مواطنون
تبخرت أحلامهم بسبب ارتفاع الاسعار!
تحقيق
وتصوير / شاكر المياح
ما
انفكت احلام صديقي "ابي احمد" تراوده كل ليلة.. تلك
الاحلام التي كان يرويها لي أنى التقنيا.. في الحارة.. او
الزقاق او في المقهى - لم يكن يحلم بان يجد نفسه ذات يوم
رئيساً للدولة او للوزارة او للبرلمان.. ولم يكن مطمعه
الشخصي ان يكون وزيراً او نائباً او مديراً عاماً لانه
أحيل على التقاعد منذ مدة ليست بالقصيرة بعد ان تدرج في
وظيفته حتى وصل إلى درجة معاون مدير عام فتقاعد بعد ان بلغ
عمره اكثر من ستين عاماً ومدة خدمته جاوزت الـ 35 سنة.
صديقي هذا له من الابناء اربعة ومن البنات اثنتان احمد
وانيس متزوجان..
بعض احلام صديقي تتلخص في ان يكون لكل من ابنائه دار وان
يتحرروا من نير الايجار والمؤجر.
مرت ايام لم نلتق خلالها سألت عنه بعض الاصدقاء فقالوا لي
انه مشغول ببناء دار ابنه احمد.. فرحت للخبر وقصدته إلى
حيث مكانه فوجدته ممسكاً بخرطوم المياه ويرش "صبة بتلوا
الاساس" فلما رآني رمى الخرطوم واستقبلني هاشاً باشاً
منفرج الاسارير وقد ارتسمت على محياه ابتسامة عريضة ولمعت
عيناه ببريق لم اعهده فيها من قبل.. صافحني وقال: هنئني
لقد تحقق احد احلامي.. اشترينا قطعة ارض لابني "احمد"
وباشرنا البناء.. وكما ترى فقد اكملنا صب اساساته.
باركت له هذا المشروع ودعوت له بالرفاء والسعادة ومضيت..
ولكني فوجئت به بعد مضي عدة ايام واقفاً امام باب بيتي وقد
اكتسى وجهه بكدرة واضحة فدنوت منه وسألته:
ماذا دهاك يا "ابا احمد" عسى ان يكون خيراً..
فاجابني والحسرة تملأ صدره: لقد مات حلمي السعيد احترق
بجمر اسعار المواد الانشائية وليس بامكاننا بعد الآن اكمال
بيت احمد فالمبلغ الذي ادخرناه لهذا الغرض لم يعد يكفي
لشراء دبلين طابوق اذ وصل سعر الدبل الواحد إلى اكثر من
مليون دينار وسعر طن الاسمنت 200 الف دينار وسيارة الرمل
بـ 350 الف دينار ناهيك عن الحصو وقالب السقف.. هدأت من
روعه وقلت له: لا عليك سنقوم انا واياك بجولة على معامل
الطابوق والكاشي علنا نجد عندهم مبتغانا وباسعار مقبوله
ركبنا السيارة وتوجهنا إلى الكمالية اولاً حيث المنطقة
الصناعية ومعامل الكاشي والشتايكر والبلوك وقبل هذا
التقينا السيد عبد صكب القريشي "صاحب مكتب لبيع المواد
الانشائية وسألناه عن الاسعار وسبب ارتفاعها فقال هناك
اسباب عديدة منها غياب دعم الدولة ففي السابق كنا نتلقى
دعماً من صندوق التنمية لكن هذا الدعم بدأ يتلاشى منذ نشوب
الحرب الايرانية - العراقية وحتى الآن اذ لا وجود له
اطلاقاً. وسبب آخر هو توقف معامل الاسمنت عن العمل التي
كانت تجهزنا بهذه المادة.. ومعروف أن الاسمنت العراقي ذو
جودة ونوعية عاليتين يضاهيان الانتاج العالمي ويضيف:
التاجر العراقي الآن يتعامل مع 28 منشأ الصالح من نتاجها
اربعة فقط.. كما ان العودة إلى الانتاج اليدوي قد اثر على
الانتاج سلبياً بسبب انعدام الطاقة الكهربائية وهذا يستلزم
كثرة في الأيدي العاملة وزيادة في الاجور وكل هذا يتحمله
المستهلك.
نعمل وأسلحتنا
بأيدينا
انتقلنا بعد ذلك إلى معمل كاشي "اللامي" اذ استقبلنا صاحبه
السيد "محمد" بالترحيب وسألناه ذات الاسئلة فقال:
ليس هناك سبب واحد.. بل اسباب عديدة مترابطة ببعضها ارتفاع
اسعار الوقود والنقل والانقطاع المستمر للكهرباء فضلاً عن
منافسة المستورد من دول الجوار والذي هو ليس بمواصفات
المنتوج العراقي المتميز بالجودة والنوعية.
فعلى سبيل المثال: الكاشي الايراني بارتفاع 20 ملم فيما
الكاشي العراقي بارتفاع 40 ملم وهذا يربك عمل العامل ويؤخر
الانجاز فضلاً عن الوضع الامني غير المستقر قاطعه احد
العمال قائلاً:
عند تحميل او تفريغ أية سيارة.. نعمل واسلحتنا بايدينا
خشية الارهابيين وعصابات السلب والنهب والقتل.. ففي كل يوم
نجد جثة او جثتين لقتلى مغدورين ومجهولي الهويات وكما تعلم
ان المنطقة الصناعية واسعة وفيها اكداس كبيرة من المواد
الانشائية تسمح باختفاء هذه العصابات ويسترسل "اللامي" في
حديثه فيقول:
سوق المواد الانشائية في هذه الايام يشهد كساداً كبيراً
نتيجة توقف حركة البناء والاعمار للاسباب التي ذكرتها فيما
اوضح احد سواق مركبات الحمل بان اجور النقل قد ازدادت
اضعافاً لأن سعر برميل "الكاز" وصل إلى 160 الف دينار.. في
السابق كنا نتقاضى 20 - 30 الف دينار كاجور نقل اما الآن
فقد بلغت هذه الاجور إلى 250 ألف دينار للحمل الواحد اضافة
إلى مخاطر الطريق لاسيما ونحن نجلب الحجر من اقليم
كردستان، وقد وقعت عدة حوادث وتعرض بعض السواق إلى القتل
واحراق مركباتهم.
توقف تجهيز
الاسمنت.. احد الاسباب
في معمل شتايكر الشمري: ذكر لنا ابو مازن بان توقف تجهيز
اصحاب المعامل بمادة الاسمنت والاعتماد على المستورد منه
هو احد الاسباب الرئيسة في ارتفاع الاسعار اذا ما علمنا
بانه ليس بالمواصفات المطلوبة، كما ان هناك قضية جديرة
بالاهتمام لانها تتسب في كساد بضاعتنا وبالتالي توقف
الانتاج الذي سينعكس سلباً على العمال الذين يبقون اياماً
طويلة وهم بلا عمل وهذا يزيد في حجم البطالة.. هذه القضية
تكمن في ارغام بعض المقاولين على استيراد الطابوق والاسمنت
من مناشيء محددة عند اجراء التعاقد مع بعض المؤسسات
الرسمية هذا الاجراء يلحق بناء اضراراً مادية كبيرة ونحن
الآن نتعرض إلى خسارات جسيمة، احد العمال اسمه "عباس" عقب
قائلاً:
(المسؤولين شيهمهم اذا آني اشتغل او لا؟ انهم لا يحسون
بمعاناتنا فانا اعمل يوماً واتوقف اياماً واجرتي في اليوم
الواحد عشرة آلاف دينار وسعر قنينة الغاز بـ 15 الف دينار
هذا في احسن الاحوال).
في معمل آخر لم يشأ صاحبه ذكر اسمه قال لنا:
كنا لا نجد صعوبة في الانتاج لأن جميع المواد الداخلة في
صناعة المواد الانشائية متوفرة والمنتوج العراقي مطلوب
محلياً ودولياً لاسيما الدول المجاورة وبعض دول الخليج
لانه معروف بجودته وجماله لأن التربة العراقية جيدة وخاصة
في منطقتي الكفل وكركوك وكذلك هو الحجر العراقي، اما اليوم
فهناك شحة في هذه المواد ويعود السبب في ذلك إلى ارتفاع
اجور النقل والعمل، كانت اجرة الساعة الواحدة للشفل مثلاً
لا تكلف سوى الف او الفي دينار اما الآن فاجرة هذه الساعة
من 20 - 25 الف دينار ناهيك عن تخوف بعض اصحاب مركبات
الحمل فالطرق غير آمنة، ونحن وكما ترى لا نعمل ونقفل ابواب
معاملنا مبكراً حفاظاً على سلامة عمالنا في حين كان العمال
يعملون "بشفتين" احدهما في النهار والباقي في الليل، فيما
علق احد العمال قائلاً:
عمي هسة احنا عطالة بطالة" في الساعة الرابعة مساءً نقفل
عائدين إلى بيوتنا خالين الوفاض.
اين النفط الاسود؟
في منطقة النهروان.. حيث تنتشر معامل الطابوق التقنيا باحد
اصحاب هذه المعامل الذي رفض ذكر اسمه وتصوير جوانب من
معمله خشية استهدافه من قبل الارهابيين حدثنا قائلاً:
من اهم اسباب ارتفاع اسعار الطابوق هو توقف تجهيزنا بمادة
النفط الاسود التي تستخدم في المعامل الامر الذي اضطرنا
إلى شرائه من السوق السوداء وبمبالغ طائلة تصور: وصل سعر
الصهريج الواحد إلى ستة ملايين في الوقت الذي كنا نشتريه
بخمسين الف دينار وكذلك اعتمادنا على العمل اليدوي مع ما
فيه من تعقيدات اذ يتطلب بذل جهود مضنية من قبل العمال
فضلاً عن هدر في المنتوج وتضاعف اجور العمل.. سابقاً كنا
ننتج في اليوم الواحد 600 الف طابوقة في حين يبلغ انتاجنا
الآن 20 الف طابوقة وهذا يسبب اخلالاً في قاعدة العرض
والطلب، في نهاية جولتنا في طريق عودتنا تأوه "ابو حيدر"
وراح يحدثني بصوت متهدج: ها هو ابسط احلامي.. ادنى حقوقي
يتلاشى.. أكثير علي ان يكون لي بيت1.. ولو كان لدي بيت؟
فكيف بي وأنا الآن اشعر بالغربة.. لأن ارض وطني لم تسعني
واولادي.. شاطرته الحزن والالم فانا مثله ينخر في مدخولي
الايجار ويستنزف اكثر من نصفه.
|