الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

(الشروقية) والشعر العراقي الحديث: لماذا تتشبث المجتمعات الريفية بمفهوم (الجيل)؟ (محاولة في سوسيولوجيا الثقافة)

شاكر لعيبي

سيلاحظ المُراقِب للمشهد التاريخي في الشعر العراقي الجديد طلوع أسماء جديدة من مناطق لم تكن تُنتج طيلة قرون إلا تقاليد التخلف الريفي.

لقد جرى استبعاد الريف، والجنوب العراقي بصفة عامة، من كل فعالية ثقافية راقية طيلة المرحلة التي هيمنت بها توابع الدولة العثمانية التي طلع منها العراق الحديث.

أولى البعثات العلمية إلى أوربا وكبار رجال الإدارات والموظفين والمتحكمين بمفاصل القرار السياسي والمالي والتوظيفي كانوا منتخبين انتخاباً لا نقبل به اليوم، ويمكن أن يُنعت بشتى التُهَم، لأنه كان يستثني الشريحةَ الريفية الجنوبية التي اصطلح عليها في العامية العراقية (بالشروقية)، وهي مفردة مشحونة بالمعاني السالبة. يكفي المرء أن يطالع كتاب (تاريخ الوزارات العراقية) لكي يتأكد من هذه الحقيقة البسيطة. إن التقرّب إلى بعض كبار ملاكي الأراضي والإقطاعيين الجنوبيين، واستخدامهم أو بعض أبنائهم هنا وهناك أو إدخالهم كأعضاء في البرلمانات الملكية لم يكن إلا ليؤكد قاعدة النفي وهو يسعى إلى تجميلها.

كان الريف يضرب في التخلّف، وربما كان الاستبعاد ذاك أمراً موضوعياً لا بدّ منه.

منذ نهايات سنوات السبعينيات تغيّرت الجغرافيا البشرية والثقافية تغيراً جوهرياً، لم يُسمح له بالمضي بعيداً. وشهد العراق مستجدات بنيويّة واقتصادية وثقافية، ليس أقلها انتشار التعليم، وتخرّج أعدادٍ كبيرة من أبناء الريف العراقي من الجامعات ممن كان آباؤهم من صغار الكسبة والفراشين والمراتب الدنيا في الجيش والشرطة.

منذ السبعينيات ظل الريف العراقي يطلِّعُ المزيد من الأسماء الأدبية التي ظلت الشكوك، رغم ذلك، تحوم حول قدراتها بسبب جذورها الريفية المنظور بريبة إلى عمقها المعرفي وإرثها الثقافي.

كان الستينيون في الشعر العراقي قد ثبَّتوا في المصطلح النقدي الرائج كلمة (جيل)، لكي تُستخدم المفردة بطريقة غامضة، وهي تصف الأدب خلال عشر سنوات من الزمن فحسب.

إن الإصرار على استخدام (جيل) بهذا المعنى السائب يستجيب بطريقته الماكرة، على ما يبدو، لتراتبات وأنساق اجتماعية تنتمي لروح الريف القديم القابع في مكان ما في العراق الحديث، أكثر مما يجيب على شروط إبداعية وأوصاف نقدية من طبيعة تحليلية.

هنا مناسبة للربط بين استخدام الكلمة (جيل) وبين المسكوت عنه في التاريخ الاجتماعي للعراق الحديث: (الشروقية).

فلنقل في البدء البداهات المغيَّبة أو المعَّماة: لا يمكن بروز سمات شعرية جديدة وتبلور تجارب فكرية وجمالية متميّزة عما سبق خلال (عشر سنوات) سريعة من الزمن. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ليس من طبائع الأشياء حدوث قطيعة معرفية وجمالية وأسلوبية ولغوية بين الأجيال. بدلاً من ذلك توجد، في حقيقة الأمر، جسورٌ من التواصل التي يمرّر عبرها الجيل الأقدم معارفه وخبراته الجمالية إلى الجيل الأحدث.

إن تعريف جيل نفسه يعاني من خلل كبير أو أنه لم يُعَرَف البتة في الثقافة العراقية والعربية المعاصرة.

عندما يجري الحديث في الثقافات الأوربية والأمريكية وفي الثقافة الأمريكية اللاتينية عن جيل من الأجيال، يتعلق الأمر (بحقبة وتجربة) في آن واحد. (حقبةٌ) تمتد دون أدنى شك لفترة أطول من السنوات العشر العراقية، وتنطوي على (تجربة) ذات سمات مشتركة لسببٍ من الأسباب. هكذا يجري الحديث عن جيل ما بعد الحرب العالمية مثلاً في أوربا.

السؤال المطروح، عرضاً هنا: هل نحن في الشعر الصافي عندما نستخدم بإلحاح مصطلح (جيل) أم نحن في علم الاجتماع الصافي؟ ربما ستجيب الصفحات التالية على السؤال.

في القاموس الفرنسي (لاروس الصغير) يُعرَّف الجيلُ بأنه: (فسحة من الزمن تُقدَّر بثلاثين سنة تقريباً تفصل بين سلالتين).

من وجهة نظر علم الإناسة (الإثنوغرافيا) يعرّف الجيل كذلك بأنه (مجموعة من الأشخاص من الفئة العمرية  classe d'âge نفسها). وهذه من دون شك لا تقع في سنوات عشر.

أما علماء الاجتماع فإنهم يفرّقون تفريقاً حاسماً بين مفهوم الجيل في المجتمعات المسماة بدائية، المتأسسة على سُلم هرميّ، وبين مفهومه في المجتمعات التي لا تقوم على تقسيم تراتبي وهي المجتمعات الحديثة. بالنسبة للمجتمعات الأولى فأن الفئات العمرية المختلفة تتشكل من أولئك الذين استلهموا، في فترة زمنية متقاربة، معارفهم عن الأسبقين. كل مجتمع بدائي يمكن أن يتكون من عشرة أجيال مثلاً. وكل جيل يمتلك بعض الخصائص المميِّزة، ويلعب دورا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً محدداً، ويقوم كذلك بواجبات محددة. وإلى جانب أنظمة القرابة والتتابع السلالي فإن تقسيم المجتمع إلى أجيال يشكّل في النهاية جميع التفريعات والتراتبات الاجتماعية التي تُفَعّل مجموع النظام الاجتما-اقتصادي والسياسي.

أما في المجتمعات التي لا تقوم على الترتيب الهرمي، أي الحديثة، فأن مفهوم الجيل قد حُدد بوصفه فسحة من الزمن بين درجتين من التتابع السلالي، أي بين 25 إلى 30 سنة. وقد قاد التطور السريع للمجتمع الصناعي إلى تقليص هذه المدة. إن الجيل يُمثّل، في الواقع، أولئك الأفراد من ذوي الخصائص والمراجع المشتركة الذين يموضعون أنفسهم وفق ذلك سواءً بالنسبة إلى التتابع التاريخي أو إلى نظام القيم .

حتى بالنسبة للمفهوم اللغوي والمعياري العربي المحض، فأن الجيل هو ثلث قرن، أي 30 سنة (انظر مثلاً المعجم الوسيط).

أين نحن من هذين المجتمعين؟ إننا في الأول منهما.

يتابع (الجيل) في المفهوم العراقي تراتبات اجتماعية وعائلية نعرفها جميعاً بحيث أن الكثير منا ما زالوا يحملون ألقابهم العشائرية دليل انتماء واعتزاز. وفي هذا السياق من التراتب الهرمي الصارخ، هناك مجموعة من الأعراف التي تذهب مجرى القانون غير المدوَّن، منها احترام الرجل الأكبر سناً. إن من يكبرك في العائلة عشر سنوات ينبغي عليك أن تحترمه وتصغي إليه على أساس أن من (هو أكبر منك بيوم فهو يتفوق عليك بتجربة سنة) كما يقال في المثل العامي السائر. ويبدو أن هذا المثل المنطوي على (مفهوم) محدّد قد مرق إلى الثقافة العراقية مثلما تبرهن لنا التحقيبات العشرية للأجيال الشعرية، من بين أمور أخرى لا تقل أهميةً.

إذّا ما وَجَدَ مفهوم الجيل العشري رواجاً لدى شرائح واسعة من المثقفين العراقيين، فلأن جزءاً حيوياً من ثقافتنا يستمد معارفه من مفهومات عُرْفِيّة لم تجرِ مناقشتها تحت ضوء الشمس، وطُمرتْ.

نلاحظ هنا، كما لاحظنا أكثر من مرة، أن التحقيب العشري يجد له أنصاراً وروّاداً ومتحمسين في مجتمعين عربيين بشكل خاص، العراقيّ والمصريّ، الأول بسبب توغّل القبيلة في ثناياه، والثاني بسبب توطّن العائلة في عروقه وهي من دون شك تلعب دور القبيلة وإنْ تحت شروط أخرى (لا أتكلم عن صعيد مصر حيث الحضور راسخ لعرف القبيلة).

هكذا إذن نستطيع الاستنتاج أن المجتمعات الريفية (والفئات المسماة عندنا بالشروقية) تستجيب لمفهومة الجيل أكثر من غيرها.

يتوجب علينا منذ اللحظة أن نضع تصوّراً مختلفاً لفكرة الأجيال هذه.

الأجيال بالمعنى الذي كنا نقوله عن (حقبة وتجربة)، هو أمر سيسمح بالاستعاضة عن فكرة (الأجيال) المُعَشْرَنة بمفهومة (التيارات).

شهد الشعر العراقي الحديث ثلاثة تيارات أساسية ذات روافد وظلال متعددة. الأول منهما يمثله الروّاد والخمسينيون  في آن، بينما يمثـّل الثاني (مجمل) الشعر العراقي في مرحلة الستينيات، ويمتد التيار الثالث من منتصف السبعينيات حتى نهاية القرن العشرين. على أن التعايش الزمني والإبداعي ظل يحكم جميع هذه التيارات من دون توقّف.

لنتأمل في هذه المرحلة من التحليل التالي: إن أدباء العراق الستينيين هم من أسّس، جوهرياً، لفكرة الأجيال. وهذا ليس أهمّ استنتاج في الموضوع، فهم أسّسوا، إضافة لذلك، لفكرة (القطيعة) بين الأجيال. يتوجب فحص فرضياتهم بدقة، وخلافاً لها علينا إعادة الاعتبار لفكرة (الاستمرارية) بدلاً من فكرة القطيعة. إن جدلاً أخوياً حاسماً مع طروحات الستينيين هو وحده الكفيل بالانتهاء من فكرة التقسيم العشري والخروج بالتالي بتصورات أكثر رهافة عن فترات تطور الشعر العراقي الحديث .

لنتوقف لبرهة كذلك أمام السبعينيات، ولنقل إن (مرحلة) كاملة رفع الستار عنها بدءاً من السبعينيات وامتدت إلى يومنا هذا في الشعر العراقي الحديث.

لقد شهدت فترة السبعينات (وليس جيل السبعينات) تغيّرات عنيفة من نمطٍ سياسيٍّ واجتماعيّ وثقافيّ مثل: زيارة السادات إلى إسرائيل، والطفرة (البترودولارية)، استتباب حزبين قوميين في سوريا والعراق، الحرب الأهلية اللبنانية، الهجرة الواسعة للثقافة العربية إلى أوروبا، توسع وانتشار التعليم، حضور المرأة البارز في الفعاليات الثقافية العربية، توسّع مخطط المدينة العربية واكتنازها بفعاليات جديدة لم تكن تشابه إلا قليلاً ذات المدينة في العشرينيات أو الأربعينيات. التفاصيل


 مُلتقى أصيلة لسينما جنوب-جنوب: تزايد حضور المخرجات في المشهد السينمائيّ والمرأة شخصيةٌ رئيسّةٌ في أفلام المخرجين

صلاح السرميني -أصيلة

قبل أن أزور (أصيلة) بمناسبة المُلتقى الأول لسينما جنوب-جنوب خلال الفترة من 23  إلى 29 تموز، كنتُ أسمع، وأقرأ عنها، ولا يزال كتاب (شاكر نوري) الذي إحتفى بهذه المدينة عالقاً في ذهني.

ولكنّ السينما تأخرّت كثيراً عن مواسمها الثقافية الدولية التي بدأت قبل ستة وعشرين عاماً، ولاينكر السيد (محمد بن عيسى) أمين عام مؤسّسة مُنتدى أصيلة مشروعيّة السؤال، ولكنه يُجيب فوراً : بأنّ (أصيلة) إستقبلت مخرجين، ومنتجين، وممثلين، وعاملين في المجاليّن السينمائيّ والتلفزيونيّ من خلال الندوات التي شهدتها السنوات السابقة.

ويبدو أنّ الشروط اللازمة التي يجب توفيرها كي يبدأ المُلتقى السينمائيّ حاملاً معه بذور النجاح والإنطلاق قد تحققت في عام2004.  ومن ثمّ، فإنّ إنطلاقة مُلتقى أصيلة الأول لسينما جنوب-جنوب تندرج في إطار هذه الإستمراريّة من أجل المستقبل بهدف توسيع المحيط الإبداعيّ لنشاطاتها، ومهما تكن الأسباب، فإنّ بدايته المُتأخرة أفضل بكثيرٍ من أن يبقى مشروعاً معلقاً، وإنتظار سنواتٍ أخرى.

والحقيقة، أنّ (مُلتقى سينما جنوب-جنوب) ليس الأول من نوعه في العالم، وليس ذلك إنتقاصاً من أهميته، ولكنّه إمتدادٌ لمهرجاناتٍ مُتخصصة تتوزّع في أرجاء العالم، وتتمحور مسابقاتها الرسمية، وفعاليّاتها حول اللقاء مابين سينمات الجنوب، أو الجنوب مع الشمال، أو سينمات حوض البحر المتوسّط، وكلّها تُراهن على تفعيل التواصل، والحوار، وتبادل الخبرات، والتجارب مابين النخبة المُفكرة، والمُبدعة في العالم الثالث، وغيرهم في العالم الأول. وبعضها يُعقد في: أنجيه، نانت، جزيرة غوادلوب، فيزول، دوفيل، باستيّا، ديجون، لونيل، مونبليّيه، جيندو (فرنسا)، ميلانو(إيطاليا)، فريبورغ(سويسرا)، برادفورد (المملكة المتحدة)، توبينغين (ألمانيا)، فالانسيا(إسبانيا)، قرطاج(تونس)، ولكن، ربما تكون (المغرب) هي الدولة العربية الوحيدة الأكثر إهتماماً بالمهرجانات السينمائية التي تحتفي بها مدنها الكبيرة والصغيرة : (طنجة، أصيلة، الرباط، تطوان، خريبكة، مراكش، الدار البيضاء، أغادير، الجديدة، صلالة) وفي بعض الأحيان، أقرأ بدهشةٍ تذّمر البعض(ومنهم مثقفين، ونقاد متخصصين) وتساؤلاتهم عن جدوى، وأهمية، وأهداف مهرجاناتٍ سينمائية تُقام في هذا البلد، أو ذاك، حتى أنها وصلت إلى بلدانٍ تحبو في إنتاجاتها السينمائية (سلطنة عُمان، الكويت، الإمارات العربية المُتحدّة، البحرين)، أو تُجاهد في إنتاج فيلمٍ أو إثنيّن في العام(سورية)، أو يتناقص الإنتاج السينمائيّ فيها سنةً بعد أخرى(مصر)، أو تعتمد غالبية سينماها على الإنتاج المُشترك(المغرب، الجزائر، تونس)، أو تستعيد أنفاسها بعد حربٍ طويلة(لبنان)، أو تستعدّ لها وسط الحرب (العراق)، أو تُقاوم إحتلالاً طويلاً (فلسطين)، أو تتداخل تظاهراتها السينمائية مع أخرى أدبية، وشعرية، وموسيقيّة (الأردن)، أو ليس فيها أيّ مهرجانٍ سينمائيٍّ بعد(السودان، اليمن، الجماهيرية الليبية، موريتانيا).

وأبسط الإجابات عن ذلك التذمر، ،تلك التساؤلات : بأنه مهما تضاعف عدد هذه المهرجانات، يبقى متواضعاً بالمقارنة مع مايحدث في أوروبا، وخاصةً فرنسا. وليس من المهم أن يخلو هذا البلد، أو ذاك من الإنتاج السينمائيّ كي نحكم على الثقافة السينمائية بالإعدام.

وإذا كان الجمهور المحليّ يفتقد سينما وطنية في بلده، فمن العبث أن نحرمه أيضاً من مشاهداتٍ سنوية، أو موسمية لأفلامٍ يقرأ، أويسمع عنها في وسائل الإعلام المُختلفة، ولن تصله بدون هذه المناسبات. ومن المفيد دائماً توطيد علاقته مع صالات السينما، كي يشعر بالفوارق الكبيرة مع التلفزيون. بالنسبة لي، فقد أحببت السينما، وأدمنتُ مشاهدتها قبل أن أكتب عنها، وقبل أن أُنجز لقطةً واحدة منها، وقرأتُ عن مخرجين، وجمالياتٍ، وأفلاماً لم أكن أعرفها بعد، وتسنى لي مشاهدتها-كلها، أو الكثير منها- لاحقاً.

بمعنى، لن نترك الجمهور ينتظر تطور سينماه الوطنية، وإزدهارها كي نمنحه إمكانية مشاهدة أفلامٍ ربما تُثير فضوله، وتجعله يتساءل عن موقعها على الخريطة السينمائية العالمية، بالأضافة إلى إحتمال ظهور أعدادٍ ممن سوف يعشقونها إلى حدّ الرغبة بأن تكون مهنةً لهم.

وهكذا، من الطبيعيّ أن نحتفي بكلّ مبادرة جديدة تنفتح على السينما إنتاجاً، وتوزيعاً، وعرضاً، ونشراً للثقافة السينمائية، وتبادل خبراتٍ وتجارب، وحتى اللقاءات الإحترافية في أبسط صورها.

وكما يقول (غسّان عبد الخالق) مدير المُلتقى: إنّ تزايد عدد التظاهرات السينمائية، لايعني تراكماً كميّاً، مثلما يمكن أن يعتقد البعض، بل يندرج في إطار التراكم النوعيّ الذي تُمثله كلّ تظاهرة، وماتقدمه من إنفتاحٍ على آفاقٍ ثقافية جديدة، فالمُلتقيّات السينمائية ليست إستعراضاً، بل عروضاً تصقل الذائقة الفنية والثقافية للمشاهدين، وتُوسّع أفق الإنفتاح على الثقافات الأخرى،

وهي كذلك وسيلةً للإقتراب من جمهورٍ جديدٍ يصعب عليه متابعة التظاهرات الأخرى عن قرب، وفرصة للسينمائيّين للإقتراب أيضاً من سينمائيّين آخرين من أنحاء العالم، وبخاصةً من دول الجنوب، حيث تصبح هذه العلاقة الأفقية باباً جديداً يُضاف إلى العلاقة القائمة بين الشمال والجنوب، ولربما يُشكّل ذلك مفتاحاً لإنطلاقاتٍ سينمائية، وثقافية جديدة.

وفيما يتعلّق بالمُلتقى الأول، فإنني لن أشغل نفسي بما يقصده (غسّان عبد الخالق) من تسمية (سينما جنوب - جنوب)، وماهي القواسم المُشتركة، أو المُتعارضة بين الأفلام المُشاركة (داخل المُسابقة، وخارجها)، والقادمة من (إيران، اليمن، مصر، أذربيجان، الإمارات العربية المُتحدة، الصين، لبنان، المغرب، جورجيّا، سورية، نيجيريا، قرغيزيا، كازاخستان، الهند، البحرين، والأرجنتين)، بقدر إهتمامي بمشاهدة الأفلام نفسها.

ولكن مايُلفت الإنتباه في هذه التظاهرة، أو تلك، (وفي المشهد السينمائيّ العالميّ عموماً)، هو الجمع بين الأفلام المُنجزة سينمائيّاً، وتلك الفيديويّة، بدون التذمر السابق، أو المنافسة العلنية، أو المُبطّنة مابين الوسيطيّن، وبدون الإحساس بتعالي، أو دونية وسيطٍ على آخر، ومن ثمّ، الإقتناع بأنّ الفيديو إمتدادٌ تقنيٌّ للسينما.

ولكن، يبدو أنّ المخرجين العرب لم يستثمروا بعد الوسيط الجديد، وإمكانياته الإبداعية المُختلفة عن السينما، وإرتضوا بالفيديو بديلاً إقتصادياً فقط، وليس فنياً، مما جعل الأفلام المُنجزة فيديويّاً تعتمد على الموروث الجماليّ للسينما، بدون أن تُضيف إليه، أو تُطوره. وعلى الرغم من هذا القصور الواضح للسينما العربية في نظرتها للوسائل التقنية الجديدة، فقد منح الفيديو إستقلاليةً ماكان للمُبدعين تحقيقها قبل ذلك مع السينما الباهظة التكاليف، وهكذا، فقد بدأنا نشاهد يوماً بعد يوم أفلاماً طويلةً وقصيرةً، روائيةً وتسجيليةً، أُنجزت بإستقلاليةٍ تامّة عن المُؤسّسات الرسمية، وغالباً بتمويلٍ ذاتيّ.

كما أصبح من الطبيعي أنّ تتنافس هذه الأفلام جنباً إلى جنبٍ مع أفلامٍ أنتجتها المؤسّسات الحكومية، أو الشركات الكبرى، إلى جانب أفلام من إنتاجٍ مشترك. ويبدو أيضاً، بأنه حتى يومنا هذا، لا يزال العمل السينمائيّ يثير إهتمام الرجل أكثر من المرأة، أو -ربما- لا يزال الرجل يُسيطر على العملية الإخراجية، بدون إغفال التزايد الملحوظ لعدد المخرجات في المشهد السينمائيّ العالميّ، وقد أظهر (المُلتقى) هذا التفاوت الكميّ بين المخرجات (فريدة بيليزيد، نبيهة لطفي، خديجة السلاّمي، ياسمين ملك ناصر، أنطوانيت عازرية، رندة شهال، مانيجة حكمت، واحة الراهب، غوكا أوماروفا). التفاصيل


الرواية والسينما وإشكالية الاقتباس

فراس عبد الجليل الشاروط

كثر الحديث  عن الاقتباس السينمائي من الرواية وعن التزام المعد(مخرج/سينارت) بالنص الروائي الأصلي وكيفية إيجاد المعادل البصري للنص المكتوب في الرواية.

فجاءت بعض الأفلام نقلاً حرفياً للرواية كرواية (سكوت فتزج الد) عن تهشم الحكم الأمريكي (غاتسبي العظيم) بفيلم من إخراج (جاك كلايتون) وضع له السيناريو الصيت، لكن البعض الآخر آثر السير في طريقة مغايرة محدثا بعض التغيرات على النص الروائي الأصلي، فهو اما يعيد بناء مقطع او حدث من الرواية ثم يبني عليها فلمه الخاص او يعيد هيكلية بناء شخصية، ان الأمثلة كثيرة على هذا النوع من الاقتباس أفضل مثل على ذلك فلم(المريض الإنكليزي) للمخرج(توني مانغيللا) المأخوذ عن رواية الكاتب(مايكل اونداتجي).

هذه الإشكالية بين الرواية والفلم ليست وليدة اليوم بل هي منذ الاكتشاف الأول للسينما ونتذكر في هذا الصدد المحاولة الأولى التي قام بها المخرج (فون ستروهايم) لرواية(فرانك نورس) الشبح، وما حدث بعدها من مشادات ومعارك مع منتجي الفلم الذي استغرق طوله (10) ساعات لضخامة الرواية والتي فيها أعادت الشركة المنتجة اختزاله ومنتجته إلى ما يقارب الـ(5)ساعات وهو ما رفضه بشدة مخرج الفلم كون هذه الساعات الخمس لا تعطي الرواية حقها، فقد ذهب ستروهايم بعيدا عندما حاول ايجاد معادل بصري لكل كلمة موجودة في الرواية.الصعوبة تكمن من وجهة نظر شخصية فيما يحدث في الروايات (الاشكالية)،ان صح مصطلح الاشكالية هنا، وهي الروايات التي تزخر بالكثير من الاحداث والمراجع التأريخية والمواد(التعليمية وتقاطع السرد وتداخل الاماكن والازمنة مثل رواية (جون فاولز) المعروفة (امرأة الضابط الفرنسي)والتي اعدها للسينما المسرحي (هارولد بنتر) واخراج (كارل رايس) وهي رواية تفصيلية ومتشعبة، لعبها بنثر بذكاء عندما جعل الحكايتين تتداخلان مع بعضهما وكأنهما صدى لترديد الماضي عبر الحاضر من خلال سرد فلم داخل فلم.

من جهة اخرى قد تتمركز.الصعوبة في نقل الوصف الدقيق للشخصيات والاماكن والذي قد يمتد في رواية ما إلى عدة صفحات ولكن قدرة السينما على الاختصار والتكثيف يمكن ان تختزل هذه الصفحات إلى لقطة واحدة او مشهد وافضل تعبيرا عن ذلك هو مشهد التفاتة (ميريل ستريب)نحو (جيرمي ايرونز) تلك الالتفاتة التي غيرت مجرى حياته في فلم (امرأة الضابط الفرنسي) التي وصفها فاولز في الرواية إلى ما يقارب الثلاث صفحات، بالطبع هنا قدرة الممثل على احتواء الفعل والاحساس في هذه الصفحات فقد عرفت (ميريل ستريب) دواخل الشخصية جيدا واستطاعت بملامح وجه نظرة عين عن توصل فكرة (فاولز)المكتوبة.

السينما وسيط بصري تتمتع بامكانية الايجاز والانتقال السريع بين الاحداث او الازمنة والاماكن والشخصيات واختزال بعض فصول الرواية فمثلا في فلم المخرج(إيفان بيترييف)المأخوذة عن رواية (الاخوة كارامازوف) للعبقري (ديستوفسكي) نجد ان المعد حذف فصل المفتش الاعظم الذي كتبه (ايفان  كارامازوف )والذي يستغرق في الرواية اكثر من (100) صفحة على الرغم من اهمية هذا الفصل الذي يعرف القارئ باسلوب ونمط تفكير شخصية ايفان، مع هذا فان طول الفلم تجاوز الثلاث ساعات مع جهود السينارست والمخرج للمحافظة على روح النص الروائي الاصلي.

واذا اردنا التحدث عن السينما او الرواية فلابد من الوقوف على النماذج المتفردة في الاعداد السينمائي للرواية وخير من يمثله(ستانلي كوبريك) الذي اعد افلاماً مهمة عن روايات ادبية مثل اوديسا الفضاء (200) عن رواية  ارثر كلارك و(لوليتا) عن نص (ناباكوف)و(عيون مغلقة باتساع) عن (ارثر شنتزلر) و(البرتقالة الميكانية) عن (انتوني بيرجس). فقد كتب سيناريوهات هذه الافلام ولم يلتزم اطلاقا بنصوص الروايات واحداثها فقد كانت يبحث عن الفكرة والروح وهو ما اثار الخلاف بينه وبين ناباكوف اثناء العمل على رواية (لوليتا). في النهاية يقول ناباكوف: اني بدأت عندما انام احلم بفلم كوبريك وليس بروايتي. واعتقد انه لو تسنى إلى ارثر شنتزلر مشاهدة الفلم الذي اخرجه كوبريك (عيون مغلقة للاتساع) عن قصة (حلم مزودج) لما اعترض عليه مطلقا ... فقد استنزف المخرج مع السيارست(فردريك روفائيل) كل مخيلتهما في اعادة تشكيل النص الفلمي بنفس الاسلوب والجو العام الذي كتب به شنتزلر قصة فقد عرف كوبريك كيف يوجز الفكرة الفلسفية النفسية للرواية وهو ما يذكره(روفائيل) بكثير من المتع في الكتابة (سنتان مع كوبريك).

ومن العلامات المهمة في الاعداد السينمائي للرواية ما نجده في رواية الحرب والسلام بنسختيه الأمريكية والروسية.فالفلم الأمريكي اختزل الرواية وامات روحها فجاء فلما باهتا وباردا رغم حشد النجوم فيه على عكس النسخة الروسية التي اخرجها (سيرغن بوندراجوك) والتي جاءت في اكثر من 6 ساعات وبتفاصيل مهمة وحيوية وبنماذج إنسانية محبوكة جيدا ونقل للروح واجواء الروية الأصلية وتصوير وإخراج متقن. هذا شيء قليل من فيض عن الاقتباس السينمائي من الرواية فهو ما يؤشر على اهمية السينما كجنس ادبي تعبيري مستقل عن الرواية، سواء كان بطريقة الاقتباس الحرفي او بالتعبير  من خلال الايجاز والاستعارة، مع هذا يبقى لكل من السينما والرواية كيانه الخاص المستقل.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة