محاولة أولية للتعرف على محمود
البريكان (3-3)
صلاح
نيازي
لننظر الآن في الأساليب الشعرية التي يستخدمها البريكان،
وربما تمثّل المراحل الفنّية التي مرّ بها. لا يمكن تحديد
المراحل زمنيّاً لأنها متداخلة.
المرحلة الأولى بدا فيها أسلوب البريكان سردياً، وتنحو
قصائده منحى الحكاية، مثل قصائده المعروفة :" أسطورة
السائر في نومه"، و "أغنية حبّ من معقل المنسيين" و "عندما
يصبح عالمنا حكاية" و "هواجس عيسى بن أزرق في الطريق إلى
الأشغال الشاقّة".
من خصائص الشعر الحكائي، أنّ تأثيره يتضخّم ويتسع من توالي
الصور ومراكماتها. أيْ قلّما يعتمد على مفاجأة في صورة أو
إيقاع، أو تركيب مبتكر. الزمن فيها ينتقل من لحظة إلى أخرى
بصورة عاديّة طبيعية. الأفعال في قصائد كهذه، تأخذ صيغة
الفعل الماضي المقطوع الصلة بالحاضر والمستقبل. زمن راكد
في مكانه، لا يأتي إليك، والطريقة الوحيدة للالتقاء به هو
الذهاب إليه. زمن له صفات الطلل.
تمثّل هذه المرحلة نزعة البريكان إلى كشف الحياة
الاجتماعية، وبالضرورة الظروف السياسية.
اتخذ أسلوب البريكان في المرحلة الثانية، صيغ المباشرة،
بحيث أصبح حتى الفعل الماضي لا يشير إلى ماضٍ منقطع، بل
إلى حدث لا يزال قائماً في مراحل التكوين، كما في "قصائد
تجريدية"، ولا سيّما في قصيدته الثالثة "عن الحرّية" :
"قدّمتمولي منزلاً مزخرفاً مريح
لقاء أغنيّهْ
تطابق الشروط
أُوثر أن أبقى
على جوادي وأهيم من مهبّ ريحْ
إلى مهبّ ريحْ"
هنا الفعل الماضي :"قدمتمولي"، متواصل مع الحاضر بدليل :"أوثر
أن أبقى".بكلمات أخرى فإن ما عرضتموه لي لا يزال قائماً،
وأنّ رفضي لا يزال قائماً
في هذه المرحلة كما يبدو تميّز أسلوب البريكان باستخدام
الأسماء على حساب الأفعال، وهذا شيء طبيعي في كلّ شعر ذهني
أو منطقي، أو حينما يصل الشاعر إلى قناعات جاهزة
كالبديهيّات.قال المتنبي :
جيرانها وهم شرّ الجوار لها
وصحبها وهم شرّ الأصاحيب
فؤاد كلّ محبّ في بيوتهم
ومالُ كلّ أخيذ المال محروب
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويّات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة
وغير ناظرة في الحسن والطيب"
المقطع أعلاه كما لا يخفى خال من أيّ فعل.
أمّا البريكان فيقول في قصيدة :" في السقوط الجماعي":
"دموع الحبّ جاهزة ومختومهْ
بأنواع القواريرِ
عيون الله في كرّاسة التشريح مرسومهْ"
خلت الأبيات أعلاه من الفعل. إذ ما من تفاعل بين الحاكم
والمحكوم، فالسلطة قررت وما على المواطن إلاّ الطاعة
والتنفيذ. لنتابع القصيدة قليلاً :
"دم الأحبار ممزوجاً بأصنافٍ من الخمر (ولا يكشف عن
سرّ المقاديرِ)
خلاصات من الأحلامِ
–
في صورة أقراصٍ
شرابٍ، حقن في الدم تحت الجلدِ
أصوات الصراصيرِ
مسجّلة لمَنْ يرغبُ
مجاناً
فخذْ ما شئت من سوق الأساطير"
في المقطع أعلاه ثلاثة أفعال فقط: 1- "ولا يُكشَفُ عن سرّ
المقادير". عدم الكشف هنا يثبّت كلا الزمن والحركة في
الفعل فيجعلة أقرب إلى فحوى الأسماء. الوصفة جاهزة ومختومة.
لذا فهو فعل خارج عن أيّة عملية في تحضير تلك الوصفة.
الفعل الثاني : " لمن يرغب مجّاناً"، لا علاقة له بالوصفة
كذلك.
الفعل الثالث :" فخذْ"، وهو فعل أمر يتشابه والاسم في
البناء، أوّلاً، وما من دور له أيضاً.
في المقطع التالي من القصيدة :
"تماثيل من الشمع المظلاّت
نباتات
من الإسفنج في المتنزّه العام
قوانين مثبتة بأطراف المسامير
على الجماجم الصمّ
تواريخ
معاد صنعها من أحدث الآلات
أخبار تقارير"
يخلو المقطع أعلاه من الأفعال بأيّة صيغة. مجرّد أسماء ذات
جرس مخيف.
إنّ هذا التماثل القاتل، يكون على أكثره وضوحاً، في البحر
الذي اختاره بالصيغة الصعبة من بحر الهزج، وقد تراوح بين :
مفاعيلن مفاعيلن، و مفاعلتن مفاعيلن.
أمّا القوافي فقد تراوحت في ثلاث نبرات حازمة، تسكينها سرّ
إرعابها : "مختومهْ، مرسومهْ"، و "قوارير، مقادير، صراصير"،
و "مظلاّت، نباتات، آلات". تنوّعها قاتل كتنوّع التعذيب.
على أيّة حال، لا تظهر الأفعال في هذه القصيدة، إلاّ في
الأبيات الأربعة الأخيرة:
"عن الخبز الذي لم يُخترعْ بعد
وإذْ يرتجف الإنسان في لحظة تفكيرْ
يكون الأمر قد تمّ
وهل للموت تبريرْ".
لا يمتلك هذا الإنسان الذي يعاد تصنيعه من جديد، حسب قالب
مُعَدّ للجميع، إلاّ الأفعال الانعكاسية كالحيوان.
يرتجف فقط. وحتى أثناء هذا الارتجاف القصير، يكون :"الأمر
قد تمّ"، أي لا أهمية للارتجاف.
بدأ البريكان قصيدته بالجانب العاطفي أو الغريزي من
الإنسان، وهو الحبّ الذي يكون أكثر صدقاّ وتأثيراً إذا
ترافق مع الدموع. ولكنّ الدموع هذه المرّة:" جاهزة ومختومة
بأنواع القوارير".
عاد الشاعر ثانية إلى الغريزة، في نهاية القصيدة أي بالفعل
:يرتجف، ولكنّ الأمر قد تمّ.
مرّت بنا لحدّ الآن مرحلة البريكان الاجتماعية، وبعد ذلك
حلّ تفاؤله بثورة 1958 ثمّ خيبته بها، ولكن لكونه شاعراً
تربوياً، بالدرجة الأولى، راح يمجّد الحرّية الفردية. ما
من شاعر غيره في الشعر العربي كتب عن الحرية الفردية وبنفس
العمق.
"جئتمْ بوجهٍ آخرٍ جديدْ
لي متقنٌ حسب المقاييس المثاليهْ
شكراً لكم. لا أشتهي عيناً زجاجيهْ
فماً من المطّاط
لا أبتغي إزالة الفرق. ولا أريد
سعادة التماثل الكاملْ
شكراً لكم. دعوه يبقى ذلك الفاصلْ
أليس عبداً في الصميم سيّد العبيد".
في الوقت نفسه أمعن البريكان في اختبار جوهر الإنسان، فلعلّ
العلّة كامنة فيه. فامتحن أوّلاً أنساق الحضارات وكيف بنيت،
وكيف آلتْ إلى السقوط، فأصابه التشاؤم، وسرت إليه عدوى
اللاّجدوى. ربّما هذا ما عناه مهدي عيسى الصقر :"وأظنّه مع
مرور السنين انتهى إلى قناعة ترى بأنّه يكفي الإنسان أن
يقيم له بيتاً متواضعاً آمناً يربّي فيه أطفاله، على أحسن
وجهٍ ممكن بلا أحلام في المستقبل، ولا أمنيات بعيدة، ما
دام كلّ شئ هو، في نهاية المطاف، عبثاً وقبض ريح" (الملف-ص
107)
ربما تواطن البريكان إلى هذه القناعة كإنسان، ولكن كشاعر
لم يخمد له توق، فراح يصوغ عالماً جديداً ولكنْ بعقمٍ
نيتشوي هذه المرّة. تمثّل قصيدة : "حارس الفنار"، هذه
المرحلة خير تمثيل، وهي بلا شكّ من فضليات الشعر العربي
الحديث. نرى أسلوب البريكان في هذه المرحلة، وقد أصبح ذا
جرس عالٍ وقور، وفيه ثقة خطيب مصلح، كما أصبحت صوره
الشعريّة أكثر كثافة وغموضاً. مع ذلك لم يأت ذلك الزائر
الذي انتظره حارس الفنار، فشاخ الزمن في رقّاص الساعة
السوداء فوقه، ولم يعدْ لدورانها معنى. الكلّ في انتظار
غودو. الكلّ في انتظار البرابرة.
من هذا القنوط المرّح، من هذا الإحباط المضني، كان
البريكان يعدّ نفسه، لأخطر مرحلةٍ في حياته الشعريّة :
مرحلة الاستبطان والتقمّص. ديوان "عوالم متداخلة"
(قصائد1970
-1992)، يمثّل هذه
المرحلة خير تمثيل.
يضمّ هذا الديوان حوالي ثماني عشرة قصيدة، نشرتها مجلة
أقلام ضمن ملفّها مع مقدمة تقريبية لحاتم الصكر.
في هذا الديوان استقطار لكلّ المراحل السابقة التي مرّ بها
البريكان. فيه قناعات راكزة، كتلك القناعات التي يتوصل
إليها الحكماء بعد طول تجارب. الجمل مفعمة بالحكمة إلاّ
أنّها خالية من الوعظ. في هذا الديوان يتوسّع عالم
البريكان، ليشمل المخلوقات الدنيا وحتى الجمادات. فيه أيضاً
اكتشافات بصرية وسمعيّة لم يعرفْها البريكان من قبلُ.
أنهار غامضة تحت الأرض، "لا صوت لها ولا شكلَ لها"و "لا
أثرلها في أيّة خريطة، و" لا في أيّ دليل سياحي" كما يقول.
من قبل، لم يكن البريكان يرى في الصخرة إلاّ وسادة عند
التعب، ولكنّه في ديوان "عوالم متداخلة يعرّفنا على ستة
أنواع من الصخور في قصيدته الغريبة :"دراسات في عالم
الصخور". في هذه الصخور نقرأ فيزيائيّتها وأسرارها. نقرأ
فيها حزنها وشعرها، ودفء أمومتها. يقول باسم المرعبي (في
مقدمته لما اختاره من شعر البريكان) : "إن قصائده مثل "دراسات
في علم الصخور" –
بشكل خاص
–
تذكّر بطبيعة البحث
العلمي من حيث التقصّي والاستغراق، ربما بسبب مباشر من
طبيعة الموضوع، كذلك بسبب من الحرفية العالية والإحكام حتى
لَتأخذ القصيدة صفة "العلمية" لا أكثر"
أمّا في قصيدة "نوافذ"، فلا يركّز البريكان نظرنا على
نافذة واحدة، أو على نوافذ متشابهة. ثماني نوافذ مختلفة.
نافذة فتاة يلوح ظلّها مرّة أو مرّتيْن خلف الستارة،
ونافذة كسيح يحاور الفراغ، ونافذة عجوز تمتدّ يدها
المعروقة، لتعرف الوقت، وهل توارت الشمس. مشهد الطفل حيث
يُسحب إلى الداخل…إلخ
يختتم البريكان هذه النوافذ بـ "نافذة الشاعر" :
"يفتحها للنور والريح وعطر الأرض
يهجم منها صخب العالم
يغلقها كأنّما لآخر الزمان
ومثلما يُغلق تابوت إلى الأبد".
في ديوان "عوالم متداخلة قصائد نفيسة، كم كان بودّي أن
أتوقّف عند كلّ قصيدة، لولا قصر الوقت المتاح لي في هذه
الندوة، ولكن يمكن القول، إنني لو سئلتُ عن أفضل أربعة
دواوين عراقية ظهرت في القرن الماضي، لكان ديوان "عوالم
متداخلة" واحداً منها وعن جدارة. هل تنبّأ البريكان بموته؟
أغرب تنبؤ :
"على الباب نقرٌ خفيفْ
على الباب نقرٌ بصوتٍ خفيض ولكنّ شديد الوضوحْ
يعاود ليلاً. أراقبه. أتوقّعه ليلة بعد ليلهْ
أصيخ إليه بإيقاعه المتماثلِ
يعلو قليلاً قليلا
ويخفت
أفتح بابي
وليس هناك أحدْ
من الطارق المتخفي؟ تُرى؟
شبح عائدٌ من ظلام المقابرْ
ضحيّة ماضٍ مضى وحياة خلتْ
أتتْ تطلب الثأر؟
روح على الأفق هائمة أرهقتها جريمتها
أقبلت تنشد الصفح والمغفرهْ
رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضهْ
ومهراً لأجل الرحيل".
دعْكَ يا محمود من شيكسبير، وهاملت، وشبح والده دنكن،
وافتح الباب للطارق الصامت وامض معه. إمض معه.
لا مفرّ من الرحيل يا عزيزي محمود.
|