اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

من أجل تشكيل مفوضية عليا لحقوق الانسان في العراق

المحامي حسن شعبان*

* المنسق العام لمنظمة حقوق الانسان والديمقراطية

لم تعد النصوص الدستورية والقانونية التي تقضي بانشاء أية مؤسسة وطنية لحقوق الانسان بعيدة عن السمات الاساسية والمعايير التي اتت بها مبادئ باريس التي اعتمدت من قبل الدول الاعضاء في الامم المتحدة (بالإجماع) عام 1993 والتي تتعلق بظروف التأسيس والأهداف والآليات حيث اصطلح على تسميتها بمبادئ باريس.
تضمنت هذه الوثيقة الدولية جملة معايير رئيسية ينبغي احترامها في أي تشريع دستوري او قانوني يصار بموجبه وطنيا تأسيس مؤسسة او مفوضية وطنية لحقوق الانسان وهي:
1.    ضمان الاستقلالية في الدستور في التشريع القانوني
2.    الاستقلال عن الحكومة
3.    التعددية بما في ذلك التعددية في العضوية
4.    ولاية واسعة تستند الى معايير عالمية لحقوق الانسان تستعمل الحقوق كافة اقتصادية واجتماعية وثقافية ومدنية وسياسية.
5.    اتاحة الإتصال ماديا واجتماعيا ولغويا وثقافيا وماليا
6.    توفير الموارد المالية الكافية / الزام الدولة بضمانه
7.    صلة وصل بين المجتمع المدني والحكومة
ولعل من اهم مهام المؤسسات الوطنية هذه تعزيز حماية حقوق الانسان، وهذا يعني بالضرورة نشر ثقافة حقوق الانسان بين الناس جميعا حتى يصلوا الى معرفة كيفية احترام حقوق الآخرين ويتعلم الافراد (طريقة) الدفاع عن تلك الحقوق.
ومن جانب آخر من هذه المهام لابد من تحديد الآليات لحماية هذه الحقوق وضمان عدم تعرضها للانتهاكات من أية جهة كانت (حكومية) او غيرها مع ضمان ان لايفلت منها احد من الذين تعرضوا لهذه الحقوق من العدالة..!، وهناك مهام تكميلية تقع على عاتق هذه المؤسسات من خلال استيعابها كل اشكالات التعرض لمبادئ حقوق الانسان ومدى (صلاحياتها) في التشريعات القانونية المختلفة.
في مؤتمر فينا عام 1993 كانت هناك اكثر من مؤسسة وطنية لحقوق الانسان يعمل بعضها وفق مبادئ باريس والآخر خارج هذا الاطار يعمل تحت تأثيرات الحكومات وخاصة البلدان ذات النمط الشمولي والفردي في الحكم، وحاولت هذه الأخيرة مدعومة من دول معروفة بمصادرتها الحريات السياسية والديمقراطية حرف اتجاه المؤتمر من خلال ما ادعوه بالخصوصية المحلية ومحاولة تحجيم المبادئ العالمية لحقوق الانسان، وتحت (عباءة) الخصوصية هذه كشفت دول نشاز، ومنها نظام الرئيس العراقي السابق، عن انيابها محاولة التعرض لعالمية هذه الحقوق، وفرض نصوص تتوافق وتتفق مع نهجها الدكتاتوري وتحت ذريعة الخصوصية الوطنية دعت لمصادرة النصوص والإعلانات الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة واتفق على تسميتها بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان بيد إن الإرادة البشرية ونشطاء حقوق الإنسان ومنظماتها ودولاً ديمقراطية عريقة أسقطت هذا النهج الخطير وأزاحته من مقررات المؤتمر العالمي واكدت إنها غير قابلة للتجزؤ وهي ملائمة وطنيا كما هي دوليا.
في هذا المؤتمر وغيره جرى التأكيد على اهمية تواجد هذه المفوضيات الوطنية المستقلة ودورها في الدفاع عن مبادئ حقوق الانسان وفضح انتهاكاتها واحالة مرتكبيها الى العدالة وتقديمها المشورة بشان ثقافة حقوق الإنسان وضرورة تعميمها بين ابناء الشعب وفي المدارس والجامعات المدنية والعسكرية وترك الدول حق اختيار الاطر التي توائم ثقافتها واحتياجاتها ولا تتعارض مع العالمية في نصوصها الخاصة.
(مبادئ باريس) التي اشرنا إليها فيها من الوضوح والشفافية بما يكفي وهي ليست غير ممكنة التطبيق وتتمتع بمقومات عامة تكاد تكون صالحة في كل مكان وزمان ومنها العراق.
بعد سقوط النظام الفرد في العراق يسعى نشطاء حقوق الانسان ومنظماتهم الى ان تأخذ مبادئ الشرعية الدولية طريقها باتجاه المجتمع العراقي وباتت حقيقة تقربها احزاب ومنظمات مختلفة بالرغم من تعرضها الى انتهاكات خطرة من قبل قوات الاحتلال والأجهزة الحكومية ومليشيات حزبية والقوى الارهابية المعروفة. تم تشكيل وزارة سميت بوزارة حقوق الانسان ورغم ان جهودها على الصعيد العملي ظلت في خانتها الضيقة فان جهودها في نشر ثقافة حقوق الانسان كانت ملحوظة ويعود ذلك الى ان هذه المؤسسة لم تكن مستقلة وانما ضمن الريع الحكومي وأختير وزراؤها بالمحاصصة الطائفية رغم التقاطع الصارخ مع الحقوق والحريات الاساسيه لمبادئ حقوق الانسان.
لهذا لم يعد من الممكن أن تقوم بمهام المفوضية العليا لحقوق الانسان التي أتى بها الدستور الدائم بل أكثر من ذلك لم يعد لوجودها بعد قيام المفوضية أي معنى وضرورة تماماً كوزارة المرأة ووزارة المجتمع المدني التي وجدت لأغراض إملاء الحقائب الوزارية على أسس محاصصية ليس الا وهي أرقام في السلطة التنفيذية وليست مؤسسات مستقلة.
جاء الدستور الدائم لينهي الجدل في هذا الموضوع حينما نص في أحد بنوده على (ضرورة تشكيل مفوضية عليا لحقوق الإنسان مستقلة وتخضع في رقابتها المالية والإدارية لمجلس النواب) على أن تشكل وتحدد إختصاصاتها بقانون ورغم الإيجابية التي تحلى بها النص بيد إنه أتى قاصراً بسبب عدم تضمينه أن تقوم على أساس مبادئ باريس كما فعلت دساتير عدد من البلدان.
تقع اليوم على عاتق منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني وكل القوى والأحزاب التي تلتزم نصاً وروحاً بالشرعية الدولية لحقوق الإنسان مهمة تشكيل رأي عام واسع يضغط بإتجاه البرلمان العراقي الجديد للعمل على سن قانون للمفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان يتماشى ويتفاعل مع مبادئ باريس الرئيسية وأن لا يتقاطع معها وأن يكون ملاذاً آمناً لكل الناس دون تمييز أو إقصاء وأن يكون عوناً لكل حقوق الإنسان المدنية والسياسية والإقتصادية و الإجتماعية والثقافية خاصة لأولئك الذين هم دون خط الفقر وتحرص على أن يتمتع الجميع بحقوقهم ويعرفوها ويدافعوا عنها ويتمتعوا بها.
وبهذا الإتجاه دعت المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إلى ورشة عمل في (لارنكة) بين 7-10 آذار 2006 لعراقيين برلمانيين، منظمات مجتمع مدني، وزارات، مجلس القضاء الأعلى، للتوصل الى ثوابت مشتركة حول قيام مفوضية عليا مستقلة لحقوق الإنسان في العراق أقروا فيها ضرورة الإلتزام بمبادئ باريس وتتمتع بإستقلالية وحيادية يجب أن تتمتع المفوضية بأهم شروط التاسيس والعمل على أن لا تخضع لأية مساومة أو تجزئة ألا وهي الإستقلالية في قراراتها وممارساتها بعيداً عن أي تدخل حكومي وغيره وينص ذلك صراحة في تشريعها القادم ذلك لأن الإستقلالية هي معيار مصداقيتها وحيادها.
ضمان الإستقلالية ينبغي أن لا يكون مجالاً للمناقشة والجدل وإنما أساساً لبناء مؤسس حقيقي يكون للجميع دون تمييز بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو العنصر أو اتجاه وغيره، ويشمل الإستقلال المالي والإداري وفي إختيار أعضاء المفوضية وإدارة شؤونها وهو سيف ذو حدين أما أن يكون مستقلاً ولا تلومه في الحق لومة لائم وأما لا تكون.
وفي مقدمة شروط الإستقلالية تأتي مهمة إختيار أعضاء المفوضية والشروط التي لابد من أن يخضع لها في الإختيار سواء أكان ذلك في مسألة النزاهة وسجله الذي لم يتعرض الى الإدانة القانونية أم شرط عدم إنتمائه الى حزب سياسي ويتمتع بنشاط في مجال حقوق الإنسان وعدم إرتكابه أي إنتهاك لحقوق الإنسان وله تاريخ وطني مشهود من قبل الرأي العام العراقي.
هذه ثوابت ينبغي أن يأخذ بها القانون الجديد في إختياره أعضاء المفوضية حتى تستطيع تحقيق أهدافها وإختيار الإستقلالية وعدم الدخول في العمل
الحزبي لا يعني مطلقاً إنتقاصاً من العمل الحزبي الذي يشكل أساساً مهماً في التعددية والنهج الديمقراطي وإنما لضمان أداء المفوضية واجباتها بشكل حيادي وعادل.
وعلى البرلمان الجديد أن يدرك وهو يتشكل من أحزاب وقوى سياسية أهمية الأخذ بنظر الإعتبار مهام وشروط هذه المفوضية وأن لا تخضع لأية محاصصة حزبية أو غيرها لأنها هذه (الإستقلالية) و(الحيادية) التي تصر عليها ستكون ضماناً للجميع وليس لجهة كبيرة أو صغيرة.
وينبغي أن لا تكون وجهات نظر هذه المفوضية ذات نظرة أحادية بل لابد من أن تكون متنوعة، فالتعددية شرط أساسي آخر من مبادئ باريس، أي أن يكون هناك أشخاص متنوعون في خدمتهم ومعرفتهم وسمعتهم ويلتقون في قرارات توافقية وعلى أن ترتبط هذه المؤسسة بمجموعات إستشارية ومجموعات عمل ذات خبرة عالية تعزز عملياتها، خاصة تلك التي تتمتع بخبرات دولية وفي مقدمتها مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
ولابد من أن تتمتع هذه المفوضية بقدر عالٍ من القانونية وبحكم القانون وسلطته المطلقة لإنها معنية بالتشريعات القانونية التي ينبغي أن تحترم العهود الدولية الواردة في الشرعية الدولية سواء التي إعترف بها العراق وأقرها أو التي لم يوقع عليها أو إعترض عليها جزئياً وفي مقدمة ذلك يأتي الإنضمام الى قانون محكمة روما (المحكمة الجنائية الدولية).
وضرورة أن تتمتع المفوضية العليا بصلاحيات قضائية واسعة من خلال تواجد قضاة معارين من مجلس القضاء إلى المفوضية لهم صفة الإختصاص في هذه القضايا ويتمتعون بصلاحيات إصدار مذكرات الحضور والتحقيق والإحالة إلى المحكمة ومراجعة سياسة الحكومة في مجالات حقوق الإنسان وتحديد أماكن الخطأ فيها ومدى إلتزامها بأحكام الشرعة الدولية و تقديم الدراسات الضرورية في هذا المجال.
ومن الأولويات أيضاً في مهامها التوعية على مبادئ حقوق الإنسان والعمل على نشرها وإرساء ثقافة حقوق الإنسان وبناء إطار مجتمعي تتعزز فيه حقوق الإنسان وتحترم وتحمى وتتم كل هذه الثوابت والأسس من خلال تعزيز العلاقة مع المنظمات غير الحكومية، خاصة العاملة في مجال حقوق الإنسان لأنها تشكل ذراعها التنفيذي لدى الرأي العام والضمانة غير المكتوبة لتمرير قراراتها ولوبياً إضافياً تستعين به عند الضرورة.


ورقة بحث .. دور الجامعة الثقافيّ: اسئلة في الكائن والممكن
 

د. نادية غازي العزّاوي

هذه الورقة مشحونة بأسئلة تبدو للمتأمّل فيها صعوبة الحصول على إجابات فورية وجاهزة: هل الاستقلاليّة العلمّية للجامعة حالة ممكنة في مجتمعاتنا العربيّة إنطلاقاً ممّا جرى ويجري من أحداث في تاريخنا القريب في مجتمعنا تحديداً أو في مجتمعات مشابهة لنا وسابقة علينا في تقاليدها المؤسسيّة؟ وخذ مصر أنموذجاً: ألم يترتّب على ثورة 1952 ثم حكم أنور السادات تغيير كلي في فلسفة الجامعة وأهدافها ومسيرتها وقياداتها ومشاريعها؟ ألم تحارب عناصر معروفة بتاريخها الأكاديميّ تحت ذرائع مختلفة وأقصيت نهائيّاً أو مؤقّتاً: محمد مندور، لويس عوض، جابر عصفور، محمود أمين العالم....؟ ثم ماذا يُراد من الجامعة بالضبط في مجتمعاتنا: أن تكون مركز إشعاع وتنوير وتحديث أم مؤسسة لمنح الشهادات الورقيّة؟ وأين يكمن موقعها؟ ولَمن تبعيّتها: هل هي جزء من قاعدة المجتمع؟ أم جزء من مؤسسات الحكومة؟ تدرك الورقة حسّاسيّة الدور الذي يُراد من الجامعة الاضطلاع به وصعوبته في مجتمعات متخلّفة أو مازالت تحبو على سلّم التطوّر في أحسن الأحوال لكونها تؤدّي مهمّة مزدوجة فمطلوب منها أن تتسلم أجيالاً من هذا المجتمع الذي ينوء بعوامل التخلفّ الاجتماعيّ والاقتصاديَ والحضاريّ وتدخلهم الى قاعاتها وأروقتها ومختبراتها وتجري عليهم تفاعلات نوعيّة لتعيد إنتاجهم وضخّهم إلى الواقع ثانية بوعي جديد وفكر منفتح وعقل مُمنَهج، يُراد منها أن تفعل ذلك كلّه بمعزل عمّا يجري حولها من تحوّلات سياسيّة واجتماعيّة ساخنة كانت في الغالب- نتاج انقلابات عسكريّة وثورات دموّية واحتلالات أجنبيّة الأمر الذي أدّى إلى نتيجتين: إمّا تهميش المؤسسات الثقافيّة، والجامعة في مقدّمتها، أو استيعابها بقصد تدجينها وتطويعها لصالح شعارات المرحلة والفئة الحاكمة، وفي الحالتين يتمّ إفراغ الجامعة من محتواها المعرفيّ وتقاليدها وأهدافها العلمّية والتربويّة وإصابة استقلالها في مقتل.
فهل الحديث عن استقلال الجامعة عندنا أمر ممكن أم هو حلم مشروع من احلامنا الكثيرة المؤجّلة في ظلّ ظروفنا المعقّدة دائماً؟ من واقع تأمّلنا المتواضع في تاريخ الجامعة العراقيّة لأكثر من نصف قرن يمكننا القول- باطمئنان -: إن شيئاً من الاستقلال والاستقرار العلميّ للجامعة لم يتحقّق بمعناه الحقيقيّ الشموليّ
وإنْ عاشت الجامعة سنوات محدودة من الازدهار والانتعاش بجهود فرديّة لبعض كفاءاتها وليس بعمل مؤسّسيّ متكامل ومتناسق فقد ظلت الجامعة عرضة للصراعات السياسيّة والاضطرابات الحزبيّة والطائفيّة الجارية في المجتمع على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، الأمر الذي كان يُترجم باستمرار إلى مداهمات واعتقالات وتظاهرات وصراعات فرديّة أو فئويّة أو اجتماعيّة داخل الحرم الجامعيّ وخارجه، مع تجاوزات طالت الطلاب والاساتذة، وتعرضوا للملاحقات والمضايقات والسجون وأُقصوا عن مواقع المسؤولية والقرار في الجامعة أو حُجِّمت أدوارهم وأُركنوا بإحالات إجباريّة على التقاعد.
وثمة مظاهر أخرى كثيرة للتدخلات التي انتهكت هويّة الجامعة وتقاليدها الثقافيّة والإنسانيّة، بعضها مظاهر رمزّية وبعضها مباشرة وملموسة تضافرت معاً على إفراغ الجامعة من محتواها وتجميد فاعليتها وتقاليدها الأكاديميّة المبنيّة على المثابرة العلميّة والبحث الحرّ والحوار المعرفيّ، من هذه المظاهر
على سبيل التمثيل لا الحصر -:
أ- ملاحظة صغيرة وعابرة ولكنّها كبيرة في محمولها الدلاليّ على تبعيّة الجامعة: لقد ظلت تتصدّر الصفوف والقاعات الجامعيّة صور الزعماء السياسيين والرؤساء بينما غابت تماماً صور العلماء والمفكرين وأعلام التراث والثقافة المعاصرة التي ميدانها الطبيعيّ هو الجامعات والمؤسسات الثقافيّة الأخرى.
ب- قوِّضت تدريجيّاً سلطة العلم داخل الجامعة ومعها سلطة الأستاذ داخل القاعة لصالح السلطات الحزبيّة والأمنيّة التي تحكّمت فعليّاً في معايير القبول والبعثات والإيفادات والتعيينات والدراسات العليا، مع ملاحظة أنّنا خطونا الآن
بامتياز- خطوة أبعد نحو التصفيات العلنيّة الدمويّة للأساتذة والكفاءات الجامعيّة التي وجدت نفسها مضطرّة أمام خيارين: إمّا انتظار الموت المرتقَب في الداخل أو الهجرة الى الخارج، وكأنّ قدر العراق على تعاقب الحقب واختلاف السلطات تصدير أفضل كفاءاته ورجاله إلى دول العالم، بينما الحاجة ماسّة إليهم في بلدهم.
جـ- ألقت الحروب بظلال ثقيلة على الوضع الجامعيّ حين استُبيحت ساحاتها فصارت أماكن للتدريب العسكريّ وحلّت البدلة (الخاكي) تدريجيّاً محلّ الزيّ الموحّد الجامعيّ، وتغلغلت العسكرة إلى اللوائح والعلاقات الجامعيّة حيث تتجلّى معطيات العلاقة العسكريّة المبنيّة على ثنائيّة الأمر والطاعة، والتنفيذ ثم المناقشة.
وثمة أسئلة أخرى: ماذا يُراد من الجامعة في العراق اليوم وهو يقف على مفترق الطرق: أن تردّد الشعارات أم تسهم فعلياً في إعادة صياغة الواقع على أسس صحيّة بترميم الخراب أولاً وانتشال المجتمع ممّا انحدر إليه من انقسامات وتشظّيات؟، وكيف السبيل إلى ذلك إنْ لم تُتخذ إجراءات داخل الجامعة نفسها على وقف معايير علميّة وخطط استراتيجيّة معمّقة مع إيقاف كلّ أشكال التدخّل الخارجيّ؟
والتغيير الإيجابيّ يبدأ
في تصوّريّ من سؤال جوهري: ماذا نريد من الجامعة؟ أن تخرّج كمّاً أم نوعاً؟ أن تخرّج جموعاً نصف متعلّمة نصف أميّة أم تخرّج نوعاً لديه أفق ثقافي مفتوح ورصيد معرفيّ مناسب ومزوّد بمهارات مناسبة لتوظيفها في العمل؟
أقول: هذا لأنّ وزارات التعليم العاليّ على مَرّ العقود ظلت تطلع علينا في بداية كلّ عام دراسيّ بأرقام (ألفيّة) للطلبة المقبولين فيها والخرّيجين في دراساتها الصباحيّة والمسائيّة دون وقفة حقيقيّة عند هامش الربح المعرفيّ المتحقّق من دخول هذه الجموع الغفيرة وخروجها، مع بِدع أخرى من قبيل إعادة الطلبة المرقّنة قيودهم والراسبين في الدراسات الأوليّة والعليا إلى مقاعد الدراسة تحت ذرائع لا صلة لها لا من قريب ولا من بعيد بالحسابات العلميّة.
إنها حلقات متداخلة متّصلة ببعضها، فالأمر منوط بتغيير المنظور والتخطيط الاستراتيجيّ لوجود الجامعة ووظيفتها وتوفرّ مناخ ملائم مساعد على التغيير، أعني استقرار المجتمع بعد عقود من الحروب والحصارات ثم الاحتلال، شريطة أن يكون المنطلق إلى التغيير الإحساس بالحاجة إلى ذلك فعلاً وليس الاستجابة الآليّة لدعوات الإصلاح الخارجيّ المتكرّرة هذه الأيام، على وفق مواصفات معيّنة سلفاً وعلى منوال نموذج عالميّ وفَوْقي، ينبغي أن ينبثق الإصلاح من مشكلات الواقع وتحدّيات (الداخل) وحاجاته لتكون الحلول استجابة حقيقية، وعسى أن نعيد للجامعة دورها الثقافيّ التنويريّ بعد انتكاس وأفول.
وبعدُ فقد كان طه حسين يصرخ بألم في آخر حياته:
((الجامعة كانت في زماننا محراباً للفكر كانت قدس أقداس الحرّية، أو أسمع الآن أنّها تحوّلت إلى شيء شبيه بالمدارس الثانويّة المدارس المهنيّة المتوسطة)). ((مجلة الأقلام، العدد 1، 1988: 97))، ويصف د.نصر حامد أبو زيد في مقابلة تلفزيونيّة قريبة مايجري في الجامعات عندنا أنّه نوع من (الإخصاء الفكريّ) بديلاً عمّا هو مُفتَرض من التأسيس المعرفيّ الحرّ والتثمير... فتأمّلْ.


قراءات في ثقافة التربية والتعليم .. التلفزيون وأثره في التربية
 

جاسم محمد صالح

اصبح التلفزيون في وقتنا الحاضر من اكبر وسائل الاتصال بافراد المجتمع وذلك لسهولة وصوله الى كل فرد وهو جالس في بيته، لذا فقد اثر تأثيراً كبيراً على جوانب متعددة من حياتنا وخاصة الاطفال، وعن جوانب تأثيره عليهم انقسم العلماء والمربون الى فريقين: فريق اعتبره سلبياً ومضراً بالطفل بما يسببه له من ارهاق نفسي وعصبي وتأثير كبير على الحاسة البصرية وبالتالي تأثيره على مستوى الطفل الدراسي العام لانشغاله بمشاهدته وتتبع برامجه، لذا فانهم راحوا يحذرون بشدة من العادات غير الجيدة والقيم والمفاهيم القلقة التي تعرض له على شاشته، حيث انه يستوعبها ويتقبلها بسرعة مما قد يساهم في تربيته تربية غير طبيعية لا يريدها المجتمع، اما الفريق الثاني فقد كان اكثر تفاهماً وتفاؤلاً حيث نبه الى الفائدة الكبرى والمجالات الواسعة التي يقدمها التلفزيون للطفل في مختلف المجالات وخاصة المجالات التربوية والتعليمية ومن هنا بدأت كثير من العوائل تنظر الى التلفزيون على انه مرب امين يأخذ بأيدي الاطفال الى كل ما هو جديد وصالح، لذا فان الأم المثالية هي تلك الام التي تعرف كيف تجعل اطفالها يستفيدون من التلفزيون فائدة كبيرة وان اول عمل تقوم به هو تحديد وقت خاص لمشاهدتهم التلفزيون وهذا الوقت يكون مرتبطاً اصلاً بما يقدم من برامج خاصة بالاطفال ومراعاتها الظروف الصحية في جلوسهم وعدم اقترابهم من الجهاز كثيراً، لما لذلك من مضار صحية، ثم يأتي دورها في ان لا تجعل من مشاهدة اطفالها التلفزيون حالة فردية، فمن المستحسن ان تشاركهم في تلك المشاهدة بحديث او تعليق وابداء رأي فيما هو معروض، لان الصمت المطبق في المشاهدة قد يؤدي بشكل او بآخر الى علاقات عائلية مفككة ويفوت على الاطفال فرصاً في معرفة كثير مما يعرض من اشياء لا يفهمونها، ثم ان الام الذكية تعرف ان الظلام الذي يسود غرفة المشاهدة يجعل من اطفالها اكثر تهيؤاً للخوف ويتعب في الوقت نفسه عيونهم من كثرة التحديق والمتابعة.
التلفزيون وعقلية الطفل
مما لا شك فيه ان للتلفزيون تأثيراً كبيراً على عقلية الطفل ويتجلى ذلك في ان الاطفال الذين يشاهدون التلفزيون اكثر طموحاً وتطلعاً من غيرهم الذين لم يشاهدوه، وان الاطفال الاغبياء قد زادوا من نسبة قراءاتهم القصص والكتب المختلفة بعد مشاهداتهم الكثيرة لبرامجه. وقد تبين لكثير من المؤسسات التربوية في الدول المتقدمة ان الاطفال بدأوا يتقدمون كثيراً في دروسهم وذلك لان هؤلاء كانوا من المهتمين بالتلفزيون وبما يقدم لهم فيه من برامج تعليمية وثقافية، فمن السهولة بمكان ان ينمي هذا الجهاز نشاطات الطفل المختلفة ويخفف فيهم صفة العدوان والاذية ان وجدت وذلك من خلال طرحه المفاهيم الانسانية ودعوته الى التعاون والتكاتف ولا ننسى ان التأثير هذا يختلف من حيث اثره بالنسبة للاطفال لاختلاف مستوياتهم وادراكهم وطبيعتهم الاجتماعية والتكوينية.
برامج الكبار ماذا تعني عند الاطفال؟
قد لا تقتصر مشاهدة الطفل على برامجه فقط وانما تتعدى ذلك الى برامج الكبار المليئة بأشياء واشياء لا نستسيغ نحن ان يدركها الطفل اضافة الى انها تقدم ومضة من حياة الكبار التي قد لا تتيسر له تجربتها واكتسابها الا في النادر وفي سن متأخرة اصلاً، وهذا الطرح يشكل ابهاماً وغموضاً في نظرته الى الحياة والى تعاملاتها وخاصة اذا شاهدوا برامج او افلاماً تعرض المشاكل العائلية والخصامات المختلفة ووسائل الغش والابتزاز التي تمارس من قبل البعض، فان كل هذا يعني ان الطفل سيفتح عينيه ويحرك مداركه في مفاهيم ضارة وغير تربوية خاصة اذا ترك لوحده في تفهمها.
الاكثار من المشاهدة.. ما له وما عليه؟
من المسلم به ان مدى اقبال الطفل على مشاهدة التلفزيون يتوقف اصلاً على مدى ما لديه من وقت فراغ نسبي وعلى مستوى ذكائه ثم على شخصيته وعلى شغله لحياته السابقة، واخيراً على المثل الذي يضربه الوالدان له في حياتهما، هذا كله يؤثر في الطفل حسب طبيعته التكوينية، ولكن على العموم ان الاطفال اكثروا من مشاهدة التلفزيون على حساب فترة المطالعة اليومية ولكن من جهة اخرى فانهم وخاصة الاذكياء منهم اقبلوا على قراءة كثير من القصص والمسرحيات التي عرضها التلفزيون وشاهدوها، والمشاهدة الكثيرة قد تجعل الطفل مقبلاً على نوع معين من البرامج وبالتالي تتأثر حياته بذلك النوع، كأن يكون معجباً بالبرامج الفكاهية -مثلاً- فانه يحاول ان يكون فكاهياً في حياته الخاصة ايضاً، ولكن من جهة اخرى فان الاكثار من المشاهدة قد يجعل من حياة الطفل متماسكة اكثر واكثر لانه لا مجال لديه لقضاء وقته في التسكع ومصاحبة الآخرين وربما في المشاجرة واللعب غير الجيد معهم، ومع اهمية هذا الرأي فان هناك كثيراً ممن قال بان كثرة المشاهدة تؤدي الى حجز الطفل من الاحتكاك بمجتمعه وبالتالي فانها تؤدي الى جهله كثيراً من العادات الاجتماعية والقيم المتعارف عليها وبالتالي ينشأ نشأة ناقصة في كثير من النواحي. وبين هذا وذاك يتوقف دور الام العصرية في تنظيم حياة طفلها وعلاقته بالتلفزيون لانها بذلك ستساهم في تعميق حياته وتوسيع نظرته الجيدة فيما اذا كانت ترفده بآرائها واقتراحاتها وبالتالي فانها ستخلق من وراء ذلك اطفالاً جيدين مربين تربية عصرية جيدة.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة