|
المثقف
والدستور ..
مثقفو الخارج يتحدثون عن
المحاصصة وحماية الدستور
استطلاع - محمد ناجي
يتابع
العراقيون، بحماسة بالغة، تفاصيل عملية كتابة الدستور،
وتجري نقاشات حادة احيانا حول محاور الدستور وتأثيرها على
حياتهم اليومية ومستقبلهم . والعراقيون في الخارج جزء من
هذا الحركة ولهم نشاطات متميزة . وقد اصدرت مجموعة منهم
بيانا تدعو فيه الى توحيد صفوف الديمقراطيين من اجل ان
تكون لهم مساهمة وحضور فاعل وتأثير في كتابة الدستور،
ومجمل العملية السياسية . وقد التقينا الدكتور شيرزاد
الطالباني عضو لجنة دعم الديمقراطية ليحدثنا عن اللجنة
ونشاطها .
د. شيراز الطالباني:
- توقعنا، نحن في لجنة دعم الديمقراطية في العراق، ان يحدث
ما حدث في الانتخابات الماضية ومبادرة تأسيس لجنتنا كان في
اساس ايماننا بان العملية السياسية والتوازنات الموجودة
على الساحة السياسية العراقية تتطلب وحدة القوى
الديمقراطية، وقد حاولنا لفت نظر التجمعات والاحزاب ذات
الاتجاه الديموقراطي الى ضرورة البحث عن شكل مناسب لوحدة
صفوف الديمقراطيين العراقيين، لكن، مع الاسف، لم تتمكن هذه
القوى من القفز على تباين وجهات نظرها حول امور تعتبر
ثانوية مقارنة بالهدف المركزي المهم .
انني اعتقد انه لم تجر الاستفادة، حتى الان، من التجربة
الانتخابية، بل لا تزال صفوف الديمقراطيين على شكل "جزر
معزولة". ويطيب لي ان اكرر جوابي على سؤال مشابه من اذاعة
صوت اميركا قائلا : " نعم نحن خائفون على الديمقراطية،
خائفون على العراق لأن جراحنا كثيرة ولاتتحمل حتى خدشا".
اقول ايضا : كان من المفروض ان يجري طرح افكار للنقاش بصدد
وحدة قوى الديمقراطية، ومن ثم الاتفاق على ما هو مشترك
واساسي للحد الادنى، لكنني اقول مرة اخرى بكل اسف، ان
الزمن سبقنا، (من الان الى منتصف اب) ولو استمر هذا الحال
فان التأريخ يعيد نفسه، لكن بالنسبة للاتجاه الديمقراطي
فقط .
نحن في لجنة دعم الديمقراطية بدأنا العمل الجاد في سبيل
تحقيق هذا الهدف " وحدة القوى الديمقراطية " منذ تموز
2004، علما اننا لسنا تنظيما سياسيا، بل مجموعة ضغط، تعمل
على حث الاحزاب والاتجاهات الديمقراطية للتوحد على برنامج
مشترك للمرحلة القادمة . يقول المثل الشعبي " عانة عانة
يصبح كردانة" ، فلو توحدت القوى الديمقراطية لما ضاعت كثير
من الاصوات وربما لتغير وضع التحالفات، وهذا ما كنا نصبو
اليه في تحركنا وبياننا التأسيسي .
لجنتنا تجمع لمثقفين وناشطين وأكاديميين وسياسيين، لا
يمثلون فئات سياسية، وتجمعهم قناعات مشتركة، حول عراق
ديمقراطي اتحادي على أسس حضارية وازالة اثار الماضي الأليم
من جميع جوانبه واطلاق الحريات السياسية والفردية
والاجتماعية، وإقامة النظام الفدرالي بين المكونتين
الرئيسيتين العرب والأكراد مع الاحترام الكامل لحقوق
المكونات الأخرى والإقرار بها وتطبيع الاوضاع في جميع
انحاء العراق، كما ورد في البيان التأسيسي .
املي ان يتضمن الدستور الإقرار بفدرالية حقيقية للشعب
الكردي . لقد مر تأريخ العراق، والإقليم الكردي بوجه خاص
بمراحل اليمة جدا، فإذا اعتمدنا حق الشعوب في تقرير المصير،
فإن الشعب الكردي إختار ادنى مستوى لهذا الحق وذلك لترسيخ
الوحدة الوطنية وبناء عراق متماسك بإختيار طوعي . ارى ضررا
كبيرا بهذا الشعور والانطلاق المخلص من جانب الشعب
والبرلمان والقادة الاكراد إذا سارت الامور بشكل اخر .
املي فى المساواة، الديمقراطية، حقوق الانسان وحقوق المرأة
.. واملي .. واملي ... لكن املي الحقيقي في العدالة،
فبالعدالة سيتمتع الشعب الكردي بحقوقه، والمكونات الاخرى
بحقوقها، والمراة بحقوقها، وبالعدالة نحكم ونحاكم،
وبالعدالة نبني ونعمر، وبالعدالة نبيع ونشتري .. بالعدالة
يجري توظيف العاطلين، وبالعدالة نوزع الثروات ونوظفها،
وبالعدالة نرشح وننتخب ... وبالعدالة نتفق على دستورنا
الدائم .
اول انجاز هو التفاف مجموعة كبيرة من الناشطين والمثقفين
حول هذا الطرح وبقاؤنا تجمعا متماسكا، وهذه نادرة في
عراقنا . كان لنا نشاط متواضع ولكنه واضح في بريطانيا لحث
العراقيين على المشاركة في الانتخابات، اقمنا عدة ندوات
لشرح الاوضاع السياسية في العراق، مناقشة نتائج الانتخابات
وكيفية تكوين الحكومة الحالية، ارسلنا مناشدات للجهات
المختصة حول امور غير طبيعية حدثت في العراق. جرت داخل
لجنتنا مناقشات جادة ملتزمة وبناءة حول النقاط المحورية في
الدستور ووصلنا الى قناعات مشتركة، اصدرنا نداء لوحدة
الديمقراطيين، بلغ عدد الموقعين عليه 2000 في نحو اسبوع،
قمنا بإعداد خطة للنشاطات للتوعية والاعلام لدستور حضاري
اتحادي .
في المستقبل، ندعو المتخصصين للاسهام (في شهر تموز) في
الحلقات الدراسية لمناقشة النقاط المحورية في الدستور، مثل
الفدرالية، الدين والدولة، الدولة المدنية حقوق الانسان
والفرد والمرأة وأخيرا الموارد والاقتصاد، نأمل في توزيع
ملخص بسيط وواضح لنتائج هذه الحلقات الدراسية في جميع
انحاء العراق وبدون مقابل، نقيم مؤتمرا للحقوقيين
العراقيين في الخارج لبحث مسالة الدستور. ومهرجاناً ثقافياً
حول الدستور، وسيكون لنا دور في التعبئة للاستفتاء على
الدستور والانتخابات القادمة .
د. فاروق رضاعة:
مما لاشك فيه أن فكرة طرح مشاريع للحوار أولا وتطويرها ومن
ثم دعوة العراقيين لتأييدها فكرة جيدة ولكن عندما تكون
الافكار عمومية ولا تحمل خلافا أساسيا وضغط عامل الوقت
يؤدي أحيانا الى طرح الافكار مباشرة من قبل مجموعة من
العاملين في الحقل السياسي والفكري، وأعتقد وآمل أن أكون
مخطئا أن ما يجري أحيانا ما هو الا من مخلفات التفكير
الحزبي الضيق، أود في هذا المجال أن أفرق بين العمل
السياسي داخل الوطن وهو العامل المؤثر والفاعل والاساسي،
والعمل السياسي خارج الوطن وهو مساند ومساعد في أفضل
الحالات.
العمل السياسي في الاوضاع السياسية داخل الوطن يتطلب البحث
عن صيغ جديدة حيث هناك اتجاهان أساسيان للنظر بشأن بناء
الدولة العراقية و ادارة المجتمع وهما الدولة الدينية
ومعها التوجه لادارة شؤون المجتمع على أساس ذلك، والاتجاه
الثاني هو اقامة الدولة المدنية العقلانية ومعها التوجه
لادارة شؤون المجتمع على أساس المؤسسات واستعمال العقل
وليس الغيبيات لتفسير الظواهر الاجتماعية، وحل مشكلات
الوطن على أساس العقل .
وعلى هذا الأساس يجب أن يجري تطابق بين الموقف الفكري
والعمل التنظيمي، وهذا يدعو للبحث عن صيغ تعبوية تنظيمية
توحد نشاطات من يدعو الى الدولة المدنية العقلانية ويجعل
منها عملاً مؤثراً. إن اتحدت جهود هذه الاطراف فسوف يعطيها
زخماً كبيراً أكبر بكثير من طاقاتها التنظيمية، والامثلة
كثيرة في هذا المضمار. أن جبهة من نوع جديد واسعة تجمع بين
تنظيمات سياسية وشخصيات فكرية وثقافية واقتصادية ألخ سوف
تكون ذات تأثير كبير حيث تتجاوز المماحكات الحزبية
والعنعنات الشخصية
وهذا الامر يبقى بيد الاطراف العاملة في الحقل السياسي
والثقافي داخل الوطن أما خارج الوطن حيث النشاط السياسي
مساعد للداخل ومحدود التأثير على الداخل فقضية حل بعض
الاشكاليات أبسط بكثير.
لجنة دعم الديموقراطية هي مجموعة ضغط ومن بين أعضائها
منتسبو أحزاب سياسية ومستقلون تتعامل بالاساس مع قضاية
فكرية وأشكاليات فى المجتمع العراقي وتنظم لقاءات لباحثين
في قضايا المجتمع المختلفة ولذا ليس في النية على الاطلاق
تشكيل تنظيم سياسي جديد. حين ندعو لوحدة الصف الديمقراطي
فهذه الدعوة من مراقب في الخارج لمن هو داخل الوطن حيث
العمل السياسي الاساس.
ان لجنة دعم الديمقراطية نشرت برنامجها لمناقشة قضايا
عقدية في المجتمع العراقي وسوف تكون حتما موضوع نقاش عند
طرح مسودة الدستور العراقي، بتوجيه الدعوات لمختصين معظمهم
من خارج العراق ويمكن قراءة برنامج اللجنة والذي نشر في
بعض الصحف العراقية والصفحة الالكترونية صوت العراق.
هناك مقترحات عدة ولكن الأساسية منها:
البرلمان او مجلس الشعب أعلى سلطة تشريعية ولا تخضع
قراراته للنقض من أية جهة والمحكمة الدستورية مخولة فقط
التأكد من عدم وجود تناقض بين قرار البرلمان والدستور
العراقي وفي حالة وجود ذلك يعاد القرار للبرلمان، كذلك
يهمني أن يؤكد الدستور أن المواطنة العراقية هي هوية كل
العراقيين وهذا ما هو موجود في معظم دول العالم ففي
المملكة المتحدة الصفة الوحيدة التي توضع في الجوازات هي
صفة مواطن بريطاني سواء كان هذا الشخص مسيحيا او مسلما، أو
من أي دين أخر ،كذلك سواء كان من انكلترا أو سكوتلاندا أو
ويلز أو ايرلندة.
هناك أمور كثيرة يهمني اثارتها وتأكيدها في الدستور وبشكل
سريع: حقوق المرأة، الحريات الشخصية ، فصل السلطات، ملكية
الموارد الطبيعية وخاصة النفط.
الفنانة أنوار
عبد الوهاب:
لا يختلف اثنان على ان الدستور هو أساس بناء الدولة
ومؤسساتها، فالعراقيون يتطلعون منذ اكثر من مائة عام الى
دستور ديمقراطي عادل وعلماني منصف للجميع، يعتمد المساواة
المطلقة بين العراقيين من دون تمييز بين المرأة والرجل
والقومية والدين، ويكفي العراقيين ما قاسوه من ظلم وتعسف
وتمييز بسبب انتماءاتهم الدينية والطائفية، ايام حكم
الطاغية صدام حسين وجلاوزته، والآن على يد قوى الظلام
الارهابية، التي احالت الحياة العراقية الى كابوس مرعب لن
ينتهي الاّ بتحقيق حلم العراقيين بحياة العدالة
والديمقراطية، ولتتعزز بها الثقة بالمستقبل وتدفع عجلة
التطور الى الامام في الوعي والثقافة والبناء، وايضا في
الميادين الحيوية الاخرى الاقتصادية والسياسية .
ان الديمقراطية ومشروع الدفاع عنها ليسا وليدي اللحظة، بل
هما مشروعان وطنيان عراقيان رفعتهما الاحزاب السياسية التي
ناضلت من اجل اسقاط الدكتاتورية، والتي ربطت مصيرها بمصالح
الشعب العراقي منذ امد بعيد .
لذلك فليس من المعقول ان تكون المحاصصة هي الحل الامثل،
واذا كان بيننا من يراها مناسبة ! فأي دستور سيكون
بأنتظارنا ؟ وكيف نستطيع ان نؤمن عدم عودة الاضطهاد
والتسلط والاستبداد الى سدة الحكم من جديد ؟ وماهي
المعايير لضمان وجود عدالة اجتماعية تحد من الاستغلال
البشع الذي يحصل بحجج مختلفة ؟
لا يمكن ان نقبل بغير دستور ديمقراطي انساني علماني، فهو
الذي ينصف المرأة والطفل والمسن، ويعمق مفهوم الثقافة
التقدمية، ويدعم مؤسساتها باتجاه حرية الفكر وتفعيل دور
المثقف في المجتمع، وتعزيز مكانة الفن والفنانين والعناية
بالفن الملتزم ليؤدي دوره الوطني ويكون حاضرا وفاعلا في
الحياة الثقافية المزدهرة في بلاد الرافدين .
تيسير عبد الجبار الآلوسي:
ما يريده المثقف من الدستور اليوم هو أن يُنصف ويساوي بين
المواطنين عامة من دون استثناء أو تجاوز من طرف على آخر..
لأن مسألة العدالة والمساواة هي أرضية السلام الاجتماعي
وهذا الأخير هو أرضية الإبداع والنشاط الفكري الثقافي الحر..
فلا فعالية للثقافة والمثقف من دون تلك القاعدة حيث نجد
التعارض المطلق بين الصراعات والحروب والتناقضات من جهة
وبين العمل الثقافي وإبداعاته وإمكانات خدمته البشرية
بإيجابية وفاعلية...
إنَّ ما ينتظره المثقف العراقي فضلا عن المبدأ العام في
إطلاق الحريات ومنع تحديدها بمحددات قسرية من اي نمط بخاصة
منها تلك التكفيرية التي تحجب أية حرية للنشاط العقلي
الصحيح وللثقافة وحركتها على وفق منطق التكفير الديني أو
المنع الأيديولوجي. وهذا ما يجعلنا نركز على مبدأ الحريات
بعامة ومنها الفكرية والأيديولوجية والاعتقادية وهي جميعها
المقدمة اللازمة للإبداع ولحياة الثقافة..
ويريد المثقف في ضوء ذلك تثبيت التزام الدستور بمبادئ حقوق
الإنسان على وفق الإعلان العالمي والمواثيق الدولية
المقرَّة، كما يريد تثبيت قيم إنسانية بالملموس في الدستور،
حيث يُنص على دعم الثقافة والإبداع من باب تواشج العلاقات
عبر الأجيال المتعاقبة باستدعاء الجذور الحضارية المتفتحة
ولدينا منها في عراقنا ما هو تنويري إنساني مشرق بعمق
ووضوح منذ سومر وبابل وأكد وآشور...
ومن هنا كانت قضية دعم الثقافة من الضرورة بما يجب تثبيتها
بندا واضحا في الدستور يقر للمثقف حقه ومكانته وواجبه تجاه
مجتمعه بتكريم المنطق العقلي التنويري والدفع به وبنشاطه
عبر وضعه بمواجهة مسؤولياته. ومن ذلك تثبيت رعاية الآداب
والفنون وإعلاء شأنها ومنع المساس بها وبحركتها بجعلها من
الثوابت الوطنية المقدسة.. إن مجتمعا يضع الثقافة والمثقف
في مثل هذا الموضع يعبر عن المستوى التطوري المتفتح
للبشرية ويدفع بخدمة مجتمعه خدمة صائبة وموضوعية تطورية
ناضجة تتلاءم وما وصلته المجتمعات المتحضرة..
ما يريده المثقف يظل رهنا بالارتقاء بصياغة الدستور عن
اليومي العابر وعن الأيديولوجي التكتيكي والسياسي
البرغماتي وبتجنيب الدستور فلسفة سياسية تخضع لرؤى الأفراد
والجماعات المحدودة على حساب الآخر باي حال من الأحوال وهو
ما يريد تجنبه المثقف ليغوص في عالمه العميق والكبير
الثابت والراسخ في العمق الروحي للإنسان وفي بنيته
وكينونته البشرية المتطورة..
إن الاتفاق على القواسم المشتركة روحيا وثقافيا بين مجموع
المتعاقدين من المواطنين هو ما يمثل ديمومة الدستور وثباته
وهو ما سيمثل الابتعاد عن التجاوز من طرف على آخر وفي
تثبيت أرضية الإبداع والحراك الثقافي، وبخلافه سنعيد
الأوضاع الى منع الإنسان من الإفادة من المنجز الإنساني
المعاصر ومن درجة التطور البشري ثقافيا وإبداعيا ..
من جهة أخرى يلزم للدستور العراقي في مرحلة تأسيسية
لانطلاقة الحرية أن يوثق مسألة تكوين منظمات الثقافة
ومؤسساتها ويشخص كينونتها في مواد واضحة وأن يدعم فلسفة
التأسيس الثقافي الوطني والإنساني ويحرم كل ما دون ذلك
ويمنع ما يعرقل حركة المثقف ويوطد ما يحفزه للعطاء
الموضوعي ليرسخ الصحي الصحيح بدل المرضي المستشري حيث
الثقافة، بل المثقف نفسه، يُباع في السوق رخيصا!
ما نريده من الدستور التوكيد على التعددي وعلى التنوع وعلى
قبول الآخر وعلى إحياء التاريخ المتحضر والعطاء العقلي
الناضح ويسمح بكل ما هو بنائي سليم بل يدعم مسيرته ويرسخها..
فالحديث عن الثقافي في الدستور أمر ليس من العابر أو
البرغماتي بل هو جوهر العقد الاجتماعي بين المواطنين
الممثل لاسم الدستور ووجوده...
فهل سنجد المؤسسة الثقافية محمية دستوريا؟ وهل ستمتلك تلك
المؤسسة الحصانة الجدية المسؤولة بدلا من عمليات المصادرة
الفكرية، الدينية (حالة التكفير على سبيل المثال) التي
تسمح بهدر دماء المثقفين؟ وهل ستجد المؤسسة الثقافية
الصياغة الملائمة في الدستور بما يستجيب لحجمها النوعي في
حياتنا المعاصرة؟ وهل ستشمل الحصانة الجامعات ومؤسسات
الدراسات ومراكز البحث والمعارض والمسارح والمكتبات
والروابط والاتحادات الثقافية وهل سنشهد البرلمان الثقافي
الحقيقي الوجود؟
...
أسئلة كثيرة ولكننا بحاجة لتفعيل العمل من أجل دستور ينصف
الثقافة والمثقف بعيدا عن المزايدة السياسية أو المناقصة
الأيديولوجية المتسترة بعباءة الدين.
|
(مسارات)
في عددها الثاني
التأسيس
لما هو دائم ووطني وإنساني
عرض
: عبد العليم البناء
يطل العدد الثاني
من مجلة مسارات الفكرية الثقافية ليكرس في أعماقنا ونفوسنا
الرغبة في ضرورة ازدياد وتوسع مثل هذه المجلات التي تحقق
جانباً مهماً من حاجة المثقف العراقي في هذه المرحلة
الحاسمة من حياة شعبنا العراقي الذي يتطلع الى بناء مجتمعه
الجديد..
ولعل ما يثلج الصدر حقاً ان العدد جاء مكملاً للعدد الاول
الذي شكل نقطة بداية رصينة، بل لبنة تتأسس عليها لبنات
اخرى لتسهم في صياغة المشهد الثقافي والفكري بعيداً عن
غبار الادلجة المقيتة الذي غطى لعقود طويلة بثقله مساحات
واسعة من الابداع العراقي.. فجاءت مسارات هذا العدد متنوعة
وشاملة وموضوعية تنزع الى التجديد والتنوير واضاءة كل ما
يمكن اضاءته..لاسيما وان رئيس التحرير اشار الى إرادة
المجلة المتمثلة بـ(الاحتفاء بروح الابداع العراقي الذي
يؤسس للمستقبل ) لتتكلل برغبة طموحة من اجل ان تنتظم
–
أي المجلة- بأطار مؤسسي
عبر تأسيس (جماعة مسارات للثقافة والفنون) (بما يتضمنه ذلك
من احتفاء بولادة جيل جديد من المثقفين العراقيين الذين
يأخذون على عاتقهم هماً وطنياً وانسانياً بعد ان اضحى
الصمت واللاانتماء والاكتفاء بالفرجة نوعاً من التواطؤ)
وصولاً الى التأسيس لما هو دائم الذي كان عنوان افتتاحية
العدد بقلم رئيس التحرير سعد سلوم الذي يكتب في محور مسار
العصر مقالة بعنوان (حين تسقط التاء عن الثورة- الانتقال
من انجيل الثورة الى انجيل الفن) ليسلط الضوء على معادلة
الثورة والثوريين وكيف تقوم بإنتاجهم الثورة..؟!
في حين تفتح في المسار الروائي ملفاً عن الروائي علي بدر
لتحيلنا الى منجم إبداعي جديد بعيداً عن الاحتفاء
بـ(الاسماك الكبيرة) التي عملقها وضخمها الخيال الشديد كما
تذكر المجلة في مقدمة الملف فلقد (ضاع منا زمن كبير في
التواصل مع كتابنا الرائعين، ولم نقرأ ملفات سوى عمن ارادت
المؤسسة الثقافية السابقة تقديمهم لنا.. وها نحن نفتح
مساراتنا على مصراعيها لمن يستحق .. ولمن يستحق فقط ..
فاليوم بدر.. وغداً امر..) .
- تضمن الملف عن مبدع رواية (بابا سارتر) وغيرها حواراً
معه اجراه وديع شامخ بعنوان (انا اكتب رواية منفلتة عن
خريطة الرواية العراقية والعربية)، وتطرح جينا كساب
الكاتبة اللبنانية المقيمة في امريكا رؤيتها النقدية تحت
عنوان (علي بدر صانع الروايات ومخترع الافكار ومفجر
اللغة)، وهكذا يفعل ناظم عودة حين يتحدث عن (كنايات السرد
وتحولات الواقع) ليقدم مقترحاً لقراءة روايات علي بدر..
اما فاطمة المحسن فتسجل انطباعاتها لتتناول رواية (بابا
سارتر) باعتبارها الرواية الساخرة والروائي الذي ينتهك
الحدود. وعن الرواية ذاتها يتحدث الشاعر والكاتب السعودي
سعد الحميدين عاداً (علي بدر الروائي البارع الذي فضح
ثقافة الحواة)، في حين تتناول الكاتبة اللبنانية كوليت
مرشيليان روايته الطريق الى تل المطران لتعد (علي بدر
الصانع الامهر) .. اما حاكم مردان فيتناول الرواية ذاتها
التي دارت احداثها في الموصل باعتبارها لدى علي بدر تشكل
(مربع الفانتازيا والتخييل الباهر) ليترسخ اتجاه جديد في
كتابة الرواية العراقية، بل لتأسيس انطلاقة جديدة في عالم
الرواية.. ويقدم في الملف ذاته الباحث الامريكي روبرت
غرييلي الذي يعمل في قسم اللغة العربية في جامعة بيركلي
(مقاطع وشذرات من عالم علي بدر الروائي)، وتختتم ليليان
حايك وهي شاعرة وصحفية لبنانية هذا الملف بتقديم مقاطع من
كتابات (ادباء عرب وعراقيون كتبوا عن على بدر) وهم : رياض
الريس وحكمت الحاج وهدى فهد المعجل وتيسير النجار ومنى زكي
وانعام كججي..
اما المسار الشعري فتضمن قصائد جديدة للشاعر احمد الشيخ
علي بعنوان (من كتابها مرة اخرى) ميزته بالتقاطاتها
اللماحة وومضاتها المشعة بصورها الشعرية الأثيرة .. وكذلك
نقرأ لماجد طوفان (أربعة نصوص) وحواراً مع الشاعر الكردي
شيركوبيكه س اجراه صفاء ذياب سكرتير تحرير المجلة حيث يمثل
هذا الشاعر الامتداد الشعري والحداثة الشعرية الكردية حيث
انطلق من بعد عبد الله كوران الذي يعد بمثابة السياب
بالنسبة للادب العربي ليصبح قمة من قمم الحداثة الشعرية
الكردية ومنذ منفاه في السويد اشتهر بالمطولات الشعرية
التي كان من اشهرها (مضيق الفراشات).
ويتناول احمد ثامر جهاد في المسار السينمائي (فيلم بيردي)
وفرادة أحساسه السينمائي بعيداً عن دخان الحرب طيور
(باركر) تحلق كسيرة وباركر يمثل تيار (السينما الحرة)
والفيلم الجاد والرؤى المتفردة الذي لا يفارق هموم الواقع
الإنساني ولا يجامل في جرأة تناوله ثيمات تتراوح بين
السياسة والسلطة والتاريخ والحرب.. في حين يقدم مقداد عبد
الرضا سورين كراياكوبسن باعتباره عراب السينما المختلفة
المتمثلة بمجموعة جديدة انبثقت في الدنمارك تنادي
بالابتعاد عن كل تزييف وخداع وغش للعين والعقل وتضم
المخرجين لارسن فون ترايد وكرستيان ليفر ينج وتوماس
فيتنبرج اضافة الى المخرج سورين كراياكوبسن موضوع مقال
مقداد عبد الرضا حيث تلتزم هذه المجموعة بقواعد مهمة
ومميزة ومثيرة للانتباه.. وقدم حمد محمود الدوخي موضوعه
الموسوم (ورقة السينما على شاشة الرواية العراقية.. رواية
ادابادا) لحسن مطلك انموذجاً .
ويقدم الفنان والناقد ياسر عبد الصاحب البراك في المسار
المسرحي (المسرح العراقي.. استشراف المستقبل في ظل
المتغيرات السياسية الراهنة) لا سيما بعد عامين من سقوط
الدكتاتورية والمسارات الفكرية والسياسية التي تتحكم
بالمشهد المسرحي العراقي..
اما موفق محمد يوسف فيقدم في المسار التشكيلي قراءة نقدية
لمعرض الفنان الإيطالي لوكارافاج الذي أقيم في المتحف
الوطني في لندن في ايار الماضي وما أظهرته لوحات المعرض من
معاناة الفنان وطبيعته المتمردة ومهارته في استخدام
تأثيرات الضوء والظل والالوان المستلهمة من عذاباته
ومعاناته.. في حين نقرأ لعدنان احمد حسين قراءة في
المؤثرات الفنية للتكوين التشكيلي في لوحة (آكلو البطاطة)
لفان كوخ..
وحين نطالع المسار القصصي نجد ان المجلة أفردت مساحة جيدة
لقصة لؤي حمزة عباس (طائر من معدن) و(اسفار الشيخ الجبلي)
لحميد المختار... وقدمت لحسن علاء الدين عرضاً لرواية
ريكان إبراهيم (حيوانات مبدعة) ولصالح زامل عرضاً للمجموعة
الشعرية (ما من وطن للملائكة) للشاعر عباس خضر ولعبد
الستار جبر عرضاً وقراءة موجزة للمجموعة الشعرية (لله ولا
احد غيري لله) للشاعر صفاء ذياب.. وتقدم المجلة من إعداد
خيري شنكالي عرضاً بانورامياً عن الايزدية باعتبارها فصلاً
من الفصول العقائدية من روح الامة العراقية واستعراض شعائر
ومعتقدات هذه الديانة المنحدرة من الديانات القديمة .
ويختتم صفاء ذياب هذا العدد بمقالته الموسومة (متى تصبح
للثقافة العراقية وزارة ؟!) وقد عبر فيها عن أكثر من
مغزى..
|
دوريات
عراقية
صدرت حديثاً عن دار
الشؤون الثقافية العامة (مجلة الاقلام) وهي مجلة تعنى
بالادب الحديث، وقد صدر منها العددان 3-4 اذار
–نيسان
للسنة الاربعين عام 2005 .
وضم هذان العددان مواضيع متنوعة منها: بلند الحيدري- دراسة
اسلوبية في هيكلية النص الشعري والحداثة حاجزاً بين الشعر
والجمهور والارادة الطيبة للوهم. اضافة الى مواضيع اخرى
مثل نشوار القراءة الفلسفية، انطوان تشيخوف طبيباً،
الشاعر: بابلو نيرودا، كابوس الشاعر مرثية لزمان آت، عندي
هذه الالعاب، وتحولات النص في الصورة السينمائية.
|
مـن
أجـــل وحــدة المـثـقـفـيــن الـعـراقـيـيـــن
كاظم
الحجاج
منذ عام تقريباً وهناك من زعماء الطوائف والفئات من يشكو
من (التهميش) ونقصان حصته، في زمن المحاصصات أو الانتخابات
المثيرة للجدل، ومنذ عامين أو أكثر والمثقف العراقي قد
أرتضى لنفسه العزلة الاختيارية أو القسرية في هذا الزمن
المريب دولياً، واقليمياً ووطنياً. وإذاً كان الدور
المفترض للمثقفين في العالم ان يكونوا في الطليعة دائماً،
وفي الصف الأول القيادي للتغييرات والانتفاضات، فإن مثقفي
العراق قد وجدوا أنفسهم أمام ظرف خارج عن سياق المقدمات
والنتائج، تماماً كما وجد المثقفون الوطنيون الألمان ـ من
قبل ـ أنفسهم أمام ديكتاتورية داخلية هائجة، كان دورهم
التاريخي يحتم عليهم ان يقاوموها وان يسقطوها بأنفسهم، لكن
ذلك كان مستعصياً من دون قوة خارجية متحالفة، لأن
ديكتاتورية (هتلر) قد عبرت حدود ألمانيا إلى العالم
الخارجي، وكذلك كان اليابانيون امام عسكرية بلادهم
المتوحشة عابرة الحدود.
فكان الخيار صعباً بين الفرح بسقوط عدو داخلي من خلال
احتلال اجنبي، وان كان مؤقتاً. انه خيار بين بداهة ميل
الإنسان نحو الخلاص من قبضة (داخلية) خانقة ومدمرة، وقبضة
خارجية مخلصة، وان كانت لها أهداف ابعد من تخليصك، والغريق
لا وقت لديه لاختيار اليد التي تمتد لإنقاذه.
ان احداً لا يجرؤ على اتهام المثقفين بنقص الوطنية، أو
بالتواطؤ مع قوى خارجية، لأن طموحات المثقفين اقل بكثير من
طموحات السياسيين وزعماء الأحزاب والقبائل والطوائف، انهم
ـ نعني المثقفين ـ لا يريدون أكثر من مكتبة لا رقابة
عليها، في بيت متواضع، مملوك أو مستأجر، ولا يريدون أكثر
من أن يكتبوا ما يشاؤون، وان يلبسوا ما يشاؤون وان يطيلوا
لحاهم أو يحلقوها، وان يسمعوا الموسيقى ويدخلوا المسارح،
وان يسافروا ويعودوا إلى بيوتهم.
ومن هنا تأتي شبهة عزلتهم عن المشهد السياسي، كونهم لا
يجدون شيئاً يستحق التكالب عليه، أو التقاتل من أجله، إلا
حريتهم في وطنهم، لأنهم ضد الخنق والديكتاتوريات
(الداخلية) أياً كان رداؤها: (زيتونية) أم معممة! وتلك هي
أولويتهم التي تسبق حتى الموقف من الاحتلال، لأن شريعة
المقاومة تعني ان احراراً يدافعون عن حريتهم لا أن يدافع
العبيد عن قيودهم وعن مستعبديهم.
ويبقى السؤال هو: هل المثقفون محدودو الفاعلية لقلتهم أو
نخبويتهم؟ وهل ان تهميشهم متلازم مع قلتهم العددية؟ وهو ما
يتعارض مع واقعية الثقافة في هذا البلد الشرقي الأول في
القراءة والاستهلاك المعرفي وأكثر البلدان حرصاً على
المكتبات البيتية منذ مئات السنين. ومن هنا يمكننا توسيع
قاعدة الثقافة العراقية من المعلمين والمدرسين واساتذة
الجامعات، ومن يتخرج من بين أيديهم من أطباء ومهندسين
وعلماء ومختصين، إضافة إلى المفكرين والأدباء والفنانين
والصحفيين وقادة المجتمع المدني، ومدمني القراءة الخفيين،
ومن هنا سنكون أمام أكثرية تنازلت عن ثقل حجمها بالزهد
والانزواء والمراقبة عن بعد.
إننا ندعو مثقفي العراق إلى فك الارتباط، ولو مؤقتاً،
باحزابهم وطوائفهم ومنظماتهم، لكي يعيدوا توضيح حجم كيانهم
وأبعاد مساحتهم العريضة الواسعة، من أجل الانتماء إلى
الثقافة العراقية المهددة بالتشتت والانزواء الذاتي
ومحاولات تهميش الآخر لهم. ونرى ان من العار ان يتخلى
المثقف عن امتيازه النخبوي القيادي ويتحول إلى رقم في
قاعدة حزب أو طائفة أو دين أو عشيرة، ومن هنا ندعو مثقفي
العراق من العرب والكرد والتركمان والمسلمين الشيعة
والسنة، ومن المسيحيين والصابئة وسواهم إلى استرجاع هويتهم
الأعلى والأسمى، هوية الثقافة العراقية المهددة أكثر من
سواها. كما ندعو إلى مؤتمر وطني لمثقفي العراق كافة، لكي
يقولوا رأيهم القوي في التعامل مع الواقع العراقي الراهن:
واقع الوجود الأجنبي وسبل التعامل معه، وكتابة الدستور
ومستقبل العراق بكل تفاصيله كي لا يستعيد القتلة بعض
مواقعهم التي خسروها بالاحتلال، وكي لا يحصلوا على
امتيازات ومواقع جديدة من خلال الذبح والتهريب والتخريب،
ولكي يعلم الجميع ان عراقاً ديمقراطياً فدرالياً موحداً هو
مشروع المثقفين العراقيين وليس مشروعاً امريكياً.
وهذا هو رهاننا الأخير، بعد الثمن الباهظ الذي دفعه
العراقيون من دمائهم الغالية ومن ثرواتهم وحرمة بلدهم
المقدس، وهو واقع فرضه اختلال الميزان الدولي، الذي وضع
العراق والمنطقة ما بين المطرقة الأمريكية والسندان السلفي
التكفيري المتخلف.
لا للبقاء الاجنبي الدائم على أرض العراق، لا للإرهاب
البعثي والتكفيري، لا للنهب الحزبي والعشائري والطائفي
لخيرات العراق. لا للتدخل الإقليمي في شؤون العراق،
نعم لدستور عراقي نموذجي يليق بثقافات العراق، وحضاراته
ورقي أبنائه وتضحياتهم.
عاشت الأمة العراقيّة الكبرى.
وعاشت وحدة مثقفي أمّة العراق الكبير.
|
مستشرقون
عراقيون
قاسم محمد عباس
qassm950@yahoo.com
بعد
أن عادوا إلى العراق في إنجازات سريعة من منافيهم كتب
الكثير من الشعراء والكتاب المهاجرين نصوصاً عن مدنهم
وقراهم، لكن ليس كما يكتب أي عائد شرقي إلى بلده، وإنما
برؤية استشراقية فتحدثوا عن العراق وكأنه جزيرة لم تكتشف
من قبل مع أن معظم هؤلاء ليسوا من المهاجرين الأوائل، نقصد
مؤسسي الهجرة الأولى في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي،
بل هم من الجيل الأخير للهجرة، من الذين غادروا العراق بعد
أوائل التسعينيات. أو بعد ذلك بقليل، وكانوا قد عاشوا حياة
الحصار ووقائعه الحياتية المدمرة. وعانوا من الوضع السابق
كما هو حال أغلب العراقيين، لكن بعد عودتهم، عندما تغير
الوضع كتبوا نصوصا غريبة فيها الكثير من وهم المفكرين
الذين يعودون إلى بلدانهم، فكتبوا عن رحلتهم إلى بلدهم
بوصفها رحلة من رحلات المستشرقين بطرافتها وغرابتها ولكن
ليس بعمقها إلى الحد الذي اقتبسوا فيه طريقة تفكير
المستشرق الغربي وهو يصف بغداد بجانبيها الكرخ والرصافة،
متحدثين عن العادات والتقاليد وبساطة الناس، والخراب الذي
قلب كل شيء رأساً على عقب، وكيف أن شارع الرشيد لم يعد
شارع الرشيد ومقهى حسن عجمي هي الأخرى لم تعد كما كانت،
متوهمين علاقة جديدة مع المكان، وكيف أن الحواجز الأسمنتية
تشوه وجه المدينة التي لا ترقى إلى أكثر المدن قذارة من
التي زاروها في رحلاتهم التي بدأت غالبا من عمان وكأن
حياتهم فيها وهم ينتظرون الحصول على اللجوء مرت بهدوء وفي
بحبوحة من العيش. ثمة خلل في رؤية المشهد الجديد في
العراق، على خلاف من هاجر في ستينيات أو سبعينيات القرن
الماضي، فهؤلاء لهم موقف آخر، مزج بين النوستالجيا والموقف
المتوازن من المكان والتاريخ الشخصي، ونظرة عقلانية إلى
مرابع الصبا، والأيام الأولى لنشوء وعيهم وتشكله، فقاموا
بزيارات إلى الاهوار، وبغداد القديمة، مبتهجين ببقاء رائحة
الماضي بكل ملابساته، وذهبوا إلى الصروح التي لم تدمرها
ماكينة النظام السابق، و بعضهم كتب عن بغداد والتغيرات
التي حدثت فيها وكأنه لم يبتعد عنها لحظة واحدة على خلاف
الجيل الأخير للهجرة، وهو موضوع نبهنا إلى قراءة ما كتب
هذا الجيل الأخير، الذي أفقدته سنوات انتظار اللجوء النظر
إلى مشاعره وأهله وتاريخه الشخصي نظرة معتدلة خالية من
الأوهام، وكشفت عن علاقة هشة بينه وبين مجايليه، وقدم
تحليلات مجتزأة للتحول الذي طرأ على الحياة في العراق. حتى
أن البعض لم تفته فرصة أن يسخر من تحليق الطائرات من مطار
بغداد وهي تحلق عموديا بسبب الإجراءات الأمنية واتخذ من
هذه الحادثة دليلا على الاختلاف الكبير بين منفاه والعراق،
وتوهم أن اللصوص وعصابات الخطف تترصده، كون آثار العيش في
الخارج بادية على ملابسه ووجهه.
على العكس من الجيل الأكبر الذي أول ما فعله التقى الناس
بكل مستوياتهم، حاور جيل الشباب ودخل معهم في نقاشات جادة
عن تأثير الدكتاتورية على النظر إلى المستقبل، وأجرى
الكثير من الاستطلاعات والإحصاءات لمعرفة توجهاتهم
الثقافية والسياسية والاجتماعية.
إن وهم المستشرق سيطر على الجيل الأخير من المهاجرين.
وتخيلوا حوادث ميلان كونديرا، وسولجنستين وغيرهما، مع أن
هؤلاء كانت بلدانهم المحرك الأساس لإبداعهم وكانت الحوادث
المأساوية التي عاشوها دفعتهم إلى النظر بعمق اكبر في
ثقافتهم وهم يكتبون عن عوداتهم من منافيهم في زيارات أو
رحلات، لكنها أبداً لم تكن رحلات استشراقية تكشف عن خلل في
التفكير، أو كتابات عن أماكن في بلدانهم سيطرت عليها
الازدواجية والخروج على نمط المشاعر البشرية وهي تنشد
بحنين إلى أماكنهم الأولى. ولم يحاول كونديرا أو غيره صنع
تاريخ مزيف، أو تخيل ماضٍ ملفق لم يكن موجودا. حتى وانك
تقرأ هذه النصوص التي كتبها الجيل الأخير من المهاجرين
تتخيل أن هؤلاء مستشرقون لا يعرفون أسماء الأحياء الشهيرة
في بغداد، أو المقاهي، والشوارع الرئيسة في المدينة على
الرغم من أنهم قضوا فتوتهم وأيام دراستهم الجامعية يتسكعون
فيها، ويحفظونها عن ظهر غيب.
ربما من حق هؤلاء لو استعاروا النظرة الاستشراقية المزيفة
بالطبع بسبب أن النظرة الاستشراقية لا تقفز على الوقائع
إنما تحللها و تقدم قراءة لها تنسجم وموقفها، لكنها في
مجمل الأحوال تقدم معلومة صحيحة، فضلا عن التحليل العميق
للظاهرة المدروسة سواء أكانت مكاناً، أم بنية اجتماعية، أم
ظرفاً سياسياً كما يحصل الآن لدينا. إلاّ ان نظرة أصحابنا
هؤلاء كشفت عن مرض يتعلق بالمهاجرين، لم يصب به غيرنا،فضلا
عن الازدواجية والوهم وهما ينتقلان من الأشخاص إلى نصوصهم،
فتقرأ كتابات تتحدث عن اللامكان والفنتازيا والتجريد. إن
توهم فكرة الخلاص ربما تكون الدافع وراء كتابات من هذا
النوع، وربما حالة الإحباط التي أصابت بعضهم الآخر وهم
عاجزون عن تقديم موقف واضح لما يحدث في العراق، أو الشعور
بالعجز عن الإسهام في إعادة بناء الحياة بعد التغيير.
دفعهم إلى اختيار مواقع ليست لهم، فكتبوا متوهمين إنهم
يمثلون نمط حياة أخرى غير حياة العراقيين المليئة بالدم،
لذا لم يكتب احد منهم عن الأطفال وهم يفجرون في طريقهم إلى
المدارس، أو عن تدمير الإرهاب للبنية التحتية، أو عن اللحم
العراقي وهو يتناثر كل يوم في شوارع بغداد، لم يكتبوا عن
المآسي اليومية التي يعيشها الشعب وإنما كتبوا عن طريقة
استقبال الآخرين لهم، كتبوا عن أحلامهم في المفاضلة بين
وظيفة جديدة في الداخل لمقارنتها مع حياتهم في المنفى،
لاختيار المكان الأنسب بالنسبة لهم. لذا عاد البعض منهم
بسرعة إلى منفاه خشية أن تضيع سنوات انتظاره للجوء، فجاء
وعاد ليس كما يفعل المستشرق الذي يطيل النظر في الوقائع
ويحللها، فقفز أصحابنا على الوقائع وعادوا بخفي حنين من
حيث جاؤوا.
|
رؤيــــــا شــريـعـتـــي
(3-5)
عبد
الجبار الرفاعي
يبدو ان الهموم
النضالية لشريعتي، ومحاولاته الواسعة لأنسنة الدين،
والتشديد على المضامين الاجتماعية للاسلام، هي الباعث
لمسعاه في تحويل الإسلام (من ثقافة إلى ايديولوجيا). وربما
تأثر شريعتي باطروحات جماعة لاهوت التحرير، ودعواتهم
لتحويل الدين إلى ايديولوجيات لمناهضة الاستعمار، وتحرير
الارض، وتنمية المجتمع، بعيدا عن مشاغل اللاهوت الكلاسيكي.
ومما لا ريب فيه ان هيمنة الايديولوجيا على وعي الباحث ولا
وعيه، تحول بينه وبين الوصول إلى نتائج علمية أكثر موضوعية
وحيادا في تفكيره وبحثه. ذلك ان الايديولوجيا تقود اية
عملية تفكير وتوجهها الوجهة التي تنشدها، وتضاعف التحيزات
والمفروضات القبلية في ذهن الباحث، وتسوقه دائما إلى مواقف
ونتائج محددة سلفا، باعتبار التفكير الايديولوجي يسعى إلى
تغيير العالم لا تفسيره. وينشغل انصار الايديولوجيا بسكب
المجتمع في قوالبها ورؤيتها الخاصة، ولذلك ينددون
بالتعددية ويكرهون الناس على تفسير رسمي للمعتقدات الدينية
والاجتماعية والسياسية، ويخنقون الاسئلة الكبرى، ويعملون
على ترسيخ الجزمية واليقين، وبالتالي بناء مجتمع مقلد
مغلق. وتكمن المفارقة في ان شريعتي الذي اعلن عن مطمحه في
الانتقال بالاسلام "من ثقافة إلى ايديولوجيا" تسود كتاباته
نزعة تفكير حرة، ترفض المجتمع المغلق، وتدعو إلى اصلاح
الفكر الاسلامي، والانفتاح على مختلف الاديان والثقافات،
وتحكي آثاره ذائقة فنان، وروح شاعر، وعقلية ناقد، ونزعة
متمرد، ومثل هذه السمات في الشخصية يتعذر على الايديولوجيا
الانسجام والتوافق معها. والمفروض ان مثقفا كشريعتي يدرك
مثل هذا التهافت ، ويعي الالتباس بين الشخصية
الايديولوجية، وشخصية المثقف، والشاعر والفنان، والناقد،
لكن موقفه ظل ملتبسا بين شفافية الفنان الرومانسي وبين
احلام وتطلعات المناضل.
العدة المعرفية
للحاج علي شريعتي
تكرر ذهاب شريعتي
إلى ديار الرحمن عدة مرات، فقد ادى العمرة ثلاث مرات، فيما
ادى الحج أكثر من مرة، في عامي 1970 و 1971، وكانت المشاعر
المشرفة في مكة المكرمة، والمشاهد الكريمة في المدينة
المنورة، مصدر الهام لجملة من افكاره، وانطباعاته،
وتأملاته، واشراقاته الروحية، التي افاضها في محاضرات
وكتابات احتلت مئات الصفحات من آثاره المنشورة.
وتحتل هذه المجموعة من الاثار اهمية فائقة، ليس لحجمها
الواسع، وتنوع ما تناولته من موضوعات، تتصل بفلسفة
التاريخ، وفلسفة العبادة، ومقاصد الشريعة، واهدافها
العامة، فقط وانما لانها تعبر عن تجربة مميزة في ادب الحج،
وعموم الانتاج الفكري حول الحج والعمرة، باعتبار صاحبها من
القلائل الذين توفروا على عدة معرفية. تجمع بين التخصص
الاكاديمي في علم الاجتماع وتاريخ الاديان ، والاطلاع على
تراث وآداب الشعوب الإسلامية، ووعي العصر، وواقع المجتمعات
الإسلامية، واحوال العالم . وقلما نجد من يتوفر في الوقت
نفسه نفسه على ذائقة فنان، وخيال شاعر وانفعال انسان
رومانسي، وخبرة في العلوم الانسانية الجديدة، واطلاع واسع
على التراث والواقع، وداعية ومناضل.
في شخصية علي شريعتي نلمح عدة ابعاد، تمثل المفكر،
والباحث، والمثقف، والفنان، والناقد، والمتمرد ، والداعية،
وهي ابعاد ربما يبدو بعضها منافيا للبعض الآخر لا تجتمع
وتتوحد في انسان الا في حالات محدودة.
تلك هي المواهب الذاتية ، والامكانات الخاصة، والادوات
المعرفية ، التي يمتلكها شريعتي، وفتحت له ابوابا ونوافذ
لتأمل وتحليل التجربة الدينية للحاج، ودراسة العناصر
الرمزية في المناسك، وانماط التحولات الروحية
والانثروبولوجية للمسلم الحاج. قد نلتقي في ضيوف الرحمن مع
مبدعين وشعراء، وفنانين، ومفكرين، ومثقفين ، واكاديميين،
وسياسيين وعلماء دين ، وعرفاء ومتصوفة، ولكن قليلاً ما
نشاهد احدا تتجاور في شخصه وتلتحم مجموعة من تلك المواهب.
ولا ريب في ان الفنان تتجسد المناسك في وجدانه بصورة تحكي
الالوان، والتشكيلات والحركات، والاصوات، وكانها لوحة
متناسقة خلابة، في اطياف الوانها، وملامحها الجمالية،
وانغامها. وهكذا تبدو المناسك في عيون السياسي، باعتبارها
نموذجا لوحدة الامة وتضامنها، ومظهرا لعزتها واقتدارها،
فيما تتجلى المناسك بصورة ثالثة لدى العارف والمتصوف ،
وهكذا.
اما لو تكاملت مجموعة من هذه القابليات والامكانات في فرد
واحد، فسوف تتسع رؤيته ، لتلامس طائفة من المعاني
والدلالات الرمزية العميقة التي تشي بها الفاعليات
المتنوعة للحج والمواضع المتعددة للمشاعر، يصعب على غيره
استلهامها والتعرف عليها.
لقد وظف شريعتي كل عدته المعرفية، وثقافته الواسعة، وخياله
الرحب في استجلاء المقاصد الكامنة وراء مناسك الحج، واشار
إلى ان الوجه الظاهر للمناسك بوسعنا وعيه بما نتداوله من
ادوات ادراك، ولكن الوجه الخفي يتعذر علينا وعيه بهذه
الادوات، لانه خلاصة لتجربة وجدانية باطنية، لا يمكن
قياسها أو اكتشافها بمفهوماتنا المتعارفة، كما لا نستطيع
التعبير عنها بوضوح، لقصور اللغة عن حكاية الانطولوجيا
الذاتية، وما تختزنه النفس من مشاعر واحاسيس وانفعالات
وانطباعات جوانية.
|
مــن
بـقـايــا تـفــاهــات حــــرب
خليل الأسدي
كلُّ أسلحتي لم تزلْ
في مشاجبها تنتظرْ..
والجنودُ الذينَ قضوا في حروبي القديمةِ..
ما زلتُ أسمعُ دقَّاتِ ساعاتِهم..
أنهم ينفضونَ الغبارَ عن الوقتِ..
يسترجعونَ الدقائقَ
ـ كلُّ الدقائق ذاتُ صدأْ ـ..
ينشدون َ التراتيلَ..
ـ لا أرغنٌ
أو بيانو..
بل نواحٌ
وأصداءُ ريحٍ
وإيقاعُ صوتِ مطر ـ ...
يرتدونَ النياشينَ..
والأوسمةْ...
ثمّ يبكونَ..
يبكونَ للأغنيةْ..
لصوتِ (حضيري)..
و(داخل حسنْ)..
للصديقِ الذي فرّ من ميتةٍ
نحو أخرى..
وللمرأةِ الاحجيهْ..
ـ في حضارتهم..
ثمَّ روحٌ..
وبزاتهم ثُقَّبتْ بالرصاصْ..
كان لغزاً عصيّاً على الفهمِ..
ان يدخلوا حانةً..
في خميس تهرَّأ تاريخهُ..
ثُمَّ تأخذهم جمعةٌ معتمةْ
للحروبِ التي غادروها بقمصانِ دمْ..
ما الذي يفعلونَ إذاً..؟!
الغناءُ الذي هو بركةُ دمعْ..
يستعيدُ تفاصيلَ ذاكرةٍ..
تستعادُ تراتيلُها في فضاءاتِ موتى..
تُرتَّلُ ملغومةً بالحواسْ..
الغبار الذي لم يزلْ فوقَ تلكَ الأرائكِ..
صار ذاكرةً هو أيضاً..
كلُّ هذا العطبْ..
في مفاصلِ أوقاتنا..
والخيوط التي هي لونُ الرمادْ..
على حائطي..
العناكبُ تنسجُ أوقاتها في زوايا الغرفْ..
الغرفْ!!؟..
هي أيضاً مخابئ للذاكرة..
مثلاً..
أنّ معركتي ها هنا كنتُ خطَّطتُها..
كنت أنسجُها مثل تلك العناكبِ بالضبطْ..
غير إني اكتشفتُ اخيراً..
بأنّ الهزائم كانت ظلالي..
وما كنت ألاّ فتىً فوضوياً..
حروبي بلا قاعده..
والهزائمُ غاياتها..
ما الذي قد فعلت..
وماذا سأفعل بعدئذٍ..؟..
لم يزلْ ثمّ وقتٌ لآخر اطلاقةٍ..
لم يزلْ ثَمّ وقتٌ لموتى سيأوون للنومِ هذا المساء..
كم قديمٌ هو هذا المساء!!..
لم يزلْ ثمّ وقتٌ ليومِ غدٍ..
ولما بعد غدْ.. |
|