الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

في حوار فكري عن الشخصية الكردية بين الهوية التأريخية والسمات المرحلية .. المؤرخ والمفكر الكردي الدكتور كمال مظهر أحمد: صورة الكردي ظلت ايجابية مثالية في العقل الباطن لعرب العراق

لم يمس الاسلام الكيان القومي للكرد داخل وطنهم، بل ساعد على تعزيزه بوجه الشعوب والأنظمة غير الاسلامية المتاخمة لكردستان

على أديم الشعيبة اختلطت دماء العرب والكرد في نيسان 1915 أثناء تصديهم للجيوش البريطانية الغازية

تثبت تجارب التأريخ أن الفيدرالية تبعد أصلاً فكرة الانفصال شرط أن تكون هدفاً ثابتاً لا مناورة تستهدف الاحتواء

أجرى الحوار

 فارس كمال نظمي

ان تحرر أي شعب من قيود الاستعباد والتخلف والوصاية، هو عملية تاريخية لها دينامياتها السياسية والسيكولوجية على حد سواء. فشعور الفرد بانتمائه القومي يمكن أن يغدو واحداً من أهم أوجه هويته النفسية، بل أن شعوباً كثيرة اختزلت هويتها الحضارية والتاريخية في مرحلة من مراحل صيرورتها وانعتاقها، الى عنوانها القومي ذي الجذر العرقي، وهذا ما يمكن أن نصف به حال الشعب الكردي اليوم، لاسيما في العراق.ولكن اللافت للنظر أن الإنسان الكردي، في الوقت الذي يقطر الدم من ذاكرته السياسية، إلا أن شخصيته حافظت على مجموعة من الخصائص النفسية ذات الطابع الإنساني - الأخلاقي المتميز.

فتسمية (الكرد) اشتقت لغوياً من وفرة الشجاعة وشدة الحماسة والغيرة، طبقاً لـ((الموسوعة التاريخية الكردية)) لمؤلفها (شرف خان البدليسي).ويتفق العديد من المؤرخين والمستشرقين على تمجيد الشخصية الكردية، اذ يكتب العلامة الهولندي (ماليبارد) عن صمود الكرد وثباتهم: ((الحقيقة لم نر مدينة أو قصراً أو جبلاً استطاع أن يصمد خمسين قرناً من الزمن مثلما صمدت أربيل)).ويشخص الكاتب الروسي (باسيل نكتين) عادات الكرد وأخلاقهم بقوله: ((يمتاز الكردي باستقامته التي لا تتزعزع، وبحفاظه على العهد، وعطفه النبيل على أقاربه، وسلوكه الانساني.فطبائع الكرد لم تتغير منذ ألف عام قبل المسيح ولحد الآن ...انهم شعب قوي وموهوب)).ومع ذلك نجد بين الكتـّاب الكرد ذوي النظرة النقدية غير المتساهلة تجاه شعبهم، من يحاول تقصي بعض العوامل الجغرافية والاجتماعية التي راكمت رواسب سلبية في الشخصية الكردية، اذ يكتب (خالص مسور) في تحليله لفضاءات العقل الكردي: ((البيئة الجبلية، وان كانت قد حافظت على الحالة الكردية كشعب، ومنعته من  الذوبان والانحلال ضمن واقع وخصوصيات القوميات الأخرى، وهذا هو الجانب الايجابي في الحالة، الا انها ومن جانب آخر أدت وبالتوازي مع ضغط هذه الأقوام الى حجب هذا الشعب عن اشعاعات الحضارات الخارجية...وأسهمت في اكساب العقل الكردي المزيد من التقوقع ...مما جعله مغترباً عن محيطه)).

ولأجل مناقشة هذه الأفكار، وتحديد الكيفية التي مارست فيها التطورات التأريخية (سلباً أو ايجاباً) فعلها التكويني الموضوعي في السيكولوجيا الكردية، ارتأيت أن أتوجه الى أحد أعمدة الثقافة العلمية التنويرية في العراق، المؤرخ والمفكر الكردي الأستاذ الدكتور (كمال مظهر أحمد).ولد الدكتور كمال في السليمانية في العام 1937.وهو أول دارس من الشرق الأوسط نال شهادة دكتوراه العلوم (ناووك) السوفييتية في العام 1969.له عشرات المؤلفات في تأريخ العراق والكرد، نشرت باللغات العربية والكردية والروسية، من بينها: ((كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى))، و((الطبقة العاملة العراقية:التكون وبدايات التحرك))، و((صفحات من تأريخ العراق المعاصر))، وآخرها ((كركوك وتوابعها: حكم التأريخ والضمير) الصادر في هذا العام.ولتلخيص المسيرة الفكرية لهذا المفكر الملتزم بحرفيات المنهج الأكاديمي ذي النزعة التقدمية الانسانية الصلبة، أقتبسُ من القاضي والباحث (زهير كاظم عبود) هذه الكلمات: ((كمال مظهر أحمد ...استطاع أن يؤسس مدرسة تأريخية تضم كل الأصوات الداعية لاعتماد الحقيقة الموضوعية في الكتابة التأريخية، اعتماد المنطق والضمير في التحليل التأريخي...اتسمت كتاباته وتحليلاته بالانصاف وعدم الانسياق وراء رغبة السلطان ولا فتاوي السلطان، ولم تهتز له شعرة في اصراره على أن يقول الحقيقة ويعلّـّمها ويصر عليها ...)) :         

*هل يمكن القول أن هناك شخصية كردية ذات سمات نفسية تاريخية محددة يشترك فيها أغلب الكرد سواء كانوا في العراق أو إيران أو تركيا أو سوريا أو الجمهوريات السوفييتية السابقة؟أم أن هناك شخصيات كردية متنوعة تبعاً لهذا التنوع الجغرافي الذي وجد الأكراد أنفسهم فيه؟

- لا أعتقد بوجود شعب واحد في العالم لا يحمل أبناؤه سمات نفسية مشتركة بغض النظر عن افرازات جميع الحواجز، طبيعية كانت أم مصطنعة.ينطبق هذا القول حتى على شعوب الولايات المتحدة الأمريكية التي انقطعت جذورها عن الوطن الأم على مدى مئات السنين، فأن طبع ملايين الألمان هناك أقرب الى طبع بني جلدتهم في وطنهم الأصلي البعيد، بكثير من طبع مواطنيهم القريبين منهم من انجليز وروس وبولونيين ويابانيين وغيرهم من أبناء عشرات الشعوب التي هاجرت الى أمريكا المعزولة عن قارتي أوربا وآسيا.شخصياً احتكيت بصورة مباشرة بأذربيجانيي وأرمن الاتحاد السوفييتي وأخوانهم في ايران والعراق، ولم أكن أتوقع بأن الفكر الاشتراكي لم يهز، رغم قوة تأثيره، القيم النفسية المشتركة بين الطرفين، مع العلم أن أبناء الشعبين بدأوا يعيشون حالتين مختلفتين بصورة جذرية على مدى حوالي قرن من الزمن منذ عهد القياصرة، وبلغ الانعزال بينهما في ظل ما عرف بالستار الحديدي في عهد ستالين ذروته.

حال الكرد حال هؤلاء وغيرهم، بل ربما أنهم عاشوا وضعاً أفضل الى حد ما، خصوصاً اذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة مهمة في هذا المضمار، خلاصتها أن حدوداً حقيقية فاصلة بين أجزاء الشعب الكردي المختلفة لم تكن موجودة على أرض الواقع منذ أن ظهر الكرد في وطنهم كردستان قبل آلاف السنين، وظل هذا الواقع يحتفظ بقوته حتى بعد ظهور الدولتين المتصارعتين العثمانية والصفوية، ولم يفض صراعهما المستمر على مدى قرون طوال الى ايجاد حل لمشكلة الحدود بين تركيا وايران الا بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ولكن حتى ذلك الحل لم يعدو عن كونه حلاً قانونياً، لذا لم يكن بوسعه أن يحول عملياً دون استمرار التداخل الاقتصادي والاجتماعي بين أقسام الشعب الكردي، خصوصاً في المناطق الحدودية، فأن العشرات من العشائر الكردية التي توزعت على دول مختلفة ظلت تحتفظ بعلاقاتها، ويحمل أفرادها في الغالب أكثر من جنسية، وتتوزع مشاتيها ومصائفها على طرفي الحدود، وتحول التهريب بالتدريج الى مهنة رائجة في صفوفها، لذا لا غرو أن لا يشعر المرء، مثلاً، بأدنى فرق بين نفسية أحد أبناء عشيرة الجاف في منطقة (كه لار) المجاورة لكركوك مع نظيره في منطقة (جوانرود) داخل الحدود الأيرانية.أضف الى ذلك أن ظروفاً خاصة وعامة أدت الى أن يتخلف الكرد عن الركب الحضاري، الأمر الذي تحول موضوعياً الى عامل مهم يحول دون اختلاطهم الواسع بغيرهم، مما حافظ على نقاوتهم الى حد كبير، فأن مفردات العربية مثلاً وجدت طريقها الى لغتهم بصعوبة أكبر من اللغة الفارسية أو التركية.

لا أؤمن شخصياً بوجود فروق جوهرية بين طبائع البشر والشعوب، فباستثناء الشواذ يميل الانسان عادة  الى الخير الا اذا حوصر في لقمة عيشه، أو اذا تعرض الى ما يمس قيمه وموقعه، أو اذا وقع تحت تأثير فكر متطرف غير عقلاني يعرض بضاعته الفاسدة باسلوب مغرٍ.وخير أنموذج يخطر على بالي هو أن الكثير من الطائشين والمتطرفين الآن كان آباؤهم من خيرة الوطنيين العراقيين في أواخر العهد الملكي والمرحلة المبكرة التي أتبعت ثورة الرابع عشر من تموز لأنهم كانوا متأثرين يومذاك بأفكار قوى الخير العاملة على ساحة العراق السياسية.

*اذن، ما دمت ترى أن هناك سمات نفسية تأريخية يشترك فيهاأغلب الكرد، فما هي أبرز هذه السمات؟

- لا أريد أن أبدي رأيي في السمات الشخصية للكرد رغم اعتزازي اللامحدود بكوني واحداً منهم، لكن غير الكرد، بمن فيهم الرحالة الأجانب، يعطون أوصافاً للكرد فريدة في بابها، منها احترام المرأة والوفاء والطيبة والبساطة والصدق والجرأة وغيرها من الصفات التي لم يكن بوسع النظام السابق، رغم كل أساليبه الملتوية، تشويه أبعادها، بحيث بقيت صورة الكردي تمثل صورة ايجابية مثالية في العقل الباطن للأكثرية الساحقة من عرب العراق وغيرهم.وفي هذا السياق ألجأ الى نموذج بسيط في شكله، عظيم في محتواه، وهو أن أي متبضع في الشورجة يميل الى التاجر أو الحمال الكردي أكثر بكثير مما يميل الى غيره.

*يوجد انطباع متداول بين الكرد أنفسهم، أن الأجيال الكردية الجديدة تختلف في تركيبتها النفسية، بنسبة ما عن الأجيال السابقة.كيف تنظر الى هذه المسألة؟

- بعد اندماج المنطقة بالأسواق الرأسمالية العالمية منذ أواسط القرن التاسع عشر طرأ بعض التغيير في السمات  النفسية لجميع شعوب المنطقة بتأثير قيم الحضارة الأوربية الحديثة التي انتقلت اليها جنباً الى جنب البضاعة النوعية المستوردة من الغرب.يضاف الى ذلك بالنسبة للكرد عامل آخر تجسد في تفاقم الاضطهاد القومي ومحاولات الأوساط الحاكمة الالتفاف على طموحاتهم وقيمهم، مما زاد من حذرهم وشكهم المشروعين.تجاوز النظام العراقي السابق جميع الأنظمة الأخرى في محاولاته المنهجية الماكرة للنيل من السمات النفسية الايجابية الموروثة، والراسخة في أعماق عوام الكرد وخواصهم، الأمر الذي كان يهدف الى زعزعة ثقة الكردي بنفسه ليرنو تحت تأثير ذلك الى جنسية ((أفضل وأرقى)) من جنسيته.حصلتُ بفضل بعض الخيرين على كتب خاصة أعدّتها بصورة سرية شعبة الاستخبارات النفسية التابعة لرئاسة الجمهورية ومديرية الأمن العامة، منها كتاب يقع في اثنتين وأربعين ومائة صفحة، ويحمل عنوان ((الشخصية اليزيدية).يحمل الفصل السادس والأخير من هذا الكتاب عنوان ((السمات العامة للشخصية اليزيدية))، تحاول مادته بوضوح ترسيخ الاعتقاد بأن شخصية اليزيدي الكردي ((شخصية مقهورة ومتقوقعة ومرتابة ومكبوتة ومذلة ومنقادة وقلقة ومهزوزة ومادية)).ومنها أيضاً كراس ((سري للغاية ومحدود)) عنوانه ((ملاحظات حول عمل الحزب الشيوعي العراقي في المنطقة الشمالية)).يقع الكراس في سبع وعشرين صفحة جلها مكرس للحيلولة دون اتصال الكوادر الشيوعية بالجماهير الكردية المهجرة قسراً من قراها خشية أن يعرقلوا مهمات أزلام النظام الذين كانوا يمارسون عملية غسل دماغ منظمة مع تلك الجماهير خدمة لسياسة التعريب المقيتة.وفي السياق نفسه أتذكر جيداً كيف منعت السلطة في أواخر السبعينيات وبدايات الثمانينيات من القرن الماضي تداول بعض مجلات الأغواء والاغراء العربية في جميع أنحاء العراق باستثناء المنطقة الكردية بحجة كونها منطقة سياحية، منها مجلة ((الشبكة)) اللبنانية على ما أتذكر.

*يحذر المختصون بالسيكولوجيا الاجتماعية من أن المغالاة في ((الاعتزاز القومي)) يمكن أن تؤدي في ظروف معينة الى نوع من ((الشوفينية)).أين تضع الشخصية الكردية من هذين المفهومين في الوقت الحاضر، وهي تستعد لمرحلة تاريخية  جديدة من مراحل نيل حقوقها السياسية والثقافية والإنسانية؟

- بالعكس تماماً، فهناك حد سميك فاصل بين مفهومي ((الاعتزاز القومي)) و ((الشوفينية))، فالأول أمر مشروع بالنسبة للجميع، ولا كبرياء عندي يضاهي الكبرياء القومي، خصوصاً اذا كنتُ منتمياً الى خندق المظلومين الذين لا يمكن أن يكونوا شوفينيين أصلاً، فالشوفينية مصطلح ظهر أيام حروب نابليون بونابرت وحملاته التوسعية التي كان يشنها بحجة نشر مياديء الثورة الفرنسية، وكان الضابط (شوفيين) أشد المتحمسين للنزعة البونابارتية هذه ليتحول اسمه الى مصطلح يطلق على غلاة القوميين المتعصبين المنتمين للقومية الكبيرة أو الحاكمة، ممن يطمعون في أرض الغير بحجج واهية تبلغ حد تزوير حقائق التأريخ.تولـّد الشوفينية عادة التعصب القومي في صفوف الطرف الآخر، وهو أيضاً توجه غير ايجابي سوى في كونه رد فعل مشروع على عمل غير مشروع ليتحول بحكم ذلك الى احدى أهم أدوات حماية الذات.ومن خلال متابعتي الشخصية للعديد من الظواهر أستطيع أن أؤكد بأن التعصب الكردي لا يؤلف ظاهرة متفاقمة رغم أن شوفيين الفرنسي لا يستحق أن يكون سوى تلميذ متواضع في مدرسة علي حسن المجيد العراقي.

*ولكن هناك منظور في علم النفس السياسي يقول : (( إن الأمم التي تُـقهر في مرحلة تاريخية معينة ،  غالباً ما تلجأ الى التعويض النفسي عن طريق الانتقام من مضطهديها في مراحل لاحقة )).فهل تتوقع أن ينقلب الكرد في المستقبل القريب أو البعيد، بعد أن ينالوا كيانهم الذاتي عبر الفيدرالية في العراق، من أمة مظلومة إلى أمة ظالمة تسعى للثأر من أبناء القوميات المحيطة بها ؟

- كنت أتمنى أن توجه مثل هذا السؤال الى باحث غير كردي، لا أريد، مع ذلك، أن أتهرب من الجواب.الكرد أيضاً مثل غيرهم، من الممكن أن يخطئوا، كما من الممكن أن يصيبوا، الأمران اللذان يعتمدان على حكمة من يقودهم ويقود غيرهم من جيرانهم، وعلى النخبة المنتمية الى جميع الأطراف، نحن بحاجة الى عقل ومشاعر (الجواهري) و(معين بسيسو) و(عزيز نسين) و(اسماعيل بيشكجي) و(ايرج) و(خسرو روزبه) و(كوران) و(ليلى زانا) الذين رصعوا معاً أكليل الأخوّة والصفاء بدرر فريدة.كم أتمنى أن يحذو الجميع حذو الشعب الأرمني العريق، نحن ظلمناهم واشتركنا في مذابحهم غير الانسانية بتحريض من قوى الظلام من أعوان السلطان عبد الحميد الثاني والاتحاديين فيما بعد، الا أنهم باستثناء حالات نادرة آمنوا بمبدأ العفو عند المقدرة، فتعاملوا مع كرد أرمينيا معاملة طافحة بمشاعر الكرم والأخوة.رأيت بأم عيني نعيم كرد بلدة (الكه ز) التي تقع على مبعدة أميال قليلة من العاصمة يريفان.التفاصيل

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة