الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

العشائر والدولة : دروس مسيرة الاندماج السياسي 1921-2003

 

الديرة هي ميدان السياسات العشائرية. الاتحاد العشائري والحلف العشائري وما شاكل يمثل، في افضل الاحوال، شكلا لترتيب حل السياسات ما بين العشائر. المركزية السلطانية الامبراطورية كانت قابلة للتحقق في ظل بنى اقتصادية وسياسية وفكرية وقيمية انتهى عصرها منذ فترة طويلة. المركزية الملكية الاقطاعية للاطار الوطني رغم ايجابياتها على اصعدة متعددة وخصوصا فما يتعلق بعدم احتكار الدولة لموارد الكيان المادية والسياسية  أصطدمت موضوعيا بحدود منطقها الداخلي. فهي كانت خاضعة، من جهة، الى سيطرة مكونات محلية ممثلة بالشيوخ والرؤساء والزعماء  المنخرطين في سياقات نظام اقتصادي وانتاجي شبه اقطاعي ومعرقل للتنمية. وتأرجحت، من جهة اخرى، ما بين الحل العنفي عبر الجيش والحل السياسي التمثيلي المحكوم، بدوره، بسيطرة تلك المكونات المحلية. اما المركزية العسكرية السلطوية فولدت محكومة بجوهر سياسات الجيش الفوقية القسرية والابوية وخضوعه ذاته الى منطق الولاءات والتضامنات العضوية الضيقة. واخيرا قامت المركزية الشمولية الطائفية، كليا، على قاعدة اخضاع كل الاطار الوطني وموارده السياسية والمادية والمعنوية الى منطق السيطرة الفردية والعائلية والعشائرية عبر تسويد ألية حكومية بيروقراطية شبه شاملة للملكية والاستثمار. 

اذن، ماذا تقدم لنا هذه الانماط المذكورة اعلاه  للاندماج السياسي وتشكيل الدولة المركزية من معانى ودروس معاصرة تفيد في تحديد الشكل السياسي الممكن، سلميا، القابل للحياة وفق مبادىء العدل والشرعية وانطلاقا من التعددية الاجتماعية في العراق؟

ان علة وجود كل مجتمع سياسي تكمن، قلبا وقالبا، في تثبيت اطار وقواعد العدل والسلام لكل الناس المنخرطين فيه. ولعل من الممكن ان يتحقق مبدأ العدل (بمعنى المساواة السياسية ومبدأ الشرعية) انطلاقا من اطار محلي تضامني صغير او ولاء قديم ما قبل وطني كالعشيرة، مثلا. وقد يكون مفهوم المساواة العشائرية نموذجا لنظام سياسيي يحقق مبدأ العدل والسلام بطريقته الخاصة. يتحقق ذلك، مثل، حين تقوم عملية صنع القرارات السياسية داخل اطار العشيرة على مبدأ المساواة بما يخضع له الجميع وحين تنعدم فيه مظاهر المراتبية والتعسف السلطوي.

بيد ان كل ذلك يبقى، نظريا، وفي حدود العشيرة. اذ ان العشائرصارت ومنذ امد بعيد تحيا وفق علاقات تراتبية صارمة تميز بين الشيوخ – الاغوات وابناء العشائر والمساكين. وعلى كل حال، فحالما ينتقل الامر الى مناقشة العلاقات مع العشائر والقبائل الاخرى، تلك الواقعة على الحدود القريبة او البعيدة، فان اي اثر للمساواة فيما بين افراد العشائر المختلفة ينعدم تماما. بل بالعكس، تصبح القضية تعتمد على سياقات تتعارض تماما مع فكرة المساواة في الانتماء للمكان الواحد، كالمنافسة وروح التعصب للقبيلة والفخر بقوة ومنعة وامتيازات القبيلة وما الى ذلك. كيف الحال اذن بترتيب علاقات الانتماء الخاصة بكيان سياسي تنخرط فيه ليس عشيرة او مجموعة عشائر محدودة بل يتسم تعددية اجتماعية وسياسية وفكرية واسعة النطاق وعرضة المحتوى؟ من الواضح ان فكرة ارحب تسمح بادماج كل هذه المكونات على اساس قاعدة حاسمة من المساواة فيما بينها، لابد ان تقوم.

 

الاندماج والافتراق:

تتلخص دروس مسيرة الاندماج المتعثرة في العراق بما يلي:

1. ما من مؤسسة سياسية ذات طابع تمثيلي نشأت في التاريخ ولم تستند على فكرة سياسية اساسية تحسم مرجعية التواجد الاجتماعي المشترك في المكان. فلتحقيق عملية التمثيل السياسي لجماعة اجتماعية معينة لابد من تعليل وجود هذه الجماعة المشترك عبر تأسيس فكرة مناسبة لترتيب التفاعل القائم بين المنضمين الى هذه الجماعة. واذا كانت عملية التمثيل تخص مجتمعا متنوع المكونات فليس هناك من فكرة مناسبة لبلورة مرجعية العيش بسلام بينها غير فكرة الوطن الواحد، الدولة الواحدة والهوية الوطنية الواحدة.

طالما بقيت الفكرة الوطنية بمعناها الانساني العام مختطفة ومعلقة بالهواء  فأن إحياء وإعادة تفعيل آليات اجتماعية- ثقافية وسياسية لا وطنية لتكوين الولاء وبلورة التضامن ستجري يوميا. هذه الاليات اللاوطنية فعالة لانها تنبثق على اسس عضوية قريبة ومباشرة، جريا على حقيقة او وهم صلات الدم والنسب والمذهب والطائفة والمنطقة وما شاكل. أي انها تقوم على كل الصور التي تتعارض ومنطق الثقة المتبادلة التي تتجاوز هذه الصلات وبما ينطوي على قاعدة المواطنة والانتماء لكيان اوسع والخضوع المشترك لفكرة ارحب. لذا فان اليات العشيرة والطائفة والقبيلة والمذهب والمحلة لا تمثل، لطابعها المرن و قديم العهد مجرد نظم قيم مهجورة. بل يمكن لها ان تحيا من جديد بل وكثير ما تمد واحدا او اكثر من ارواحها المتعددة بين مؤسسات سياسية حديثة كالدولة والاحزاب والمنظمات والادارة الخ. هنا بالذات يكمن، ايضا،  سر عسر ولادة احزاب المصالح الاقتصادية السياسية المؤدلجة، أحزاب البرامج والمبادىء.

ان تنوع مكونات المجتمع العراقي بطوائفه وقومياته ومذاهبه يشكل، بلا شك، عنصر غنى ثقافي وروحي واجتماعي، ولكن فقط اذا استثمرت هذه المكونات بعقلانية وعدالة وفي اطار سلام وطني بينها. ويمكن لهذه المكونات، بخلاف ذلك، ان تحمل في طياتها قنابل قابلة للانفجار والتدمير حين يتسلط عنصر من عناصرها على الكل المتنوع محتكرا موارد الكيان المادية والسياسية والقيمية ليعيد تشكيلها وتوزيعها على هواه. واذ يهيمن نمط  عسكري فوقي وابوي على عملية ألاندماج الوطني في بلد متعدد المكونات الاجتماعية والولاءات التقليدية فان مصير الدولة برمتها سيخضع، كليا، الى هوى نخب طائفية، عشائرية وفئوية تخرج من صلب مؤسسات الجيش والشرطة والامن. 

2. بينما تشكل الولاءات والتضامنات العضوية المحلية واليات التعبئة السياسية المنبثقة من العشيرة والعائلة وذوي القربى وابناء المحلة مقومات متأصلة في مشروعات الاندماج السياسي الامبراطوي او الملكية الاقطاعية او العسكرية الفوقية او الشمولية الطائفية، فان الاندماج السياسي القائم على مشروع الدولة الوطنية يفترض انخراط الناس والمكان والدولة في كلٍ واحد على اساس فكرة الولاء الاساسي لمؤسسات سياسية لا شخصانية. علاوة على ذلك، فان آليات تكوين الوحدة والولاء السياسي الوطني في ظل تعددد وتشظي اجتماعي لا تنجح، بالضرورة، الا إذا تمكنت المكونات المختلفة من تعريف نفسها ومصالحها الاقتصادية والسياسية والثقافية، طوعيا،  ضمن المشروع الوطني.

الدولة في العراق اذا اريد لها ان تتكون لابد، مصيريا، ان تتشكل مرجعيا وشرعيا مستقلة عن السلطة السياسية المتغير. بل لابد للدولة ان تكون مركزا للسلطة لا مطية له. ولابد ان تكون للدولة جوهرها ووظائفها المستقلة ليست فقط عن شخص الحاكم بل ايضا عن شخص المحكوم، لابد ان تكون مستقلة عن المجتمع وتابعة له في آن واحد، أي لها مؤسساتها القائمة على تخصصها الموضوعي كمرجعية مستقلة ولها معاييرها والياتها لحل المشاكل والازمات. بهذا المعنى فقط يمكن ان تتاح الفرصة للفرد والجماعة في العراق ان يحظيا بالاحترام الناجز وان يتخلصا تدريجيا من سلطة الولاءات والتضامنات الطائفية المذهبية والاثنية والقبلية وسواها. بهذا المعنى لابد من اقامة الدولة الوطنية في العراق باعتبارها مبنى للشرعية الوطنية ومؤسسة القانون الاساسي للبلاد ومرجعية دستورية وبنية لادوار سياسية متخصصة.

المؤسسة والمرجعية:

عند النظر لواقع  الحالة السياسية في العراق ومستقبل تطوره على الطريق ألوطني الديمقراطي فمن الضروري رؤية بعدين اساسيين مختلفين، تحليليا، وربما تكتيكيا ايضا ولكن مترابطين استراتيجيا. البعد الاول يتعلق بضرورة خلق مؤسسات الحكم السياسي من حكومة ووزارات ومؤسسات ادارية وسياسية وغير ذلك مما يتطلبه أي نظام حكم. وبعد أخر يتعلق بخلق اساس مرجعية وشرعية الدولة، اساس التواجد المصيري المشترك لجماعات اجتماعية مختلفة يمكن ان تتفق او لا تتفق على العيش المشترك. فقبل ان  يتفق س العراق على طريقة حكم الجماعة، عليهم ان يتفقوا اولا فيما اذا كانوا يشكلون حقا جماعة مشتركة. قبل ان يتفقوا على خلق اليات صنع القرارالسياسي المفروض على الجميع عليهم ان يتفقوا على مبدأ الانتماء المشترك. من هنا، فان  اي ترتيب مقبل لنظام الحكم السياسي للكيان يجب، بالضرورة، ان يتمفصل على تنظيم اسس تكوين وقيام ومستقبل هذا الكيان. ان تكوين دولة قانون في العراق قائمة ليس مجرد على الاقرار الفعلي بالتعددية الاجتماعية والفكرية السياسية بل ايضا على المساواة السياسية التامة التي تصونها مؤسسات مستقلة هو المرحلة الاولى والاولوية الاساسية على طريق التطور السياسي الديمقراطي.

من المستبعد ان تقوم ألديمقراطية في اي مجتمع ما لم تحسم قواه الاجتماعية السؤال حول علّة العيش المشترك، فكرة الانتماء الى كيان يضم الجميع بطريقة تدخل في وعي ومشاعر الافراد والجماعات عفويا و طوعيا لدرجة التلقائية والبديهية. فكيف يمكن لهذا المجتمع ومكوناته ان يقوم على تنظيم مؤسساته الديمقراطية ما لم يعرف الجميع انهم يخضعون لهذه المؤسسات بلا تفريق او تمييز؟ وان هناك (مساواة وطنية) لاغابر عليها تضم الجميع بلا استثناء؟ وان الفكرة الوطنية المرفوعة الى مرتبة القانون الذي يخضع له الجميع ؟

في عمق هذا السؤال مبدأان جوهرييان يحكمان ويحتمان دولة القانون في العراق: العدل والشرعية. العدل يتجلى، عمليا، عبر حقيقة المساواة السياسية كما ينص عليها دستور البلاد وتعمل على تطبيقها ورعايتها مؤسسات دولة القانون السياسية والامنمية. اما الشرعية فتتجلى، عمليا، عبر الممارسة الفعلية لمبدأ المساواة السياسية وكيفية تحققها بالمؤسسات. من بين الخصائص الاساسية للنظام الوطني الديمقراطي المستقر هو:

اولا، احتمال ضعيف للغاية لانفجار العنف الاجتماعي داخله.

وثانيا، اتسام النظام بدرجة واسعة من الشرعية السياسية، قيميا، واخيرا، فعالية اتخاذ القرار بالنسبة لمستويات النظام المختلفة[1].

 تتمتع الخاصيتان الاولى والثانية باهمية فادحة بالنسبة لمصير الكيان المركزي العراق ومستقبله.

العدل والمساواة في ممارستهما السياسية المؤسساتية، فعليا، من خلال النظام الدستوري والانتخابي يشكلان العقبة الكأداء امام سيطرة مجموعة على اخرى. بيد ان شرط ذلم ان يقوم العدل والمساواة  على توزيع عادل لموارد البلاد المادية  والسياسية، مركزيا واقليميا ومنطقيا. هذا هو الطريق الوحيد لتفادي العنف والانشقاق الاجتماعي. العمل بدستور منبثق من اجماع اجتماعي ووطني عام وانتخابات نزيهة والتزام قانوني ثابت بحريات الناس السياسية والمدنية، انتخابات يحترم نتائجها الجميع، هو الطريق الوحيد المتاح لتأسيس شرعية الدولة الوطنية والاساس الوحيد لتنمية الاندماج الوطني، سلميا وطوعيا.

تبين التجربة التاريخية المعاصرة في العراق، انه لا يمكن إقامة دولة القانون الوطنية بدون تحقق فكرة الوطن للجميع. الدولة التي لا تقبل فكرة أحتمالية التعاقب على نظام حكمها السياسي وادارتها قوى متباينة الايديولوجيات والمبادىء وتعتمد على قانون اساسي ينتظم فيه نشاط الجميع هي دولة لا وطنية بالمعنى التاريخي والانساني المباشر. وبهذا المعنى، فان الجماعة التي تنبذ فكرة السكن والعيش المشترك على قاعدة قانون اساسي واحد يحكم الجميع تنبذ فكرة الوطن الواحد لتحقق، بدل ذلك، فكر واحدية الدولة، طائفيا. السلام الوطني في العراق يمثل الصيغة العراقية المحلية لفكرة المساواة السياسية. والسلام الوطني زائدا تأسيس شرعية التعاقب على السلطة السياسية بصورة سلمية هما شرطا أي حياة سياسية انسانية متخيلة لعصر ما بعد الشمولية الطائفية.

3. جل الاحزاب السياسية التي نشات في العراق وحتى تلك التي اراد قادتها ان تكون احزاب ديمقراطية كانت- ولاتزال- في غالبيتها احزاب ضعيفة القدرة، تنظيميا وسياسيا على تعبئة قاعدة جماهيرية لتتجاوز الولاءات التقليدية ولتسترشد حصرا ببرامج اقتصادية سياسية وايديولوجية. بينما يفترض أي نمو لسياق سياسي، وطني ديمقراطي ان تنشأ احزاب عريضة تضع هدف التغيير الاجتماعي والتحويل الوطني الديمقراطي للعراق موضع الاولوية الحاسمة. ومن الضرورة القاطعة، بالطبع، ان يتوجه ولاء كل التنظيمات السياسية في العراق اولا وقبل وكل شيء الى دولة القانون ومؤسساتها السياسية. مثل هكذا ولاء سيتطابق مع ماهية الهوية الوطنية المشتركة لمكونات العراق المختلفة. من هنا لابد للتنظيمات السياسية في العراق ان تكيف مراميها السياسية الهادفة- ضمنيا او بصراحة- الى تكريس نماذجها الخاصة للبديل السياسي والمرجعية السياسية ليتلاءم في الجوهر والاساس مع هذا الولاء.

ما من هوية جماعية تتشكل وتنمو إلا مع نمو ولاء الناس لها ونشوء منظومة قيم  ومعايير ورموز مشتركة تربطهم معا. وفي العراق ترسخت العديد من القيم الاخلاقية والرموز الحضارية والمصالح الاقتصادية المشتركة منذ زمن طويل بين مختلف مكوناته الاجتماعية. وفضلا على وجود قواسم مشتركة فان ثمة معطى معاصر فادح المعنى يمكن ان يشكل، اذا استثمر استثمارا صادقا، عنصرا حاسما من عناصر منظومة القيم والرموز الموحدة لكل مكونات العراق. يتمثل هذا المعطى بالمعاناة الدامية التي مرت باهل البلاد، على أختلاف ولاءاتهم واصولهم، على يد ألاستبداد الشمولي الطائفي. فضحايا العنف والقهر هم في كل مكان في العراق. ان أي بديل سياسي، قائم، مثلا، على وازع اخلاقي ديني مثالي (الحركات الاسلامية) او مثال ثوري تغييري راديكالي (الاحزاب الماركسية واليسارية اللبرالية) او دافع قومي عربي (الاحزاب القومية) او وازع قومي استقلالي (الاحزاب الكردية) لابد ان يتغير، داخليا، ليستند على وينطلق من الولاء لدولة القانون الوطنية. وفي هذا السياق فان اقامة محاكمات عادلة لمجرمي النظام السابق والعناية الخاصة بالمقابر الجماعية والسجون السابقة يمكن ان يقيم رموز مهمة على طريق خلق المعاني الوطنية المشتركة. ليس ثمة اسمى وامتن من اخوة المقهورين وضحايا الطغيان.

4. ثمة علاقة تلازم ايجابية مباشرة- رغم انها غير مطلقة- بين تطور الدولة الوطنية سلميا وديمقراطيا وبين الاصلاح الاقتصادي. المقصود بالاصلاح الاقتصادي ظروف العراق هو الاصلاح الذي يحمل معانى انهاء الهمينة الاحتكارية للنظام السياسي على مصادر انتاج الثروة الوطنية، على الاقل على القسم الاعظم منها، وتحرير القوى الانتاجية للمجتمع المدني وعقلنة المالية العامة واصلاح النظام الضرائبي وتشجيع المنافسة الانتاجية عبر اليات السوق الحر. من المؤكد ان العلاقة بين التنمية الراسمالية وتطور الدولة الوطنية الديمقراطية ليست علاقة بسيطة سببية او ميكانيكية. فمجرد القول ان التطور الراسمالي يقتح الطريق- عفويا- للديمقراطية او يوسعها هو قول ليس له سند تاريخي او حتى منطقي. انما العلاقات الراسمالية- ايا كان مستوى نضج تطورها يمكن ان تندرج وتعمل في اطار انظمة سياسية مختلفة تتراوح في شموليتها وتسلطها وابتعادها عن الديمقراطية. ومن المفيد التذكير، ايضا، ان الديمقراطية كنظام سياسي، عمرها اقل من عمر الراسمالية والدولة الوطنية.

بيد ان تجربة نمو الدولة الوطنية، تاريخيا، وفي كل مكان تقريبا، تؤشر على تطورات اقتصادية سياسية لها اسقاطات عميقة على اشكالات الاندماج السياسي في العراق ونشوء مركزية الدولة. تتلخص هذه التطورات بان وجود ونمو قوى اقتصادية مستقلة عن السلطة السياسية المركزية سيمهد التطور الاجتماعي للحصول على تنازلات لبرالية خطيرة الاهمية تتصل بالغاء احتكار المركز السياسي للثروة الاقتصادية والزامه بتحقيق تمثيل سياسي دستوري ونشوء قوى سياسية نابعة من المجتمع المدني. الحصول على حقوق سياسية وحريات مدنية هو منتهى هذه التطورات.

وفي بعض البلدان التي ترعرت فيها الدولة الوطنية- وليس كلها- فان نمو الراسمالية كان يفضى تدريجيا الى نمو طبقة وسطى عريضة تتبنى مشروع تعميق التمثيل السياسي وصولا الى الديمقراطية السياسية.

ان تحديد دور السلطة السياسية ووظيفة الدولة ضمن البنية الاقتصادية للبلاد لا تعني، ابدا، نزع دور الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع بما فيه راس المال ودفع التنمية الوطنية. هذا التحديد يعني قطع دابر الهيمنة الاحتكارية الشمولية لنظام الحكم السياسي و اقتلاع الاسس الاقصادية والمالية لممارسة الاستبداد من جذوره. المطلوب هو تفكيك السيطرة الابوية الحكومية على موارد الكيان المركزي وليس تفكيك دور الدولة العقلاني في تنظيم الحياة الاقتصادية وتوفير حوافز النمو الديناميكي. وهذا سيفضي الى تقوية لا الى اضعاف الدولة الوطنية اذ أنها سترجع  الى ممارسة دورها العقلاني وتنفيذ وظائفها الاساسية من توفير الشرعية السياسية والامن والسلام الوطني.

الدولة يمكن ومن الضروري ان تنجز بعض الادوار المهمة التي يعجز القطاع الخاص عن القيام بها او تلك التي لا يمكن ان يقوم بها انطلاقا من مبادىء العدل الاجتماعي والمساواة السياسية. ان أي تفسير لعملية تفكيك السيطرة الابوية الاحتكارية المركزية على الموارد الاقتصادية والسياسية للكيان المركزي باعتبارها اضعافا للدولة هو تفسير يفضي سياسيا الى فشل نمو كيان الدولة الوطنية واندماجها، طوعيا وسلميا. القاعدة الذهبية الحاسمة هي ان أي دور للدولة، كبير او صغير، في الحياة الاقتصادية يجب ان يخضع كليا لمنطق القانون والدستور والتمثيل السياسي. في هذه الحالة فقط يمكن توفر العدل والشفافية والمسؤولية في القوانين والسياسات الاقتصادية المتبعة.

 

الأحزاب والدولة

اقطاب التنظيمات السياسية في العراق ومشروع تأسيس هوية وطنية عراقية جديدة

تتسم التنظيمات الحزبية القائمة في العراق بتنوع شديد في قاعدة التعبئة التنظيمية والرؤية الفكرية والمناهج السياسية. فقسم مهم منها مثل حزب الدعوة، والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية، ومنظمة العمل الاسلامي وغيرها تمثل تنظيمات سياسية شيعية قائمة، فكريا و سياسيا، على مبادئ وتصورات ذات مضامين سياسية دينية. وهي قائمة، تنظيميا، على تعبئة افراد وجماعات من بين الشيعة حصرا، أي من بين ما يقرب من 55 الى 63 % من سكان العراق وخصوصا في مدن جنوب العراق ومناطق بغداد الفقيرة.

وهذه التننظيمات الدينية الشيعية تستند، احيانا، على ارتباطات عائلية وعشائرية ومناطقية. وفيما حافظ بعضها على صلات وثيقة، فكريا وسياسيا ومذهبيا بالنظام السياسي الايراني فان بعضها الاخر صار يشدد منذ سنوات سابقة على  طابعه الوطني العراقي منحيا جاتنبا- على الاقل نظريا- صفته المذهبية الشيعية. ربما يستمد هذا التوجه طاقته من قراءة مستقلة للتطور السياسي والفكري المعاصر في العراق. وبالذات من ادراك عناصر تميز ونمو الهوية العراقية للشيعة ورغبة الاغلبية العظمى منهم  في ان يروا مستقبلهم ضمن الكيان العراقي وليس خارجه كتابع للنظام الايراني. فلعل هذا التوجه لدى تلك التنظيمات قابل للتعمق من الناحية النظرية. بيد ان هذه التنظيمات ستجد صعوبة بالغة، ربما مستحيلة، في كسب جماعات اجتماعية من خارج البنية السكانية الشيعية.  ثمة تحديات تنظيمية وايديولوجية عميقة لا طاقة للعديد من قادة تلك التننظيمات على مواجهتها. ثمة، على العكس، صعوبات جمة في كسب ابناء الشيعة انفسهم وزجهم في سياقات سياسية ايجابية لصالح بناء دولة ما بعد الاستبداد، كما تريد الكثير من التنظيمات الشيعية.

ليس كل الشيعة منضوين في هذه التنظيمات. فبينما ينخرط قسم من الشيعة في احزاب وتنظيمات لا دينية، علمانية او عشائرية او غيرها فان اعداد كبيرة منهم لا تزال، اذن، تحيا خارج السياقات السياسية. ثمة مئات الالاف ان لم يكن بضعة ملايين من ابناء الشيعة غارقين في حالة تهمش متعدد الابعاد والمستويات ابتدات وتعمقت مع سياسات نظام صدام حسين. لكن حالة التهميش لم تتوقف بعد سقوط النظام ولم تتحول، بالتالي، الى حالة اندماج تنموي، سياسيا واقتصاديا وثقافيا. والى ان يحصل فان الاف من الشيعة خصوصا من الجيل الشاب سيكون عرضة مناسبة تماما للتعبئة المتطرفة، سياسيا وتنظيميا. ومن ناحية المرجعية المذهبية فهناك ما لايقل عن اربع مرجعيات مهمة يتوزع عليها ابناء الشيعة، دينيا. بيد ان آية الله علي السيستاني يحتل، الان، موقعا بارزا بين هذه المرجعيات. وهو يوصف باعتداله وسعيه لتحقيق اقصى ما يمكن من فصل القوى والميادين ما بين المجال الديني والمجال السياسي عبر تشديده على مبدأ التقية الدينية وانطلاقه من مبدأ الوطن العراقي الواحد. ومن الناحية الحزبية الاستراتيجية يمكن النظر الى كل التنظيمات السياسية الشيعية كاطار واحد قابل، على المدى القريب، ليس للتوحد والاندماج التام بل للانخراط في تحالفات استراتيجية وخطط سياسية مشتركة.

اما الاحزاب الكردية، فرغم وجود عدد كبير منها وبالذات في المنطقة الكردية، فان الحزبان، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني يهيمنان على الولاء السياسي لاغلبية الاكراد. ويتحقق هذا الولاء فعليا ضمن الجغرافيا السكانية للاكراد التي تشكل ما يقرب من 15 الى 22 % وخصوصا في مدن اربيل والسليمانية ودهوك وكركوك والموصل. واذا نحيت الارتباطات العشائرية والمناطقية التي تسم هوية هذين الحزبين بقوة فان بالامكان النظر اليهما سياسيا، ايضا، بمثابة حزب واحد. فكلاهما يعتمد، تنظيميا وسياسيا، على تعبئة جماعات ومصالح اثنية كردية بالاساس. ويتبنى كلاهما سياسات اقتصادية ورؤى ايديولوجية متقاربة.

ولكن خلافا للتنظيمات الشيعية التي يبقى خطابها مشوبا بغموض محير للموقف من والعلاقة ما بين الدين والدولة والحريات المدنية فان هذين الحزبين سوية مع اكثر التنظيمات الكردية باستثناءات محدودة يحملان منظورا علمانيا لدور الدين والدولة والسياسة. فضلا على ذلك، فان فترة 1992-2003 قد شهدت وضعا استقلاليا فعليا للمنطقة الكردية عن المركز في بغداد وان كانت خاضعة، ماليا وحقوقيا لاشراف الامم المتحدة . وقد اتاح هذا الوضع الاستقلالي لاسميا بعد توقف المنازعات المسلحة الماساوية بين الحزبين في عام 1997 نموا مذهلا في حركة المجتمع المدني وقيام مساحة لابأس بها من الديمقراطية السياسية والاجتماعية. وانطلاقا من ابعاد قائمة ضمن هذه المساحة هناك نقاط تماس قوية بين القوى الكردية والتنظيمات العربية العلمانية ربما ستفتح الطريق الى تحالفات استراتجية مهمة.

الفدرالية والمركزية:

ما برح عدد من الاكراد يطالب باقامة دولة فدرالية تتكون من العرب والاكراد اساسا. بيد ان هذا المطلب يثير استياء اقليات قومية ودينية ولغوية مختلفة يستوطن قسم منها المنطقة الكردية او يحاذيها. وجل هذه الاقليات مثل التركمان والمسيحيون ممن يشكلون ما يقرب من 3 % من سكان العراق تطالب، ايضا، بحقوق فدرالية مماثلة.

بيد ان ميلا واضحا نحو قبول نوع من الاتحاد الفدرالي الطابع انما قائم على ترتيب لجغرافيا ومناطقي وليس اثنيا وقوميا بدأ ينتشر بين الاكراد. يظهر هذا الميل بين اغلب زعماء الحزبين الكرديين الرئيسيين وغيرهم. ومن الممكن تفسير نشوء ذلك بادراك الاكراد لشعبية فكرة وطن عراقي وهوية عراقية بين اغلبية العرب الشيعة او السنة. فضلا على ذلك، فان الزعماء الاكراد يعرفون ابعاد العداء التركي والايراني المستحكم لفكرة وطن مستقل للاكراد، ويدركون ميل الامريكان ودول اوربا لتفضيل دولة عراقية موحدة. ولكن بغض النظر عن هذه التحليلات الواقعية فان من اولويات السياسات الكبرى امام العراقيين توفير حل عادل تدريجي لمشكلة عائدية مدينة كركوك الغنية بالنفط والموصل الغنية، زراعيا. ومن الضروري ان يضمن هذا الحل استفادة اهالي هذه المناطق من ثروات البلاد ناهيك عن مساعدة سكان المناطق الفقيرة، حلاا يحول، ايضا، دون احتكار السلطة المركزية او السلطات المحلية للثروة.

اما السكان العرب من الاصول السنية فثمة تنظيمات سياسية مختلفة، علمانية ودينية، عشائرية او ايديولجية تسعى للفوز باصواتهم وتعبئتهم سياسيا. فالحزب الاسلامي العراقي يحاول عبر تقديم خطاب اسلامي معاصر مندمج بهوية عراقية كسب مواقع متزايدة هناك. وتعمل حركة الوفاق الوطني وتيار الائتلاف الوطني الديمقراطي وهي تنظيمات علمانية بالاساس على دمج مفهوم وطني تعددي بديمقراطية دستورية دون نفي البعد القومي العربي. ثمة امكانية قوية ان تنخرط اعداد كبيرة من اعضاء حزب البعث السابق وافراد الجيش العراقي السابق في صفوف هذه التنظيمات وغيرها من الاحزاب. بيد ان نمط التعبئة السياسية السائد في المناطق العربية السنية لا يزال عشائريا، غالبا مع وجود منافذ لقوى دينية سنية مهمة مثل هيئة علماء المسلمين.

وفي المسافة الواقعة خارج الحلبات الشيعية والكردية والعربية السنية فان قوى علمانية اخرى تعمل على تقديم خطابا فكريا وسياسيا يربط بين الديمقراطية السياسية والهوية العراقية ويسعى للانفتاح على كل مكونات المجتمع العراقي. فالحزب الشيوعي العراقي يقع على قطب مهم من اقطاب قوى لبرالية علمانية يمتد على قطبها الاخر تنظيمات لبرالية عديدة من قبيل تجمع الديمقراطيين المستقلين وحزب المؤتمر الوطني والحزب الديمقراطي العراقي الخ. ولكن باستثناء الشيوعيين الذين ينشطون بصورة مخططة وذكية لدمقرطة برامجهم السياسية وتوسيع بناهم الحزبية التنظيمية وتهيئتها لاستيعاب اعداد كبيرة من الناس في صفوفهم فان جل التننظيمات الاخرى لا تزال في حيرة من امرها في كيفية تجاوز الطابع النخبوي والتنظيمي الضعيف لعملها السياسي بالرغم من لبرالية برامجها.

ان سمة مشتركة اساسية لا تزال تميز وجود جل التنظيمات السياسية العراقية. فتلك التنظيمات تتسم بضعف بالغ في استقطاب الجيل الشاب من العراقيين. انما تتكون صفوف معظم هذه التنظيمات من قوى اجتماعية تتعدى اعمارها الثلاثين سنة. وهي لا تزال تعمل وفق طرق التعبئة التقليدية. 

ان السؤال المطروح هو فيما اذا سيتمكن الزعماء الاكراد في تعبئة قطاعات كردية عريضة في سبيل انجاح المساعي لتحقيق تركيبة منصفة لعلاقة اتحادية بين المركزية والمنطقة الكردية بدون ان يستثير ذلك مشاعر ومخاوف التقسيم ليس عند اعداء الحل العادل للقضية الكردية فحسب، بل وعند انصار وصدقاء مثل هذا هذا الحل قبل كل شيء. لقد تنامى بين الاكراد في العقودة الاخيرة، كما تبين استطلاعات رأي مختلفة، تصور مبرر مبدأيا بصورة لا شائبة عليها مفاده انهم يشكلون امة سياسية ثقافية لها الحق الكامل، حسب مواثيق الامم المتحدة، في الانفصال وتكوين دولة خاصة بهم. فهل سيرغب، حقا، وستتمكن النخب الكردية من توجيه هذا التصور ليندغم مصيريا مع الولاء لروح دولة القانون الوطنية طالما ان للاكراد مصالح وارتباطات استراتيجية، اقتصادية وسياسية وثقافية مع باقي سكان العراق، وطالما انهم سيبقون الى امد غير منظور محاطين باعداء من كل صوب ولا سند حقيق لهم سوى الداخل العراقي؟ من الضروري، تماما، حسم التارجح الذي يعانيه الخطاب الكردي ما بين بعدين ريسييين له، ينحو الاول منع الى تعظيم خطاب الدولة الكردية المستقلة ، بينما يريد البعد الاخر توسيع خطاب دولة القانون الوطنية العراقية.

وبذات المنطق يطرح السؤال ذاته على القادة الشيعة وفيما اذا سيتمكن هؤلاء من المساهمة الريادية في تحقيق ولادة مركزية قوية ولكن شفافة وعادلة قائمة على مبدأ اللامركزية الديمقراطية بما يضمن عدم تعميق مشاعر الخوف المزمنة عند الاكراد من الهمينة العربية، هذه المشاعر الحقيقة التي ظلت تستثير نوازع الانفصال في سنوات سابقة. وهل سترغب النخب الاسلامية، لاسيما الشيعية منها، او تسستطيع ان تزيح جانبا، مرة والى الابد، فكرة دولة الخلافة الاسلامية او ولاية الفقيه والتي يحسبها البعض مطابقة لما يفترضه انه روح الاسلام وهويته؟ لاسيما وان هذا المثال السياسي الديني يرفض العيش في ظله الاكراد والعرب العلمانيين وايضا اطراف دينية اسلامية وغير اسلامية كثيرة.

ويطرح السؤال ذاته بصيغة معدلة على قوى سياسية اخرى لاسيما الشيوعيون والقوميون في ما اذا ارادوا حقا وسعوا فعلا الى نبذ الايديولوجيات الشمولية لتي قامت عليها تنظيماتهم السياسية تاريخيا وتأسيس رؤى فكرية وسياسية تنطلق من الولاء التام لدولة القانون الوطنية؟

وفي منطقة الاجابة على هذه الاسئلة ينطرح السؤال الاكثر خطورة والموجه لكل النخب العلمانية والديمقراطية السياسية والثقافية وغيرها والمتعلق بما اذا كان بامكانهم ان ينتزعوا سياقات وسيرورة ولادة و نمو دولة القانون وحقوق الانسان من براثن الاستقطابات العشائرية والدينية والاثنية والقومية ليخلقوا هوية وطنية جديدة؟

ان البديل المتوقع- فيما اذا لم تعمل النخب السياسية العراقية والمزيد من العراقيين على تقديم اجابة عقلانية على هذه الاسئلة، اجابة مستمدة من صلب دولة القانون الوطنية التي تحترم حقوق الانسان- هو قيام نظام سلطوي جديد في العراق تنتهي مكونات المجتمع العراقي في ظله نم جديد الى نزاعات وحروب اهلية لا تحمد عقباها. ولعل قوى ظلامية كثيرة داخل البلاد وخارجها تنتظر بفارغ الصبر وتعمل للوصل الى ذلك المستنقع.

مستقبل التغيير الديمقراطي في العراق:

كان تغيير نظام الاستبداد العشائري في العراق حاجة شعبية عميقة وضرورة انسانية ملحة لكل القوى السياسية والاجتماعية القائمة. بيد ان القوى السياسية اخفقت تماما في تعبئة العراقيين في انتاج فعل سياسي مشترك وهادف. ولم تستطع هذه القوى تقديم أي بديل سياسي ناجح يسحب البساط من الشمولية الطائفية. من هنا لبث الفعل السياسي لاغلبية الناس يتسم اما بالاتكالية واللاأبالية او بطابع عفوي، انتقامي وراديكالي. وبالتأكيد ان ما شجع على هذا هو، من جهة، سياسة العنف والترغيب والارهاب المنظم الذي مارسته الاجهزة الامنية والايديولوجية لنظام صدام حسين، ومن جهة اخرى، التدخل المفرط للحكومات المتعاقبة و لاسيما بعد عام 1958  في الحياة الاقتصادية والسياسية مما غرس شعورا عميقا لدى كثيرين بانهم مجرد رعايا (االدولة) الابوية. وثمة حكام كثيرين في تاريخ العراق المعاصر وابرزهم، بلا شك، صدام حسين من كان ينمي هذا الشعورا الابوي لدى الناس تنمية واعية ومخططة.

ان اسقاط نظام سياسي استبدادي طائفي وبطريقة نخبوية فوقية او بوسيلة الحرب او حتى عن طريق ثورة اجتماعية تقودها قوى غير ديمقراطية لا يعني، بالضرورة، ان تغييرا اجتماعيا قد تحقق ليفضي، حتما، الى نظام سياسي ديمقراطي. ثمة بون خطير الاهمية يفصل ما بين تغيير نظام الاستبداد واقامة نظام ديمقراطي، بون يفتح سيرورة الحياة على آفاق مختلفة. الديمقراطية  ليست سوى خيار واحدا بين خيارات كثيرة. الديمقراطية المعنية في هذا السياق هي كيفية وجود للدولة وللمجتمع. هي، اساسا، اشراف شعب دولة ما على سلطة صنع القرارات العامة ومساواته السياسية وتمتعه بحريات سياسية وحقوق مدنية ودستورية مصانة من قبل قضاء مستقل ووجود انتخابات حرة وعادلة ومباشرة وحكومة مسؤولة وشفافة. قد يتحول هذا البون المشار اليه سابقا الى صيرورة ديمقراطية. وقد يختطف من قبل قوى شمولية او طائفية او سلطوية جديدة ترمي به بعيدا عن حالة الديمقراطية.

ثمة طرق مختلفة ولدت عبرها الانظمة الديمقراطية المعاصرة في مختلف البلدان. ففي اوربا الغربية كبريطانيا والسويد نشات الديمقراطية عن طريق تطورات تاريخية طويلة الامد، اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية. وفي بلدان اشتراكية سابقا مثل بولندا والجيك وهنكاريا انبثقت فيها الانظمة الديمقراطية عن طريق ضغط نخب سياسية معارضة راحت تستند اكثر فاكثر على قاعدة شعبية عريضة ومتنامية. كلا النخب والقواعد الاجتماعية ارادت ووعت اهمية التغيير الاجتماعي السياسي وادركت آفاقه الاقتصادية والسياسية. وثمة طريق ثالث مرت به بعض بلدان امريكا اللاتينية وايضا البرتغال واسبانيا واليونان تميز بان النخب الحاكمة ذاتها اخذت تتبنى من داخل ثنايا النظام القائم لتعلن التزامها بتحويل النظام السياسي ديمقراطيا[2].

المعنى العميق المستمد من هذه الحالات هو ان التطور الديمقراطي تجسيد لصدى مباشرا لتحولات تنبثق من قاع المجتمع، بصورة او باخرى. وتنطبق هذه الخلاصة حتى على تلك البلدان التي سلكت طريقا خاصا في تطورها الديمقراطي مثل اليابان والمانيا. ففي هذين البلدين انبثقفت الديمقراطية فيها بفعل قوى خارجية (دور امريكا في كلتي الحالتين) فرضت البديل الدستوري والبرلماني على الطبقة السياسية الحاكمة. أي حتى في حالة هذين البلدين فان المجتمع كان يحمل في جنباته شروطا اقتصادية واجتماعية وسياسية مناسبة لقيام الديمقراطية.

شروط التغيير الديمقراطي في العراق معقدة ايما تعقيد. فليس هناك مستوى مناسبا من التطور الاقتصادي ينعكس في مستويات معقولة من الدخل الفردي بعيدا عن حالة فقر شعبي واسع. ذلك ما  يجعل الناس يهتمون بتدابير المعيشة المباشرة فقط ويصارعون، وجدانيا وعلميا، في هذه الدائرة في المرتبة الاولى. وتفتقد البلاد، ارتباطا بذلك ايضا، لطبقة وسطى عريضة مهتمة، مصيريا، بتحديث البنى السياسية والاجتماعية والثقافية.  اما الثقافة السياسية فهي مثقلة يطبقات متكلسة من الانكفاء الاناني على الذات.  والماضي والاوهام والقدرية والاتكالية والنظرة الغيبية. وتعاني سياقات عمل وفكر النخب السياسية والثقافية من اسقاطات نرجسية حادة ونزوعات لتفخيم الذات على حساب القضية وانفعالات عاطفية تشوه المعرفة التحليلية الموضوعية. لذلك وغيره من الاسباب فان النخب السياسية والثقافية المهتمة، حياتيا, بدفع العراق في آفاق رحبة من الديقمراطية والانفتاح والتعدد قليلة، عدديا، وضعيفة، بنيويا.

قد يكون للعامل الخارجي كالحرب وسواها دور ضروري مهم، تاريخيا، في ازاحة سلطة سياسية شديد الاستبداد والبأس، امنيا وبوليسيا واقتصاديا ما كان يمكن تخيل ان القوى الداخلية المعارضة ان تطيح بها. بيد انني لا اعتقد بامكانية فرض الديمقراطية بالقوة المجردة على بلد لم يخلق شروط تنمية اليدمقراطية داخليا، بعد. من الصعوبة بمكان تصورحصول  تطورات ايجابية جدية على زرع الديمقراطية في بلاد لم تنتج بعد حاضنات سياسية اجتماعية فاعلة ومتنامية لجعل القيم الديمقراطية تترعرع بسرعة، وبدون وعي اجتماعي عميق بضرورتها وبدون تطور اطرها الداخلية الثقافية والسياسية. وربما سيكون الاخفاق الذريع مآل هذا الفرض. ويمكن للعامل الخارجي- بل من الضروري ايضا- ان يلعب دور العامل المساعد، كاشفا الطريق للوليد الجديد وحارسا اياه ودافعا لنموه للامام فقط في حالة تنمية مثل هذه الحاضنات والاطر والارتباطات.

وما دامت اقسام اساسية من المجتمع لم تطرح بعد وتتبنى بوضوح مطلب التغيير الديمقراطي الاقتصادي او السياسي فان الديمقراطية تبقى املا نخبويا اكثر منه مطلبا جماهيريا. وفضلا على ذلك، فثمة اختلافات ثقافية وحضارية وفي مستوى التطور الاقتصادي وفي طابع الهوية والتعدد الاجتماعي للبلدان المذكروة عن بلد مثل العراق. لعل طبيعة وآفاق التطور الديمقراطي في العراق ستكون مشابهة لما يحدث في افغانستان او في نيجريا او ماليزيا وهي بلدان تحمل تشابهات بنيوية رئيسية مع العراق كتشظي البنية الاجتماعية وتعدد الهويات والاثنيات والقوميات ووجود ثروات معدنية مهمة وتخلف الثقافة السياسية الديمقراطية ودور الاسلام.

ان أي انتخابات برلمانية مقبلة في العراق وفي ظل ثقافة سياسية متمحورة عموما حول هذه الانقسامات وعلى خلفية ضعف الاحزاب الايديولوجية الممتدة، تنظيميا وسياسيا وفكريا، على كل النسيج الاجتماعي للبلاد ستعني ان الناس سيمارسون فعلهم الانتخابي عبر المطابقة مع النخب الاقرب من حيث الولاءات العضوية. وهذا سينتج، غالبا، برلمانا ذي طابع و متشظي يستحيل فيه اقامة حكومة حزبية بدون دعم برلماني من احزاب وتنظيمات اخرى. من هنا فان الحاجة لتحالفات طويلة الامد ستشكل معضلة حقيقية امام كل الاحزاب السياسية في العراق، هي بالنسبة لبعضها معضلة وجود وبقاء على قيد الحياة. 

لعل بعض القوى السياسية العراقية اخذت تعي اهمية تشكيل تحالفات سياسية بل وضرورة تحقيق تقاربات اندماجية مشتركة بين اكثر من تنظيم ومجموعة. ولكن من غير الواضح اذا كانت هذه القوى ترى في هذا النوع من العمل السياسي الائتلافي امر اضطراريا عارضا ام، بالعكس، تنظر اليه كاستراتيجيا ثابتة طويلة الامد. على أي حال فان من المحتمل ان تقوم هذه التحالفات انطلاقا من وعلى امتداد ثلاثة محاور سياسية وفكرية وقيمية رئيسية. هذه المحاور هي ايضا ثنائيات اولية تترامى في ما بينها مساحة كبيرة لتركيبات وتداخلات متنوعة. للمحوران الاول والثاني اهمية سياسية حيوية الان فيما سيتخذ المحور الثالث اهمية كبيرة اكثر فاكثر. المحور الاول يدور حول ثنائيات القيم الدينية والتدين والمثال السياسي الديني، مقابل العلمانية والدولة اللادينية، بما في ذلك قضايا القيم والمعايير الاخلاقية وحقوق الانسان وواجباته. المحور الثاني يدور حول مفهوم وقضايا الدولة المركزية الواحدة بما يعني ذلك من وجود مركز سياسي قوي قائم على توزيع مركزي للموارد المادية وصنع القرار السياسي ومحيطات محلية تابعة، مقابل دولة فدرالية واحدة قائمة على مركز سياسي (قوي او ضعيف، على اساس جغرافي او اثني قومي) ومحيطات محلية قوية اضافة الى لا مركزية في توزيع الموارد المادية وصنع القرار السياسي. اما المحور الثالث فيدور حول قضايا تعميم ملكية وادارة موارد الدولة من ثروات نفطية ومعدنية وغيرها ومؤسسات اقتصادية، انتاجية اوخدمية او توزيعية، مقابل خصخصة الملكية والادراة وتقليص دور الدولة بشكل حاسم, وتحديدا من الناحية الاقتصادية واعطاء القطاع الخاص دورا رئيسيا في اتخاذ القرارات استثمار الموارد الاقتصادية والمالية وتوزيعها.

لعل نمط الحكومة الائتلافية يعمل بمثابة استراتيجية عمل متبناة من قبل نخب سياسية تشعر بالمسؤولية العالية لتسهيل الازمات السياسية في بلادها على ارضية تعاون عابر للانقسامات مقر بها سلفا ومعترف بصورة متواصلة بلا يقبل الجدال. وقد كانت هذه الفكرة، على ما يبدو، وراء اقامة مجلس الحكم العراقي على الطريقة التي اقيم بها. وبرغم الانتقادات الجدية التي يمكن ان توجه لها، بيد انها كانت، ربما، الطريقة الوحيدة الممكنة لتشكيل بنى الحكم والتعبير السياسية في ظل ظروف العراق القائمة. فطالما ان المجتمع العراقي ذي التعدد الاجتماعي الداخلي لا يزال يتسم بتداخل الانقاسمات السياسية سوية مع الانقسامات الاجتماعية الاثنية، الدينية، الطائفية، القومية، اللغوية، الثقافية فان تحقيق درجة معينة من الضمانات المشتركة السابقة للانتخاب يمثل خطوة ضرورية للاستقرار السياسي.

بقناعتي ان الديمقراطية كنظام سياسي تنمو اول ما تنمو في ضمائر النخب السياسية والثقافية حتى تصبح مكونا عضويا من مكونات تشكيلة مصالحها الحياتية وقيمها وانماط سلوكها. و يمكن للديمقراطية ان تتجذر في ضمائر وعقول الناس فقط بعد ان تقوم هذه النخب عبر تنظيماتها السياسية ونشاطاتها الثقافية والفكرية في تعبئة قطاعات واسعة من الناس في سياقات سياسية ومدنية شعبية. وفوق ذلك، فان تحويل الديمقراطية الى مرجعية قيمية، اجتماعيا، لتشمل ليس النظام السياسي فحسب بل وتمتد ايضا الى البيت والعائلة والمصنع والشارع فان ذلك يتطلب عملا اصلاحيا، ثقافيا، تعليميا، تربويا وقانونيا صبورا وطويل الامد. واذ ينطبق هذا القول على كل الديمقراطيات قاطبة فان مفعوله اوضح وأخطر في بلد مثل العراق اذ ان التحول باتجاه الديمقراطية فيه لم يأت نتاجا لثورة سياسية او اصلاح سلمي طويل الامد من داخل النظام او عبر عمليات اقتصادية اجتماعية ممتدة في الزمن.

وبدون تزايد مشاركة قطاعات عريضة من المواطنين العراقيين في عملية صنع القرار السياسي والخضوع له فان العملية الديمقراطية ستبقى رهينة سياسات نخبوية معلقة على اعمدة هشة ومعرضة للانهيار السريع. ان تحويل المزيد من صلاحيات الحكم والادارة الى المحيطات المحلية ليس على مستوى المحافظات فحسب بل حتى على مستوى المناطق الصغيرة كالنواحي والاقضية يمثل احد الوسائل الفعالة في تسهيل انخراط عدد اكبر من الناس في سياقات العمل السياسي الوطني الديمقراطي. فان تحويل صلاحيات اتخاذ القرارات المتعلقة بالقضايا المحلية لاهالي هذه المناطق ونزع سطوة السلطة المركزية سيجعل الممارسة الوطنية الديمقراطية قريبة التناول وملموسة وذات معنى بالنسبة للمواطن.

هناك، اذن، اهمية كبيرة لدور النخب السياسية والثقافية في العراق في قيادة عملية التغيير الديمقراطي ولاسيما عبر اقامة المؤسسات التمثيلية والدستورية والانتخابية ونشر الثقافة والممارسة الديمقراطية- بعد ان تقبل هذه النخب ذاتها في الخضوع الى منطق التفاعل والصراع الديمقراطي، هذا المنطق الذي قد يكون ثقيل الوطأة بنتائجه غير المرغوبة للبعض، احيانا. بيد انه من المستبعد تماما ان نتوقع ان بمقدور النخب ان تحمي العملية الديمقراطية الوليدة من اعداءها الكثيرين المتربصين بها ومنهم من نلقاه بين النخب ذاتها. فمن المعلوم ان النخب السياسية العراقية المنخرطة الان في سياقات بناء المؤسسات الديمقراطية قد وجد اغلبها نفسه اما مرغما او منجرفا- بضغط العامل الخارجي المطالب باقامة هذه المؤسسات وبضغط الشارع العراقي الكاره لنظام ألاستبداد والشمولية الطائفية الصدامي- في خوض غمار عملية ديمقراطية مشرعة الابواب على احتمالات السقوط والانهيار او الصمود والنمو. كما ان اغلب هذه النخب السياسية والعديد من النخب الثقافية قد برزت في سياقات تنظيمية وفكرية وسياسية لا تمت بكبير صلة للعملية الديمقراطية، مضمونا وممارسة، ولم يشكل المشروع الديمقراطي بالنسبة لها إلا ضرورة خارجية غامضة الملامح.

فعلى أي من المعطيات والثوابت يراهن انصار ودعاة العملية الديمقراطية- بعيدا عن التمنيات بحسن نية النخب السياسية السائدة وصدق القصد وسلامة الممارسة السياسية النخبوية؟ ليس هناك، للاسف، الكثير من المعطيات الايجابية.

يبقى هناك امل ان تترسخ عملية تكوين مؤسسات دولة القانون الوطنية. والامل بان تلتزم كل المكونات الاجتماعية في العراق بالولاء الثابت لروح العدل والمساواة والشرعية السياسية التي تجسدها دولة القانون. بخلاف ذلك فان الصراع على موارد الكيان المركزي الاقتصادية والسياسية والمعنوية سيدمر العملية الديمقراطية في مهدها. لا يمكن للعملية الديمقراطية ان تنمو وتترعرع في العراق بدون حكم القانون. ولاحكم للقانون بدون اقامة مؤسسات الدولة اللاشخصانية الفاعلة والعاملة بعدل وشفافية. ان شلل قدرة مؤسسات الدولة في تطبيق القانون وفرض احكامه وتفعيل الدستور هو احد المعرقلات الكبرى لتنمية العملية الديمقراطية، كا تشير تجارب كل البلدان التي ارادت بناء الديمقراطية. لذا فان النخب السياسية والثقافية وعبر تعبئة اعداد متزايدة من الجماعات الاجتماعية المختلفة للانخراط في سياق الحركة المدنية الجديدة لترسيخ مؤسسات الدولة الوطنية الديمقراطية الوليدة هو الضمانة الوحيدة للتغيير الديمقراطي في العراق.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة