الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

 

صدر عن المدى مغامرات في بلاد العرب خيام سود وابل بيض

صدر مؤخراً عن دار المدى بدمشق كتاب مغامرات في بلادالعرب لويليام - ب - سيبروك بترجمة عارف حذيفة ونبيل حاتم، يقدم الكتاب الصورة المستقرة في الخيال الغربي لوقائع الحياة الصحراوية بمفرداتها المتنوعة. والكتاب قراءة معاشة للحياة العربية على وفق نظرة الآخر. هذه المقالة مستلة من الفصل الاول الذي يحمل عنوان: خيام سود وإبل بيض.

كان أصدقائي البدو من بني صخر مُسْلمين مؤمنين صادقين مخلصين، ولكنهم لم يكونوا متعصبين، ولا متشددين في مراعاة الطقوس.

كان النبي الكريم نفسه جمّالاً وغازياً عنيفاً في زمنه. وقد خبر مشاق الرحلة والقافلة والغزو، لذلك قال: إن جميع المسلمين الذين يسافرون أسفاراً طويلة يمكن إعفاؤهم من أداء الصلوات الطقسية اليومية الخمس. وبما أن حياة البدوي هي على نحو ما رحلة بلا نهاية، فهو يعدّ نفسه في حِل خاص ودائم منها.

لقد وجدت الأمور على هذا النحو بين القبائل التي عرفتها في شمالي الصحراء العربية على الأقل.

ومن بني صخر كانت العادة أن يؤدي الصلاةَ شيخنا مثقال باشا فقط، ويؤديها بالجملة، إذا صحت العبارة، نيابة عن قومه كلهم، وفي بعض الأحيان كان يهملها أيضاً. أليس الله رحيماً وغفوراً؟

رأيته يصلي أول مرة في إحدى ساعات الظهر. قام من حلقة القهوة وخلع عباءته، ونفضها، ثم ألقاها على الرمل منعزلاً عنا قليلاً، ولكنه بقي في ظل الخيمة الكبيرة المفتوحة الجوانب. كان يملك سجاجيد جميلة للصلاة، غير أني لم أره يستعملها قط. إن سجادة الصلاة التقليدية للبدوي هي عباءته. لقد زُيّنت الخيمة عند وصولي، وفي مناسبات خاصة، بالسجاجيد والبسط المفوَّفة، أما حياتنا اليومية العادية فكانت بسيطة بساطة إسبارطية.

افترش شيخ الشيخان طرف عباءته، وخلع حذاءه. أحضر عبد أسود قصعة من الماء نظّف مثقال به فمه، واستنشق قليلاً منه، ثم أخرجه بالإبهام والسبابة، وغسل بعد ذلك يديه وقدميه.

ومع تعاقب الركوع والقيام والسجود تِجاه الكعبة، رُفع الدعاء بصوت منخفضٍ بيِّنٍ في البداية، ثم غمغمة هامسة: (الصلاة والسلام عليك).

ودُهشت حين لاحظت أن رجال حلقة القهوة لم يلتزموا الصمت، ولم يظهروا الورع حين كان مثقال يصلي، بل واصلوا أحاديثهم، وتدخينهم، ونشاطاتهم الصغيرة الأخرى - بل بدوا أكثر حيوية من المعتاد. وعلمت أنه ليس من الأدب أن تصمت وتراقب المصلي عمداً. فإذا كان عبد يصلصل فناجين القهوة، أو راوي قصص في منتصف حكايته، أو رجال منهمكون في القيل والقال أو المساومات، فالكياسة تقضي أن يستمروا في ذلك. وهذا ما فعلوه حين كان الشيخ يصلي.

لم يسألني مثقال ولا غيره من رجال المخيم عن معتقداتي الدينية. فالعرف المتبع عند البدو هو ألا يسألوا عن الشؤون الخاصة بالرجل الذي قبلوه ضيفاً عندهم. ولم يظهروا قط رغبة في أن يعرفوا إن كنتُ غنياً أم فقيراً في بلدي، متزوجاً أم غير متزوج، أو ما هو عملي. وهناك قصة عن رجل نمساوي دخل على قبيلة عنزه منذ سنين عديدة، ووصل إلى خيمة شيخ للإقامة عنده يوماً أو أسبوعاً، إلا أنه استقر هناك مدى الحياة. وبعد ثلاثين سنة، قال ولد في الثانية عشرة من العمر لأبيه الذي كان آنذاك شيخ القبيلة: (إن هذا الرجل المسنّ مختلف عنا بشعره ووجهه وصوته مع أنه يلبس مثلما نلبس، ويستخدم الكلمات التي نستخدمها. فمن هو؟ وماذا يفعل عندنا؟)

أجاب الشيخ:

(يا بنيّ، ذلك الرجل نزل في خيمة جدي ضيفاً، وبقي معه حتى مات، ثم عاش في كنف والدي حتى مات والدي أيضاً. وإن أحداً منهما لم يسأل من أي جاء، ولماذا. وأنا نفسي ليس عندي مثل هذا الفضول المنافي للياقة. ولا يحسن بك الآن أن تبحث في الأمر الذي لا يخصّ أياً منا).

وهكذا كان يمكن أن أساكن مثقال باشا شهوراً وأعواماً من غير مناقشة الشؤون والمعتقدات الخاصة. ولكن المصادفات أرادت غير ذلك. فذات يوم قال شيخ من الجوار وهو جالس يدخن:  إنه زار القدس، ومن بين الأماكن المقدسة التي زارها كان قبر عيسى.

لقد استنتجت من المحادثة أن عيسى معروف عند البدو، وأنهم يعتبرونه إنساناً تقياً، ولكن الشيخ قال في سياق المحادثة: (ولكن هل يتصور إلا المجانين أن إنساناً من لحم ودم يمكن أن يكون إلهاً، ولا إله إلا الله الذي ليس بجسد ولا روح؟)

لم أظهر ما يدل على معارضتي ما فهمت من الكلام، أو موافقتي عليه، ولكن الحديث أعجبني، وأظن أن مثقال باشا قد قرأ ذلك في وجهي لا محالة، إذ أنه لزم الصمت طويلاً بعد أن ركب الزائر فرسه ومضى، ثم قال:

(هناك شيء ربما أسأت فهمه. فلقد حسبت أن جميع الفرنجة يؤمنون بأن هذا اليهودي التقي إله).

أجبت إجابة دقيقة وصادقة قدر المستطاع:

(هذا أمر قد أسيء فهمه. هناك الكثير من أبناء شعبي يؤمنون بأن يسوع إله حقّاً، ولكن هناك أيضاً العديد من الناس الطيبين، وحتى بين قساوستنا، لا يؤمنون بذلك، ويرون أن من يؤمن بذلك لابد أن يكون به مسّ، كما يرى صديقك العاقل).

سأل مثقال:

(ما هو اعتقادهم إذاً؟)

قلت: (يعتقد كثيرون بأن الله واحد، وهو ليس من لحم ولا روح.

قال مثقال: (مؤمنون صادقون).

وقلت: (ربما. ولكنهم ليسوا مسلمين. إنهم يؤمنون بأن هذا الإله الواحد يعبد تحت أسماء عديدة، وبأشكال وطقوس عديدة ومختلفة، وبأن له أنبياء كثيرين، وليس موسى ويسوع ومحمد فقط، بل بوذا وكونفوشيوس ولاوتسي Loa - Tsze أيضاً).

ورويت له حديثاً طويلاً أجريته مع Hodja el Vatan تحت الأشجار في باحة مسجد الحَمَام في اسطنبول، وتوصلت فيه مع ذلك العالم الإسلامي الجليل إلى اتفاق تام تقريباً حول السر النهائي، ووحدانيته التي لا توصف.

دخّن مثقال وهو صامت قرابة نصف ساعة. هناك وقت للتأمل في الصحراء، وبعد ذلك مال نحوي، وربت كتفي.

قال: (أظنني، يا صديقي مسلماً صادقاً. ويبدو لي أيضاً أنك أنت وأنا نعبد الإله نفسه. ولذلك يبدو لي أنك لابد أن تكون مسلماً في أعماق قلبك، وإن كنت لا تؤدي الشعائر، ولم تحج إلى مكة).

قلت: (ذلك ما لا أعلمه). وأضفت لا من أجل إرضائه، بل من أجل الحقيقة. (من المؤكد على الأقل أنني لست مسيحياً، لأنني لا أؤمن بأن يسوع إله، أو ابن إله، أو أنه قد قام من القبر، أو أن عليَّ أن أعبده).

وسأل مثقال: (هل تؤمن بأنْ لا إله إلا الله؟)

فأجبت: (أجل).

فقال: (منذ قليل سمعتك، على ما أظن، تذكر اسم محمد بين أنبياء الإله الواحد).

-(لقد ذكرته فعلاً).

قال مثقال:

(والمسلم الصادق الإسلام لا يحتاج إلى أكثر من ذلك حتى يدخل الفردوس. هلا أعدت بعدي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله).

أجبت: (بكل طيبة خاطر). وأعدت ما قال.

سرّه ذلك، ولكن سروره خلا من أي حماسة أو حرارة متكلفة. على العكس! نادى منصور وهو يضحك ضحكة سعيدة، وكان منصور خارج الخيمة يشغله شاغل. وجاء الأسود ونحو خمسة آخرين ليروا ما الأمر.

صاح مثقال: (لقد اكتشفت أن أخي مؤمن صادق الإيمان). كانت هذي طريقته الصادقة في النظر إلى الأمر، وما كان عندي أي رغبة في أن أنكر ذلك. لم يشعر أنه قد هداني إلى دين جديد، أو أنني ارتددت إلى إيمان آخر. لقد شعر أنني مسلم بالفطرة ليس غير.

وطوال تلك الأمسية، كان مثقال يطلب مني أن أعيد تلك الصيغة البسيطة: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، كلما دخل أحد رجاله إلى الخيمة، وأرادني منصور أن أتعلم على الفور الصلاة والشعائر. وأظن أن ما دفعه إلى ذلك هو الرغبة في اللهو، وليس اقتناعه بالأهمية الروحية للأمر. لقد علمني باهتمام شديد أن أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ونصحني أن أرددها عند التعرض للخطر، أو عند الإقدام على أمر مهم.

وفي اليوم التام أهداني مثقال هدية لا أزال أحتفظ بها - تميمة مُجوَّفة من الفضة الثقيلة تشبه في الحجم والشكل قطعة سكر دومينو Domino، وتحتوي على نسخة كاملة من القرآن كُتبت بأحرف عربية دقيقة جداً بحيث يصعب تمييزها إلا بالمجهر. كان الغطاء مثبتاً باللحام، وقد نُزع لأرى الكتاب النفيس البالغ الصغر، ثم استُخدمت شفرة سكين من أجل لحمه ثانية، قبل أن تسلك التميمة في سيْر جلدي، وتعلق حول عنقي.

هناك آيات من القرآن يُعتقد أنها تحمي من المرض، والأذى، وشتى المحن، لذلك فهي تُكتب

على قصاصات من الورق، وتوضع في تمائم جلدية أو معدنية، ويلبسها معظم البدو حول أعناقهم. كان الحصول على كامل القرآن في تميمة يشبه تَقَلُّدَ كاثوليكيٍّ ورعٍ أوسمة جميع القديسين، أو الأمصال التي يحقنها الأطباء في الأجسام وقايةً لها من مختلف أنواع الجراثيم.

وعزم منصور على إهدائي شيئاً أيضاً، فعاد في الحال ومعه خنجر، ولكنه ليس من النوع المعقوف ذي الآثار الجميلة في النصل، والذي يُتباهى به، بل من النوع الذي يدعوه صديقي أحمد عبد الله (خنجراً عملياً) - نصله مستقيم وثخين طوله ثمانية إنشات، ومثبت في مقبض معدني صلب. كان النصل تغطيه طبقة رقيقة من الشحم الضارب إلى السواد. وعلى أحد جانبيه طبع هلال طبعاً غير متقن، مع اسم الصانع وختمه، وتاريخ الصنع ومكانه - المدينة. سنة 1243 في التقويم الإسلامي (1825 في التقويم المسيحي). وعلى الجانب الآخر كان نقش خفيف غشّاه الشحم.

واتضح القصد من الهدية عندما قرأ مثقال النقش، فكان صيحة الحرب الداعية إلى الجهاد: (اذبحوهم باسم الرسول).

لا أعتقد أن منصوراً فكّر في ضمي إلى (كنيسته المقاتلة). وأنا على يقين أنه لم يقطع قط رقبة مسيحي لأسباب دينية بحتة. ولكن حين قبلت الخنجر وعلقته على حزامي، أصرّ ثانية على أن أتعلم الصلاة والسجود حتى نفد صبر مثقال أخيراً، وأمره أن يسكت.

وتساءل منصور بالصفاقة الشرقية التي تتميز بها طبقته:

-(هل في خيمة شقيق عمي الجديد معزة عرجاء إذاً؟)

هذه النكتة التي استقبلت بالضحك كان لها موقع سيئ عندي إلى أن توضحت.

والحكاية هي أن بدوياً لم يقم الصلاة أعواماً، ومع أنه كان ينتسب إلى قبيلة، فقد كان يعيش على أطراف الصحراء يرعى قطيعه القليل التي ضمّ خمسَ معزات وجملاً وشاتين. وذات يوم زاره درويش جوّال حريص جداً على أداء الفرائض.

أقنعه الدرويش باستئناف الصلاة التي أهملها طويلاً بعد أن وعده بالرخاء في الحياة الدنيا، وبالجنة في الآخرة، وأخذا يؤديان الصلوات الخمس في أوقاتها.

واتفق أن افترست ذئابُ الشاتينْ في نهاية الأسبوع الأول. فقال البدوي في نفسه: (ويحي! من السهل تفسير ذلك. فخلال سنوات صمتي الطويلة نسيني الله الذي لا تدرك إرادته، أما الآن فهو يعاقبني على إهمالي بعد أن ذكّرته بنفسي. وبما أنني الآن قد أزعجت لا مبالاته الرحيمة، فليس لي إلا أن أواصل الصلاة حتى أكسب رحمته).

وهكذا واصل البدوي الصلاة خمس مرات في اليوم. وما لبث أن سُرق جمله، ومرضت اثنتان من معزاته، ثم نفقتا، ثم هربت الاثنتان الأخريان. ولم يبق عنده إلا معزة صغيرة عرجاء.

وعلى هذا رفع البدوي يديه إلى الأعلى وصاح: (من الواضح أن الله الحكيم لا يحبَّ أن أزعجه بالتضرعات، وخير لي أن أجعله ينساني ثانية، ويتركني في سلام).

وهكذا كفّ البدوي عن الصلاة بعد أن صار وحيداً في الصحراء مع الماعزة السوداء الصغيرة التي كان يتبلّغ بحليبها. وبما أن المعزى لا تعيش إلا جماعات، فقد ألحّت الماعزة السوداء الصغيرة على اصطحاب البدوي بعد أن فقدت جماعتها. فَعَدَتْ إلى خيمته ودخلتها مصرّة على البقاء. قلبت الدلو، وحاولت أن تربض لصقه في الليل طلباً للدفء، فأكلته البراغيث. وذات ليلة طردها، إلا أنها عادت متعثرة، ورفست وجهه بأظلافها الصغيرة الحادة. فاستيقظ وصاح غاضباً: (اخرجي من خيمتي، وإلا عدت إلى الصلاة، فيرسل الله ذئاباً لافتراسك).

إن الفكاهة الطيبة هي أنجع وقاية من التعصب. وأولئك البدو ليسوا ميّالين دائماً إلى التنكيت على أنصار دينهم المغالين في التقوى فقط، بل كان يبدو لي أنهم لا يضمرون أي عداءٍ خاص للنصارى.

كانت أصولية الحركة الوهابية الجافية في مكة جنوباً غريبة عليهم. والود الذي أبدوه نحوي بعد أن سلمت بالله عن طيبة خاطر لم يختلف عما كان عليه من قبل. وعلى كل حال، فإن موقفهم من أبناء البلاد المسيحيين كان يشوبه شيء من الاستخفاف اللطيف.

ولما وصل أربعة رجال من قبيلة الصليب (Salib) - وهي قبيلة غير عادية ومغمورة من المسيحيين الرُحَّل، مقامها في الجنوب الشرقي من دمشق - إلى مخيمنا ليقايضوا حميراً بالحبوب، أُحسِنت معاملتهم، ولكن باعتبارهم أقل شأناً.

أُغدق عليهم الماء والقهوة في مقعد مثقال، غير أني لاحظت أنهم انفردوا عن رجالنا. ولما حلّ المساء، نصبوا خيمة صغيرة خاصة بالترحال، وأعدوا فيها طعامهم، ثم ناموا.

وصديقي الأمير أمين أرسلان الذي عرف قبيلة الصليب عندما كان والياً على الصحراء في العهد التركي، كان يرى أن القبيلة قد تشكلت نتيجة الاختلاط منذ الحملة الصليبية الأخيرة.

والقبيلة هذه لا طقوس لها، ولا احتكاك لها بالموارنة، أو أي طائفة مسيحية محلية، ورمزها الوحيد هو صليب خشبي. وهي تؤمن بألوهية المسيح. والعيون الزرق مألوفة بين رجالها، على أنها ليست معدومة بين القبائل السامية الخالصة. كما أن بعض رجال تلك القبيلة شُقْر، وبعضهم نُمْش وذوو شعور رملية اللون.

إن وضعهم في الصحراء متميز. فهم خارج الحظيرة بحسب شرعة البدو غير المكتوبة، إلا أن حرمتهم لا تنتهك. ويُسمح لهم بحمل السلاح، ولكن للصيد وحماية أنفسهم من النهّابين فقط. وليس في استطاعتهم القيام بالغزو - «حرفة» البدو الشهيرة في الإغارة على قبائل أخرى للاستيلاء على الجمال والقطعان، وليس للحرب وسفك الدماء، على أن الدماء كثيراً ما تسفك بالضرورة. ومع أن قبيلة الصليب لا حلفاء لها، فلا يُسمح لأي قبيلة بدوية أخرى أن تغير عليها أو أن تهاجمها.

وحين تعبر القبائل الغازية منطقتهم، ويتفق أن تتوقف عند مضاربهم، فهي قد تطلب الماء والقهوة منهم، ولكنها لا تطلب الطعام.

وإذا جاء خيّالة يسألون عن هارب، فإن القبائل الملتزمة بالنظام العام للصحراء ترى أن الكذب، ورفض الإعلام عنه، مسألة شرف. ولكن عندما يُطارد رجل، ويُسأل عنه أولئك المسيحيون الرُحَّل، فإن مسألة الشرف تنعكس، إذ يتوجب عليهم قول الحقيقة، يتوجب عليهم إعطاء المعلومات التي من شأنها أن ترشد إلى إلقاء القبض على الهارب، وهذا العمل لا يلحق بهم أي عار.

يتكلم رجال قبيلة الصليب اللهجة البدوية، غير أن هناك كلمات معينة يبدو أنها فرنسية الأصل - أو على الأقل ترجع إلى جذور لاتينية.

ويرتدي كثيرون منهم قمصاناً من جلد الغزال تحت العباءات، في حين لا يرتدي أحد من القبائل الشمالية ملابس جلدية. إنهم يملكون حميراً وعنزاً وغنماً وجمالاً، ولكنهم لا يملكون خيولاً. وهذه العادة ترجع إلى فترة انتهت منذ أربعين سنة أو نحو ذلك، إذ كان لا يسمح لأبناء البلاد من اليهود والمسيحيين أن يظهروا بين الناس على ظهور الخيل. ففي العهد العثماني كان الواحد من هؤلاء، حتى في دمشق والقدس، يركب حماراً أو بغلاً مهما كان غنياً.

ويعد لمس الحمار، فضلاً عن ركوبه، شيئاً مخزياً وقذراً في نظر أي بدوي من القبائل المسلمة. ولقد كان في مخيم مثقال الكثير من الحمير، ولكن تشغيلها وركوبها مقصوران على النساء اللواتي لا يجدن غضاضة في لمسها، أو على الصبيان الصغار.


الوجدان

فائق بطي

الوعي 7 حزيران 1958

لأهمية كتاب فائق بطي (الوجدان) الذي بث فيه سيرته الذاتية عبر نصف قرن من تاريخ العراق الحديث، آثرت (المدى) الثقافي أن تنشر بين وقت وآخر حلقات من هذا الكتاب. الذي سيصدر من دار (المدى) بدمشق قريباً.

لما يلقيه الكتاب من ضوء على مفصل مهم من نشوء الصحافة العراقية، وتطورها وأثرها في المعترك السياسي، واثر التحول من النظام الملكي إلى الجمهوري وما رافقها من أحداث وانقلابات. والكتاب من زاوية أخرى يكشف أسراراً وحلقات مؤثرة من تاريخ العراق السياسي والثقافي.

(المدى الثقافي)

اعلن (راديو) بغداد نبأ إعلان منع التجول. عادت الجماهير من حيث انطلقت بعد ان قامت بتصفية الحساب مع رموز العهد المباد. لم تكن اعمال السحل في الشوارع لجثث عبد الإله ووزراء الاتحاد الهاشمي او عملاء حلف بغداد المقبور مستحبة، بقدر ما كانت اعمال انتقامية لجموع سحقها العذاب.

تدارس امر اصدار الجريدة، فقرر بقاء (صالح سلمان) و (صادق الصائغ) معه، الى جانب المنضد والطباع الماهر (ابو جان) اللبناني. ذهب الى مقر الاذاعة، حيث تتواجد اعداد من الضباط الاحرار والمنفذين للثورة، واستحصل منهم الموافقة على اصدار (البلاد). في المساء، تحوّل الاربعة الى خلية نحل تتسابق مع الزمن. كتب صالح سلمان وصفا كاملا لاحداث الثورة منذ ساعاتها الاولى حتى المساء. جمع صادق البيانات والنداءات الصادرة عن قيادة الثورة، بينما دبج هو المقال الافتتاحي ومقالا آخر عن مستلزمات نجاح وديمومة ثورة الجيش والشعب في انطلاقة التحرر والسيادة الوطنية. ملأت الاحداث وفرحة الجماهير، الصفحات الأربع للعدد البكر في العهد الجديد. لم يخلد للراحة او النوم الا بعد ان اكتحلت عيناه مع تباشير الفجر بالعدد الأول وفيه عناوين التاريخ الذي خطه صادق الصائغ : (الثورة) وقد احتل نصف الصفحة الاولى. (اعلان الجمهورية العراقية)  و (عبد الناصر يهنيء شعب العراق).

كانت (البلاد) الجريدة الوحيدة التي صدرت يوم 15 تموز. وطبع منها 45 الف نسخة، نفذت كلها في ساعات قليلة.

في صباح اليوم الثاني، كان احد ضيوف الجريدة، ضابطاً من الضباط الاحرار الشباب برتبة ملازم. سلمه صورا تجمع عبد الإله وفيصل ونوري السعيد في جلسات واجتماعات، وصورا اخرى لشخصيات مسؤولة في الدولة في اوضاع مزرية مع نساء الطبقة الفاسدة. طلب منه الضابط الحر نشر الصور في الجريدة، كجزء من مخلفات (قصر الرحاب). اعتذر عن نشرها وقال للضابط: إن الثورة جاءت لانتشال الوطن من الهوة التي

اسقطه فيها نفر من الحكام الرجعيين، ولم تأت للأنتقام من اشخاص فقط معروفين بسوء الاخلاق. ان الثورة اعمق في قيامها واهدافها من الانتقام الشخصي، وهي اكبر من كل تلك التفاهات. اقتنع الضابط بكلامه وتقبل اعتذاره عن طيب خاطر.

تركه الضابط الى قلمه يحكي قصة الثورة (حصيلة كفاح مرير طويل)، في حلقات يومية.

واقتحم الجريدة بعد ساعات، ضابط آخر برتبة (مقدم) وناوله لوحة مطبوعة على ورق (كارتون) تحتوي على صور 13 ضابطا برتبهم العسكرية وتحت عنوان (اعضاء مجلس قيادة الثورة) واشار عليه بضرورة نشرها امانة للتاريخ. اتصل بالمقدم (سليم الفخري) في مقر الاذاعة بصفته اول رقيب عسكري للمطبوعات في عهد الثورة مستطلعا رأيه بالموضوع. اجابه بأن مفارز الانضباط العسكري تقوم بجمع تلك الاوراق في شارع المتنبي حيث جرى طبعها من قبل مطبعة (سلمان) ونصحه بعدم النشر او حتى الاشارة الى وجودها.

في مساء 15 تموز، لقي نوري السعيد مصرعه على يد عريف في القوة الجوية في منطقة (البتاويين) الشعبية. اطل الزعيم عبد الكريم قاسم، قائد الثورة ورئيس الوزراء، من شرفة وزارة الدفاع على سيارة (لاندروفر) وفوقها جثة السعيد في ملابسه الداخلية، فالتفت الى مرافقه الامين (وصفي طاهر) وقال: الآن نجحت الثورة مائة بالمائة. طلب الزعيم من سكرتير مكتبه الخاص (سعيد الدوري) الاتصال بالجريدة لاجراء لقاء صحفي معه. هرع (غازي العياش) الى الوزارة ليظفر منه بأول حديث للرأي العام الداخلي والعربي عبر صفحات (البلاد).

تذكر ضربة (عبد الناصر) الصحفية قبل ثمانية اشهر فقط، فخطرت على باله ضربة اخرى. سافر (غازي) الى القاهرة.. لكن غيبته طالت هناك دون نتيجة. عاد بعدها خالي اليد. في المطار ذهب (كمال) لاستقباله، فكان المعاون (ستار) اسبق في القاء القبض عليه. لم تسعف كمال الحجة لإنقاذه، فالأمر لم يكن يتعلق بالجريدة، بل بأمن الثورة. لقد اسدل سجن (القلعة) في الموصل الستار على مسرحية كان (غازي) بطلها وكانت احداثها تدور بين اروقة السفارة المصرية ببغداد وصحيفة (الاخبار) القاهرية، وبين (دار المختار) المطلة على نهر دجلة، وانتهاء ببكاء وعويل غازي في عرصات الهندية.

كان غازي لا يتقن الكتابة الصحفية لغة واسلوبا، الا انه ولج باب الصحافة لأول مرة محررا في (البلاد) عن طريق الواسطة لدى مؤسسها في منتصف 1954. شاب اسمر طويل، طموح، يدل مظهره عن طيبة وبساطة وحب الناس. خجول، او هكذا ظهر لمن عرفه آنذاك. كان يتقاضى في الجريدة راتبا شهريا مقداره 30 دينارا، الا انه ما

كان يصرفه يبلغ المئات من الدنانير. عرفته الحانات والملاهي زبونا دائما بصحبة الزوار والضيوف مجهولي الهوية، الا  له، ولأصحاب الشأن.

طيلة فترة اشتغاله بالصحافة، كان يدفع لمن يكتب له، وكان يستغل من قبل الاجهزة الحكومية بعد عام 1963، وتكتب المعلومات والمقالات عبره في الطعن والتهجم على القوى المعارضة للحكومات المتعاقبة. اصبح مرافقا للصحفيين المصريين بعد ثورة الردة في شباط. واصبح مراسلا لمجلة (الأسبوع العربي) البيروتية التي كان نظام البعث يمولها لسنوات طوال. تركها ليلتحق بمجلة (الدستور) اللبنانية، محققا طموحه ولكن عن غير جدارة، بل بأقلام صحفيين مجهولين للقراء. دفعه غروره ووصوليته الى ان يخصص المقالات التي تهاجم القوى الوطنية والثورية وتاريخها المجيد مكتوبة من قبل مدير الأمن العام وبخط يده، كلما لعبت سياسة البعث العفلقي دورها في الموازنة...

                                               ***

عاش احداث الثورة وتطوراتها المتلاحقة بحذر شديد.. ارتبك الناس الذين احبوها وهم يستمعون الى خطب وتصريحات عبد الكريم قاسم ونائبه عبد السلام عارف.. قائد الثورة يصرخ من شرفة وزارة الدفاع : (يا جنود الحرية والسلام)، ونائبه يخطب في جماهير الناصرية: (يا جنود العروبة والوحدة). زعيم الثورة يسكت، ونائبه يتكلم، كرسول للثورة في جنوب البلاد: (نريدها ثورة وحدوية اندماجية) .. (لا جون ولا جونبول، بل حسن وحسين). ويؤكد على ان الثورة هي ثورة ضد القصور .. (فلاعمارات ولا ثلاجات، بل هي من اجل الشعب ومن اجل اهالي الرمادي التي ذرت الرماد في عيون الاعداء).

ومع الايام الاولى، التف الشيوعيون والديمقراطيون حول الزعيم عبد الكريم قاسم، بينما احتضن البعثيون والقوميون عبد السلام عارف. المستقلون حائرون والرجعيون - جماعة العهد الملكي - تراجعوا الى الخط الثاني تراجعا مصحوبا بالحذر والترقب. ارتفعت الشعارات في مسيرات الابتهاج والتأييد: (اتحاد فدرالي، صداقة سوفييتية)، و (وحدة وحدة عربية، لا شرقية ولا غربية).

انعكست تلك الصورة التي ظهرت في الشارع، على الحرف المقروء في الصحف ووسائل الاعلام الاخرى. بات متشائما وخائفا على مصير (الوليد) وهو يدخل شهره الثاني.

صدق حدسه في يوم من ايام شهر آب.. حين اقتحم (كمال) غرفته في ادارة التحرير، مصفر الوجه، وقد تعثرت الكلمات على لسانه، وهو يقول:

- لقد عطلوا الجريدة.

صعقته المفاجأة، وظن ان كمال يمزح، الا ان رئيس التحرير اكد ذلك واضاف: إن وزارة الداخلية طلبت حضوره هناك.

بعد اقل من ساعة، عاد كمال متألما بعد مقابلته وزير الداخلية العقيد الركن عبد السلام عارف. بسط امامه والمحررين عدد الجريدة وقال:

- ما هذا الكاريكاتير؟

- انه يمثل انطلاقة الشعب في ثورة تموز لتحطيم قيوده.

ثم راح يقنعه بوجهة نظره وهو يشير الى الكرات الحديدية السوداء التي تمثل حلف بغداد ومنطقة الاسترليني والمساعدات الامريكية والسجناء السياسيين.

رد عليه كمال وهو يعي ما يقوله:

- ولكن اين الشرح تحت الكاريكاتير؟

- الكاريكاتير وا ضح ولا يحتاج الى الشرح.

- انه في وسط عريضة الاكراد وقد اعتبره عبد السلام تحريضا مقصودا واشارة واضحة الى كون الشعب الكردي لا يزال مكبلا بالقيود في العراق.

نظر الى وجوه المحررين والعمال الذين وقفوا مشدوهين وهم يستمعون الى الحوار بين رئيس التحرير وبينه، ثم وجه كلامه الى الجميع وقال:

- يا للسخرية!!.. ما نزال في اربعينية الثورة.

نظر ثانية الى وجوه المحررين الذين احبهم واحترمهم، فلمس الحيرة تطبع بصماتها على وجوههم.. صادق الصائغ، مفيد الجزائري، صالح سلمان، عبد اللطيف حبيب، سلوى زكو  وشاكر اسماعيل، لا يقوون على الكلام. ان السبب وراء هذه الضجة المفتعلة التي يثيرها عبد السلام عارف ليس الكاريكاتير، بل ان الثورة باتت تسير في طريق آخر اخطر بكثير من (الزلة) الصحفية.

لحظات هدوء وترقب وكأنها تفصل مسافات طوال بين كل واحد من اعمدة (البلاد)، كانوا قبل ساعات عصبة متماسكة تدق ارض دار الجريدة اصرارا على التحدي باقدام ثابثة لا تقبل ان تتزعزع عن المواقع التي يحتلونها.

امعن النظر في وجه صادق الصائغ، الشاب الوسيم الطموح، فوجده متفائلا تفصح قسمات وجهه عن ثقة بأن ما جرى بين رئيس التحرير ووزير الداخلية ما هو الا زوبعة في فنجان. لقد كان صادق، صادقا في شعوره وحدسه الى حد ما لأن الاجراء قد تم على يد عارف، لا على يد غيره من قادة الثورة.

استرق لمحة خاطفة الى الشاب النحيف الواقف الى يمين صادق، فاعتاده خجولا كعادته، مغمض العينين بايماءة تنم عن الرضى للكلام الذي قيل همسا والذي يصوغه الصادق، وهي ايماءة تعني القليل من (مفيد) في مثل هذه الظروف.

ووقع بصره على صالح سلمان، فوجده لا يكف عن تحريك رأسه يمينا وشمالا وهو يضغط باصابعه على سيجارته بعصبية مصطنعة، فعرف منه انه عاجز عن الكلام في تفسير ما جرى ولماذا...

اما شاكر اسماعيل، الاديب اللامع المنزوي تواضعا وراء ركن الرياضة في اكثر من جريدة ومنذ سنوات، وهو المعروف برشاقة قلمه ككاتب قصة قصيرة، فلم ينتظر دوره ضمن المراسيم المعتادة، بل استعد لمغادرة المكان وهو يمضغ عباراته محاولا ان لا تكون واضحة كعادته حين يريد ان يحتفظ بالمعنى لنفسه لئلا الخطأ ينسب اليه، وقال وهو على باب غرفة الاجتماع:  والله نفس الاسطوانة أمس واليوم.

نادى على شاكر بعد ان غاب في العتمة، فطرق عائدا الى المجموعة وهو يبتسم خبثا. ان عباراته كانت واضحة ومسموعة، فأراد ان لا يكون على خطأ، فاستعد للطوارىء.

قال له:

- ماذا تقصد يا ابا شكرية؟

- استاذ، نفس العقلية.

توسل اليه ان يفصح اكثر، ادراكا منه بأن شاكر يلعب في الساحة السياسية افضل مائة مرة من اولئك الذين يلعبون بالكرة في الساحة بين هذا الفريق او ذاك.

قال شاكر:

- اتذكر يا استاذ حكاية مهرجان الشبيبة؟

- الاخير يا شاكر؟

- بالضبط.

- وما هو الرباط؟

- نفس العقلية. انهم يخشون ما بين سطور الكلمات.

راح شاكر يقص على المحررين حكايته مع اجهزة وزارة الداخلية قبل الثورة. قال:

نشرت وصفا جميلا لمباراة كرة القدم بين فريقي الشرطة والموانىء، ومن سوء حظي ان المباراة كانت قد تأجلت، غير ان المقال ظهر في صدر الصفحة الرياضية دون اية صورة للمباراة. استدعيت على عجل الى دائرة التحقيقات الجنائية في شارع النهر. قالوا لي: لقد كان وصفك للمباراة رائعا. الرياضة تعني السلام اليس كذلك؟ مع الصفعة الاولى، سأل احدهم: هل حضرت بالفعل الى الملعب ام حضرت مهرجانا للشباب والرياضة؟ ثم انهالت عليّ الاسئلة من كل صوب، وبرفقة كل جواب، صفعة تنهال على وجهي مقرونة بسيل من الشتائم. وعندما قلت لهم: ما هذا الذي تفعلونه؟ انبرى احدهم وهو معاون أمن، وقال: ماذا تقصد: (... وكانت السماء زرقاء صافية، والارض خضراء لامعة، والطيور تطير عاليا فوق ارض الملعب فارشة اجنحتها البيضاء، والملعب مزدحم بالجماهير .. الكل فرح مستبسر...)؟

ثم سكت، وبعد ان دحرج ضحكته التي اشتهر بها شاكر اسماعيل، اردف:

كانت تهمتي اني شاركت في مهرجان الشبيبة العالمي وانقل للقراء وصفا لمراسيم الافتتاح. فالمستمسكات كانت عبارة عن تقرير ينص على ان مباراة كرة القدم كانت وهمية! اما الاثبات، فهو المهرجان. لعنة الله على الصدفة والكذبة في دنيا الصحافة.

ضحك الجميع .. قال مفيد:

يعني ما بين سطور الكاريكاتير المنشور ما يثبت لعبد السلام عارف بأن الشعب الكردي لا يزال مكبلا بالقيود. اي مجرد اعتقاد شخصي كالمعاون الذكي آنذاك.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة