المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

استعادات بغدادية
 

لا تكتفي هذه الكتابة باستعادة روح المكان، إنها تعيد اكتشاف لحظتنا الراهنة فيه، في المكان الذي بتنا بعيدين عنه، برغم إقامتنا فيه، في غمرة تيهنا في هذه اللحظة الراهنة .
ربما لن تسعفنا الفلسفة، ونحن هنا نجد مقاربة بين المكان بوصفه زمناً ماضياً وبين الراهن بوصفه مكاناً للتيه.
لن تسعفنا الفلسفة كثيراً ، حين نكون في تماس مع أشد المشاعر الإنسانية رهافةً: الإنسان بوصفه روحاً تسعى، والمكان بوصفه ذكرى وحياة تعاش.
هذه الكتابة التي يقدمها قاسم محمد عباس بحرارة جارحة تضعنا في بغداد . ولكنها بغدادتان .. بغداد بمكانين ، وبغداد بزمانين، غير أن امتياز هذه الكتابة هي قدرتها على دمج المكانين والزمانين في جوهر واحد ، ليس هو بالمكان ولا هو بالزمان. انه بغداد التي نحب ، بغداد التي تتسرب من بين أيدينا في دهاليز يومها العنيف، والتي تعود فتلتحم في أرواحنا ، في أشد مواضعها سرّية ووجداً
 

عبد الزهرة زكي
 

قاسم محمد عباس

تصوير نهاد العزاوي

مِحَن المكتبة
ربَّما أكونُ كغالبية الذين يرتادون المكتبات مدة من الزمن لسبب أو لآخر ، ثم يتجاوزون علاقتهم بالمكان وجغرافيته، فحتى هؤلاء الذين يعيشون ادمان روائح أغلفة المجلدات، أو رائحة الورق الذي ضربت حروف الطباعة اخاديد عليها لأكثر من نصف قرن، ويعيشون هوساً غير مألوف في علاقتهم بالكتب والأماكن التي تخزن فيها ، فحتى هؤلاء يتجاوزون تأثير مدة الشغف بالمكتبات ، بصدمة اكتشاف الأماكن اللاحقة .
تنطوي الكثير من الذكريات في زحمة وقائع حياة العراقيين التي تعج بانعطافات وتحولات لا تسمح بإعادة النظر في قضية الهوس بالأمكنة والأدمان عليها .لكنني أقاوم هذه الفكرة منذ مدة ولن أرضى أبداً بأن تكون تلك السنوات التي قضيتها في ( مكتبة الوزيرية ) ، ـ وهي تسميتي لمكتبة جامعة بغداد في حي الوزيرية ـ مجرد ( ذكرى مكتبة نادرة ) فقد دخلت هذه المكتبة تحت وطأة أحاسيس متناقضة، وما زالت صورة هذه المكتبة في لحظات دخولي إليها لأول مرة تضرب في رأسي بعنف، تلك الصورة التي شكَّلت اختراقاً عنيفاً لحياة المكان في الوزيرية.
فالمسافة التي تمتد من تحت الطريق السريع وانتهاء بالسور الملوّن لكلية الفنون الجميلة تحتضن خليطاً غريباً يحتاج إلى شيء من الانسجام على مستوى التآلف المعماري والوظيفة الاجتماعية،حيث صارت الأبنية المجاورة للمكتبة مثل الشركة الوطنية للتوزيع والنشر، وورش تصليح سيارات الفولكس واغن والأقسام الداخلية لطالبات جامعة بغداد، والسفارة التركية، وتفرع جانبي يؤدي الى قاعة حوار، يقابله تفرع ثان يؤدي إلى الباب المعظم، صار كل ذلك امتداداً طبيعياً لعالم المكتبة في نظري، حتى أن المقهى الوحيد هناك ( مقهى أبو علي ) الذي يقع في مواجهة المكتبة صار هو الآخر جزءا مكمّلا لحياة المكتبة، هذا المقهى الذي لا تتجاوز مساحته أربعة أمتار، عالم من النار والشاي والكتب والحكايات ، مكان يستأمن فيه على القصص والكتب وأسرار طلبة المحافظات ،حوارات سريعة عابرة بالقرب من مسجد صغير هو آخر تلك الاجزاء التي خرجت على الهويات والأشكال والصراعات.
فما الذي أصاب المكان ؟ أو لاعيد سؤالي المجروح على نحو أدق : ما الذي تغير في هوية المكان ؟ حتى يعلن عن كل هذا الجفاء الذي ينتشر هناك، هل فعلا استطاع الموت المجاني وشهرته التي امتدت للمكان أن يظهر للمارة العابرين من أمام المكتبة أنه يحتل المكان ويعيد صياغته؟
عندما خرجت من عزلتي في ذلك الصباح ، قطعت شارع المستنصرية، مندفعاً ببطء اقود السيارة من تحت الجسر السريع لأجد نفسي في مواجهة الشركة الوطنية للتوزيع والنشر، وبيني وبين المكتبة خطوات كنت اقطعها سيراً. بدا المكان خالياً من المظاهر العسكرية حيث لا نقاط تفتيش، لا صفارات انذار، لا إرهابيين ، لا عبوات ، لا عصابات للخطف ، كل شيء هادئ وساكن تقريبا ، كل شيء هادئ بالقرب منك أيتها المكتبة ، فقط مركبات تمرق بسرعة تعلو وجوه أصحابها صفرة غريبة. بدا المكان مرهفاً ،أو هكذا بدا لي إلى الحد الذي سمح لي بأن أستعيد خطواتي ذاتها قبل سنوات في الاتجاه ذاته، أيام كانت زياراتي للمكتبة يومية، خطوات لم تزل ضرباتها على الرصيف، ضربات تعلو على همجية هذه اللحظات وعنفها الذي نحياه. خطوات برفقة امرأة تكتب مؤلفاً عن المعتزلة، أو تونسية تائهة تدرس الأدب العراقي ، أو خطوات ممتزجة لرواد المكتبة ، خطوات تصرخ في وجه الذباحين : هنا تولد الأمكنة النادرة، هنا يتوقف زمن المدينة ويتجوهر على نفسه ، ويمتزج بلحظات نادرة من حقب سحيقة ، هنا تولد الحضارة، يولد الشعر، تولد الثقافة في نقاط عصية عليكم وعلى صراع الطوائف ،والملل والأعراق ،لا أحد يستطيع أن يدعي ملكية مكان امتزجت فيه الأحبار بالطين بآثار الملائكة ،المكان الذي لا استطيع أن أدعوه إلاّ بنقاط الانفصال عن عالم المدينة،الانفصال عما هو زائل، عن عالم التعذيب، عن عالم الدم ، إنها مكتبة في بغداد ، أو مكتبة بغدادية سلوكاً ومحبة، مكتبة بروح وجسد ، فلهذا المكان روح أخرى في مكان آخر، روح تأصلت في بغداد قبل ألف عام ، حيث تعاهد الوراقون على وضع خطط المكان ، وشيدوا تاريخا يظهر جلياً على جدران المكتبة ، روح تجوّل الوراقون فيها بأوراقهم ومقالمهم وأدواتهم ، وأقسموا انها ولدت من نقاط أزلية تتكرر وتتجلى في كل حين ، نقاط تتكون من رفوف وفهارس وسوق ومحاريب مقدسة وحديقة صغيرة ومبيت للطالبات .
مجموعة من سدنة الكتب : ساجدة والآء وشفاء ومنى وماجد وأبو رزاق ، قلة استثنائية من جنود المعرفة ، حماة الكتب ، الذين هزموا أزمة بكاملها ، سخروا من سكاكين وحراب القتلة ، هذا المزيج من الملائكة والأمكنة ، المزيج من الأسطورة والافتراض وبعض المتون القديمة هو الذي أعطى للرواد رمزية مكتبة بغدادية سميناها بمكتبة الوزيرية.

بغداد في مواجهة المحو
هذا الصباح البغدادي بحاجة لجرأة ورعونة كبيرتين في آن.
الجرأة لكي اقتفي أثر الحياة هنا، ولا أتردد في أن أقول : ان الحياة في هذه المدينة هي ما يعذّب قتلة العصر الجديد من البدو والموالي الغرباء، لعقدة متأصلة من المدن العظيمة في نفوسهم ، سريان الحياة في المدينة يعذبهم، فيعمدون لإخفائها واخافتها بالحديد والنار والسكاكين، لأن الحياة ليست من نصيب فاقدي عراقة الولادة في مدن كبغداد فيظهرون كعقارب ومأزومين.
إن ( حياة ) البغداديين من شأن أهل بغداد ، فهذه الشمس شمس بغدادية وحسب، وهذه السماء الزرقاء سماء بغدادية وحسب ، أذن ينبغي أن نعود لبغداد.أن نعود الى المدينة، التي تخليّنا عنها سنوات ثلاثاً ، فرمزية عودتنا هي ما يشجعني منذ أشهر لأن نقيم يوماً للمكتبة ، أن ندعو الأصدقاء من الشعراء والباحثين والكتاب ممَّن سكنوا معنا هنا في هذه الجنة الصغيرة لأن يحتفلوا بنجاة المدينة من النسيان، أن نتوقف عن تذكر مكتبة الوزيرية بالهواجس الكاشفة ، نتذكرها كلما جاء ذكرها بالاحداث المنفردة والمباغتة، لندعو علياً وصفاء وحسيناً وحيدراً ويحيى وخالدة وأسماء، لندعو الشعراء من الأصدقاء ،ليعودوا الى المكتبة ، ليعودوا لبغداد ويوقفوا تلك الكآبة التي تتجسد في فيض الهواجس والأحلام والتبديات في توقف بغداد عن الحياة.
نخبة من المتعطشين للكتاب بوصفه كائنا أزلياً ، تتجمع وفقاً لعلاقاتها في مجالس وحلقات من كبار الدارسين واثرياء الفكر ونبلاء الوسط الأدبي ، هؤلاء المهتدون إلى الوزيرية كمكان للحج المعرفي... صنعوا جغرافيا جديدة للمكتبة على فصول عدة ، سبقت الحرائق التي أصابت المكان، الحرائق التي مزقت أرواحهم ، مع أنهم بكوا كثيرا على دم المكان ومحنته، المكان الذي انفرد بوجوده من خلال كتب سلمت من النار، إلاّ انهم أبوا إلاّ أن يذرفوا دموعهم على الأثاث القديم المحترق، وكلَّما فتحت سيرة هدايتهم بَكوا وتأسوا.
الرواية التي نقلها صفاء صنكور ـ الذي كان من مبشري كمال المحبة المحترفة وجمالها للمكان والداعي لعبادة الكتب ـ بـشَّر جمع المفتونين بسلامة روح المكتبة ، وهدَّأ من روع من جرى اصطفاؤه للقراءة والكتابة.
تحدث أن الغلاة والأغراب لم يستطيعوا إلاّ أن يحرقوا خشب مدخل جنتهم، فطوبى للكتب الناجية. حكاية نجاة الكتب ألهمت الكثير من الأصدقاء، حتى ان أحدهم توصل إلى أن الزرقاوي وأجلافه يحاولون أن يسلبوا من ذاكرتنا ماضي المدينة، وغيابنا عن المكان انتصار لهم .هل فعلا يجب أن نستديم سنواتنا الأولى مع المكتبة ؟ هل يمكن أن يستمر تماسك المنتخبين للمكتبة عبر الزمن في هوية تتجدد باستمرار، أو من خلال حضورنا، عبر أعراف صغناها للمكان يتوجب ان تستمر تقاليد علاقتنا بالمكتبة وموظفيها ، أن نزور سلالمها، نلامس أغلفة كتبها، هل نخلق نوعاً من استمرار الذاكرة لمواجهة فكر دموي يسعى لتدمير هذه الاستمرارية؟
أنا أعي تماما أن الامر لا علاقة له بنسيان مكان ولادتنا ، وأدرك أن المتغيّر في سعْينا جميعا هو حاجزنا الأساس من حضورنا في الوزيرية، ولا أتَّبع وهماً بفقدان جزء من الماضي، لكنني أعاني مما يشبه تشكل أسطورة المكتبة في لاوعيي، أسطورة أن يتسبب هذا المكان بعودتنا لبغداد، والانتصار للمدينة المهجورة بحجة الاحتماء من الموت أو الانشغال باكتشاف مدن أخرى ومكتبات أخرى، وليس من المحال أن أصف هذا الحنين، أو لاقل هذه الصياغة النفسية لجفوتنا لمدينتنا، وأدرك أننا نتضمن خزينا نفسيا هائلا عن المكتبة وحوادثها وأدوارها، ولم نكن قد رأينا غير بغداد حينها ، وادرك اننا رأينا أمكنة وبلاداً جديدة، ولم تستطع المدن الجديدة ومكتباتها ان تزاحم جنة الكتب في الوزيرية.
يمكن القول أنني أواجه هجمة عنيفة من التأملات اللاواعية على أثر هجر المكتبة قسراً، وقد شكلت الملامح البارزة من هذا الهجران موضوعا يساعدني على مواجهة العنف الذي يدمج الصور ويستبدلها، يقوم هذا العنف ومن ورائه الفكر الذي يدعمه ـ وهو فكر يعاني من جدب إنساني في علاقته بالمدن ـ بمحو غير منظور لعلاقتي ببغداد.
فالأحلام التي تراودني مرتبة تشير إلى إفشاء تدريجي لدخيلتكم أيها الاصدقاء، فقد استذكرنا المكتبة مراراً بهمومها، وحزنها ،وتحدثنا عن خشيتنا من موتها برحيلنا عنها، فالاستسلام لفكرة هجر المكتبة يمتد لهجر بغداد، وما استبدال أمكنتنا القديمة بأخرى أكثر حصانة إلاّ خضوع تدريجي لارادة العنف السارية، وخاصة بالنسبة للمنتخبين ممن ولدوا هناك في مكتبة الوزيرية، فأرانا نغرق في نسيان بغداد، نُروَّع عاجزين عن الكتابة عن بغداد أمام التدمير الجسدي الذي يقطع أجساد أهل بغداد.
هل يعرف أي من حاملي الأحزمة الناسفة شيئا عن بغداد ؟ لا أظن ذلك لانهم بلا مدن ، وبلا جنان للكتب، لا يعرفون شيئا عن توتر عشق بغداد الكامن في مكتبة من مكتبات بغداد .
عالم الكتب السرية
الوقوف أمام باب المكتبة ينفتح على زقاق كان بمثابة عالم سري للكتب الممنوعة، كتب قمعت من قبل أجهزة الأمن.. فالمكان عموما يتدرج لتسريب أفكار في مواجهة القمع والجوع أيام الحصار، كانت لحظات الجوع العنيفة تجرجر خطواتي للدخول إلى مكتب الصديق عادل زينل لاستنساخ الكتب وطباعة الممنوع وغير المجاز منها ، اخرج من المكتبة بخطوات متعثرة وأعبر الشارع قافزا فوق برك الدهون وبقايا محركات الفولكس واغن، أدخل إلى المكتب فأجد الشاعر عبد الزهرة زكي يقلب صفحات كتاب ممنوع من تلك الكتب، بينما ابتسامة من عادل زينل تخفف من حدة قلقي... يناولني عبد الزهرة الكتاب، ويقول هذا المكتب سيذهب بنا إلى السجن يوماً... لم يكن عبد الزهرة يتوقع انه سيزور السجن يوماً، ولم يكن خوفي ليمتزج بخوف مادي ، لكنني كنت أرى تلك الكائنات الشعرية تدور في فضاء من الرعب اليومي، وارى استعدادها لملاحقة أفكار وقصائد يدفعها للخوض في المغامرة القاتلة. قدم عبد الزهرة ملاحظات عن المكتب وطلب مرارا من عادل زينل أن يحذر وهو يعيد طباعة بعض الكتب الممنوعة، إلاّ أن عادل زينل لم يكتف بذلك وانما سرب لنا خبرا نزل مثل الصاعقة على رؤوسنا: هل تعرفون أن صديقنا في المكتب يوفر وثائق مزورة للمهاجرين للخارج. هنا وقف عبد الزهرة وراح يتمحص في وجه عادل زينل : صدقني ستنتهي إلى السجن ،هذه الكتب الممنوعة وحدها كفيلة بإعدامنا .
حين نغادر عادل زينل يكون في مواجهتنا (مكتب الراوي) تجرجرنا إليه اقدام تبحث عن السري والممنوع والجديد من الكتب التي يعيد استنساخها (الراوي) بناء على توصيات من مثقفين ثقاة.
لم تكن لعادل زينل أية يد في هذا النشاط المخيف أيام ذاك، كنت أنا مشغولا بتهيئة غلاف رواية الشاعر خالد مطلك ( بيضة هولاكو ).
ثمة ظروف غريبة يمتزج فيها الجوع بالإبداع بالخوف ، فكلما مررنا أنا وعبد الزهرة بمقبرة الإنكليز ونحن نغذ السير نحو مكتب عادل زينل، أرسل عبد الزهرة نظرات نحو المقبرة، نظرات بقيت تتكرر حتى تأكدت فيما بعد انها جذور قصيدة مؤثرة ( كل قتيل في الحرب ) ،تذكرني هذه القصيدة ومقدماتها اليومية بسلوك شعري نادر، سلوك شعري تمرن عليه الشاعر في (اليد تكتشف) وهو يكتب عن مقبرة الإنكليز، الشاعر عبد الزهرة نمط من الشعراء الذين لا خيار لديهم إلاّ الشعر، لم يكن ينشد قط لحوار إلا عندما يكون عن الشعر ، عالمنا في الوزيرية ومكتبتها كانت اختبارات شعرية دون أن ينفصل عن وقائع
وانتماءات المكان ، لهذه التجربة صلة جمالية بمحيط المكتبة ، تجربة توفر لي أن أكون متابعا لها، فلم ينفصل الشاعر في تلك الظروف القاتلة عن لغته وتجربته، وخطواته وهو يعبر مقبرة الإنكليز تلخص لنا عالما من الانتماء للمكتبة ومحيطها، تجربة قدر لها أن تعيد صياغة المكان والهم الإنساني المحيط بعالم المكتبة إلى شعر اختلف الناس فيه... كنت أساله عن ( اليد تكتشف ) وحضور الحياة فيها، وكان يتحدث دائما عن قتيل أبدي ، قتيل هنا منذ أزمنة سحيقة يتكرر بموته وشاهدة قبره في كل زمان ومكان ، ومع ندرة كلامه عن الشعر كان دائما يسمو بالشعر عن كل تلك اليوميات ، لم يتوفر لي حينها أن افهم كلامه عن قتيل أبدي يتكرر منذ الأزل في معارك تتكرر ولا تنتهي منذ الأزل.
كانت زياراتنا لمكتبة عادل زينل في سنوات الخوف والجوع على صلة بعالم المكتبة فالأصدقاء والكتب الممنوعة والوثائق ورواية خالد مطلك كانت بمثابة الفضاء العام الذي يؤطر يومياتي هناك. صيف حار وجوع قاتل وشعر وكتب ممنوعة عالم يمتد ليواجه القمع والخوف. لقد بقي الشارع بالنسبة لعبد الزهرة برزخا يعبر من خلاله إلى عالمين، بعد سنوات مررنا بالشارع وأعاد نظرته المتأملة هذه المرة نحو المكتبة، انها النظرة ذاتها التي كان يرسلها نحو شواهد قبور مقبرة الإنكليز، لم تكتب عن المكتبة أيها الشاعر؟ فأتذكر كتابه ( كتاب الساحر كتاب اليوم ) انه يعيد النظر في المكتبة لا كما خلفتها ذكرياتنا هناك، وانما المكتبة كائن إنساني ارتبطت به كل تلك المحن فانتجتنا نحن مريدي المكتبة وحوارييها .
اختفاء الاغاني
لا شيء تقريباً من الوقائع التي تجري بالقرب من المكتبة يساعد على تذكر أغاني الصباح أو الظهيرة التي كانت تتناهى وتصل إلى بوابة المكتبة من المحلات المجاورة، أو من المقهى الوحيد هناك ، ولا حتى من المطعم المتحرك الصغير هناك.
فالقسوة التي تنتشر في الشارع العام تسببت بها أصوات الانفجارات التي تعرضت لها السفارة التركية أكثر من مرة، وأصوات تراشق الرصاص التي تصل بين وقت وآخر سلبت من المكان المحيط ببوابة المكتبة ايقاعاً متسامحا أُضيف للمكان بعد اكتمال بنائها بسنوات .
فالقتلة لا يعترفون بغذاء للروح إلا تلك العجينة و البارود الملفوف حول الخصر لتحيل اللحم البشري إلى مفرقعات، فالحرب على الاغاني هي حرب مكررة مرت بها المكتبة قبل ذلك عندما جُردت من كُتب بعينها أيام الصنم، لجان قادمة ولجان ذاهبة تدقق في فهارس الكتب بحثاً عن ابن طاووس ، والعلامة الحلّي وشرف الدين، بحثاً عن الطبرسي، وآغا برزك الطهراني، بحثاً عن الشيخ المفيد ، والنعماني، وغيرهم الكثير، إنها حرب تتكرر على الأفكار وعلى الأغاني دون تمييز.
فما عاد ينبعث من تفرعات المكتبة صوت فيروز صباحاً ، أو فائزة احمد و أم كلثوم ظهراً. اختفت الاغاني بسرعة عجيبة، حتى اللحظات التي قضيتها في مقهى المكان مرَّت صامتة ثقيلة، ولم أرَ مذياعاً او طلبة مستمعين.
استقبلني صاحب المقهى بكلمات مقتضبة: انك تتذكر المكتبة بين وقت وآخر، أين رواد المكتبة ؟ هل تعرف عنهم شيئا، لقد هجروا المكان.
كنت أرغب بالسؤال عن الأغاني التي كانت تسمع في المقهى، فلم أجد صيغة مناسبة للسؤال، شربت الشاي وخرجت من المقهى أرسل نظراتي نحو باب المكتبة .
ان حقيقة استعادة المكتبة تتطلب تسويغا نفسياً، أو ربما تسويغاً واقعياً، فالكتب والأغاني وحركة الحياة بمجملها تترابط كي تحيي محبة المدينة النائمة في خوفنا ورعبنا من خسارة مجهولة لأماكن تتعرض لتغيير في مكوّنها وروحها، فحملات تهجير العراقيين، تقدم صياغة أوسع لما يجري للمكان عموما في البلاد و بغداد .لهذا يمكن أن تميز كل مكان بما يسمع فيه هذه الأيام، ولكن الامكنة جميعا تجافي الاغاني، واستعدت المناخ العام عليها ، الأغاني التي سُجنت في البيوت، وسجنت في مذياع السيارة، الأغاني التي حددت اقامتها في أماكن جديدة هي الأخرى كالهاتف وجهاز الكومبيوتر، انك تسمع كل شيء في الشارع لكنك لا تسمع في الشارع حتى أغنية تائهة . ومتى ما كانت الاغاني ( ممكنة ) في الشارع سيكون ممكناً وبقوة ان تعود المكتبة لنا ، أو تعود بغداد للبغداديين .

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة