عمارة وتشكيل

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ملوية سامراء ومتحف كوكنهايم.. واستلهام التراث في الحداثة المعمارية

 

د.علي ثويني
أستلهم المشرفون على مؤتمر يتعلق بالشأن العراقي في إسبانيا رمز ملوية سامراء له، ويمكن أن يكون ذلك خير اختيار لرمز معماري يجدر أن يكون شعارا وطنيا، فالملوية فتح معماري يستاهل تلك الحظوة التي كانت منارة تتوج مسجد مدينة سامراء الواقعة على بعد 100 كلم شمال بغداد،و التي تعتبر حتى اليوم أكبر مدينة إسلامية و أكبر موقع أثري في العالم حيث تتربع أطلالها على بطحاء من الأرض طولها 70 كلم بنيت على مراحل. والمدينة الدارسة اليوم كانت قد خططت على هيئة شريطية تمتد متوازية مع سجية نهر دجلة، مستغلة إلتواءاته وخلجانه لتنبير معالمها وإضفاء مسحات شاعريه عليها.
سامراء هي (سر من رأى) كما وردت في التراث الإسلامي، لكن أظهرت البحوث الحفرية أن أسمها هذا محرف من أسم سومري قديم موائم للمعنى العربي،ومازال الموقع والتخوم تحمل الكثير من الأسماء الآرامية،ومازالت آثارها مترعة بفنون الأزمنة الغابرة الباقية شاهدا أخيرا على فنون الرافدين القديم المسترسلة بسلاسة في عصور الإسلام. ويمكن إعتبارمسجدها الجامع هو الأكبر في المساحة منذ إنشائه في العام (221هـ 836 م)، والملوية هي المنارة التي تقع في محور المخطط الرئيس منفصلة عن سياج المسجد بمسافة 25م في موقع عقبي للقبلة.
والملوية السامرائية إستثناء إبداعي في العمارة الإسلامية، وتعتبر من أمهات المساهمات العراقية التي لها أكبر الأثر في مرفولوجية وشجون تلك العمارة. والمنارة برج صرحي ذو قاعدة مربعة طول ضلعها 33م وارتفاعها 55م. وقد اختير لها شكل هندسي لولبي على هيئة قرطاس ملفوف، تنازلي الارتفاعات، يحيط بها درج يرتقي حلزونيا على ظاهر المنارة من الخارج بست دورات تشمل 399 درجة،وهي بذلك تمثل طفرة نوعية في الفكر التصميمي للعمارة حينما وطأ مستوى الذروة في الجمع بين الرمزية والشكل والنسب الجمالية متلاقحة مع وظيفية فذة منسجمة وغير متعارضة مع الخط الأخلاقي والجمالي الذي رسمه الإسلام للعمارة والفن والذي كان وراء انطلاقته اللاحقة.
وللرمزية هنا دورها في التنظير الجمالي للمعلم،بالرغم من الإختلاف الفقهي المذهبي الإسلامي في موضوع الرمزية عموما. لكن نجد أن الشكل الحلزوني أو اللولبي (
Spiral)للمعلم،يوحي لدى المنظرين والجماليين بتسامي الروح نحو الملك الأعلى وبارئ الأرواح،الواردة من المشرب (الروحي Spiritual)و حتى المشروب الروحي ( سبيرتو Spirit) في اللغات الغربية الوارد من أصول يونانية. وكان قد شاع إستعمالها في الفنون العراقية القديمة قبل اليونان بدهور.. وقد عزا المستشرق ومنظر الفن الفرنسي-اليوناني بابادوبولوس، الى تلك الرمزية الواردة من (سبّاح) العنب أو الكرم الموحي بالنشوة بعد الخمرة الواردة منها، وقد تفذلك الرجل وربط وفسر التشكيل التصاعدي والهيئة الهرمية في جميع المنمنمات الإسلامية بهذا الشكل الهندسي، الذي أراد أن يربطه بأصول أغريقية عنوة وجزافا، كما هو ديدن المستشرقين ومن تبعهم. ويمكن أن يكون الشكل الدائري ورد من إملاءات وظيفية أيضا، بما يمكن أن يشكل مرتقى ومنحدراً سهلاً يخدم سلاسة صعود الأنغام التي يستعملها المؤذنون في العادة، ونجد لها تطبيقات حتى في صوامع (منائر) المغرب الإسلامي المربعة الهيئة،وأجملها منارة المنصورة الدارسة في تلمسان.
لقد ذهب منظرو العمارة الى أن المنارة منسوخة أو مستلهمة من أبراج النار الزرادشتية(كور
Gur) أو من أبراج المعابد العراقية (الزقورات)، وربما تكون الثانية أجدر كون الأبراج الزرادشتيه،لم تكن إلا صورة مستنسخة ومموهة و مصغرة ومتأخرة عن الزقورة العراقية،ولم توجد على أرض العراق أصلا. ولا نستبعد المدد الإلهامي الفذ في حيثيات هذه الشجون،التي أوحت لمعمارها العراقي النصراني النسطوري (دليل بن يعقوب النصراني)، القادم من البيئة والتابع والمتأثر بها بصريا وروحيا، والراصد لخصوصياتها، وربما كان قد أطلع على آثارها الماكثة حتى ذلك الحين في محيطه البابلي. لقد قدم من الحيرة يحمل ارث الدهور الناهضة في داخله ليصنع ذلك الصرح المعماري، الذي احتضنه الإسلام ورعاه وسمي به واحتسب منه وأفتخر به.
ويجدر القول هنا بأن الإسلام لم يهب الحظوة الصريحة لرمزية شكل معين أو يحدد مدى استعمالها أو حتى يقسر على المبدعين اختيارها، مثلما هو الحال في عمائر العقائد الأخرى، ولكن يبقى للمربع والتربيع منزلة إستثنائية بما توحيه من عدل وارد من تساوي أضلاعه، وقد نجد للشكل المربع ممارسات في المنظومات التخطيطية والزخرفية في العمائر والفنون الإسلامية.ونجد له تفسيراً اجمالياً في رسائل أخون الصفا الفلسفية، بما يمكن أن يكون من التربيعات العراقية التي نجد آثارها حتى في التسميات كما هو في (اربع أيل) أو (أربيل) الآشورية وتعني لديهم (الأرباب الأربعة). ويمكن أن يكون هذا سببا وراء إختيار القاعدة الصماء أو المنصة المربعة للمعلم.
والملوية بلا ريب فتح معماري كان يجب أن يستمر ليهب دنيا المعمار فكرا تجديديا، مفتاحه حرية الشوط والمدى والخيال،يتداعى الى تهاجن فذ مفاده التكامل بين (الوظيفية والرمزية والجمالية) في العمارة، حيث كرس تجريداً شكلياً مطلقاً وإنسيابية مريحة، للعمل الوظيفي للمعلم. لقد تمخض التهاجن من مكونات الإبداع تلك عن إختزالية شكلية وزهد معماري،جعله يتخلى طوعيا عن أي بهرج زخرفي أو ملمسي أو لوني،حينما أنتفت الحاجة إليه،و سمت مقاصد المضمون الى الذروة بحيث لم تتطلب إستجداء ترقيعات شكلية أو زخرفية مكملة ومصلحة لنقص معين،كما هي جدلية الشكل والمضمون المتعددة التطبيقات في مجالات الحياة.
وإذ نرجع الأمر برمته الى ذروة الحرية في الفكر التي وطأها عالم الإسلام إبان الفكر المعتزلي، الذي شاع قبيل وإبان أيام إنشاء الملوية، يمكن أن يكون هذا الإبداع في العمارة، أحد أوجه الممارسات التي تداعى إليها هذا الفكر المحرر لملكات العقل وبواطن النفس.ولكن للأسف أن هذا المدد اضمحل وحجم و انطفأ بعد حين، بسبب النزعة السلفية والموقف المتشنج لفقهاء الدين بحجة الخشية من إطلاق العنان لحرية العقل وانزلاقه نحو الضلالة. وهكذا مكثت عمارة المسلمين بعد ذلك الدور محددة الشوط ومكتفية بما كسبت من سالف الايام، تجتر من ماضيها في الجانب الفني والزخرفي أكثر مما في الجانب الفكري الفلسفي والوظيفي والهيكلي والرمزي.
وقد تكررت حالة هذه المنارة بتقليد غير ذي شأن في مسجد أحمد بن طولون والي العباسيين على مصر الذي بناه في مايس عام 265هـ(879م). ولم نعد نسمع عن تلك التجربة في العمارة الإسلامية لا شكلا ولا مضمونا حتى وجدت طريقها في القرن العشرين الى الاستلهام في عمارة أحد معماريي القرن العشرين الرواد وهو الأمريكي فرانك لويد رايت(1869-1959) الذي يعتبر رائد العمارة العضوية بالرغم من أن سابقه (لويس ساليفان) كان قد تبناها، ولكن اسمه لمع من خلالها بمبرر أيمانه و إخلاصه لذلك المشرب المعماري.
لقد بدأ التيار العضوي بفحوى اعتبار (الشكل يتبع الوظيفة) والوظيفة لديهم هي مدى الانتفاع من الفضاءات المعمارية وهو الذي يوجد الشكل،ونجاح الشكل مرتبط دائما بالخدمة والتعبير المقصود.ووصل بهم ذلك الى اعتبار الشكل والوظيفة شيئا واحداً ويمكن أن يلد أحدهما الأخر.حتى اعتبرت الطبيعة واشكالها المعلم المستلهم الأول، وإعتبار دروسها المستقاة زاداً يتزود به المعمار في رحلة البحث عن الجديد. وبذلك فأن المنفعة والمتانة والجمال لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، كما هو الحال في وحدة عناصر الكائن الحي، بحيث يحمل الجزء صفات الكل ويدل عليه ويعبر عنه ولابد من أن يربط المبنى بأجزائه إيقاع دقيق منسجم كما في المخلوقات والكون.
كل تلك المفاهيم كان قد طبقها دليل النصراني الحيري قبل (رايت) الأمريكي بإثني عشر قرناً من الزمان. وبالرغم من عدم وجود من ينظر لها أو يكتب فحواها في حينها، فأن معالم العمارة ومنها الملوية،تبقى القراءة الملموسة الصريحة للفكر المحفز عليها، وهو ما يمكن أن يتداعى على تحليل عمارة التراث، بحيث ينشأ البحث على الأساس المحفز والسبب الكامن وراء كل أو تفصيل معماري تراثي، وليس تكرار أشكالها وإستنساخ هيئاتها ببغاويا كما هو دائر اليوم، بما يمكن أن يحاكي صنع النحلة لخلاياها المسدسة بدون وعي أو تبديل أو تطور. فتفكيك آليات المعلم التراثي كفيل بفهم كنهه ومبرره،وهو ما يفضي حتما الى مفاهيم تطبيقية حداثية راسخة وعاقلة،لاتقتبس إلا معطيات العصر ووسائله بما يثري الأداء التراثي.
وبغض النظر عن التداخل بين الفكر المعماري للإسلام الماضوي وبين العمارة العضوية الحداثية بكثير من الوجوه، فإن صفات عمارة الملوية تنطبق على تلك المبادئ التي أرتآها العضويون في عمارتهم.وربما كان هذا التداخل نقطة ضوء جعلت المعمار رايت يشيد بأكثر من مناسبة بعمارة الإسلام كما تشهد عليه شهادته عن عمارة مدرسة السلطان حسن في القاهرة عندما تساءل بما معناه :(كيف يمكن لمن له مثل هذه العمارة الراقية أن يبحث عن بديل لها في حضيض ما يبنى في الغرب؟).
لقد تلقف هذا المعمار الحاذق فكرة الانسيابية الوظيفية والشكلية في الملوية،ولكنه جعلها مثل الرداء المقلوب في عمارة متحف كوكنهايم((
Guggenheim museum الذي أنجزه عام 1959 على شاطئ مدينة نيويورك محتفيا بأسم الاقتصادي الأمريكي (سولومون كوكنهايم). حيث جعل الحركة الرأسية تتجسد فيه من الداخل وليس من الخارج كما في الملوية.أن تلك الحركة الالتوائية المسترسلة تنفع في استغلالها لمساحات العرض الفني على الحيطان المتضامة التي ترسم شكل المعلّم الجبهوي. وقد جاء برجه الملوي المقلوب متربعا على قاعدة عريضة يلج من خلالها الى البهو الرحب و منطقة المصاعد الكهربائية التي تنقل الزوار الى أعلى البرج ليتم هبوطهم على المنحدر الذي يدور حول باحة وسطية يلج الضوء من خلال القبة الزجاجية التي تقع موقع العمامة في مركزه،ويطلع الزائر في هبوطه البطئ على المعروضات.
لقد صرح رايت عن مصدر الهامة هذا بأنه مأخوذ من الشكل والوظيفة التي رفعت بها ملوية سامراء، ولقد أثار رايت لغطا وفتح جدلا عندما رفضوا تنفيذ مشروعه بمبرر عدم فهم لجنة بلدية نيويورك المشرفة لهذا الحلزون الذي أريد به أن يكون من أهم معالم المدينة جمالا ومكوثا. وقف رايت مدافعا عن ملويته المبطنة، التي أراد لها أن تكون تاج العمائر التي أقامها ولاسيما انه كان متقدماً بالعمر حينئذ وتوفي بعدها مباشرة. وقد أضطر في حينها الى أن يصنع نموذجا مجسما للمشروع على مقياس 10% ويولج هو نفسه في ذلك البيت الكرتوني ليفحم معارضيه ويقنعهم بوظيفية الشكل الذي اختاره حتى فلح في مسعاه. وقد أثبت لنا رايت بان خزين التراث مازال نبعا لا ينضب لمن أراد الى ذلك سبيلا،وأن أي عمارة لايمكن لها أن تدوم وتستمر بعيدا عن بيئتها وتماشيا مع مقتضياتها وخصوصياتها.


الفنان التشكيلي عباس حويجي: التنقيب يبدأ في مخاض الفكرة.. والفن تحوَّل من صراع نظريات إلى صراع أساليب
 

أجرى الحوار : زيد الشهيد
لا يستطيع الفن التشكيلي العراقي تجاوزه، وليس من مصادفة القول أنّه فنان ونحات وكاتب، جهوده الإبداعية في التشكيل لا تتجاوز أعماله النحتية ؛ وأشعاره لا تلوذ متوارية عن ذائقته التشكيلية.. أقام المعارض الفنية وساهم في تنفيذ العديد من الجداريات التي ما زالت مدينته " السماوة " الفراتية تحتفظ بها كرقيم ذاكراتي يستل فنه من ارثه السومري الذي لا يبعد عن مكان إقامته سوى ثلاثين كيلومتراً حيث ينام جلجامش عند سوره ومدينته " أوروك " والذي إذا رفع عبّاس رأسه شاهده ينتصب بثلثه البشري وثلثيه الألهيين على مبعدة نظر ليسَ غير..
في مرسمه الذي يشغل الطابق الأعلى من محله المليء باللوحات والتحفيات والمعروضات الجبسية التي تثير الناظر فتدفعه إلى الوقوف أمام الزجاجة العاجّة بمنتجات اليد الفنية والذوق الرهيف.. في موقفه أجبرته على الحديث عبر أسئلة حملت إثارةً له تارة واستفزازاً تارات : س : كيف تقرأ النص التشكيلي وأنت تقف عند حالة امتلاكه ؟
ج : تبدأ قراءة النص التشكيلي بالحس قبل العقل ؛ بالفطرة قبل الثقافة، بالحدس قبل الخبرة.. فنحن نقرأ ونتطلع لكي نتمتع أولا، لكي يمتزج وجداننا بالفرح. فالجمال نشوة قبل أن يكون معرفة. فإذا لم تتحقق المتعة فلا سبب للمواصلة. ذلك يعني أن النص الفني يشكو من خلل في التكوين أو التوصيل، وكلاهما يمنعان النص من أن يتحقق في باصرة المشاهد وفي وعيه فيفترق الاثنان. وعندما تتحقق المتعة ينفتح باب الدخول لأسرار العمل الفني. وهذا الدخول قد يحدث بعد سريان المتعة مباشرةً أو بعدها بأيام ؛ ذلك أن العقل والذاكرة والخبرة تبدأ بالعمل إلى مدىً غير محدود. وعند ذلك تتحول العين من باصرة إلى بصّارة تقرأ المستور وتتلمس الخفي، ويبدأ العقل الناقد بشحذ مجساته التحليلية لرؤية النص من داخله. ورغم أن هناك عدة مستويات لقراءة العمل الفني إلا أن كل هذه المستويات تعجز أحيانا عن خلق مفاتيح استدلالية مقنعة رغم أنها تنجح في طرح فقه نظري ومقدمات عملية للرؤية الفنية.
س : هل تعذبك فكرة تشكّل النص التشكيلي كما هي عذابات النص السردي أو الشعري مثلاً.. وما نوع هذا العذاب إن صحَّ وجوده؟
ج : ما تسميه عذاباً أسميه أنا تنقيباً. والتنقيب يسبب معاناة متواصلة يكتنفها الإحباط والفشل والعجز أحياناً، ذلك أنك في التنقيب قد تجد وقد لا تجد. قد تجد شيئاً تافهاً مرةً، ومهمّاً مرة أخرى، قد تجد كنزاً ثميناً وقد تجد حفنة رمل.
فالتنقيب يبدأ في مخاض الفكرة ولا ينتهي بانتهاء اللوحة، وإنما يستمر بعدها ، لأنَّ اللوحة هي مجرد لقية وإذا لم تتبعها لُقى أخريات لا يمكن أن تنجز معرضاً أو متحفاً يبدأ التنقيب بدراسة مرجعيات الموضوع ثم بالتخطيط والدراسة للجزئيات والمفردات والتكوين العام، وعندما يشعر الفنان بحالة امتلاء بموضوعه يبدأ التنفيذ غيباً ومن الذاكرة.
أقول أن هذا التنقيب ليس بحثاً عن أثر أو فكرة وإنما هو تنقيب لخض الذاكرة، وشد البصيرة، وتثوير الخبرة حتى يكون العقل في حالة يقظة دائمة، وحتى تكون اليد مشغولة بالولادة... إنَّ مواصلة مهمة التنقيب هي البطولة بعينها.
س: حدّثنا عن المراحل أو التأثر بالنظريات الفنية التي مررت بها، ثم آخر مرفأ وجدت نفسك فيه.. أي كيف وصلت لمدرستك الخاصة بالفن ؟
ج : نحن ننشغل بالمدارس الفنية أكثر ممّا ننشغل بالفن. ننشغل بها للتعرف على المراحل التي قطعها الفن في تاريخ تطوره. فكل خطوة للفن هي مدرسة ؛ وكل فنان كبير هو مدرسة. فالمدارس الفنية هي مشاغل عمل قبل أن تكون نظريات ؛ وهي مخلوقات الفنانين قبل أن تصبح من مقتنيات النقاد.
الثقافة تدفعنا للانغماس بها كمعرفة، وهموم تحديث اللوحة يدفعنا من جانب آخر.
هناك صراع في داخل كل فنان ؛ صراع يبدأ من أول وعيه بتاريخ الفن، عن مكانته بين هذه المدارس، وأي منها قريب من فنه ؛ وماذا ينبغي أن يأخذ منها ، وماذا يصح أن يضيف إليها ؟ وأنا كأي فنان مررتُ بهذه المرحلة، يدفعني الانبهار برؤى " دالي " السريالية، ويأخذني إيقاع اللون عند " بول كليه "، وتشكيل الموضوعات عند " بيكاسو "، وقوة الخط والتلوين عند الفنان الرومي " دينيكا " وملحمية العمل في المدرسة المكسيكية.
ومرة وقعت تحت تأثير مدرسة الواقعية الآلية، ولكنني بعد عدة لوحات شعرت بعقم المحاولة، ذلك أن تلك المدارس هي وليدة ظرفها التاريخي، ونسخها في ظرف آخر، ظرف لم تصبح فيه الآلة متحكمة وخالقة لهموم إنسانية جديدة تصبح زيفاً... بعدها اختلطت المدارس ببعضها وأصبحت تولد بسرعة وتنطفئ بسرعة مثل موضات الأزياء. وتحول الفن من صراع نظريات إلى صراع أساليب. فالفنان هو الأسلوب ؛ واللوحة هي الأثر.
والتحول إلى الأسلوب هو عملية شاقة أيضاً، حيث يتملكك الخوف من أن يصبح الأسلوب طرازاً جامداً، أو أن الأسلوب يصلح لموضوع ولا يصلح لمعالجة موضوعات أخرى. فهل على الفنان أن يتحول من أسلوب إلى آخر حيث سيتآلف الأسلوب مع موضوعه في وحدة متناغمة ؟ أم عليه أن يطوّع موضوعاته لكي تتقبل الأسلوب الذي عانى كثيراً في سبيل اكتشافه؟ أنها ثنائية قابلة للحل.
س: مرةً قال بيكاسو : " حين يعوزني اللون الأزرق أستعمل الأحمر " ما الذي جعله يقول هذا الكلام الذي يبدو للوهلة الأولى أنه يستهين بشهية العين الباصرة ؟
ج : الكثير الذي نجهله عن بيكاسو يجعلنا نقع في سوء تحليل لأقواله أو أعماله. كما عرفتُ مؤخراً أن مرحلتي بيكاسو الزرقاء والوردية ( حيث يطغي هذان اللونان على أعماله ) حين كان حديث العهد بباريس، يحيا في عوز كبقية الفنانين الشباب في ذلك الوقت. كان بيكاسو يرسم بما لديه من ألوان. فحين كان يرسم بالأزرق فلأنه لا يملك ألواناً أخرى بديلة، كان مضطراً لتدجين هذا اللون لكي يسكن موضوعاته الأسى والصمت الحزين ذاتاهما، البغايا والفقراء المعزولون والمهمَّشون المتدثرون بالأسمال والحكمة والفقر.
فبيكاسو خالق عظيم للموضوعات ومنظِّم فذ للأفكار. أما اللون فيبدو خادماً للموضوع وتابعاً له، وحتى في موضوعاته التجريدية والتركيبية يبدو اللون ثانوياً بالنسبة لتوزيع الكتل وصراحة الخط. وفي دراسات تتبَّعت بيكاسو وهو يعمل في لوحاته ظهر أن الذي يتغيَّر وينمو هو الموضوع ؛ أما اللون فهو محدود ومقتصد، ولعلَّ هذا الاقتصاد في اللون هو في صالح الموضوع. لأنَّ الاشتغال على اللون يزيح الموضوع إلى جهات عصيّة على الربط والتحليل. هذا يعني أننا وصلنا إلى تحليل مقنع لمقولة بيكاسو.. لأنّ تجربة هذا الفنان العظيم تتشعب وتتحول إلى مقاصد وأسرار ورؤى ما زالت موضوع بحث.
لكننا قد نرى رمزية هذا القول في قدرة بيكاسو الفذة وبديهته الفطرية على الخلق ما جعل الفن يبدو لديه كاللعب، لعب اقترف فيه الإنسان الكبير سلطة الطفل الصغير بامتلاك كل شيء ورؤية كل شيء، ومعرفة كل شيء. وهذا ما يبرر انتقال بيكاسو بين فترة وأخرى من أسلوب إلى آخر، ومن مرحلة لأخرى، ومن موضوع لموضوع يناقضه، ومن أعمال رومانسية رعوية إلى أعمال ثورية ذات صبغة سياسية.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة