرة مجلدات، نشرت
بين 1885 ـ 1888. وكان مستوى هذه الترجمات على نحو ما جاء في
مجلة (أدنبرغ ريفيو): (غالان لدور الحضانة، ولين للمكتبة،
وعين
Payne
للدراسة، أما بيرتن فللبالوعات (بالانكليزية
Sewers،
وتعني أيضاً كبار خدم المائدة).
أما ترجمة
بنغوين في القرن العشرين، التي تعتبر مفضلة، فقد خذلت جمهور
القراء، حسب رأي روبرت إروين، لأن لياليها تبدو مملة. وهو
يعتبر ترجمة حسين هداوي [من العراق]، الصادرة في جزءين عن
دار (Everyman
Library)
لا نظير لها، ويضم الجزء الأول مئتين وسبعين حكاية، اما
الثاني فيشتمل على قصص مثل (السندبا، وعلاء الدين) ومن بين
مشاريع سنة 2004، ان الدكتور مالكوم ليونز من جامعة كيمبرج
أخذ على عاتقه انجاز أول ترجمة انكليزية شاملة لليالي
الكاملة منذ بيرتن. وسوف تصدر عن دار بنغوين في 2005، أو
2006، وسيكتب إروين مقدمتها.
ويتساءل كيفن
جاكسون: ترى هل يلعب الاحتفاء الجديد بحكايات شهرزاد، في
المعسكرين، دوره المتواضع في التخفيف من هذا الصراع العنيف
(بين العالمين الغربي والإسلامي؟ لكنه لا يذهب في آماله
بعيداً، في ضوء الأوضاع الملتهبة في منطقة الشرق الأوسط
والسياسة الواقعية.
ففي هذا
الواقع الذي تحركه السياسة وتخطط له، لا يكاد يبقى موطئ قدم
للطبقة المثقفة مهما كانت نياتها طيبة. مع هذا، وفي أقل
الاحتمال، ان من شأن الليالي العربية ان تذكر القراء في
الغرب انهم كانوا يوماً ما ينظرون إلى الشرق كعالم (ساحر
ورومانسي، وتكتنفه الاسرار)، بدلاً من النظر إليه بغضب ورعب.
وفي العالم
الاسلامي، حيث سعى البعض إلى تحريم (الليالي) لاسباب
اخلاقية، قد يكتشف قراء غير متمغرضين في انطولوجيا إروين
الكلاسيكية ما وصفه هذا الأخير بثقافة اسلامية، واثقة من
نفسها، ومتسامحة، وتعددية) وعلى أية حال، ان في فلسفة روي
شهرزاد الحكمة: ما دام ثمة من يروي قصة وثمة من يصغي إليها،
فالموت يبقى بعيداً.
|