اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

وقفة قصيرة مع عبد العظيم أنيس
 

مهدي شاكر العبيدي*

* كاتب وباحث عراقي

عبد العظيم انيس عالم رياضي مصري معروف على مستوى العالم، وكاتب في الموضوعات الأدبية والنقد الأدبي على شاكلة متميزة ومتفردة بخصائصها وميزاتها، من ناحية الأداء الجيد والمكتمل للأفكار والمعاني التي تقف بجانب التقدم والحرية والاعتراف للإنسان بحقه في العيش في ربوع وطنه بعزة ورفاهية وكرامة، وقد دفع ثمن ذلك باهظاً من حاجته إلى الاستقرار وطمأنينة البال،
وأمضى مدداً وسنوات غير قصار في سجون الحكومات الثورية ومعتقلاتها المشيدة في الصحارى النائية حيث يقف على شؤونها زبانية لا تعرف قلوبها الرحمة وتجهل مكانة هذا الذي يسلم إليها وتؤتمن عليه ولا تعي منزلته العلمية فتسومه ألوان العذاب والتنكيد من قبيل تكسير الحجارة في الجبل ساعات وهو حافي القدمين ويرتدي الملابس الرثة، وكان قبلها بزمن موفوراً ومحتفظاً بشيء من التوقر والرصانة والسمت أثناء طوافه بأرقى جامعات العالم وإلمامه بها لتفيد من معارفه ومحصلاته العلمية الطائلة، بينا يمثل قادة بلاده في المؤتمرات والمحافل الدولية ليصكوا سمع العالم بعشقهم للحرية وحقوق الإنسان وذيادهم عن الكرامة وتفانيهم في مقارعة الإستعمار، ولا يخجلون أو يتنبهون على أنهم جاوزوا الحد وتمادوا في الإجتراء والاستهتار والتعدي. ومع ذلك ينبري هذا الإنسان المهضوم بكل طيبة وبراءة و توخي الإنصاف والموضوعية، وبتجرد متناهٍ ومطلق من أيما شنأ وغيظ وحقد للإعتراف لخصوم الأمس بما أسدوه لمصر من خدمات جلى في ميدان الإصلاح الزراعي وتحسين الأحوال المعيشية وتأميم قناة السويس وتمصير البنوك والشركات فهو لا يحكم على المرحلة بدلالة ما حدث له وحده كفرد ولكن بدلالة ما اجتناه الشعب عامة من ثمرات خلال السنوات المنصرمة من ثباته بوجه التحديات ودفعه للمخاطر علماً أنها لا تعدم أن تعرو الشكوك والهواجس نفوس الحاكمين وأولي الأمر بنيات جم غفير من رائدي هذه المنجزات ومباركيها، حرصاً منهم على مقاعدهم وكراسيهم ومنازلهم، فلا مراء أن افتنوا في كيل التهم وتزويق المطاعن كل آن وراموهم بالقسوة والبطش وجرعوهم ألوان التشريد والحرمان، وهنا وجه المفارقة .
ذلك شيء نزر ويسير مما وقفت عليه من حقائق ووقائع في كتابه الموسوم، ذكريات من حياتي، الصادر عن دار الهلال المصرية بالعدد 618، حيث راض طبيعته على محبة الفقراء والمستضعفين والحنو عليهم، وسعى طوال حياته للنهوض بواقعهم وانقاذهم من الهوان والتردي ولأجلهم دخل السجون وكابد العذاب والنكال، منذ أن يفع في ثلاثينيات القرن الماضي إلى أن دخل الشيخوخة في عمر فوق الثمانين، ولا تقل انه مجرد منطلق فكري مرهون بمرحلة زمنية سرعان ما يغادرها المرء، شأن كثيرين نشأوا في ظل الوفد ثم وهنت صلتهم به بمرور الأيام، فإما إلى تطليق العمل السياسي ونفض اليد من كل أمل في تحسين الحال وعدم الثقة في أي فئة أو رعيل، وإما أن يزدادوا تشبثاً واصراراً وتطلعاً وتمسكاً بأفكار أرشد واراء أسد، كيف لا وهو شقيق ابراهيم انيس عضو المجمع اللغوي وصاحب التآليف والمصنفات المعروفة في الفقه اللغوي وكان في صباه شاعراً يخطب أمام سعد زغلول وقد لقي حتفه في اواخر السبعينيات من القرن الماضي بحادث دعس من لدن سائق ليبي مستهتر!، والغريب إن هذه المعلومة خافية على أذهان الكثيرين. فقد حظي الأول بقسط من الذيوع والشهرة في الأوساط العلمية والأكاديمية وبين هواة القراءة في التراث القديم، لم تخرج عن نطاقها، وكأن لا صلة له بالآخر المعهود عنه نضاله الموصول دون اهداف وقيم مجتمعية وانسانية فضلاً على تخصصه العلمي في مجال الرياضيات البحتة كما ينعتها على نحو لا يباريه فيه النظراء والأكفاء وقد رشحه نبوغه وتفوقه من هذه الناحية لحضور الندوات والمؤتمرات العلمية المتخصصة،اضافة إلى نظيرتها الاجتماعية والسياسية في شتى حواضر العالم، مع ان له يداً في توجيهه يوم نصح له هذا العالم اللغوي بأن ينخرط في رعيل أهل العلم ويعاف تحصيل الأدب الذي تمكن دراسته بدون معلم إذا تيسر الوقت علماً أنه لا ينفع في ضمان المستقبل وتوفير اسباب المعيشة .
وإن أعجب لشيء، فما أشد عجبي واستغرابي أن يصدر الكتاب بمصر عام 2002 وفيه شجب صريح واستنكار صارخ لمظالم انور السادات وخلفه وفرط استهجان لمهادنتهما العدو الصهيوني واستهانتهما بمطالب الشعب بالحرية والاستقلال، وتنازلهما عن كل مقومات السيادة باسم السلام، فضلاً على احتوائه ذلك الوصف الدقيق الشائق لخروجه من السجن وشخوصه فجأة بتلك الهيئة الشائهة المزرية وسط الناس اللاهثين والمتعبين وهو حائر مذهول لا يكاد يهتدي طريقه، وقد ودع بعض رفقته هناك في ذمة الموت والإبادة الوحشية، هل حرية القول عندهم سائدة ومسموح بها حتى هذا الوقت، فلم يشأ طباعته خارجها كما هرّب طه حسين كتابه "المعذبون في الأرض" إلى بيروت قبل نصف قرن ويزيد، أم أن ذلك من قبيل احتواء التذمر والنقمة وتصريف السخط في مسارب ومجارٍ لا ضير منها ما دامت غالبية الناس لا تقرأ ؟ سمعت بعبد العظيم انيس لأول مرة في الخمسينيات من القرن المتواري من خلال وقوفي على المعركة الأدبية بينه وصنوه محمود أمين العالم وبين الفهامة والمصلح اللبرالي طه حسين حول وظيفة الأدب ومادته حيث مقال طه حسين الشهير " يوناني فلا يقرأ" وكلنا يعي حذاقة عميد الأدب العربي في مناوشة مباينيه في النظر والتوجه وتمكنه من اخراسهم وإلجامهم، وركون الطرفين بالتالي إلى حل وسط يلتقيان عنده حيث ينشد كلاهما الخير ويبتغي الحق ويهدف إلى إحداث الضجة وتثوير الوعي وتحريك السواكن في الجو الأدبي، وفي هذا الكتاب ينتقد عبد العظيم انيس سائر الكتاب المصريين الذين كتبوا عن طه حسين في السنين الأخيرة أنهم أهملوا جانباً أساسياً في شخصيته ألا وهو ولاؤه لشعب مصر ويعني جماهير فقرائها الذين يمثلون الغالبية الساحقة لهذا الشعب، وهذا استنتاج يبدو بسيطاً ومبتسراً غير أنه ينم عن نفوذه إلى الغور قدر ما ينطوي على تجاوزه الإحن والخلافات .
أقول ما أقول وقد امتلأت صحفنا مؤخراً بما ينعتونه بالمقابلات الأدبية المزحومة بالمدعيات والتبجحات بالفكر والنضال، وثمة مناشدة لهذا الكاتب الألمعي أو الشاعر المجود والمناضل الصادق العزم والثابت الرأي لاعتزام تكريمه ومباركة همته ونشاطه من لدن هذا المحفل أو ذاك مما يذكرني بقصيدة " النباشون " للجواهري وفحواها أن بلداً عامراً بهذه العقول والأدمغة ويحوي هذه الضمائر الحية والسلائق المستقيمة والنفوس السوية المخلصة، لم تعذرت فيه الحياة وتفاقمت ازماته وتعاصت مشكلاته، ؟ أما فيهم من يضاهي هذا العالم المصري في تجرده واخلاصه ووفائه النادر واحجامه عن اللغو والثرثرة والتحدث عن نفسه وعن مؤلفاته التي" تمثله أولا تمثله " كما قرأت ذلك في فاتحة كتيب مرمي للبيع على الرصيف؟!


وزارات الدولة لشؤون... في العراق؟

جميل عودة *

* محام عراقي

أُستحدث بعد سقوط النظام السابق عدد من وزارات الدولة، وصل عددها إلى عشر وزارات وهي: وزارة الدولة لشؤون المرأة، وزارة الدولة لشؤون المحافظات، وزارة الدولة لشؤون الامن الوطني، وزارة الدولة لشؤون مجلس النواب، وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني، وزارة الدولة لشؤون السياحة والآثار، وزارة الدولة لشؤون الحوار الوطني، وزارة الدولة الخارجية، واثنان بلا اسم!.

ويرى بعض المعنيين بالشؤون السياسية والادارية أن سبب استحداث وزارات الشؤون(وزارات بلا حقيبة) يُعزى إلى حاجة الدولة إلى إدارة متخصصة في شأن من شؤون الدولة لا يدخل في اختصاص وزارة من الوزارات العادية، ولا يمكن رعاية مصالحه من دون إستحداث تلك إلإدارة.
بينما يرى آخرون أن السبب الواقعي وراء استحداث وزارات الدولة هو سبب سياسي يتعلق بالمحاصصة السياسية، وتقاسم مناطق النفوذ بين الاحزاب والكُتل السياسية التي فازت في الانتخابات، كما في وزارات الدولة التي لم تحمل أسما معيناً كغيرها من الوزارات، ومن هذا المنطلق سُميت تلك الوزارات بـ(الوزارات السياسية) في مقابل الوزارات السيادية والخدمية.
وسواء كان وراء تأليف وزارات الدولة سبب إداري أو سياسي أو الاثنان معا، فهذا لا يعنينا كثيرا بقدر ما يعنيينا الوضع الاداري والقانوني لوزارات الدولة من خلال بيان أوجه التشابه والاختلاف بين الوزارات العادية (وزارات الحقيبة) مثل وزاراة الداخلية، ووزارة العمل، ووزارة الصحة، وبين الوزارات السياسية(وزارات بلا حقيبة) وما هي الحقوق والواجبات التي يتمتع بها وزير الحقيبة عن الوزير بلا حقيبة؟.
لم يشر الدستور الدائم في مواده لا إلى الوزارات العادية ولا إلى الوزارات السياسية، وبالتالي لم يبين أوجه التشابه والاختلاف بينها. كما لايوجد -في حدود علمنا- قانون ينظم الوزارات التي تحمل صفة الوزارات بلا حقيبة، إلا قانون الوزارة نفسها وهو قانون متواضع جدا.
أما في خصوص أوجه الشبه بين وزارات الحقيبة ووزارات ليست بحقيبة هي:
- من حيث الاطار العام: حيث تحمل وزارات الدولة أسم (الوزارة) مثل الوزارات العادية، وبالتالي، فان الآثار السياسية والادارية والقانونية التي تترتب لوزارات الحقيبة هي نفسها التي تترتب للوزارات بلا حقيبة. وكل ما في الامر أن الوزارة العادية مثل وزارة الداخلية تسمى(وزارة الداخلية) أما وزارة شؤون فتسمى(بوزارات الدولة لشؤون) مثل وزارة الدولة لشؤون مجلس النواب.
-من حيث الموضوع: تتولى وزارات الدولة مسؤولياتها في موضوع معين تختص به، فوزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني تختص في موضوع المجتمع المدني من حيث تنظيم وتنسيق ودعم عمل مؤسسات المجتمع المدني، وهي المؤسسات التي تلعب اليوم دورا مهماً في توجيه الرأي العام، ويكون لنشاطها آثار مباشرة على الاوضاع الاجتماعية والسياسية والقانونية والثقافية في البلاد، وهي بذلك لا تختلف عن الوزارات العادية مثل وزارة الدفاع التي تختص في موضوع الجيش وتجهيزه ودعمه وتدريبه والارتقاء به إلى مستوى الدفاع عن الوطن والشعب.
ولكن هناك من يرى ان موضوع الوزارات العادية هو أوسع من موضوع وزارات الشؤون، وسعة الموضوع هي المعيار في اعتبار الوزارة وتسميتها وزاراة عادية أو وزارة دولة.
-من حيث الاعتبار السياسي: تُعد وزارات الدولة لشؤون ... في نظر الكتل والاحزاب السياسية وزارة مثل كل الوزارات الاخرى، وتمنح على أساس النقاط التي تجمعها الكتل السياسية البرلمانية، وتحسب كوزارة للتكتل الذي تمنح إليه، إلا أن النقاط المطلوبة لتحصيل وزارة الدولة هي أقل من النقاط المطلوبة لتحصيل وزارة سيادية، وذلك بالنظر إلى اهمية دورها في تصور السياسيين، وهذه المفاضلة موجودة بين الوزارات السيادية، والوزارات الخدمية أيضا.
-من حيث الوزير:- يتمتع وزير الدولة لشؤون ... بنفس الامتيازات التي يتمتع بها الوزير في الوزارات العادية، وذلك من حيث الحصول على ثقة مجلس النواب حيث تشترط المادة (76) في رابعا( الموافقة على الوزاراء منفردين) ومن حيث اداء اليمين، فقد اشارات المادة (79) إلى أن (يؤدي رئيس وأعضاء مجلس الوزراء اليمين أمام مجلس النواب...) ومن حيث المسؤولية، فقد اشارات المادة (83) (تكون مسؤولية رئيس الوزراء والوزراء أما مجلس النواب تضامنية وشخصية ) ومن حيث أداء القسم امام مجلس النواب، ومن حيث اعتبار صوته في مقابل صوت الوزراء الآخرين في مجلس الوزراء، ومن حيث مسؤوليته السياسية والقانونية امام المجلس أيضا، ومن حيث راتبه، فراتب وزير الدولة هو نفس راتب الوزير العادي، ومن حيث المكافآت والامتيازات الاخرى.
أما اوجه الاختلاف بين وزارات الدولة والوزارات الاخرى. فيكمن في الآتي:
-من حيث التسمية: تسمى وزارات الدولة بوزارات الشؤون، مثل وزارة الدولة لشؤون المحافظات، بينما الوزارات الاخرى تسمى بدون ذكر كلمة الشؤون، وهذا الامر راجع إلى سعة وضيق الموضوع الذي تهتم به الوزارة كما بينا.
- من حيث المكان: تتواجد جميع وزارات الدولة وفقا للسياق المعمول به الآن في مبنى الامانة العامة لمجلس الوزراء، وتؤدي نشاطها من هناك، بخلاف الوزارات العادية التي تتخذ لها مكانا بعيدا عن بناية الامانة العامة .
-من حيث أقسام الوزارة: لاتحظى وزارة الدولة بعدد الاقسام التي تحظى بها الوزارات الاخرى، فاقسامها محدودة جدا ، وربما في كثير من الاحيان لا تتناسب وحجم المسؤوليات التي تتكفل بها. كما ليس لها مكاتب او مديريات تمثلها في المحافظات. وبالطبع لا يوجد قانون او نظام يقلص اقسام وزارات الدولة، بل هناك امر صادر عن رئيس الوزراء الدكتور أياد علاوي يقضي بفتح مكاتب لوزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني لاهمية وجود مكاتب لها في المحافظات. ولكن من الناحية الفعلية ليس لوزارات الدولة اي اقسام ماعدا مكتب مساعدة المنظمات غير الحكومية الذي تشرف عليه وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني، ولكنه إداريا مرتبط بالامانة العامة !!.
-من حيث الموظفون: عدد موظفي وزارات الدولة اقل بكثير من الوزارات العادية، ولا يسمح لها بزيادة عدد موظفيها، ويرتبط موظفوها الدائمون والمتعاقدون بالامانة العامة لمجلس الوزراء، وليس للوزير حق اجراء العقود باسمه أو باسم الوزارة، نعم هو يقترح وينظر اقتراحه من قبل الامانة وهي صاحبة القرارا وإن كان من الناحية العملية وفي كثير من الاحيان يكون اقتراح الوزير نافذا. وحيث أنه لا يوجد قانون ينظم كادر وزارات الدولة، فان لكل وزاراة كادرها الخاص بحسب همة وعلاقات الوزير، فبعض الوزارات فيها (13 ) موظفاً، وبعضها يتجاوز (30) وهلم جرا.
-الميزانية: لاتوجد ميزانية مستقلة لوزارات الدولة مثل باقي الوزارات العادية، انما تحدد لها نثرية شهرية لا تكفي لاداء مسؤولياتها تصرف على الضيافة والقرطاسية ومستلزمات العمل، ومن الناحية العملية فان وزير الدولة مرتبط بالامانة العامة (الامين العام) الذي هو بمثابة وكيل وزير، ولا يستطيع انجاز مهامه إلا من خلال هذه القناة! بناء على وجود مكاتبات تشير إلى أن الوزير هو مستشار لرئيس الوزراء وله مكتب وليس له وزارة!. وهو الامر الذي يدفع بعض الوزارات إلى التعامل مع الجهات المانحة للحصول على موارد مالية لها.
هذا المقال هو باب لرجال القانون والادارة والسياسة، فضلا عن المعنيين بتلك الوزارات لبيان وجهات نظرهم في مجال تخصصاتهم للتوصل إلى آليات واضحة تحدد الاطار القانوني والاداري لوزارات الدولة خاصة وان الكثير من هذه الوزارت تؤدي دورا كبيرا في مجال اختصاصها كوزارة المرأة ووزارة مجلس النواب ووزارة المجتمع المدني ووزارة الامن، وهي بحاجة إلى نظم وقواعد قانونية وإدارية تمنحها المزيد من الصلاحيات ليتسنى لها إنجاز مسؤولياتها التي أنشئت من اجله...وإلا ستظل هذه الوزارات العشرة مشلولة إلى الابد....


بعــض الـســمات الـجــوهــريــة لـعلـمــانيــة الــدولــة
 

د. فـلاح اسماعيل حاجم*

*كاتب واكاديمي عراقي في القانون الدستوري مقيم في موسكو

لا اعتقد ان مبدأً تعرض للتشويه وسوء الفهم مثلما تعرض له مبدأ العلمانية، ولا اعتقد ان مسألةً استأثرت باهتمام كبير ومتعدد الجوانب ودار حولها نقاش مستعر مثلما دار حول مفهوم فصل الدين عن الدولة. فالجدل حول العلاقة بين الدين والدولة كان محتدما وقاسيا ومعقدا الى الدرجة التي جعل الكثيرين ينظرون الى فصل الدين عن الدولة ومبدأ العلمانية باعتبارهما مترادفين. ومع ان مفهوم فصل الدين عن الدولة يعتبر اساسيا، الا انه ليس الوحيد من عناصر علمانية الدولة. على ان تصويرفصل الدين عن الدولة باعتباره علمانية لم يأت من فراغ، انما هو امتداد لمفاهيم كانت تعد من قبيل المسلمات في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث كانت القوى الصاعدة في اوروبا تواجه مقاومة عنيفة من طرف السلطة الدينية ممثلة بالكنيسة، تلك المؤسسة التي وفرت تعاليمها السند الايديولوجي لسلطة الاقطاع المهددة بالسقوط والمستنفدة لرصيدها المادي والمعنوي. فأن تكون علمانيا في القرنين المذكورين معناه انك تقف ضد الكنيسة والسلطة الروحية المقدسة. ولا غرابة في ذلك، فلم يكن هنالك من تمييز بين السلطتين الروحية (الدينية) والدنيوية. فما دمت من رعايا الدولة عليك الخضوع لقوانينها الدنيوية (الوضعية) مثلما عليك الألتزام بتعاليمها الدينية.
ان مهمة تحديد السمات الجوهرية لمبدأ العلمانية تنطوي على صعوبة كبيرة وذلك بسبب التطور المتسارع للمجتمع والدولة، اذ ليس من المنطقي الحديث عن سمات العلمانية في ظروف العولمة وثورة المعلومات، وحيث تتكامل قواعد القانون الدولي مع مثيلاتها في القانون المحلي في الكثير من الجوانب (وخصوصا فيما يخص حقوق الانسان)، مثلما كان الحديث يجري عن تلك السمات في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث التمييز على اساس الدين والعنصر يكاد يكون مشروعاً.
ان واحدة من اهم سمات علمانية الدولة هي فصل المؤسسات الدينية عن هيكلية الدولة والحيلولة دون امتلاك التعاليم الدينية صفة الالزام والشمولية. ولا يقل اهمية عن ذلك منع الكيانات السياسية السائدة، الدينية منها وغير الدينية، من استثمار صلاحياتها السلطوية و نفوذها لتكريس ونشر ايديولوجيا محددة وفرضها على اجهزة الدولة المختلفة. ذلك ان واحدة من مميزات الدولة العلمانية هو التزام مبدأ الحياد بالعلاقة تجاه المكونات الاجتماعية المختلفة، بالاضافة الى ان العلمانية تفترض اشاعة مبدأ التكافؤ والمساواة بين تلك المكونات. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فأن العلمانية تكمن في تحرير المجتمع من قيود الفكر الواحد، والغاء الاستخدام التعسفي للتعاليم الدينية او الايديولوجية، ذلك ان واحدا من الاهداف المهمة للعلمانية يكمن في تأمين التعايش السلمي لمختلف الايديولوجيات (الدينية وغير الدينية) وبالشكل الذي يحول دون التمييز على اساس الانتماء الديني او الطائفي والسياسي.وبهذا الخصوص اجد مناسبا الأشارة الى ان العلاقة بين القانون والايديولوجيا تميزت، على الدوام، بالتشابك والتعقيد، وربما كان ذلك بسبب الارتباط الوثيق لكليهما بالسياسة. ولا اعتقد ان هنالك ضرورة للتذكير بجدلية العلاقة بين الحق (القانون) والسياسة ومدى خضوع احدهما للآخر وشروط ذلك الخضوع. ان تحليلا بسيطا لعلاقة السياسة بالحق سيبين بأن السياسة كانت على الدوام بوصلة الحق، اي ان الحق كان بمثابة مرآة السياسة العاكسة ووسيلتها الاكثر اهمية في تنفيذ الارادة السائدة اجتماعيا. فالقاعدة السياسية سرعان ما تتحوّل الى قاعدة للحق (قاعدة قانونية) حال تبنيها واقرارها من قبل اجهزة الدولة الشرعية وذات العلاقة. فاغلب القواعد المثبتة في منظومة الدولة القانونية تعكس المبادئ الاساسية لقيم وافكار سياسية في مرحلة زمنية محددة. لكن لأولوية السياسة على الحق واخضاعها له حدودها ايضا، ففي ظروف معينة يكون النشاط السياسي محكوما بالقواعد القانونية وخاضعا لها. ذلك ان وظيفة السياسة تكمن في تحديد الخطوط العامة لصياغة قواعد الحق، في حين تقوم الاخيرة بتنظيم النشاط السياسي من خلال تحديدها لقواعد اللعبة على الساحة السياسية، وربما كانت قواعد التشريعات الانتخابية وانظمتها الاكثر تجليا في هذه المعادلة، حيث التشريع يقوم برسم الاطار العام لنشاط الكيانات السياسية بالشكل الذي يؤمن عدم خروج البرامج السياسية لتلك الكيانات عما هو مرسوم لها من حدود. من هنا تبدو واضحة العلاقة الجدلية بين كل من الايديولوجيا والسياسة والحق، ومن هنا ايضا تبرز اهمية مبدأ العلمانية، باعتباره المبدأ الوحيد الذي بامكانه تنظيم العلاقة بين الايديولوجيات المختلفة والتوجهات السياسية المتناقضة وباعتباره الضمانة الضرورية للحق ومصدر حمايته من تعسف السياسة والايديولوجيا على حد سواء. بالاضافة الى ذلك فأن مبدأ العلمانية يقوم بتأمين حيادية الدولة من خلال ضمان استبعاد التأثيرات السياسية والايديولوجية على اجهزتها المختلفة وعلى جميع المستويات. فاختيار الوزراء وفق الاستحقاقات الانتخابية، على سبيل المثال، سيوصل الى جهاز الدولة التنفيذي عناصر قد ترى في برامج احزابها وايديولوجيتها المرجعية الاولى لنشاطها، ما يوقع الجهاز التنفيذي في اشكالية التقاطع بين المصلحة العامة للدولة ومصلحة الكيان السياسي لذلك المسؤول. من هنا ينبغي النظر الى حيادية الدولة ليس باعتبارها مفهوما مبسطا ومجردا، بل باعتبارها منظومة معقدة من العلاقات يلعب التشريع فيها الدور الحاسم. وربما اكتسب الرجوع الى تجربة البلدان المختلفة في معالجة هذه الاشكالية اهمية استثنائية،وخصوصا في ظروف العراق الحالية. فالمادة (ل . 141-6) من القانون الفرنسي (حول التعليم) اشارت صراحة الى ان "الخدمة العامة في مجال التعليم العالي تعتبر علمانية ومستقلة عن اي تأثير، سياسي كان او اقتصادي، ايديولوجي او ديني ; و تسعى لضمان موضوعية المعرفة وتحترم اختلاف الآراء. وعليها تأمين امكانية التطور العلمي الحر". فيما حرّم الجزء 4 من الفقرة 21 للقانون الفيدرالي النمساوي (حول الجامعات) اعضاء الحكومة الفيدرالية وحكومات الاقاليم (المقاطعات) واعضاء المجلس الوطني (البرلمان) والمجالس النيابية المحلية وكذلك قادة الاحزاب السياسية الدخول في عضوية مجالس الجامعات. وفي اطار تأمين استقلالية الخدمة المدنية الحكومية عن التأثيرات الدينية والايديولوجية من جهة، وضمان حقوق الفرد الدستورية مثل حرية الرأي والمعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية، من جهة اخرى، تتضمن تشريعات الكثير من الدول العلمانية قواعد ملزمة لتنظيم هذه العلاقة الشائكة (القانون الايطالي حول الخدمة الحكومية لعام 1983، والقانون الكندي حول التوظيف للعام 1967 ، وقانون الولايات المتحدة الامريكية حول اصلاح نظام الخدمة الحكومية لعام 1978، وقانون المملكة المتحدة حول تحديد الصلاحيات في مجال الخدمة الحكومية لعام 1992، والقانون الالماني حول الموظفين الفيدراليين لعام 1985 .....الخ. وربما كان القانون الاساسي لالمانيا الفيدرالية (الدستور) الاكثر تفصيلا في مجال حل الاشكالية بين الانتماء السياسي والديني والقناعة الايديولوجية، وبين ما يمكن ان نطلق عليه الالتزام الوظيفي. فاضافة الى اشارته لحرية الرأي والمعتقد (الفقرة 1 من المادة 4)، اكد الدستور الالماني لعام 1949 على "حق ممارسة الحقوق المدنية والسياسية اضافة الى امكانية تسنم المسؤوليات الحكومية بغض النظر عن المعتقد الديني.....". لقد احدث تأسيس هيئة الامم المتحدة في عام 1945 ومجموعة اخرى من المنظمات الدولية والاقليمية نقلة نوعية في مجال تعزيز مبدأ علمانية الدولة، وكان للمواثيق والمعاهدات الدولية مثل الاعلان العالمي لحقوق الأنسان (عام 1948)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966وغيرها الكثير اثر بالغ الاهمية في تثبيت ذلك المبدأ ليس فقط لأن تلك المواثيق واللوائح شكلت مرجعية عليا بالنسبة للكثير من الدول، واصبحت مصدرا رئيسيا من مصادر التشريع المحلي، وانما لأن العناصر الاساسية للعلمانية باتت تشكل الموضوعات الاكثر اهمية في تلك الوثائق، اذ قلما تجد لائحة دولية خالية من احد تلك العناصر. فمفاهيم مثل حرية الفكر والمعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية....الخ وجدت تجلياتها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948 (المواد 18 و 19). و العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام لعام 1966 (الفقرتين الاولى والثانية من المادة 18). واللائحة الدولية لمحاربة التمييز في مجال التعليم لعام 1960(الفقرة ب من المادة 5). وفي الكثير من اللوائح والمعاهدات الدولية الاخرى.
ان العلمانية لا تعني القطيعة الكاملة بين الدين والدولة، بقدر ما هي تنظيم العلاقة بينهما ومنحها بعدا قانونيا، ذلك ان تداخل بعضهما بالبعض الآخر سيؤدي ،كما تثبت التجربة التأريخية، الى الاساءة لقدسية التعاليم الدينية وذلك باثقال تلك التعاليم بامراض الدولة مثل الفساد الاداري والمالي والمحسوبية وسوء استخدام السلطة.....الخ. وبالمقابل فأن دمج المؤسسة الدينية بمؤسسة الدولة، او اعتبار تعاليم الاولى مرجعية لنشاط الثانية في بلد متعدد الملل والنحل والمذاهب والقوميات تبدو مسألة بالغة الصعوبة. بالاضافة الى ذلك فأن مجالات كثيرة يمكنها ان تشكل نقاط التقاء وتعاون بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة؛ فنشاطات كثيرة كانشاء صناديق لدعم المشاريع الخيرية (رعاية الايتام واعالة اسر الشهداء وبناء المستشفيات وغيرها) يمكنها، اذا ما تم تفعيلها في حدود القانون، ان توفر على الدولة جهدا كبيرا. وربما كان تنظيم السياحة الدينية واحدا من مجالات هذا التعاون في العراق تحديداً.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة