المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

صادق الصائغ يروي حكايته مع الشعر والحياة

  • كنوزي الروحية مدفونة هنا واستيقظت بعد سقوط النظام
  • ما حقيقة التجربة الستينية؟
  • انا شاعر بصري تعلمت من السينما اكثر من الكتب
  • سبحت في دجلة عارياً في اول ليلة من ليالي عودتي

     

بورتريت صادق الصائغ

صادق الصائغ في هذه المقابلة المطولة والضرورية معاً لاعادة اكتشاف الاجزاء المتشظية من صورة الحياة الثقافية العراقية خلال الستينيات وفي المهاجر، يكشف عن احلامه وايام دهشته الاولى واختراقه عالم الشعر من الصبا حتى المرحلة الحالية.
وفي هذه المقابلة توصيف لاسماء وشخصيات ورؤية لمراحل من حياة العراق الثقافية وذلك جهد تاريخي وفني ونقدي في آن يمتزج مع رحلة الحياة المتألقة حباً وشعراً وسياسة ورسماً وصحافة ومسرحاً تلك التي عاشها صادق الصائغ وما زال يعطي منذ (نشيد الكركدن) وحتى اعماله الكاملة التي ستصدر عن دار المدى.
لكن صادقاً اختار الشعر اولاً والسياسة ثانياً وانشغل بعد ذلك بهموم اخرى تجد محطات منها في هذه المقابلة المطولة التي تعطي الدليل على رهبانية هذا المبدع وتساميه ونظرته للاشياء والاحداث .

* كنت من اوائل العائدين من الخارج الى العراق، بعد سقوط النظام، واشتغلت مستشارا في وزارة الثقافة. ما الذي دعاك للعودة الى العراق؟
- سأروي لك هذه الحكاية التي قرأتها بالانكليزية، يوم كنت مراهقا، وهي لسومرست موم: بحار يرحل عن جزيرته النائية الصغيرة، مقسماً باغلظ الإيمان على ان لا يعود اليها ثانية، لكنه بعد تطواف استغرق العمر كله اكتشف ان لا شفاء لوحدته غير العودة، وكان حلمه ان يفتح عينيه على مشهد السماء للمرة الاخيرة، وهو على علم ان السماء هي السماء في كل انحاء العالم، ولن تختلف عنها في وطنه. وبعد ان بلغ التسعين واستقبله اهل الجزيرة بالحفاوة عادت روحه اليه ومات، راضياً مرضياً، في اليوم التالي.
هذه واحدة.
حكاية ثانية جاءت في قصيدة كفافي الشهيرة:" اذا انت خربت مكانك في ذلك الركن الصغير من العالم فهي خراب اينما حللت".
وهناك ايضاً البيت العربي الشهير:

بـكلٍ تداوينـا فلم يُشْفَ مـا بـنا
على ان قرب الدار خيرٌ من البـُعدِ

ٍوطبعاً، تُذكرنا ميتة عوني كرومي بالذين ماتوا حسرة في المنافي. ولعلك، مثلي، سمعت عوني من احدى إذاعات المنافى البعيدة قبل ان يموت بأيام يقول: "لم احصل من وطني طوال عمري على غير الالم واالتعاسة، واخشى ان اموت ولا احصل حتى على قبر فيه"!!
لقد عدت، لأن كنوزي الروحية المدفونة هنا استيقظت دفعة واحدة بعد سقوط النظام، وكنت قبل ذلك أتساءل ماذا ستكون هذه الصحراء القاحلة التي هي العراق لو لم تسكنها روح السياب والجواهري وعبد الوهاب البياتي والرصافي وجواد سليم وسعدي يوسف وسركون بولص وعزيزعلي ومحمود صبري وفاضل العزاوي وجان دمو وفؤاد التكرلي ومئات من المشهورين والمهمشين والصعاليك، ممن سأعجز بالتأكيد عن تسطير اسمائهم هنا.
كنت اثساءل: ماذا لو مت ولم اسمع امي، تقرأ القرآن وتفتتح الفجر بصوتها الساحر، او تخاطب شبابيك الأضرحة، وعيناها ملأى بالدموع، متوسلة بأبي الجوادين الكاظم والحمزة وشهيد كربلاء، ليقوا عائلتنا شر البلاء؟
ماذا لو مت دون ان ارى النخيل، سيد الشجر، سيد الحزن، سيد الطبيعة، سيد الغروب الذابل، سيد الأنهار العميقة؟
ماذا لو لم اعثر على بقايا سعاداتي في درابين جديد حسن باشا وجريدة البلاد، عشي الاول الذي فيه مارست الكتابة والخط والحب الأول ومن أجله بكيت وبكيت ولم يسمعني أحد؟!
ماذا لوحرمت ذاكرتي صورة حسين مردان، الطفل الكبير الطيب، ذو الأكاذيب البريئة، أول من احببت من الشعراء المشهورين، يتمشى قي ذلك الزقاق الضيق مع صديق عمره عبدالمجيد الونداوي، مجلجلاً بصوت عالٍ، متقصدا ان اسمعه ويسمعه العابرون: " انا دكتاتور الادب"؟!!
ماذا لو لم أتلمس، ليس بعيدا عن ضريح الست زبيدة ومقبرة الشيخ معروف، حيطان محلة"الإزرملي" - الدوريين الآن- واتجول بين درابينها التي هدتها حرارة الشمس والزمن، متفقدها بيتاً بيتا وحجراً حجراً ً، وعلى حيطانها رسمت حلمي الأول، وفي خواصرها قضيت طفولتي وصباي وشبابي ؟!.
ماذا لو لم أعثر على بقايا شعاراتي السياسية المعادية للحلف التركي الباكستاني وحلف بغداد وحكومة نوري السعيد والتي، بيدي هاتين، كتبتها بـ"بويه" خضراء على حيطان الحسينيات ومراكز الشرطة وحيطان الأفران ومدارس الأطفال والثانوية، والتي مسحتها يد السلطة والريح والمطر وعوادي الزمن؟!!
ماذا لو لم لم اجد صندوقي السحري، صندوق التنك الصغير، المدفون في حديقة البيت والذي احتفظت بداخله بكتبي ومنشوراتي السرية وقصائدي الرومانسية الأولى التي نشرت بعضها في مجلة الآداب البيروتية ومجلة"الفنون"، يوم سمح لي صاحبها كامران حسني مخرج فلم"سعيد افندي" بأن أكون سكرتيراً لتحريرها، وانا لا ازال يافعاً وغرا ً، وفي غرفة تحريرها، في مطبعة الأمة، في الحيدرخانة، فاجأني السياب بزيارة قائلاً: اريد التعرف عليك، وكنت اعدت نشر قصيدته"غريب على الخليج" في المجلة، دون إذن منه، وكان، حسبما قال، قرأ قصيدتي"العناق مع الولد دحام" في مجلة الآداب، فرحت اتراجف امامه كالسعفة، غير مصدق بأن السياب، بقضه وقضيضه، موجود امامي ويطلب التعرف علي.!!
ماذا لو ضاع مني مشهد اشتراكي في اول مظاهرة في حياتي عام 1952 في شارع الكفاح، وكنت اشارك، مع آخرين، في حمل تخت مقهى خشبي، رقد على حصيرته متظاهر اصيب بطلق ناري، ومن فمه وانفه خرجت فقاعات الدم، فماعاد يستطيع التنفس؟!!
ماذا لو لم تشرق على ذاكرتي صورة شاكر اسماعيل، المحرر الرياضي في جريدة البلاد، يسير في مقدمة مظاهرة اخرى في شارع الشيخ عمر، حاملاً شعار: تسقط حكومة نوري السعيد، والرصاص ينهمر بين رجليه، وهو مصر على الاستمرار برفع الشعار، رغم توسل الآخرين بأن يهرب، فالمظاهرة تفرقت والأمر انتهى؟!!
من ثم، ياصديقي، إقرأ هذه الابيات التي كتبتها في لندن، عندما بلغت عامي الستين:
ثم ماذا ياكآبتي القديمة / ماذا ياشمسي الحزينة السوداء / ماذا لو مت في غرفة هذه المرأة السمينة/ المرأة المعطرة /السمكة ذات الاقراط / التي قالت انها تعرف سحر الشرق / تعرف السياب والبياتي وادونيس / والتي، بصدر نصف مكشوف / وبملمس ناعم / جرت الحديث الى وحدتها ووحدتي / مقترحة في الأخير / ان نذهب معاً / وبصحبة احزاننا المشتركة / الى فراشها الوثير/
ماذا لو مت تحت سماء لندن / وتحت نجومها البعيدة / نجومها التي لا تقول شيئاً / والتي بلا حب / ولا ضغينة / ولا اجنحة / ولامناديل وداع / تقف بقميص النوم /على هذا الارتفاع / لتغمزني بخبث
/ من وراء قناعها الانكليزي / محتفلة معي / بعيد ميلادي الستين؟!!
واخيراً اختتم جوابي بهذه القصة:
في اول يوم من وصولي الى بغداد ونزولي في فندق فلسطين، وكنت قررت ان اول شيئ أفعله بعد وصولي الى بغداد هو ان اسبح في دجلة، عابراً مجراه الى الضفة الثانية، كما كنت افعل برفقة صديق طفولتي محمد الحكاك، منطلقاً من ضفته القريبة من الصالحية، وصولاً الى الضفة القريبة من سوق السراي . هل تصدق؟ في الساعة الثانية بعد منتصف الليل نزلت من غرفتي في الطابق العاشر، مجتازاً الطريق الترابي، متجهاً صوب النهر المدلهم برائحة الليل والطفولة. كانت روحي ترتجف في تلك الظلمة، وكنت قد تعريت كما خلقني الله . وامام هذا المشهد الجليل وجدت خيط طفولتي الضائع وامسكت به وانا ابكي. رميت نفسي في الماء، مخترقاٍ الظلام المشتعل بالصمت، والمسكون بالسحر وشعور التوبة والتطهير وغسل الذنوب.!!
ليس هناك من شخص يمعن في حب هذا المكان اكثر من اولئك الذين كانوا جزءاً منه ثم انتزعوا من احشائه، فلما ابتعدوا اكتشفوا انه قدرهم الوحيد.
لذا، وعودة على سؤالك، لماذا عدت، اقول، لأن ثقافتي الأولى وهويتي وكبريائي مدفونة هنا في هذه التربة، ولم أُحس ان لها معنى او معادلاً في أي مكان آخر في العالم . لقد عدت لأسترجع ولأتزود بكل ما فقدته وافتقدته في الخارج: الطفولة والشعر والمغامرة والتوتروقوة الوجود والقدرة على تقبل الحياة بالدهشة الطفولية الاولى.

* اليس في هذا شيء من الرومانسية، قياساً بما نعيشه اليوم من مخاطر مرعبة ؟
- بعض اصدقائي قالوا عني الشيئ نفسه . احدهم وصفني باني رومانسي يوصل حلمه الى نهاية الوهم، آخر وصفني باني طوباوي ابحث في الجحيم عن مدينة فاضلة...وانا قلت فليكن..المصاعب كثيرة، لكني لن أهتم، فكلما زادت التحديات زاد اعتقادي بأن هذا البلد حي ومليء بالمفاجآت ويستحق التضحية بأضعاف هذا الثمن. وفي كل الأحوال، انا أعرف نفسي، لن تقتلني المخاطر، بل وحشة الغياب في المنافي البعيدة.
يقولون ان" حظ العراقي ابيض بس بالركي"، فلنأمل ان يتغير حظه هذه المرة، فنتمكن من استرجاع ما ضاع من بين مخالب الزمن، وبرأيي، ورغم ما يبدو علي في بعض الأحيان من يأس، فقد آن لهذا الشعب ان يتباهى بكبريائه . لقد صمد، متخطياً سنين الجمر، وانا واثق، بمقدار ما يتعلق الامر بالإحتلال وتداعياته، ان حساب عده التنازلي قد اقترب، فالعراق ملحمة، وفكرة كونه حرأً ومستقلاً وذا كبرياء ستظل تشغل ذهني وذهن العراقيين ابداً، وقد يمر اليوم بالحالة الأكثر غموضاً، الأكثرعذاباٍ، الاكثر جنوناً، لكنه بين البلدان العربية الأخرى، الأكثر نزاهةً، ألأكثر صدقاً والأكثرإلتزاماً بحريته وديمقراطيته.
* نرى أنك - في بداية قراءتنا لمجموعتك نشيد الكركدن، كذلك في آخر قصيدة قرأناها"هنا بغداد" تهتم بهندسة القصيدة، من حيث الشكل والصورة البصرية، ومن ثم تبحث عن نمط درامي يتصاعد في القصيدة وصولاً إلى نهايتها المقترحة، ماذا تضيف هذه الهندسة إلى شعرية القصيدة؟
- اعتقد اني، منذ البداية، نشأت كشاعر بصري يميل بطبعه الى ان يحول تجاربه الملموسة الى دراما ذهنية، وأتصور أن العناصر التي ذكرتَها آنفاً، ليست هي الأشياء الوحيدة التي تعطي قصيدتي طابع"الهندسة""، بحسب تسميتك . انها احدى نواتج تلاقح الأجناس، عندما تصب ببؤرة واحدة، وهذا، كما أعتقد، بناء تعلمته، دون وعي، من السينما وليس من الكتب، إذ لم تكن في بيتنا مكتبة. السينما، في ذلك الوقت كانت، بالنسبة لي، وربما لجيلي، ملجأ وحيدا، بل وخليقةً بكاملها، قياسا بالقحط الاجتماعي والعمر الضائع والوجود المنقطع على كل المستويات. عبر تلك الشاشة وفي ظلمة القاعة الصغيرة كانت حياة أخرى تمر أمام العين وتتغير . وعبر هذا التغير كنت أنا أيضاً أتغير من الداخل، كنت، بمجسات العقل والعاطفة وبميزان الأشياء التي بدت شبه غامضة يومذاك، أتهجس اوليات الفروق القائمة بين حضارتين، دون ان ادري، مقارناً ومتسائلاً، عن آلآف الاشياء التي تقف في طريقي وتمنعني من الإحساس بالسعادة.
لقد قلبت الصورة دواخلي وحرثتها منذ وقت مبكر، والسينما، كما تعرف، بلورة سحرية، مخيلة يجمع السرد في سياق واحد . ان الكادر السينمائي الواحد غاصٌ بكل اجناس التعبير، وفي داخله نعثر على اجمل المحاصيل، هناك الضوء والظل واللون والصوت والموسيقى والبناء التشكيلي والسردي والإيقاعي و..و..و..وكل هذا يكون له رنين خاص عندما يتفاعل مع مخيلة حساسة تعيش للشعر. ويبدو ان هذه الرؤى العجائبية إختُزنت في اعماقي لتتسرب بعدئذ، وبعفوية، الى الادب، وليس عجباً اذن ان افرح إذ أُحس ان مفهوم الشعر القديم بدأ يتكسر في قصائدي، فما عاد الشعر جنساً ادبياً واحدأ، بل هو الكلي بجماله، الذي يحوي كل الأجناس، وهناك اشياء كثيرة تبدلت فيه: مثلا، الايقاع والشكل وتركيب الجملة والنسق والسياق والتفعيلة واليقين والبلاغة المنبرية، لتحل محلها، بعدئذ، وإنْ بشكل، متقطع علاقات النثر، الكولاج، اللاوعي، الهذيان، التيارات العمودية الحارة والباردة
Paradigme، وكل ما يصنع نسيجا ساخناً للغة ويعطي قيمة للشكل ويؤكد استقلالية النص ويحوي حتى ما هو محتقر من قبل الخائفين من التجريب في المناطق الحرة. مئات العدسات صارت تقوم، بسلطة المونتاج، بالتقطيع المفاجئ، لتحصل، فيما بعد، على معادل ذهني وقد تطورت هذه العناصر داخل إطار الكتابة الستينية، على يد أجيال جديدة وصولاً إلى عصر الأداء الفضائي، اما العنصر الدرامي فقد احتفظ براهنيته . إنه احد اركان حياتنا العراقية، ما دام اليأس لا يقهر. والتحدي هنا، هو الخيار الوحيد المتروك للحيوات الصغيرة المبتلاة بلعنة كلكامش!!
* السينما اذن هي ارضك البكر وطفولتك الأولى، هل هي التي دفعتك الى الشعر؟
- نعم . ويمكن القول انها دفعتني الى البحث عن"شعرية" خاصة لم اعد اجدها، بعد النضوج، لا عند السياب الذي كان يوما ما نموذجي الأسمى والذي في قصائده عثرت، للمرة الأولى، على نور الشعر، ولا عند البياتي الذي شوش مرجعياتي بمرجعيات أكثر قرباً الى تطلعاتي الجديدة . ويبدو ان"الشعر الآخر" كان معي منذ البداية، لكن في حالة كمون، كان شدة نفسية تترقب وعدا غامضاً . ولأني لم أعِ وجوده في البداية إلا بشك غامض، فلم احمله على محمل الجد. لقد تسلل فيما بعد، من عالم الجينات الغامض الى سطح الكتابة.العديد من افراد عائلتنا كانوا شعراء بالسليقة، اخي عبد الامير، مثلاً، كان شاعراً ومغنيا غنى شعره في الاذاعة العراقية، قبل ان تظهر اشرطة التسجيل، وخالي عزيزعلي العملاق كان زجالاً ومغنياً وملحناً في الوقت نفسه وتسجيلاته لا تزال شائعة . وبالنسبة لي فقد بدا الامر مُزاحاً في البداية. كان الايقاع الذي تعلمته في المدرسة يدحرجني اثناء اللعب مع الاطفال ويغرقني في فورات مضحكاته، وكنت اقول ما اتعلمه في المدرسة: النابغة والحطيئة والخنساء والفرزدق وجرير وانا اضحك. احياناً كنت اتصرف واشاكس، واضعا هذا البيت بديلاً لذاك، مستبدلا كلمات الاجداد الصالحين بكلماتي المازحة الصغيرة دون ان يتأثر الوزن ودون ان انتبه انا نفسي الى عبثية ما افعل، بل دون ان ينتبه حتى المدرس الى اني"اكولج"المادة بغريزة لم تعرف، بعد، فن الكولاج، فإذا ما انتبه المدرس الى فعلتي ضحك هو الآخر وهز بوجهي اصبعه مستلطفاً وقائلاً:"ياشيطان"! لكن وجهه يتهجم بعدئذ، وينتحي بي ركناً ليقولً: صادق... اياك اياك والسياسة. ويبدو ان هذه الاحابيل الكولاجية البريئة ساعدتني لاحقاً على" تفكيك" وبناء مقدسات كثيرة واللعب بتراكيبها غير المقدسة، في الشعر والسلوك، وأوصلتني، دون ان ادري، الى دراما الوجود، ولأن كل لعب بالتالي ينتهي الى جد، فقد ظهر"نشيد الكركدن"، متلبساً بدنس تمرداته الأولى. *هل تذكر اسماءً؟
- لا، ليس لهذا ضرورة الآن . الأمر يتعلق بالضمير واخلاق الكتابة. يكفي ان اشير الى ان بعض هؤلاء ما زالوا أحياء . وما كانت مثل هذه القضية"الصغيرة" الخطيئة الوحيدة التي تشير الى خيانات اخلاقية أخذت سعتها في ذلك الزمن، قياساً بجرائم دمرت وازهقت حياة مئات الأرواح . الغدر والوشايات وغريزة اجتثاث الآخر صارت شائعة، وصدام لم يترك لهؤلاء الذين تورطوا معه من خيار غير ان يقبلوا بأن يتخلوا عن انسانيتهم ويكونوا أوغاداً، لكن ذوي مال وسلطة، أو ان يلقى بجثثهم في المزابل؟! أنا اليوم ادعو مثل مانديلا الى التسامح، وسأسعد لو عرفت، الآن في الأقل، وبعد مرور ثلاث سنوات على سقوط الصنم، ان هؤلاء احسوا بالندم وفداحة ما كانوا يفعلون بغيرهم وبأنفسهم، فاعتذروا أو التزموا الصمت في الأقل، بدلاٍ من ان من يتلاعبوا - وهذا ما اعتقد ان البعض يفكر به - بفكرة التصالح النبيل، فيتخذونه طريقاً لارتكاب آثام وآلآم جديدة . ميلان كوندرا خاطب مواطنيه، بعد سقوط النظام في تشيكوسلوفاكيا، مواطنيه الذين حملتهم نياتهم الحسنة والذين ارادوا خيراً لشعوبهم الى ارتكاب الخطأ المميت الى ان يقارنوا انفسهم بـ" اوديب" الذي اختار فقء عينيه، عقاباٍ لنفسه على قتله اباه والزواج بأمه، مع انه لم يكن يعرف هذه الحقيقة يوم ارتكب فعلته . لقد ذهب تسامح ميلان كوندرا الى ما يجب ان تذهب اليه الأخلاق عندما تكون أكثر نزاهة، لم يدعُ الى محاكمة او قتل او ثأر او فقء عين، بل طالب كل ساسة الكون، من لبراليين ومحافظين ورأسماليين وديمقراطيين ويمينيين ويساريين وشيوعيين، بان يواجهوا، بعد سقوط الإنظمة التوليتارية وزوال الحرب الباردة، مسؤوليتهم الاخلاقية ويطهروا انفسهم من عصور القتل والأنانية وقطع الرؤوس وافتراس الغير، وان لا يعتمدوا الايديولوجيا المتعصبة طريقا اوحد، لإن الايديولوجيا رمادية، مهما كانت دقيقة، اما الحياة فخضراء خضراء . وما على المخلصين اليوم الا ان يعتذروا لشعوبهم ولأنفسهم، لكن، بضمير مخلص ونزيه وإلا فليصمتوا، وهذا أضعف الايمان.
* قلت ان اللعب قادك الى الجد ؟ ما يعني الجد هنا؟
- يعني اختراق المحرم والسباحة عكس التيار، فالألعاب البريئة في الشعر قادتني، بالتتابع، الى اختراقات اخرى في الفكر والسياسة والسلوك والاخلاق، قادتني بالتالي الى ارتطامات مدوخة، واستطيع اليوم تفسير مراحل طفولتي ومراهقتي الصعبتين، على ضوء هذه الإرتطامات، فالعوارض التي صادفتني في الشعرهي نفسها التي وقفت في طريقي في الحياة، ومذاك أحسست بأهمية وخطورة تطلباتي الداخلية التي كانت تتعلق بالحرية كغريزة انسانية تحتاج، للدفاع عنها، الى تضحية ووعي ومعرفة لجعلها ممكنة وتخص الجميع. ان التوافقية المتجهمة التي هي فطرة ايديولوجية لكل مجتمع متخلف تفرض عسفاً وطغياناً على كل من يكشف عيوب تخلفها، وهي لذلك تقف بالضد وبوجه متجهم وكاره، تجاه اية محاولة للتغيير .ومثل ابناء جيلي تعين علي ان ادفع الثمن، اعتقالاً ومطاردة وتهجيرا، وما زالت الاجيال التي لحقت تدفع حصصها من هذة الاثمان حتى الآن.
* تقول في الستينيات حدثت تغييرات جذرية في السياسة والحياة الثقافية . كيف تحدد شكل ومضمون التغيير الذي تعنيه؟
- التغييرات التي حدثت في الستينيات شكلت انعطافاً جذريا، لا في العراق فحسب، بل في كل العالم، وكما ان الثلاثينيات في الغرب شهدت انعطافاً في الشعر على يد عزرا باوند وإليوت، شهدت الستينيات شيئاً مماثلاً في العراق. الانعطاف حصل في الأفكار والسياسة والاجتماع والفن والادب، والسؤال كان كونياً: هل الحرية التي تأسست بثمن حربين عالميتين احتوت عدالة اجتماعية في النظامين الجبارين المتصارعين، الرأسمالي المتمثل بأميركا والغرب، والاشتراكي المتمثل بالاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية؟ هل هذه هي حدود الامل الإنساني، أم ان هناك مخرجاً لحلم آخر تنتجه الحركات الثورية في العالم الثالث او في البلدان الاوربية المتقدمة صناعياً، كما توقع ماركس؟ على ايقاع مثل هذه الاسئلة كانت الستينيات في العراق ايضاً، تسجل يومياتها، مستطلعة ومشاركة . النظريات الكبرى كالراسمالية والاشتراكية تعرضت لنقد جذري، وعلى مستوى عالمي ظهر يسار جديد ينتقد الستالينية والتروتسكية واللينينية، بل وظهر من ينتقد الماركسية نفسها، كونها، بعد ان قدمت نقدا فذاً للاقتصاد الرأسمالي في القرن التاسع عشر، عجزت، بعد وفاة ماركس، عن ان تقدم بدائل يتأسس عليها نظام اشتراكي انساني يصلح للقرن العشرين. وفي هذا السياق حفرسؤال روزا لوكسمبرغ الالمانية عن معنى الحرية وحدودها في الهيكليات الفكرية العالمية وفي الجدار اللينيني بشكل خاص، فهل هي حرية تلك التي تكون امتيازا لطبقة واحدة - طبقة البروليتاريا- وهل يصح ان يتمتع بهذه الحرية حزب واحد فقط ؟ ولماذا يجب ان يكون هناك حزب واحد للطبقة العاملة، فإذا صار لها حزبان فلابد من ان يكون أحدهما إنتهازياً ؟ هكذا ناقشت روزا لينين، في وقت مبكر مثل هذه القضايا التي اصبحت اجاباتها اليوم معروفة وبديهية، ولقد تسرب وقع هذه الأسئلة التي تعمقت بتقادم الزمن الى الحياة العربية المتوقفة عند حدود الاستبداد الشرقي والدكتاتوريات القومية، واشترك المثقف النقدي اثناء الفراغ السياسي الحاصل بعد مجيء حكومة عبد الرحمن عارف، وإنْ بخجل، في النقاش الذي اثقلته مداهنات الاحزاب الوطنية، قومية كانت ام يسارية. وفي هذا السياق ظهرت ترجمات لغرامشي والتوسر وشارل بتلهايم وغارودي وماركوزا وسارتر وآخرين كثر، واثناء الحرب الفيتنامية ظهرت حركات معارضة مثل الهبيز والليبيز عارضة تجديد الحياة تحت شعار"اصنع حباً لا حرباً"، كما ظهرت الجيفارية والماوية والفهود السود والألوية الحمراء والمقاومة الفلسطينية وبرزت الحركات الطلابية في فرنسا واوروبا كقوة مؤثرة في اللعبة السياسية وتجرأت حتى على سارتر بقولها: إخرس ياسارتر! .كما برزت شخصيات طلابية مثل جيري روبن في امريكا وطارق علي في بريطانيا ودوتشكه في المانيا وغيرهم. أما في حقل الفن والادب فقد ظهرت مدارس مثل الموجة الجديدة في السينما والرواية الجديدة في الادب ومسرح العبث في المسرح والبوب آرت في التشكيل، ولم يحدث ان تجمعت ارادة تغيير مؤكدة مثل هذه الارادة التي كانت تتوقع ظهورغودو آخر لا يستند الى نظرية يائسة، بل الى فعل ثوري يفتح باب الامل.
كل هذه التغييرات أثرت في العراق كما في البلدان العربية الاخرى، فانشقت الاحزاب وتتالت الانقلابات وتنوعت الافكار وجرت مراجعات لهزائم حزيران وتهافتات الخطاب القومي وكل ما فكك الجسم الاجتماعي وخرب بناه التحتية في حروب متتالية عابثة. وهذا كله انعكس في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وكان طبيعياٌ ان ينعكس ذلك كله في الأدب والفن، وقد افتتح ذلك، في رأيي جواد سليم، خاصة في عمل"نصب الحرية" الذي اوصل الفن، حتى قبل الستينيات، الى بوابة الحداثة، مدخلاً التشكيل العراقي الى ساحة القرن العشرين، لكن الذين اقتحموا ساحة الحداثة وراهنوا عليها كحل اكيد، كانوا، كما هو الحال في كل انحاء العالم، اقلية من خارج المركز، وفي بعض الاحيان تأتي الحداثة من مدن او قرى صغيرة ليس لها ماض او تراث تتعصب له.
يتبع غدا


من المكتبة العربية

معضلة الأصولية الإسلامية


تأليف :هاشم صالح
دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت 2006

الكاتب والمترجم هاشم صالح يتناول في هذا الكتاب أحد المفاهيم التي يسود جدل كبير بشأنها سواء في الأوساط العربية الإسلامية أم في الغرب ألا وهو مفهوم الأصولية. وإزاء الطابع الإشكالي للمفهوم يسلط هاشم صالح من خلال مادة الكتاب الضوء على مواقف عدد من المفكرين العرب والأجانب من هذه الظاهرة لكي تستبين لنا من كل جوانبها إن أمكن، وهي مواقف عرض لها بالتفصيل في تناوله لكتب هذه المجموعة من المفكرين ومن بينهم محمد أركون، مكسيم رودنسون، جيل كيبيل، أوليفييه روا، مالك شبل، وغيرهم، وإن كانت الملحوظة الأساسية التي ترد على المجموعة التي يتناولها صالح أنها تعكس تياراً واحداً في النظر إلى الظاهرة يغيب عنه التنوع.

التسول في المغرب من الآباء إلى الأبناء


تأليف :بسيمة الحقاوي
مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء 2006

النائبة البرلمانية المغربية بسيمة الحقاوي، عضو القطاعات الاجتماعية لمجلس النواب للولاية التشريعية 2002 ـ 2007 وعضو المجلس العالمي للعالمات المسلمات للاتحاد النسائي الإسلامي العالمي، أستاذة علوم التربية صدرت لها مجموعة من الأبحاث والمقالات المنشورة في كتب جماعية حول المرأة والطفل. يعد كتابها هذا "التسول في المغرب من الآباء إلى الأبناء"، الصادر أخيرا عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، أول كتاب يصدر لبسيمة الحقاوي بشكل منفرد وعلى نفقتها الخاصة. وهو خلاصة عمل ميداني يزاوج بين المقاربة النظرية .

العصبية والحكمة


تأليف :سعيد الغانمي
المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2006

سعيد الغانمي، ناقد وكاتب ومترجم عراقي، ترجم إلى اللغة العربية أعمالاً فكرية ونقدية مهمة، مثل: "نظرية التأويل" الخطاب وفائض المعنى، و( الوجود والزمان والسرد) لبول ريكور، و(السيمياء والتأويل) لجورج شولتز، وكتاب (الصانع) للكاتب العالمي الشهير (بورخيس)، وترجم كذلك كتاب (اللغة والخطاب الأدبي). وغيرها. في كتابه الجديد (العصبية والحكمة) يقدم المؤلف قراءة في فكر ابن خلدون، وعلاقة العصبية، التي يعتبرها محور نظريته، بالحكمة المستقاة من التأمل في معنى التاريخ وفلسفته، عارضاً موقف ابن خلدون من الفلسفة وموقع نظريته في العصبية عند الفلاسفة. وتطلب ذلك تبيان موقف ابن خلدون المعلن والضمني من الفلسفة بوصفها تساؤلاً كان يراوده منذ لحظات شبابه، لكنه توصل إلى فلسفته في العصبية في لحظة اعتزاله في قلعة بني سلامة.

غويا في النزوات


تأليف :د. عبد الكريم فرج
دار نينوى ـ دمشق 2006

(النزوات) هي مجموعة من الرسوم الانتقادية الساخرة التي نفّذها الفنان الاسباني غويا بواسطة تقنية الحفر أواخر القرن الثامن عشر، وحظيت باهتمام محلي وعالمي كبيرين، لما تكتنزه من قيم إنسانية وفنية عالية، فتحت آفاقا واسعة أمام الحركة التشكيلية في العالم، وقد اتخذ الفنان د. عبد الكريم فرج من هذه الرسوم موضوعا لكتابه الجديد (غويا في النزوات) الذي صدر حديثا عن دار نينوى بدمشق، والكتاب يبدأ بالتعريف بسيرة غويا الذاتية والفنية، ثم ينتقل للحديث عن ابتكاراته وأسلوبه والأعمال التي أنجزها في مجال الحفر، ومن ثمة يفرد فصوله الاخيرة لتناول الرسوم من حيث الشكل والموضوع وطرائق البناء مع إدراج ملحق مصوّر عن أهم (النزوات).


مـطــــويــات الـمـعـــــارض .. حـــــوامـل مـخـــادعــة .. أم رؤى فـنــيــــــــة ؟

خالد خضير الصالحي
لقد عرف كاسيرر الفن بانه لغة رمزية، وهيمن ذلك التعريف على الدراسات الفنية في القرن العشرين، فكان اخطر نتائج تلك الدعوة، حسبما يؤكد جورج كوبلر، ان استأثرت دراسات المعنى بكل الاهتمام، وتراجع تعريف الفن بكونه نظاما من العلاقات الشكلية، وهو التعريف الاهم برأينا، رغم انه مازال بعيدا عن ما الفه الناس، فقلما يعتقد سوى القلة من المختصين في الفن التشكيلي بافاقه الحداثية ان اللوحة ليست في النهاية الا سطحا مطلياً بالمادة، اي الاقرار (بشيئية اللوحة) ومادية التعبير، وان جل ما يكتبه الرسامون في مطويات معارضهم في العراق ينصب في جانب المعنى بمختلف اتجاهاته، وهذه ، برأينا الخطورة الاولى في تلك الكتابات، كونها تكرس تناول المعنى على حساب متيريالية اللوحة.
وتتمثل الخطورة الثانية في اتجاه تحول كتابات الرسامين في مطويات معارضهم الى ما يؤدي الى بث موجهات قرائية متعمدة كما كانت تنتهي اليه كتابات شاكر حسن ال سعيد، وقد تتحول تلك الى موجهات قرائية دون قصد من الرسامين انفسهم حيث يقوم الكتاب بتناقلها كمسلمات مفروغ منها، كما يحدث في تناقل هؤلاء النقاد الفهم السائد بأن تجربة الرسام فيصل لعيبي لا تعدو ان تكون رسوما ذات طابع محلي لا يشكل سوى امتداد متاخر لجماعة بغداد وطروحاتها غافلين عن الابعاد البلاستيكية في هذه التجربة، وهو ما اخر اكتشاف كوامن تجربة فيصل لعيبي واكتفاء معظم الكتاب عن القشرة الفولكلورية لهذه التجربة وهو الامر الذي اثبتنا تقصيره في احدى محاضراتنا عن هذا الرسام.
ثالثا، لقد سرت قضية اختراع حوامل خادعة
supports سرعان ما يقع فيها الرسام نفسه بطريقة الخداع الذاتي بعد ان يبدأ الكتاب بتناقلها العمياني، فيبدأ الرسام بتكرار ترديدها مما يعرض التجربة الى خطر التناسخ الداخلي الذي يجعلها تدور في فلك حلقة مفرغة تؤدي الى توقف ايقاع التحولات الاسلوبية فيها.
رابعا، لا يمكن نكران وجود رؤية فنية تنظيرية متكاملة لدى بعض الرسامين ممن يحاولون تطويرها من خلال معارضهم التي يقيمونها وينظرون لها في مطويات معارضهم، والامر هنا دقيق ، فيما اذا كانت التنظيرات والتجربة البصرية متساوقة حقا، ام ان ذلك ادعاء ليس الا.
نموذج اول

هناء مال الله وقاع منظومات التعبير الرمزية
بعد ان جسدت تجربة هناء مال الله قضية المثلثات المقلوبة باعتبارها وحدات تدوينية ظهرت في العصر الذي سبق اختراع الكتابة في حضارة وادي الرافدين فشكلت بظهورها في فخاريات سامراء وتل حسونة ، الوحدات التدوينية لذلك العصر بالارتباط مع نظام التربيع انتهت في معرضها الاخير الذي ننشر هنا نماذج منه فطرحت اربع فكرات مهمة هي:
اولا، النظر الى تجربتها باعتبارها تمثل محاولة تجريبية تطرح من خلالها "احد المسارات التي تتنافذ فيها المنظومات: منظومة الاشكال المرسومة مع منظومة الكتابة مع منظومة الاعداد"بهدف الوصول الى استنتاج بأن الرسم "في قاع كل المنظومات الرمزية" وتكون التجربة برمتها "محاولة ادراك للانظمة"، وهي تؤكد ان تجربتها ليست الا محاولة في قراءة بصرية للنظام في فوضى تراكم المنظومات وبالعكس. وتبرر التزامها بنظام شكلي صارم داخل اللوحة (=هندسة اللوحة) بأنها "خطة لاكتشاف مسار ما لنسفه وتفتيته لتجريب مفهوم ممكنات الانظمة فيما يبدو فوضى".
ثانيا، ضمن هذا التعقيد الفكري الذي تطرحه فهي لا تنسى ان اللوحة في النهاية سطح يحوي مادة تعبير فكان سطح اللوحة عندها وتنوع الخامات من "ضرورات توالد الاسئلة وحيرتها"، فيشكل كل عمل مشروعا لعمل تال بما يولد من تساؤلات، فكان "الوجد للمواد الخام والانقياد لطاقتها" مبررا المجازفة للتجريب المستمر في تجربة الرسامة.
ثالثا، لقد بنت الرسامة تجربتها كهندسة خارجية على حد مشترك في قياسات الاعمال وفي وحداتها الصغيرة الانشائية، بشكل يتجه من "اختزال المساحة الهندسية الى الوحدة الهندسية الصغيرة" مؤسسة على العدد (5) الذي يساوي الحرف (هـ)وهو الحرف الاول من اسم الرسامة هناء مال الله.
رابعا، جاءت محاولة هناء مال الله ضمن اتجاهها "لاستئناف حضارتها الشخصية وتاريخها الشخصي بواسطة تاريخها العراقي فظهرت انظمة متحفية تتخلل اعمالها" ، وكانت تلك (الانظمة المتحفية) تظهر حينا بوعي مدرك وحينا بوعي باطني.
لقد كتبنا عن الرسامة هناء مال الله عددا لا بأس به من المقالات وكان السؤال الاكثر الحاحا علينا هو: هل يمكن للمتلقي ان يتوصل الى (الرؤية المدونة) لهناء مال الله من خلال (الرؤيا البصرية) اي ان العمل المنجز على سطح اللوحة عندما يواجه المتلقي عاريا من كل الحوامل التي تقدمها الكتابة؟.

شاكر حسن آل سعيد في تجربة تخطيطات (الحرب و السلام)
وقد قدم شاكر حسن آل سعيد في تجربة تخطيطات (الحرب و السلام) باعتباره مطوية معرض، قدم رؤية متكاملة حول تخطيطاته عبرتواشج اللغوي و التشكيلي، فقد اصدر شاكر حسن آل سعيد ، عام 1986 ، كتاب (الحرب و السلام) حيث أعاد نشر تخطيطات سبق له ان ضمها لمعرض أقامه بنفس العنوان ، مضافا لها مقدمة شكلت رؤية نقدية بحثت ما تضمنه الكتاب من رؤية فنية.
ورغم ان النقد الفني يجب ان يكون معنيا بالمنجز المتحقق (= اللوحة) ، التي تشكل المنطلق الأول والأخير ، وليس تصريحات الفنان
المنظّـر عنه.
اقتباسات من شاكر نفسه حول الموضوع ، إلا أن موقفنا سيكون مختلفا بعض الشيء هنا ، فخلافا لغيره ، يتصف شاكر حسن آل سعيد بكونه واحدا من اكبر صناع الأساطير حول فنه، كما يقول الناقد سهيل سامي نادر، فآل سعيد أستاذ قدير في الرسم والتنظير معا ويمتلك قدرة على تـلبّس حالات متباينة في كل مرة ، مما يجعل تصريحاته تتصف بكونها رؤية نقدية من متلق فعال (= التجلي الثاني لشاكر حسن) يحاول إنجاز خطاب محايث للخطاب الفني (الذي أنجزه في تجليه الأول كرسام) ، وبذلك فهو يهدي الى مداخل مفتاحية تجاه تفهّم تجربته كرسام.
إننا هنا لا نحاول فقط استقراء التجربة الفنية بل ونحاول استقراء متعلقاتها النقدية ، والتي فصل شاكر حسن آل سعيد القول فيها في عدد من المقالات التي كتبها حول هذه التجربة ، وأهمها مقدمة كتاب (الحرب و السلام) والتي أكد فيها انه قد قلب منطق الأشياء حين طبع الكتاب مستبدلا النصوص اللغوية بنصوص مرسومة ، وكأنه يريد من القارئ ان يحاول قراءة الكتاب بحيث تؤدي الرسوم دور (مقاطع) قصيرة تحتوي نصوصا مدونة بأبجديات غير مألوفة هي تفاريق الخط متمثلة بالنقاط والخطوط المتقطعة والوحدات الزخرفية ، فكانت كل (تخطيطة) تعيش وجودها اللغوي من خلال (الأبجديات) التشكيلية ، من خلال تنوع معاني النقطة وتحولاتها الشكلية(= تفاريقها) من أعداد وخطوط وأسهم ونقاط متقاطعة ومتتابعة ،تصنع خطوطا جراء تحركها على بياض الورقة من طرف لآخر ، مؤلفة مكونات متحفه الأركولوجي الشخصي من كتابات و إشارات وأسهم ودوائر وما الى ذلك من لقى وحروف أبجدية مفروطة ، وبذلك فهو يحقق ( تصورا لغويا للموضوع التشكيلي) ، ويساهم في شحذ التمثل للمحورين المرئي (الحسي) و اللامرئي (الذهني) ، وبذلك فهو يحقق ما يسميه (المنطق في الشهود التأملي) حيث يتحقق التفاني ، وهو التعايش بين صور الكتابة وأبجديات الرسم ، أي بين منطقتي الشهودي / اللغوي و الشهودي / التشكيلي ، لتحقيق نوع من الانصهار في بنية العمل الفني.
ان التواشج الذي يحاول شاكر حسن تحقيقه بين الرسم والكتابة هو في حقيقته تواشج بين المؤلفات المرئية والمقروءة معا ، لأنتاج صيغة تحقق الاقتراب من حالة (الكتابة / الرسم) ، أي رفع الحدود بين مناطق استخدام (المواد الإنشائية) اللغوية ، وهو تواشج بين تقنيتين تقنية تتعامل مع التصورات الذهنية وهي القراءة والكتابة وتقنية تتعامل مع الإحساس البصري والأنفعال وهي الرسم بمواد الرسم وتقنياته وأشكاله ، بهدف الحضور في تفاني العالمين الفنيين (منطقة الحياد = التنافذ) ، حيث (لن تعود الأشكال (المشخصنة) أو المجردة سوى نقاط عبور للوصول الى الضفاف النائية
….ص 55 ، انه استبدال للنص المرسوم بالنص اللغوي ، نصوص مدونة بأبجديات مألوفة هي تفاريق الخط التي تحمل معنى الأنقطاعات في بنية الخط الممتدة نقاطا وخطوطا متقطعة ووحدات زخرفية ، وبذلك يلبس الموضوع تصورا لغويا (= الحروف والكلمات …….ص54) ، يمكن ان نعد تجربة الكولاج والحرف العربي جزءاً من هذا التوجه حيث تختزل الأشكال الطبيعية الى أشكال هندسية تشكلها مفردات أبجدية تشكيلية يبني بها منظومته.


قراءة اولى في طريدون
 

تأليف: جابر خليفة جابر

مراجعة: باسم عبد الحميد حمودي
يروي الحكيم (باك) حكاية (طريدون) على شكل كتاب قصصي لم يؤشر تجنيسه مباشرة، اذ هو كتاب في القصة وعنها وخلالها متسلسل بصياغة روائية والكاتب الاساس او الراوي الاول- المؤلف الذي هو جابر خليفة يتدخل حينا ويدع (باك) الراوية الثاني، العليم الثاني يتكلم وهو يؤدي دوره داخل الكتاب القصصي، لـ(يدخلا) سوية (مع اخرين من البحارة) ارض سفينة قديمة فيها منظار مقرب اسطواني وكتب دلالة عتاق (يسمونها رحمانيات) يتأملون ربابنة قدامى بالوان واشكال وتصرفات شتى وخرائط متعددة منها خرائط الاحلام وخارطة للحروف واخرى للكلمات ورابعة للاسماء في (مانشيت الخرائط).
قبل (مانشيت الخرائط) يبدأ فصل (المسلة والمنظار) بلغة السواد والاحتمالات وتقديم (باك) الحكيم الربان الذي يروي جزءا من حكاية الكتاب حيث (القصة لا تصف حقائق محددة بل تخلق صورا لها شريطا من الصور الخيالية) حيث يرويها بعدة طرق -هذا ما يتمناه- مثل حكواتي غير مرئي يدور مع سامعيه في ظلام الحكاية التي تتقاطر خطوطها وتتقلص حتى تغدو حبة لقاح تضم اسرار الحياة كلها وتمر باسواق وسفن وابراج ساعات واحياء بشر وغيرها لتقف عند ارض (طريدون) الخضراء.
وفي (المانشيت الاول) الذي سماه (الغوص) لا تقف عند حدود واضحة لحركة الشخوص فقد جمعهم (باك) يغوصون بالرمل ويحاكون حكاياته ووقفاته وحركاته ليصلوا المركب المختار ليخترقوا طبقات الظلام منقبين في بنية مدينة - سفينة افتراضية صنعها الكاتب لنا على الورق وسماها (طريدون). بعد (مانشيت الخرائط) يبدأ (مانشيت الجدران) حيث يقودهم الغوص - السير الى زقاق قصير مغلق ليدخلوا احدى دوره من باب الكف الحارسة من الحسد حيث تتداخل صورة الارملة بالمباخر والشموع وضياع البحارة وسط عالم من الذهول والجدران التي تتدحرج الاضاحي عندها، وحكاية (مانشيت الجدران) لم تحلل هنا بالكامل فقد تداخلت شخصية القبطان بباك الحكيم وخلفهما خالد جابر المؤلف وسط كابينة القيادة في السفينة- المدينة حيث تفيض المدينة - السفينة بالجدران والاضرحة ويدخل الراوي (الرواة) مع البحارة - الناس ارض (مانشيت الاضرحة) بدءاً من كابينة قيادة السفينة حيث يزدحم الظلام ويتجسد الشكل الاول لسفينة مدينة طريدون الهلامية حيث تختلط الاضرحة الخضر بالساحات والبيوت ويحاذي الراوي الجدران ليصطدم بالارملة التي تقف امام ضريح توقد عنده الشموع ليظهر غواص شاب لعله من صلب الراوي (لا ماض له ولا ذاكرة سواي لذا حملني على اكتافه وشرع يسرد الحكاية باسمي). حيث تتداخل صورة باك بالارملة بالاقواس النارية.
والكائنات المجنحة التي ترتطم بعدسة باك الذي ردد (عندما تستهلك طريدون طاقتها تتحلل الى اصولها الاولى: اضرحة وخرائب ليبدأ (المانشيت الاخير) وعنوانه (الاتقاد) حين يحدق (الكابتن) عبر جهاز الرؤية الليلية بطريدون وهي تنخلق من جديد وتتوزع جدرانا وشناشيل واضرحة وشوارع وسطها زنوج على شكل اشباح وهاجة حيث يتقد كل شيء ليختفي الغواصون، ربما بنار الحكاية ليغرق الراوي مع (طريدون) الغارفة.
في الفصول الاخرى من هذه المادة الدرامية الروائية المعماة سطوحها تتكون فصول (الكابتن شهاب البحر) و(احد البحارة) و(طباخ الباخرة) و(الرسام) لتنتهي الفصول الاول التي وضع لها الكاتب عنوان (فهرست اول) ليبدا القسم الثاني من (طريدون) الذي اسماه المؤلف (فهرست ثان- اقتراح اخر للقراءة) بتشكيلات فصول اخرى هي (الرسام) (تخطيطات) (ظلال) (اضاءات) (المسلة والمنظار) حيث تقدم هيئة (طريدون) وعالمها من وجهات نظر متعددة من قبل المشاركين في هذه اللعبة الفكرية الروائية حيث تتداخل المدينة- البصرة بالسفينة بعالم من الرؤى والانثيالات المفعمة بتجربة ثقافية مكتظة بالكتب والدلالات والتجارب الذهنية بمشكلات الابحار بزيت الرسام باستذكارات الاعدام الفاشية بمفارز فرق الاعدام حيث يفرز المؤلف للشهيد مهدي عبر فصل (الرسام) بنية روائية من طين وفخار وشعر حيث يغتال البدو ارض الزهدي ويدمرون لوحات مهدي واحلامه واحلام نور حيث تظهر (طريدون) الشهيدة من جديد من بين طيات الزيت لتتعملق وسط صياح نور (متى تظهر اللوحة يا مهدي؟) ويصرخ الكابتن (متى يا نور) وتكون طريدون الجديدة مبرأة من كل التواريخ السالفة المظلمة.
تلك هي قراءة اولى لـ(طريدون) التي اصدرها الكتاب جابر خليفة جابر احد مؤسسي (جماعة البصرة في القرن العشرين) الذي اصدر عدة كتب باسماء مستعارة منها محمد ياسر شرف الدين وعمار جعفر وهدى محمد صادق واصدر (غدا الصدر) و(آمنة ومؤمل) و(هدي والطواهر) وغيرها من كتب قصصية للكبار وللصغار وله عدة مخطوطات لم تنشر بعد.


البيئة والتربية الحديثة

 

أ.د.عقيل مهدي يوسف

تتشكل الخبرة الجمالية من اوجه حسية وادراكية وانفعالية ومعرفية واجتماعية وحدد (ياكوبسون) دور الوظيفة الجمالية في (قدرتها على اجتذاب الانتباه نحو (الرسالة) الفنية نفسها (...) فالرسالة الفنية تكون شعرية (أي جمالية) بالقدر الذي يتمكن من تكوينها الخاص من خلاله، او عنده من اجتذاب الانتباه الخاص بالمتلقي الى اصواتها وكلماتها، او تنظيمها الخاص، وليس الى شيء يقع خارجها، كان اندريه جيد يعرف الفن، بأنه (الشيء الوحيد غير الطبيعي في العالم هو العمل الفني) حسب ما يقول.

وتصنف مفهومات الفن، الى فئات نظرية تراه (محاكاة) للطبيعة (ارسطو وفنانو عصر النهضة مثلا) و(تعبيرا) عبر انفعالات الفنان (المدرسة الرومانتيكية في الفن وكروتشه وكولنجوود) و(الابداعية) للجمال في ذاته (مدرسة الفن للفن كما يمثلها اوسكار وايلد).
فالفن (تمثيل) و(تعبير) و(ابداع) في الوقت نفسه.
والاذواق هي تفضيلات ثابتة طويلة الامد لانماط معينة من الفن، وتكون مثلا حسب تعريف (فيليب رسل) في الموسيقى، هذه الانماط معينة، من الموسيقى والمؤلفين الموسيقيين والمؤدين، ظهر مصطلح التذوق
teste في دلالته الفنية في انجلترا خلال القرن الثامن عشر حين عرف (أديسون) هذه الملكة على انها (ملكة الروح) التي تتنبه الى مظاهر الجمال لدى احد المؤلفين، وتستجيب لها بالشعور بالسرور، وتنتبه الى علامات النقص لديه وتستجيب لها من خلال النفور).
وتلعب عوامل عدة كالمتعة والتخيل والتقمص والمسافة النفسية والالفة الشخصية والثقافية والخبرة والمعرفة وسواها، دورها المهم في التشكيل الخاص لعمليات التفضيل الجمالي هذه، لدى الافراد.
كان (جادامير) يعتقد بوجود شروط مسبقة او احكام وتحيزات تقف وراء منظورنا الخاص في (رؤية) للامور، وامكانية حدوث الاندماج بين الافاق المختلفة للمؤلف والمتلقي، او انصهار وجهات النظر او العوالم المحيطة بموضوع معين، في وحدة مفترضة سلفا بين (اللغة) و(التفكير) وتدرك من خلال (الحوار) وكذلك من خلال طرح الاسئلة والاجابة عنها، التي يقوم بها فرد او متلق بطريقة قصدية.
كان (رودلف ارنهايم) يؤكد على عملية الادراك الفني من خلال نظرية الجثتالت، ويقول (من دون ازدهار التعبير البصري لا تستطيع أي ثقافة ان تنشط على نحو ابداعي). والجشطلت
Gestalt المانية تعني الشكل form وتشكيلاً او صياغة configuration والهيئة shape والبنية structure والجوهر essence والطراز manner وغيرها، أي (الصيغة الكلية).
يؤكد ارينهايم ان الوسائط المختلفة للفنون هي اداوت ينقل الفنانون من خلالها (صورهم البصرية) حول الخبرة الانسانية، باشكال مختلفة.
يقول ان (الشعر) يعيدنا الى الكلمات لا الى الرسائل الموجودة فيه فقط، و(التصوير) يركز حساسيتنا على الخط واللون والتكوين وغيرها من الخصائص الشكلية الاخرى، وليس على (التمثيل العقلي) الموجود في اللوحات فقط، وكذلك بالنسبة لفن (السينما) فهو يعيدنا الى الاسلوب الخاص (بالوسيط) وليس الى تأكيد مواضع الاهتمام بالعالم الذي يصوره الفيلم.
والان يظهر (المنطق الرقمي) في (الفن الحديث) من خلال الابتعاد عن الجوانب (التناظرية) او المحاكاتية، فالتجريد يستبعد التفكير بالصورة البصرية وقد ادت عمليات التسطيح الى فقدان الدلالات التقليدية للبعد الثالث (المنظور) واستبعاد فكرة الموضوع والتأكيد على المفهوم العقلي، المفترض غير المرتبط بالمعلومات، او الحقيقة الواقعية او العالم البصري أي عمل تحليلي منطقي ورياضي قبل ان يكون عملا فنيا كما لدى الفنان (جوزيف كوسوث).
اما في جانب الطفولة الخاص بالادراك فقد لخص (كارل بوهلر) الاتي: في عمر (الرابعة) يفضل الاطفال (القصص) التي تتعامل مع النشاطات اليومية العادية، وفي سن (السادسة) يحبون القصص الخاصة بالظواهر الخارقة السحرية وفق الطبيعة وعند سن (الثامنة) يفضلون قصص المغامرات والاثارة، ان للجمالية علاقة ليست مع القصة او الاطفال، بل مع الادب بمفهومه الشامل، الذي ظهرت فيه ملامح تجديدية، ولو اخذنا على سبيل المثال (الشعر العربي) الذي انفتح على التجديد منذ اواخر اربعينيات وبداية خمسينيات القرن العشرين. لوجدنا انه بدا يتخلى تدريجيا عن الشكل ذي الشطرين وعن القافية، وحل محله شعر التفعيلة، الذي حافظ على الوزن والايقاع واسقط القافية وغير الشكل الخارجي ومضمون الشعر الداخلي، واستبدل الموسيقى الخارجية في (الوزن الخليلي) باخرى داخلية (قصيدة النثر) التي تعتمد الكتابة لا الالقاء الشفاهي (السمعي).
ومن المتغيرات الجمالية، ما يخص (المسرح) في ما يسمى بمفهوم (أفق التوقعات) التي استلهمها (ياوس) من (جادامير) واقام عليه اساس جمالية (التلقي) حيث يكون العمل المسرحي مشتملا في وقت واحد على النص بوصفه بنية معطاة، وعلى ادراكه حسيا من قبل القارئ والمشاهد ويتشكل معنى النص في تجدده الدائم اذ ان المتلقي هو الذي يحقق انجاز (بنية العمل) وافق التجربة المفترض في المتلقي. اذ ان المتلقي هو الذي يحقق ذلك، وفي كل مرة تتغير فيها شروط التلقي التاريخية والاجتماعية يتغير المعنى فيها، فالعمل الادبي حتى لحظة صدوره لا يكون ذا جدة مطلقة وسط فراغ. فبواسطة مجموعة الاشارات الظاهرة او الكامنة الاحتمالات الضمنية والخصائص المألوفة، يكون الجمهور مهيأ من قبل ليتلقاه بطريقة ما وهو ما يسمى بأفق القارئ او المشاهد، وهذا ما يختلف حسب مراحل تاريخية مختلفة. ان الاختلاف (الهرمنيوطيقي) بين فهمنا للعمل الفني الان، والفهم الذي كان شائعا في تلك الفترة (كأن تكون فترة شكسبير مثلا) وهذا يضع في دائرة الضوء فكرة التلقي التاريخي للنص، ويستعيد المعنى الموضوعي واللا زمني للعمل الذي يتكون بشكل مستقل.
ويستعرض (ياوس) ثلاثة انماط من المتعة الجمالية هي الخلق او الابداع
poiesis والادراك الحسي aesthesis والتطهير catharsis وتكمن المتعة الجمالية بالنسبة الى النمط الاول في (صياغة العمل كما لو كان عملا خاصا) وفي النمط الثاني في (تحديد ادراك المرء للواقع الخارجي والداخلي) وفي الثالث في (القدرة على تغيير ذهن المتلقي او تحريره) وتؤدي المتعة الجمالية الادراكية الى المتعة الجمالية الابداعية.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة