عواد ناصر
أُريد لي، ولأمثالي، عبر الحقب الشعرية أن نتحدث عن الكرد كشعب آخر ملتبس،
أو كما أراد له قوميونا الأشاوس أن يبقى إلى الأبد: الأخوة
الأعداء.
لكن كازانتزاكيس، اليوناني النبيل، لم يقع يوما في أحبولة قومية كالتي يقع
فيها، على مدار الساعة، قوميونا العرب من ساطع الحصري الى
ميشيل عفلق الى صدام حسين.
أأتحدث، اليوم، عن الكرد أم عن قوميينا الأقحاح؟
لا أعتقد أن الحديث عن الكرد سيستقيم من دون الإشارةالى القتلة.
أشكال الإلتباس الذي يخترعه القومجي العربي كثيرة فهي لم تبدأ بإجبار
الكردي على أن يكون عربيا عبر تسجيله عضوا في حزب البعث رغم
أنفه، وليس بتهجير الكرد من السليمانية الى الناصرية وليس
بمنع الكردي من أن يكون كرديا، وليس- إذا تعذر ذلك كله- بحرق
الكرد بالكيمياوي.
إنها (فكرة) تطورت الى جريمة قومية، على غرار أكثر الفاشيات تقليدية في
القرن العشرين: أنا الأرقى وأنت الأدنى.
لهذا ينبغي أن تمتد سبابة الكلام الى قومجيينا الأقحاح (المسلحين خصوصا)
كلما سنحت مناسبة للحديث عن الكرد.
لكن تقلبات الزمن، التي تشبه، أحيانا، الانقلابات العسكرية تسمح للكردي
الأول، كاكا مسعود أو مام جلال، أن ينزل من جبل قنديل الى
بغداد ليس متسللا أو مفاوضا، بل مواطنا عراقيا ينتقل بين
محافظات العراق بيسر بعد أن كان ممنوعا من ذلك منذ
11/آذار/1970 حتى سقوط الفاشي الأول في العراق يوم
9/نيسان/2003
لكن الالتباس لم يزل حاضرا عندما يسألني مواطن عربي: هل الكرد مسلمون؟
إن الأمر يرجع للجذر نفسه: الثقافة الفاشية.
لم يقم المسلم العربي الحاكم، سواء في مقر الحكومة أو جامع القرية، بدوره
الديني وليس السياسي، فيشرع في خطبة الجمعة، بدلا من إبداء
الولاء للحاكم الفاشي والدعاء له، بإشاعة الأخوة بين أبناء
البلد الواحد وترويج ثقافة التسامح والتعايش وتعزيزها..لأن
تبادل المواقع بين إمام الجامع ورجال المخابرات وصحفي (أم
المعارك) لم يترك تلك اللحظة الإنسانية المشتركة بين الكردي
والعربي وبقية العراقيين بمنأى عن آيديولوجيا الفاشيست
الطارئة.
لكل من هؤلاء سبب ومبرر ودافع. الأساس الذي ينطلق منه الجميع هو موقف فكري
رسمي وجد في صدام حسين خير من يقمع فكرة الديمقراطية في
العراق ويمنع سريانها في المنطقة، وفي جزء منه طائفي حيث
الحقد التقليدي على الشيعة وتصويرهم بأنهم عملاء إيرانيون.
هذا عدا أولئك المنتفعين بكوبونات النفط العرب.
إن أسبابا عدة تجعل من قطاعات عربية تعلن ولاءها جهرا لصدام حسين، لكن هذا
الولاء بدأ بالإنحسار ولم يعد ذا تأثير.
رأيت السيد برهم صالح على شاشات الفضائيات العربية زائرا لمصر وملتقيا
بوزراء ومسؤولين مصريين بينهم السيد عمرو موسى الأمين العام
للجامعة العربية، وبخلاف مندوب العراق السابق لدى الجامعة
العربية كان صالح صريحا وشجاعا وهو يطالب العرب الرسميين
بالإعتذار.
كيف يمكن للمسؤول العربي، في الجامعة العربية أو سواها، أن يرفع عقيرته
بالصراخ من أجل حرية العرب وانتصارهم وتحقيق آمالهم بالعزة
القومية وهو يصمت أو يتجاهل أو يجهل ضرب حاكم عربي لشعب شقيق
بالقنابل الكيمياوية؟
ثمة مرض مستوطن يصيب الكثير من المسؤولين العرب، والعاملين في قطاعات
مختلفة، يمكن أن نسميه مرض: الولاء.
إنهم يقولون نحن ندافع عن الشعب العراقي. لكنهم في الحقيقة يحاولون خلط
الأوراق والدفاع عن صدام حسين. أين كانوا من جرائم صدام حسين
منذ الحرب العراقية الأيرانية حتى اليوم؟
سرت على قدمي عبر ثلاث دول بحثا عن عدن ضائع. بحثا عن أحد أكبر أحلامي كشاب
متحمس، لكنه صادق، ومؤمن بأن الحرية ممارسة وليست تنظيرا.
لكن تأكد فيما بعد قول القائل: لا تنتهي الثورات كما بدأت.
والوعود لا تصدق على الدوام. والجميع يتحمل مسؤولية ما حدث
قيادة وقواعد.
لأن الشاعر يبدأ من حيث انتهت اللغة، فهو يحلم حلما مغايرا من حيث انتهت
الأحلام.
ولأنه محاصر بامبريالية الكومبيوتر سيشق عليه العودة الى مشاعية الفكرة.
إنه لأمر غير مفهوم لخالو عمر، آمر فصيل الفنانين(الحزب الشيوعي العراقي)
ذات روبار في ناوزنك، أن يرى عددا من الأنصار يفرشون أسنانهم
صباحا عند الساقية.
( أريد بيش مه ركه أشداء لا راقصات) يصرخ خالو عمر!
لكن مام رسول ذلك الكردي جميل الطلعة رغم سنيه الخمسين، ببشرته المصنوعة من
لبن أربيل وتين ورته وثلج حصاروست وقامته النحيلة المستقيمة
التي تشكل زاوية مستقيمة مع امتداد الأرض كلها، كان له معنا
خطاب آخر.
قادنا مام رسول في تلك المفرزة الصغيرة صعودا (وفي كردستان ثمة صعود أكثر
من النزول!) فكنا سربا من قطا عرباً وكرداً ننقل خطواتنا على
أرض ثلجية تخفف صدمة الوقع وتتضاعف فوقها أشعة القمر.
كنت حديث عهد بالجبل، أسوة بالباقين، تتشنج قاماتنا وتقسو خطواتنا فنتعب
قبل غيرنا الكرد. رأى ذلك مام رسول أو أحسه فقال: (لتنتقل
خطواتكم حسب نبض قلوبكم.. وبذا لن تتعبوا).
حاولنا ذلك لكننا لم ندركه إلا بعد حين من الدهر.
قلت له يوما: لقد مضى وقت ليس بالقصير قبل أن أتعلم نقل خطوي حسب نبض قلبي،
يا مام رسول!
قال وهو يخط على الأرض بغصن رفيع: لو اخطت زرين لقميصك سترى أن الزر الثاني
قد استقر بمكانه بوقت أقل وأسهل مما سبقه.
وإذ سمع من الآخرين بأني شاعر وصحفي استغرب من عدم التحاقي بمكتب الإعلام
في ثورة الجبل وبقائي مقاتلا مجردا، أحرس ليلا وأطبخ أو أجمع
الحطب أو أرعى الماعز نهارا. قال يخاطبني: أنت بلا أم. لم
أفهم مقصده، فترجم رفيق ثالث: يقصد ما عندك واسطة. تساءلت:
وهل يحتاج المرء لواسطة حتى في قلب الثورة وعلى حافة الموت
من أجل المبادئ!
الثورة قبل الإنتصار امتحان وبعد الإنتصار إغراء.
بين الإمتحان والإغراء ثمة انقطاعات تطول أو تقصر لكن مسيرة الشعوب تستمر،
خطوة خطوة، قرية قرية، وطنا وطنا، كونا كونا.
كانت مفارزنا الصغيرة، الموجزة، لأننا قليل عديدنا، و كانت لنا محطات صغيرة
وموجزة أيضا، على شكل قرى منسية ومهملة وبعض أطفالها لم
يسمعوا بكلمة(مدرسة)!
كانت تلك القرى الكردية بمثابة نقاط تروية في جسم كفاحنا ضد دكتاتورية صدام
حسين. قرى اقتسمت معنا الرغيف الواحد والصحن الواحد وقدح
الشاي الواحد وربما الأخير.
كنت أعجب كيف لأبناء تلك القرى لم يضيقوا ذرعا بالمقاتلين طوال أكثر من نصف
قرن؟
لقد كانت تجربة تدعو الى الفخر رغم ما شابها من سوء الفهم واختلاف أدوات
الحوار وطريقته.
ده ركه له(*)
إسمها في خيال العريف
وفي غرفة المدفعي
وفوق خرائطه العسكرية
إسمها في قواميسنا العربية(باب المضيق)
واسمها ده ركه له
في الأغاني وتحت ثياب البنات
قالت امرأة: ( ئيمه يه ك خيزانين) = نحن عائلة واحدةْ
عندنا لبن كالرخام
وجارتنا في وحام
وقريتنا ده ركه له
شجرة نهضت بين دبابتين
وفي غصنها قنبلةْ...
(*) قرية كردية
بعد سنوات عدة شاءت الظروف الداخلية والدولية أن تظفر كردستان بحريتها
فابتنت لنفسها تجربة سياسية خاصة لم تخلو من عثرات وأخطاء
كان أكثرها مدعاة للأسى والقلق هو الإقتتال الكردي الكردي،
ومن ثم ذلك الإنقسام السياسي والإداري الذي حل بها، كصيغة
إضطرارية طارئة. لكن من خلال متابعتي للوضع في كردستان توطنت
مخاوفي شيئا فشيئا، حيث تترسخ التجربة الديمقراطية الوليدة
وتصبح في أكثر الأحيان مثلا يقاس به الوضع في العراق برمته،
ليت العراق ، كله، كردستان، خصوصا هذه الأيام!!!
لكن هل تخلو التجربة الكردية من نواقص؟
لا، بكل تأكيد. فليس ثمة صيغة سياسية يمكن أن تلبي أحلام الإنسان أيا كان،
حتى في سويسرا.
حرية الرأي مقياس. والمواطن الكردي أكثر إدراكا لحساسية المشكلة. لكن
البدايات صعبة دائما. وأتمنى من بعض الأخوة في القيادة
الكردية التخفيف بعض الشيء من روح (الكردوية) لصالح
(العراقوية). ما نفع الجسر الذي لا يبلغ ضفة النهر الأخرى؟
بدءا، ثمة إجماع عراقي عام، من أقصى شمال العراق حتى جنوبه، على أن الكابوس
الأكبر والمروع ممثلا بصدام حسين قد زال. وهذا ليس بالقليل.
لكن مخلفات الكابوس لم تزل ماثلة داخل النفوس وخارج النفوس.
ثمة قوى وجماعات عراقية وغير عراقية فقدت امتيازات كبيرة وعديدة، وهي ترى
الى ما يحدث اليوم في العراق ضد مصالحها وامتيازاتها. إن
لهذه القوى الظلامية قاسما مشتركا هو العداء للديمقراطية.
نراها ترتكب أشد الأفعال دناءة في التخريب والنهب والسطو والحرق لتحقيق
أهداف عديدة سياسية واقتصادية وحتى نفسية.
المسؤولية، أولا وأخيرا، على العراقيين، عربا وكردا وأقليات وطوائف متآخية.
الأمر يعود الى هؤلاء. بقدر ما يتجذر الإحساس بالمسؤولية
وازدهار روح المبادرة والحرص على مستقبل البلد، بعيدا عن روح
التحاصص والثأر وتقاسم الإقطاعيات والسمو على إغراءات
المنصب، والتخلي عن سياسة الخنادق المتقابلة والعيش تحت سماء
عراقية مفتوحة متاحة للجميع كطقس جميل لا يستطيع أحد
الأستحواذ عليه مهما بلغت قوته، فان يوم الحرية يكون بمتناول
اليد.
المهم هو الإتفاق على المنطلق والمنهج حيث التفاصيل قابلة للحوار والإتفاق.
إن المجتمع المدني لا يبنى على التناحر الآيديولوجي أوالطائفي أو المناطقي
أو العشائري. الخطوة الأولى باتجاه المجتمع المدني هي النظر
باتجاهه أولا، كهدف للجميع، وإذا ما تم الإتفاق على الهدف
بصدق ومسؤولية فالتفاصيل لا يمكن أن تكون موانع أو معوقات.
وجود قوات التحالف ضروري في هذه المرحلة ويمكن بمساعدتها أن نتدرج ببناء
السلطة الإنتقالية وتحقيق الأمن للمواطنين. ومن ثم إجراء
إنتخابات برلمانية لممثلي الشعب العراقي. وكما أسلفت
المسؤولية عراقية بامتياز، وليس هناك قوة في العالم يمكن أن
تبني وطننا بالنيابة عنا.
إن احترام الرأي الآخر يمكن أن يكون مدخلا لتحقيق فكرة الجدل الإيجابي
وصولا الى وطن للجميع. وتقبل وجهات النظر الأخرى مهما كانت
مختلفة ما عدا الفاشية، وهي تتخذ أشكالا أخرى هذه الأيام،
لأنها جريمة وليست وجهة نظر.
يمكن أن تكون التجربة الكردية سواء من حيث تأسيس لحياة ديمقراطية في
المنطقة أو ما ستلوها من خطوات توحيدية مفيدة لعموم العراق،
باعتبار أن القضية الكردية جزء من القضية العراقية، ويجد كل
طرف إنعكاسه على الطرف الآخر.
من ضاق منا بالآخر، إذن؟ التفاصيل |