الثقافــــــــة العلميــــــة
مفتــــــاح التقنيـــــة
زياد طارق
السدرة
شهد أوائل
القرن الثامن عشر الميلادي بداية الحركة العلمية في أوربا
وإرساء جذورها عبر نجاحها الباهر في اكتشاف قوانين الطبيعة
وتسخيرها لخدمة الإنسان في مختلف المجالات، ولكن تأثير تلك
الحركة لم يكن فقط على الصعيد المادي في تنمية الاقتصاد
وتطوير الإنتاج أو شرح العديد من المعضلات والظواهر الطبيعية
، ولكنها تعدت ذلك وامتدت لتفعل فعلها سلباً وإيجاباً على
الصعيدين الاجتماعي والفكري ولتبدل رؤى كثيرة ومسلمات شتى،
ولتؤثر على أنماط الحياة المختلفة والتفاعلات الإنسانية
المتعددة وليس ذلك بالأمر المستغرب، فالحركة العلمية في
المقام الأول نشاط إنساني يتولاه ويقوده بشر معرضون للخطأ
والصواب ومن المحتم عليهم أن يتفاعلوا مع المعطيات الجارية
على الساحة الحياتية بمختلف امتداداتها وتفرعاتها .
وقد فرضت
الحركة العلمية وجودها في المجتمعات الغربية بطريقة بطيئة
ونمت نمواً تدريجياً استمدته من واقع بيئتها وتركيبتها
الداخلية، بسبب أن هذه المجتمعات لم تتعرض لهجمة شرسة على
شكل موجة عارمة من العلوم والمبتكرات منطلقة من الشرق أو
الغرب، ولم تحاصرها أحدث التقنيات على شكل طوفان هائج تخدمه
مختلف وسائل الاتصال والمواصلات، وبالرغم من ذلك النمو
المتدرج في الإمكانات والفاعلية إلا ان ردود الفعل بين النخب
الفكرية لهذا المستجد الفكري تباينت فكانت هناك مواقف حذرة،
وأخرى ترى فيها عملاً يدوياً مهنياً لا يليق بالنخب
الأرستقراطية وأبناء العائلات المحترمة.
وبالرغم من
صعوبات جمة اكتنفت مسيرة (الحركة العلمية) في الغرب إلا أنها
استطاعت أن ترسخ جذورها في المجتمع بسبب إبداعات المنهج
العلمي المتتالية في تطوير وسائل الإنتاج، وتقديم الحلول
للمشكلات الحياتية والعلمية والاقتصادية وشرح العديد من
الظواهر الطبيعية التي استعصى فهمها على البشر منذ بدء
الخليقة، لقد كانت متانة الحركة العلمية تستند إلى قدرة
المنهج العلمي على طرح النظرية المدعومة بالتجربة والمعتمدة
على المنطق الرياضي والمفسرة لكثير من الوقائع والظواهر
المألوفة، وفي الوقت نفسه المتنبئة بنتائج أخرى غير معروفة
فما تمر فترة من الزمن طالت أم قصرت حتى تتأكد تلك النتائج
وتتحقق لتدعيم النظرية وترسخ القوانين وعلى الجانب النفعي
فتحت هذه الحركة العلمية آفاقاً واسعة على صعيد التطبيقات
وتطوير وسائل الإنتاج والرفاهية .
استطاع
المفكر البريطاني تشارلز سنو أن يشخص المشكلة التي كانت
تتفاقم في الغرب نتيجة للخطى السريعة والقفزات الباهرة التي
كانت تتحقق في ظل العلوم والتقنية ففي محاضرته الشهيرة التي
ألقاها في جامعة كامبردج ببريطانيا عام 1959م طرح سنو راياً
أصبح من أدبيات الفكر الغربي المعاصر، وهو ما أطلق عليه اسم
إشكالية الثقافتين، لقد اعتبر سنو أن المجتمعات الغربية
ونظامها التعليمي وحياتها الفكرية تعاني من شرخ بين ثقافتين،
الآداب والعلوم الإنسانية من جهة والعلوم الطبية من جهة أخرى
وأكد سنو أن هذه الظاهرة تمثل خطراً كبيراً يهدد رفاهية
الجتمع الغربي، ومن آراء سنو في أطروحته هذه: (أن بين
المفكرين في مجالات العلوم الإنسانية وبين علماء الطبيعة
شكوكاً عميقة متبادلة وسوء فهم ، مما يؤدي إلى نتائج وخيمة
على مستقبل تطبيق التكنولوجيا) .وقد أثار أطروحة سنو جدلاً
كبيراً في العالم الغربي، وما زالت آثارها تتفاعل على مختلف
الأصعدة وبالرغم من أن سنو كان معنياً في أطروحته في المقام
الأول بالنخب الفكرية وانعدام التواصل بين أهل التخصصات
الإنسانية وأصحاب التخصصات العلمية إلا أنها في تفاعلاتها
وامتداداته أكدت أن ضرورة إقامة الجسور بين الحركة العلمية
وبين الجمهور بشكل عام، ومن هذا المنطلق وجدت مقولة العلم
للجميع حضوراً مميزاً في المجتمعات الغربية وأصبحت شعاراً
هاماً وأولوية بارزة في تخطيط الدول المتقدمة، لأنها أصبحت
تدرك أهمية توفر قاعدة واسعة من الجمهور تمد الحركة العلمية
بالزخم والدعم، وتزودها بالكفاءات والمواهب والقدرات، ومن
المهم في هذا الخصوص ذكر الدراسة التي أجراها البروفسور جون
ميللر في عــام 1970م لقياس مستوى الثقافة العلمية في
الولايات المتحدة الأمريكية حيث وجد أن عدداً لا يزيد عن7%
من الأمريكان يمكن تصنيفهم على أنهم مثقفون علمياً، وذلك
بمقاييس مرنة جداً ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : إذا
كانت نسبة المثقفين علمياً هي بتلك الضآلة في مجتمع علمي
متقدم مثل الولايات المتحدة الأمريكية فكيف يكون الحال في
الدول النامية ذات الصلة الحديثة بالحركة العلمية ومعطياتها
المختلفة؟
إن الثقافة
العلمية مصطلح عام تنضوي تحت لوائه أنواع متعددة من
الممارسات والاهتمامات والأشكال والوسائط، وبالرغم من أن
الاهتمام الرئيسي لدى المفكر البريطاني تشارلز سنو، في
أطروحته عن الثقافتين، كان ينصب على الشرخ بين أصحاب
التخصصات الأدبية والإنسانية وبين أهل الحركة العلمية إلا أن
مصطلح الثقافتين فرض نفسه ليشرح ظاهرة أوسع وأشمل وهي ظاهرة
الشرخ الكبير القائم بين الجمهور والذي يتأثر ويتجاوب عادة
مع الأفكار الأدبية والمفاهيم الإنسانية وبين الحركة العلمية
بنزعتها التخصصية ولغتها المستقلة ومصطلحاتها المنضبطة
ورموزها الجافة ومعادلاتها الصعبة وإجراءاتها التجريبية
المعقدة، ومنه الواضح أن طبيعة وقوالب التوصل وأساليب
التوعية اللازمة للتعامل مع نخب متخصصة في مجالات الأدب
والدراسات الإنسانية ليست بالضرورة متوافقة ومتطابقة مع
النهج الذي ينبغي إتباعه مع عامة الناس.
وفي الوقت
نفسه فإن خريطة التخصصات العلمية ذاتها تمددت واتسعت منذ أن
طرح سنو إشكالية الثقافتين ، فكل تخصص أفرز مزيداً من
التخصصات الدقيقة التي ابتعدت تدريجياً عن التخصص الأم، كما
أن التزاوج بين التخصصات وهو عملية نشطة ومتنامية ومتراكمة
ولدت بطبيعتها مزيداً من التخصصات الجديدة والتقنيات الحديثة
مما استدعى بطبيعة الحال أن تتم عمليات تثقيف وتوعية بين
أصحاب التخصصات العلمية أنفسهم ، ويبدو أننا أصبحنا أمام
مئات الثقافات بدلاً من الثقافتين اللتين طرحهما سنو، ومن
الواضح أن عمليات التثقيف والتوعية بين أصحاب التخصصات
العلمية ستختلف عن البرامج الأخرى الموجهة إلى غيرهم من
الفئات الاجتماعية والشرائح الثقافية، لأن دارسي التخصصات
العلمية يلتقون في الأقل عند حد الأدنى من الفهم المشترك
والخصوصيات المتماثلة والخلفية العلمية ذات الأساس المتشابه
إلى درجة كبيرة ولابد من الإشارة هنا إلى طبيعة الثقافة
العلمية نفسها الموجهة إلى الجمهور تتأثر بامتداد الساحة
العلمية والتطورات التقنية لتتفرع وفق تلك التشكيلات
والأنماط ، وتتلون بألوانها وتتخذ سماتها ، فالتوعية الصحية
والإرشاد الزراعي والتوعية الغذائية والوعي البيئي.. كلها
فروع للثقافة العلمية تعني بمجالات محددة ، ونتيجة لارتباط
هذه المجالات مباشرة بحياة المواطن اليومية وصحته وطعامه
وشرابه فإنها حظيت منذ البداية على بحضور ملموس في المجتمعات
النامية ، كما أنها شهدت إقبالاً عليها يتزايد مع نمو
الثقافة العلمية وتحسن المستوى المعيشي وارتفاع الوعي لدى
الموطنين ..
ومن برامج
وتوجهات الثقافة العلمية تلك التي تهتم بشرح عمل الأجهزة
المختلفة وتبسيط مكوناتها ، وهو ما يطلق عليه في أدبيات
الثقافة العلمية اسم
HOW IT WORKS)
كيف تعمل؟)
أما أحدث
مثال على هذا التنوع والتوالد الذاتي للثقافة العلمية فهو
ظاهرة ثقافة الإنترنت التي اجتذبت إليها فئات متعددة ،
واستقطبت اهتمام مختلف الشرائح الاجتماعية لما يقدمه هذا
الطوفان المعلوماتي والاتصالي المباشر من خدمات وتحديات
وآثار عارمة على المستويات الفكرية والمعلوماتية والاجتماعية
والاقتصادية وغيرها.
ومن أهم
أنواع الثقافة العلمية ذلك النوع الذي يهتم بتبسيط المبادئ
والأفكار العلمية وما يرتبط بها من مفاهيم ومصطلحات وتوقعات
ونتائج متعددة الأوجه تمتد على مستويات فكرية وعملية مختلفة،
وطرح كل ذلك في قوالب جذابة وأطر مشوقة .
وهذا النوع
من الثقافة العلمية هو الذي يفتح آفاق الفكر العلمي أمام
الجمهور، ويزوده بمفاتيح الحس العلمي، ويهيئ المواطن
لاستيعاب قضايا العلوم ومشكلاته وحلوله وطرق توظيفه في خدمة
المجتمع والتنمية، ويرى المحرر العلمي الياباني الشهير
تاكاشي تاشيبانا أن هذا النوع من الثقافة العلمية هو أيضاً
الأصعب ، فكتابة المادة العلمية بلغة وطرح يفهمها عامة الناس
موضوع يختلف تماماً عن الكتابة العلمية لمتخصصين، وهو أمر
أشد صعوبة لأنه يتطلب الابتعاد عن لغة الترميز والتشفير
والمعادلات والمصطلحات التي يدرك مضمونها المتخصص، بينما
ينبغي تبسيط نتائجها ودلالتها للإنسان العادي دون الإخلال
بمضامينها ودقة معانيها.
وهكذا نجد
أننا أمام مساحة واسعة من التنوع والتعدد على مستويات مختلفة
تعكس واقع الحياة الحديثة بأشكالها المتعددة وتداخلاتها
المتجددة ومضامينها المتراكمة، وكلها تصب في وعاء الثقافة
العلمية لإيجاد قواسم مشتركة وثقافة منسجمة بين المواطنين في
المجتمع الحديث بمختلف فئاتهم ومشاركتهم ومستوياتهم
الإدراكية والعلمية، ولذا نشطت في المجتمعات الغربية جمعيات
متنوعة في مجال الثقافة العلمية، فالبعض يهتم بالبيئة وآخرون
يختصون بالتوعية الصحية، ومجموعات تتفاعل مع قضايا تبسيط
العلوم للجمهور ومجلات ومؤتمرات تسعى إلى التقريب بين أصحاب
التخصصات العلمية المختلفة .
|