شاكر لعيبي
سيلاحظ المُراقِب للمشهد التاريخي في الشعر العراقي الجديد طلوع أسماء
جديدة من مناطق لم تكن تُنتج طيلة قرون إلا تقاليد التخلف
الريفي.
لقد جرى استبعاد الريف، والجنوب العراقي بصفة عامة، من كل فعالية ثقافية
راقية طيلة المرحلة التي هيمنت بها توابع الدولة العثمانية
التي طلع منها العراق الحديث.
أولى البعثات العلمية إلى أوربا وكبار رجال الإدارات والموظفين والمتحكمين
بمفاصل القرار السياسي والمالي والتوظيفي كانوا منتخبين
انتخاباً لا نقبل به اليوم، ويمكن أن يُنعت بشتى التُهَم،
لأنه كان يستثني الشريحةَ الريفية الجنوبية التي اصطلح عليها
في العامية العراقية (بالشروقية)، وهي مفردة مشحونة بالمعاني
السالبة. يكفي المرء أن يطالع كتاب (تاريخ الوزارات
العراقية) لكي يتأكد من هذه الحقيقة البسيطة. إن التقرّب إلى
بعض كبار ملاكي الأراضي والإقطاعيين الجنوبيين، واستخدامهم
أو بعض أبنائهم هنا وهناك أو إدخالهم كأعضاء في البرلمانات
الملكية لم يكن إلا ليؤكد قاعدة النفي وهو يسعى إلى تجميلها.
كان الريف يضرب في التخلّف، وربما كان الاستبعاد ذاك أمراً موضوعياً لا بدّ
منه.
منذ نهايات سنوات السبعينيات تغيّرت الجغرافيا البشرية والثقافية تغيراً
جوهرياً، لم يُسمح له بالمضي بعيداً. وشهد العراق مستجدات
بنيويّة واقتصادية وثقافية، ليس أقلها انتشار التعليم،
وتخرّج أعدادٍ كبيرة من أبناء الريف العراقي من الجامعات ممن
كان آباؤهم من صغار الكسبة والفراشين والمراتب الدنيا في
الجيش والشرطة.
منذ السبعينيات ظل الريف العراقي يطلِّعُ المزيد من الأسماء الأدبية التي
ظلت الشكوك، رغم ذلك، تحوم حول قدراتها بسبب جذورها الريفية
المنظور بريبة إلى عمقها المعرفي وإرثها الثقافي.
كان الستينيون في الشعر العراقي قد ثبَّتوا في المصطلح النقدي الرائج كلمة
(جيل)، لكي تُستخدم المفردة بطريقة غامضة، وهي تصف الأدب
خلال عشر سنوات من الزمن فحسب.
إن الإصرار على استخدام (جيل) بهذا المعنى السائب يستجيب بطريقته الماكرة،
على ما يبدو، لتراتبات وأنساق اجتماعية تنتمي لروح الريف
القديم القابع في مكان ما في العراق الحديث، أكثر مما يجيب
على شروط إبداعية وأوصاف نقدية من طبيعة تحليلية.
هنا مناسبة للربط بين استخدام الكلمة (جيل) وبين المسكوت عنه في التاريخ
الاجتماعي للعراق الحديث: (الشروقية).
فلنقل في البدء البداهات المغيَّبة أو المعَّماة: لا يمكن بروز سمات شعرية
جديدة وتبلور تجارب فكرية وجمالية متميّزة عما سبق خلال (عشر
سنوات) سريعة من الزمن. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ليس من
طبائع الأشياء حدوث قطيعة معرفية وجمالية وأسلوبية ولغوية
بين الأجيال. بدلاً من ذلك توجد، في حقيقة الأمر، جسورٌ من
التواصل التي يمرّر عبرها الجيل الأقدم معارفه وخبراته
الجمالية إلى الجيل الأحدث.
إن تعريف جيل نفسه يعاني من خلل كبير أو أنه لم يُعَرَف البتة في الثقافة
العراقية والعربية المعاصرة.
عندما يجري الحديث في الثقافات الأوربية والأمريكية وفي الثقافة الأمريكية
اللاتينية عن جيل من الأجيال، يتعلق الأمر (بحقبة وتجربة) في
آن واحد. (حقبةٌ) تمتد دون أدنى شك لفترة أطول من السنوات
العشر العراقية، وتنطوي على (تجربة) ذات سمات مشتركة لسببٍ
من الأسباب. هكذا يجري الحديث عن جيل ما بعد الحرب العالمية
مثلاً في أوربا.
السؤال المطروح، عرضاً هنا: هل نحن في الشعر الصافي عندما نستخدم بإلحاح
مصطلح (جيل) أم نحن في علم الاجتماع الصافي؟ ربما ستجيب
الصفحات التالية على السؤال.
في القاموس الفرنسي (لاروس الصغير) يُعرَّف الجيلُ بأنه: (فسحة من الزمن
تُقدَّر بثلاثين سنة تقريباً تفصل بين سلالتين).
من وجهة نظر علم الإناسة (الإثنوغرافيا) يعرّف الجيل كذلك بأنه (مجموعة من
الأشخاص من الفئة العمرية
classe d'âge
نفسها). وهذه من دون شك لا تقع في سنوات عشر.
أما علماء الاجتماع فإنهم يفرّقون تفريقاً حاسماً بين مفهوم الجيل في
المجتمعات المسماة بدائية، المتأسسة على سُلم هرميّ، وبين
مفهومه في المجتمعات التي لا تقوم على تقسيم تراتبي وهي
المجتمعات الحديثة. بالنسبة للمجتمعات الأولى فأن الفئات
العمرية المختلفة تتشكل من أولئك الذين استلهموا، في فترة
زمنية متقاربة، معارفهم عن الأسبقين. كل مجتمع بدائي يمكن أن
يتكون من عشرة أجيال مثلاً. وكل جيل يمتلك بعض الخصائص
المميِّزة، ويلعب دورا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً
محدداً، ويقوم كذلك بواجبات محددة. وإلى جانب أنظمة القرابة
والتتابع السلالي فإن تقسيم المجتمع إلى أجيال يشكّل في
النهاية جميع التفريعات والتراتبات الاجتماعية التي تُفَعّل
مجموع النظام الاجتما-اقتصادي والسياسي.
أما في المجتمعات التي لا تقوم على الترتيب الهرمي، أي الحديثة، فأن مفهوم
الجيل قد حُدد بوصفه فسحة من الزمن بين درجتين من التتابع
السلالي، أي بين 25 إلى 30 سنة. وقد قاد التطور السريع
للمجتمع الصناعي إلى تقليص هذه المدة. إن الجيل يُمثّل، في
الواقع، أولئك الأفراد من ذوي الخصائص والمراجع المشتركة
الذين يموضعون أنفسهم وفق ذلك سواءً بالنسبة إلى التتابع
التاريخي أو إلى نظام القيم .
حتى بالنسبة للمفهوم اللغوي والمعياري العربي المحض، فأن الجيل هو ثلث قرن،
أي 30 سنة (انظر مثلاً المعجم الوسيط).
أين نحن من هذين المجتمعين؟ إننا في الأول منهما.
يتابع (الجيل) في المفهوم العراقي تراتبات اجتماعية وعائلية نعرفها جميعاً
بحيث أن الكثير منا ما زالوا يحملون ألقابهم العشائرية دليل
انتماء واعتزاز. وفي هذا السياق من التراتب الهرمي الصارخ،
هناك مجموعة من الأعراف التي تذهب مجرى القانون غير
المدوَّن، منها احترام الرجل الأكبر سناً. إن من يكبرك في
العائلة عشر سنوات ينبغي عليك أن تحترمه وتصغي إليه على أساس
أن من (هو أكبر منك بيوم فهو يتفوق عليك بتجربة سنة) كما
يقال في المثل العامي السائر. ويبدو أن هذا المثل المنطوي
على (مفهوم) محدّد قد مرق إلى الثقافة العراقية مثلما تبرهن
لنا التحقيبات العشرية للأجيال الشعرية، من بين أمور أخرى لا
تقل أهميةً.
إذّا ما وَجَدَ مفهوم الجيل العشري رواجاً لدى شرائح واسعة من المثقفين
العراقيين، فلأن جزءاً حيوياً من ثقافتنا يستمد معارفه من
مفهومات عُرْفِيّة لم تجرِ مناقشتها تحت ضوء الشمس، وطُمرتْ.
نلاحظ هنا، كما لاحظنا أكثر من مرة، أن التحقيب العشري يجد له أنصاراً
وروّاداً ومتحمسين في مجتمعين عربيين بشكل خاص، العراقيّ
والمصريّ، الأول بسبب توغّل القبيلة في ثناياه، والثاني بسبب
توطّن العائلة في عروقه وهي من دون شك تلعب دور القبيلة وإنْ
تحت شروط أخرى (لا أتكلم عن صعيد مصر حيث الحضور راسخ لعرف
القبيلة).
هكذا إذن نستطيع الاستنتاج أن المجتمعات الريفية (والفئات المسماة عندنا
بالشروقية) تستجيب لمفهومة الجيل أكثر من غيرها.
يتوجب علينا منذ اللحظة أن نضع تصوّراً مختلفاً لفكرة الأجيال هذه.
الأجيال بالمعنى الذي كنا نقوله عن (حقبة وتجربة)، هو أمر سيسمح بالاستعاضة
عن فكرة (الأجيال) المُعَشْرَنة بمفهومة (التيارات).
شهد الشعر العراقي الحديث ثلاثة تيارات أساسية ذات روافد وظلال متعددة.
الأول منهما يمثله الروّاد والخمسينيون في آن، بينما يمثـّل
الثاني (مجمل) الشعر العراقي في مرحلة الستينيات، ويمتد
التيار الثالث من منتصف السبعينيات حتى نهاية القرن العشرين.
على أن التعايش الزمني والإبداعي ظل يحكم جميع هذه التيارات
من دون توقّف.
لنتأمل في هذه المرحلة من التحليل التالي: إن أدباء العراق الستينيين هم من
أسّس، جوهرياً، لفكرة الأجيال. وهذا ليس أهمّ استنتاج في
الموضوع، فهم أسّسوا، إضافة لذلك، لفكرة (القطيعة) بين
الأجيال. يتوجب فحص فرضياتهم بدقة، وخلافاً لها علينا إعادة
الاعتبار لفكرة (الاستمرارية) بدلاً من فكرة القطيعة. إن
جدلاً أخوياً حاسماً مع طروحات الستينيين هو وحده الكفيل
بالانتهاء من فكرة التقسيم العشري والخروج بالتالي بتصورات
أكثر رهافة عن فترات تطور الشعر العراقي الحديث .
لنتوقف لبرهة كذلك أمام السبعينيات، ولنقل إن (مرحلة) كاملة رفع الستار
عنها بدءاً من السبعينيات وامتدت إلى يومنا هذا في الشعر
العراقي الحديث.
لقد شهدت فترة السبعينات (وليس جيل السبعينات) تغيّرات عنيفة من نمطٍ
سياسيٍّ واجتماعيّ وثقافيّ مثل: زيارة السادات إلى إسرائيل،
والطفرة (البترودولارية)، استتباب حزبين قوميين في سوريا
والعراق، الحرب الأهلية اللبنانية، الهجرة الواسعة للثقافة
العربية إلى أوروبا، توسع وانتشار التعليم، حضور المرأة
البارز في الفعاليات الثقافية العربية، توسّع مخطط المدينة
العربية واكتنازها بفعاليات جديدة لم تكن تشابه إلا قليلاً
ذات المدينة في العشرينيات أو الأربعينيات. التفاصيل
|