المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

في حوار مع مجموعة من المثقفين: الواقع الثقافي العراقي وتحديات العنف والارهاب
 

علي ياسين - بغداد

في تحد غير مسبوق، لكل مظاهر الارهاب والعنف والخراب التي تشهدها البلاد، يقيم المثقفون والادباء العراقيون فعالياتهم وانشطتهم في مختلف انواع الاداب والفنون، غير آبهين بما يحيقهم من مخاطر، لكن الاوضاع الامنية المتردية وانعدام الخدمات، دفعت القائمين على تلك الانشطة من الندوات الادبية والفكرية والعروض المسرحية ومعارض الفنون التشكيلية إلى ان يحيوا تلك النشاطات على شكل (أصبوحات) أو (قيلولات) ثقافية قد تمتد - في أغلب الأحوال - إلى الثالثة بعد الظهر، وعلى ما يبدو، فان هذا الاختيار الزمني، أملته عليهم مخاطر الانفلات الامنية الخطرة، صحيح ليس ثمة اماس تحتفي بهذه الفعاليات، لكن الثقافة العراقية وفق رؤيتها للمشهد المعيش وتحولاته، ابتكرت وسائلها الخاصة ومارست دورها التاريخي في مرحلة عراقية معقدة واستثنائية، وهي ضمن هذا تضع نفسها في مواجهة حقيقية مع كل اشكال ثقافة العنف والبطش والموت والدمار.
فاضل ثامر: لم يقف المثقف العراقي صامتاً
عن هذه الظاهرة يقول الناقد ورئيس الاتحاد العام للادباء والكتاب العراقيين في العراق فاضل ثامر:
ان جبهة الثقافة العراقية هي احدى جبهات المواجهة الساخنة ضد كل مظاهر العنف والارهاب والتقتيل التي يتعرض لها ابناء شعبنا العراقي، واذا ما كانت مؤسسات الدولة والحكومة ومجلس النواب والاجهزة الامنية المختلفة لديها خطواتها الاجرائية الخاصة لمواجهة حالة الانزلاق المخيف نحو الاقتتال الطائفي، فان للثقافة العراقية برنامجها الوطني الواضح في هذا المجال، واذا ما كان البرنامج السياسي آنياً ومرحلياً، فالبرنامج الثقافي دائم ومتواصل.
وطوال السنوات التي اعقبت سقوط النظام الدكتاتوري، لم يقف المثقف العراقي صامتاً وانما انبرى بوسائله المعرفية والفكرية الخاصة لمواجهة جميع الموجات المعادية لحرية الفرد العراقي وبرنامج التحول الاجتماعي نحو الديمقراطية والتعددية والانفتاح على العالم، وبالتأكيد فان هذه المعركة التي يخوضها المثقف العراقي معركة صعبة ومعقدة، بل ربما غير متوازنة. فالمثقف العراقي يشهر قلمه وكلماته ونواياه البيض في مواجهة الرصاص والتفخيخ والانفجارات، فهذا المثقف صاحب رسالة انسانية ووطنية، تدعو إلى الانفتاح والتسامح وإلى تعزيز لحمة ابناء الشعب العراقي والتسامي على الصراعات والخلافات والانشقاقات الطائفية والقومية والدينية من خلال الدعوة إلى الاحتماء بمظلة الهوية الوطنية العراقية الموحدة التي تتسامى على جميع الهويات الفرعية (وان كانت لا تتناقض معها أو تلغيها) ومن خلال عزل جميع القوى السود المعادية لشعبنا والمدعومة من اطراف اقليمية ودولية معينة والتي تحاول اغراق تجربة شعبنا الديمقراطية في حمامات من الدم.
ان موقف المثقف العراقي هذا يدلل على انتمائه الواضح لقضية شعبه وعدم تعاليه عليها، وفي الوقت ذاته، يدلل على استعداده للتضحية بحياته اذا لزم الامر من اجل اشاعة روح الامل والتفاؤل والايمان بالمستقبل والحرية في مواجهة التعصب وضيق الافق والانغلاق.
ولا شك في ان أي محاولة للتقليل من اهمية الفعاليات الثقافية التي يحققها المثقفون العراقيون اليوم لا تنم عن فهم دقيق للواقع، ذلك ان الثقافة العراقية تريد ان تؤكد ايمان الفرد العراقي بالحياة والامن والاستقرار في مواجهة العنف والارهاب والدم.
الفريد سمعان: الحياة لا بد من ان تسير
ويقول الشاعر وامين عام اتحاد الادباء والكتاب في العراق الفريد سمعان:
-منذ الازل.. منذ ان تفتحت عيون الطفولة على اول نقطة ضوء وتوالت الاحداث على حياة الانسان، بقي متتطلعا إلى يوم جديد قد يكون صنو يومه الراهن أو عبر تفتح حياتي متألق يختلف كل الاختلاف عن المألوف.
والذي يتابع مسيرة الحضارة وتطورها يجد ان الصراع بين الخير والشر يظل هو اساس بقاء البشرية ضمن تطلعاتها التي لا تكف عن رسم آفاق واسعة لمستقبل اكثر شمولية واندفاعاً وتطلعاً.. وقد تجلى ذلك في بدء ظهور الخليقة بالحياة الصعبة والمواجهات القاسية بين الطبيعة والانسان والكائنات الاخرى المتجبرة الشرسة فقد واجه قسوة الطبيعة، المطر، العواصف، الزلازل، الثلوج، الانهيارات الجبلية.. كما تعايش بصعوبة وبأدوات بدائية مع اشرس الحيوانات واكثرها وحشية وقسوة واستطاع رغم ما ترتب على ذلك من تضحيات وخسائر واراقة دماء الصمود والبقاء شامخاً على عتبات المستقبل.. يباغت نفسه بافكاره المتجددة التي يستعين بها على المواجهة أو التخلص من المواقف الحرجة والصعوبات التي تلقي باهوالها على الطريق بدون رحمة احياناً.
ان هذه الدروس القديمة علمت الانسان كيف يتعايش مع الاحداث، وكيف يصمد وينتصر ويعيد بناء ما تهدم وتجاوز الاخطاء والنوائب والصبر على ما لا قدرة على تجاوزه.
ان التحدي المشار اليه هو ضمن حلقات الصراع المستحم بالدماء الطاهرة التي تسيل كل يوم وكل ساعة وترطب التراب المحترق بلهيب الاحداث.. انه طبيعة انسانية لا تكف عن العطاء ولا تتراجع امام النوائب، انه الحلم في استقبال يوم جديد وخلق آمال تتوثب امام الحالمين بغدهم الافضل.
ان المثقفين وهم طليعة المبدعين وحملة راية المسيرة الانسانية وحداء القوافل المسافرة عبر الصحارى والاهوال، لا بد من ان يرسموا بما يمتلكون من قدرات الطريق امام شعوبهم وان يكونوا معلمين حقيقيين وشجعاناً في القيادة ونبلاء في التعامل اليومي وغير اليومي.
ان هذا التحدي وكل ما يترتب عليه من مآس سيظل نقطة الانطلاق والشراع الذي يبحر عبر الامواج العاتية لكي يحمل احلام الانسان العراقي الذي يقاسي ويعاني الكثير من الصعوبات غير المألوفة.. اقول ان هذا التحدي هو الذي سيعيد الحياة والامل لشعبنا ومستقبلنا، وهو مفخرة ما بعدها من زهو واعتزاز.
عزيز عبد الصاحب: الوقفة العراقية في الابداع ستهز الضمير
ويتحدث الكاتب والفنان المسرحي عزيز عبد الصاحب عن هذه الظاهرة قائلاً:
-هو التحدي.. لغة التحدي، ففي الرأس صوت ينبغي ان يصل إلى الناس، لذلك كانت القصيدة والمسرحية واللوحة والمقالة. كل الفنون تتبارى.. لم تتعطل بسبب قسوة الارهاب، انهم فاشلون ولا يملكون سوى القتل والتدمير ولابد يوماً من ان ينتهي هذا القتل والتدمير وينتصر الدم العراقي كما انتصر الحسين (ع)، فصبراً جميلاً..
ان هذه الوقفة العراقية في الابداع ستهز العالم قريباً أو بعيداً.. ستهز الضمير، فمثلما كتب العراقي السومري على الطين.. سيكتب ابداعه هذه المرة بتحد من اجل السلام.
قاسم السومري: ثوب الحياة
اما المخرج المسرحي قاسم السومري فيعلق بالقول:
ان المتتبع لبانوراما المشهد العراقي الذي سبق 9 / 4 وما اعقبه من احداث وتداعيات وتفاعلات سيقع على حزمة من المفارقات المرتدية ثوب العجب والغرابة حين نخرجها من نسقها العراقي بكل اوجاعه وآلامه واحلامه، وتندرج هذه الفعالية ضمن هذا السياق وهي غير منفصلة عن الظاهرة (المفارقة) الاجتماعية التي انتجتها.. وهي بتقديري محاولة للامساك بتلابيب ثوب الحياة الذي مزقته كوارث الحروب والاستبداد والجوع وهي واحدة من سمات المجتمعات الحيوية التي تنفض عنها سخامات فوهات البنادق وغبار الكوارث لكي تحيا من جديد.
امل البياتي: طموحات المثقف لا تقف عند حد
وتتحدث الشاعرة امل البياتي قائلة:
عرف الانسان بكونه حيواناً اجتماعياً، يجد نفسه بين الجماعة، فكيف بالمثقف الذي يمتلك حساً انسانياً مرهفاً تؤطره نظرة كونية للانسان والحياة؟ انه يجد نفسه مسؤولاً عن اكثر من رسالة يؤديها وسط فيوض من الهموم والمعاناة التي يمر بها خلال حياته الابداعية، يؤدي كل ذلك بلا تردد أو خوف من مظاهر العنف والقتل والخوف، اذ ان طموحات المثقف النقدي الجاد لا تقف عند حد، بل يشعر بسعادة حقيقية حين يقف متحدياً ضجيج الشارع ومشظيات الموت.
عامر القيسي: فعاليات الادباء هي جزء من دورهم الجديد
وفي الختام يشاركنا الكاتب والاعلامي عامر القيسي بالقول:
عندما تحين لك فرصة تستطيع من خلالها تأدية دورك في الحياة فعليك اقتناصها ان كنت راغباً في ذلك.
المثقفون العراقيون، وبعد اكثر من ثلاثة عقود من القمع والتهجير والاسكات، انفتحت امامهم ابواب حرية قولهم وترويج خطابهم الثقافي والفني والمساهمة الفاعلة في احياء الحياة الثقافية والفنية واثرائها بإبداعاتهم. ان الارهاب بكل تنوعاته ليس غريباً على المثقف العراقي، وهو ارهاب كانت تمارسه سلطة صدام ضده، لكنه لم يكن قادراً على التصدي لها بسبب شموليتها وغياب أي هامش لحرية القول في جميع مناحي الحياة.
ان فعاليات المثقفين والادباء العراقيين، هي جزء من دورهم الجديد من تحدي الارهاب واشاعة اجواء الامل والتمسك بالمستقبل. هذا هو المطلوب منهم وهذا هو دورهم الذي ينبغي ان يمارسوه.


قراءات أخرى في سيميائيات الصورة .. الهشاشة الرومانسية والدلالة الوجودية

شاكر لعيبي


هنا صورتان ملتقطتان في لحظتين مختلفتين في العراق عام 2006.
ماذا تخفي هاتان الصورتان؟ هل يتعلق الأمر بدمعة حالمة رومانسية سقطت سهواً؟ أم أن هاتين الدمعتين تنطويان على دلالات وجودية مفترضة عميقة؟.
عين السيدة الوحيدة المرئية المفتحة التي ترى، ماذا ترى؟ وعين الرجل المنغلقة، تنغلق على ماذا يا ترى؟ إنها في الحقيقة أسئلة صعبة لكنها تشكل ضرورة للقراءة الأيقونية.
هاتان الصورتان تقدمان دليلا على أن قراءة الصورة تستوجب، لكي يكون التأويل قريبا من الدقة، معرفة السياق الذي التقطت به الصورتان. وهو هنا العراق في لحظة درامية من تاريخه المعاصر، لكنه جنوب العراق بشكل أدق وفق ملابس السيدة والرجل.
من دون السياق يمكن أن تحيل الصورتان على نمط مبتذل من الصور الباكية التي رأى البعض منا واحدة منها، في الأقل، في كل مكان تقريبا من العالم، مثل صورة ذاك الطفل الذي تنهل دمعته من عينين متسعتين على خد مدوّر أبيض. صورة ذاك الطفل هي رمز أيقوني للكليشة البصرية، وللمعنى الجوهري لمفهومة الكليشة، كما لوعي رومانسي متدهور فيما يتعلق بالمأخوذين بصورة ذاك الطفل الباكي.
صورتا الرجل والسيدة العراقيين لا يتضمنان شيئا من ذلك. وقراءتهما تستحث، في ذاكرة متلق يجهل سياق التقاطهما الدقيق، شيئا غامضاً مقلقاً. الدمعة تكاد تكون غير مرئية في الحالتين، والحزن من العمق إلى درجة أنه يحوّل الوجه إلى قناع، خاصة بالنسبة لوجه السيدة. ثمة شيء ما عصيّ على الوصف مستمد من فاجعة مجهولة (بالنسبة لمتلق لا يعرف دائماً السياق) وفاجعة معلومة تماما (بالنسبة لمتلقٍ عراقي خاصة) إلى درجة أنه يستطيع قراءة المخفيّ الضارب عميقاً في مصادر واقعية متشابكة شتى.

التأطير Encadrage:
تأطير صورة الرجل يستهدف جعل زخارف غطاء الرأس، الكوفية، بمثابة الحافة bord الفعلية للصورة. إن تأطيراً مثل هذا يمنح الوجه معنى مختلفا وللدمعة مساحة محددة حتى كأن هدف هذا التأطير المزخرف ليس سوى تأطير الدمعة نفسها وليس شيئا آخر.
أما بالنسبة لصورة المرأة فإن التأطير يشدّد على السواد المطلق الذي يحيط بوجهها. السواد هو القيمة الأساسية، فيزيقيا ودلاليا، للصورة، وهو نفسه ما يؤطر هذه المرة الدمعة الساقطة.
لو أننا حذفنا ملامح وجه الرجل لرأينا أن المصوّر الفوتوغرافي قد جعل بالفعل من زخارف الكوفية الإطار الفعلي للصورة وليس إطارها الخارجي المعتاد ولو أننا حذفنا ملامح وجه المرأة لرأينا المبدأ نفسه لكن باستعاضة الزخارف بسواد غطاء الرأس التقليدي. إننا لا نتدخل في كلتا الحالتين بالصورتين ونحللهما كما وجدناهما منشورتين:
تدخُّلنا لا يسعى لتشويه جماليات الصورتين، إنْ وجدتا، لكن للتثبّت والتحّقق من طبيعة التأطير كما يمكن أن يكون المصوّر قد فكّر به. بعبارة أخرى نحن أمام تفكيك منهجي، حذر للغاية، للعناصر الأصلية التي قامت عليهما الصورتان لا غير.

نلاحظ أن المبدأ بقي هو نفسه في الحالتين كليهما وإنْ بمساحات ممتلئة ليست متماثلة في الحالتين رغم ذلك.

سياقات التأويل:
نُشرت الصورتان من دون تعليق في مجلات وجرائد عربية، وفي سياق نقلِ خبرٍ عن العراق الراهن، كأن ذلك وحده كان كافيا لوضع الصورتين في سياق تأويلي ممكن.
ماذا إذن عن متأوِّلٍ لا يعرف السياق؟ إذا أردنا أن نقف عند التخوم الصارمة للمنهجية الأكاديمية سنقول إن الأمر يحتاج إلى استبيان واسع النطاق جماهيرياً. غير أن السيميولوجيين سيقولون أن على هذا المتأوِّل أن يعرف، بإرادته الثقافية المحض بوصفه فاعلا في عملية التلقي، السياق الذي التقطت به الصورة مثله مثل قارئ رواية كتبها أمريكي لاتيني عن بلاده وجمهوريات موزها، مما يتوجب علينا معرفة شيء عنها لتأويلها وقراءتها بطريقة دقيقة وممتعة.
لكن متأوّلاً يعرف السياق وخفاياه سيلاحظ غياب أي توتر درامي براني في الصورتين. إنهما وحدهما مقدّمان مثلما هما، وهما وحدهما يشيان بعنفهما الداخلي الغامض. يتعلق الأمر يقينا بأشخاص من الريف. هذه نقطة حيوية. إنها أيقونية جنوبية بمعنى من المعاني، وإن تاريخ ريفها حاضر في تفاصيل الوجهين ولباس الرأس. الوشم الأزرق المختفي تحت حاجب السيدة يدل على الرمزية والسحرية التي تسم الريف عموما (وتوحّده جوهرياًَ) في كل أنحاء العالم العربي. وشم ممكن اللقاء به في الريف المصري والمغربي واليمني والحجازي والشامي. عينه تماما.
الوجهان ينتميان إلى الألم المحفوف بالبساطة المطلقة ( لكي لا نقول البراءة أو التبسيط). ألم بَطَلَيْ الصورتين ليس من أصول آلام المثقفين المتعالين على الدموع. سيكون مفرطا القول إن التعبير مباشرة بالدمع هو إرث فلكلوري عراقي، شمالا وجنوبا. لا علاقة للمسألة بالبكاء الغريزي إنما بإظهار الألم أمام الملأ وهو إظهار من طبيعة تراجيدية لها مراجع ومصادر رافدينية معروفة. وبطبيعة الحال لا علاقة للتراجيديا بالحزن السهل كما وقع تأويل الأمر غالبا فيما يتعلق بمظاهر ذات دلالات سيميولوجية أخرى مثل الغناء العراقي. التراجيديا سؤال وجودي عميق والحزن شيء آخر أقل عمقاً. هنا تصير السوسيولوجيا مفيدة للتأويل، كما نرى، وهي تندغم مع السيميولوجيا بشكل عضوي.

التنكير والتعريف بين الصورة والأدب:
من هو هذا الرجل؟ من هي تلك السيدة على وجه الدقة؟
هل هذا السؤال مهم في قراءة صورة من الصور قدر أهمية الاستعارة المجردة التي يمكن أن تتضمنها؟
نتحدث فجأة عن استعارة. هل ثمة استعارة في الصورتين الحاليتين بالمعنى الذي نتحدث به عنها في حقل النص الأدبي؟ ستكون الإجابة غالبا بنعم، لأن هاتين الصورتين لا يمكن تعاطيهما بمعناهما السائب وإنما بمعنى ما يقولان من دلالات، مثل كل استعارة نعرف.
في الأصل يقع الفارق بين (صورة رجل) أي أيقونته و(كلمة "رجل") الموجودة في القاموس الأدبي في أن الأولى، الأيقونية، معرّفة تقريباً وليست نكرة: إنه رجل معرّف بعينه من دون شك (حتى ولو كنا لا نعْرِفه شخصياً). لو أننا جهلنا من يكون بالضبط فهو ليس بنكرة على أي حال، ليس رجلاً يمثل جنس الرجال بالمطلق. وهو ما يصلح على (صورة امرأة) ما أي أيقونتها مقارنة (بكلمة "امرأة") في القاموس الأدبي. الأولى، الأيقونية تنتمي للعلامات التماثلية والثانية، الأدبية واللغوية وللعلامات الرقمية.
لنلاحظ الآن ما يلي: إننا في الصورتين الراهنتين (لرجل مرة ولامرأة مرة أخرى) لسنا أمام رجل معرّف معروف ولا امرأة معرَّفة معروفة ورغم ذلك فليس كلاهما نكرتين تماما، لكأننا نعرفهما حميمياً بشكل أو بآخر.
الصورتان تقدمان لنا تماهياً بين الرجل أي جنس الرجال، ورجل نعرفه بالدم واللحم كأنه من عائلتنا أو بلدنا أو رائحتنا. هكذا لا يمكن أن تكون الصورة نكرة بالمطلق، أي تجريدية تماماً، مثلها مثل الصورة الشعرية التي تضع لنا التجريدات في صور المحسوسات، وهنا واحد من مفاصل بلاغة الصورة.


جناية محمد الماغوط

نصوص: باقر جاسم محمد

1- جناية محمد الماغوط
ترى ما الذي جنته يداك،
وأنت تحتطب في أعالي غابة الشعر،
فاتحاً عيوننا..
على بقايا أوطاننا المحترقة؟
يا لك من متنبئ فاشل،
وأنت تذكرنا منذ نصف قرن،
بآننا الراهن
وبحرائقه التي دخلت كل بيوتنا!!


2- يقظة
حين استفاق من يقظته
أدخله الكشف في رؤيته
حين نحى الصحو عن لحظته
أخذه الحلم إلى دهشته


3- كان..
كان شاحباً مثل كلمة شحوب،
كان متعباً مثل كلمة تعب،
كان
حزيناً
مثل
كان حزيناً مثل رجل فقد حبيبته،
فقد
وطنه.


4- علامة تعجب
ما أعظم الكلمة..!
كم هي رقيقة..!
كم هي صلبة..!
كم هي خصبة..!
كم هي رائعة..!
بدءاً بكاف كونها..!!
وانتهاءً بتاء تأنيثها..!!!


5- كيمياء الكلام
مضى عليه دهر وهو يمسك بوردة الحلم..
الصفراء، الحمراء، الزرقاء،
التي لا لون لها،
ومذ أدرك عمق الذات،
شغله البحث في كيمياء الكلام،
عن طاقة الكلمات،
عن الفرق في المعنى بين الحب والحرب،
عن كلمة النار التي ما أن كتبها
حتى احترقت الورقة،
وكل شيء في غرفته،
عن كلمة النوارس التي ما أن كتبها،
حتى أضاء البحر تحته..
أزرق لامعاً مثل عيني حبيبته.


6- اسد بابل
قال الرجل الممدد تحت الأسد:
منذ عصور،
وأنت تقف منتصباً وحاجباً عني السماء،
فمتى يزول ظلك عني؟
قال أسد بابل:
أنا فوق،
وأنت تحت،
هكذا كنا،
وهكذا سنبقى،
أما السماء، فهي لن تشتاق إليك،
لأنك لم تفعل شيئاً حتى تراها.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة