الفنان
التشكيلي عباس حويجي:
التنقيب يبدأ في مخاض
الفكرة.. والفن تحوَّل من صراع نظريات إلى صراع أساليب
أجرى
الحوار : زيد الشهيد
لا يستطيع الفن
التشكيلي العراقي تجاوزه، وليس من مصادفة القول أنّه فنان
ونحات وكاتب، جهوده الإبداعية في التشكيل لا تتجاوز أعماله
النحتية ؛ وأشعاره لا تلوذ متوارية عن ذائقته التشكيلية..
أقام المعارض الفنية وساهم في تنفيذ العديد من الجداريات
التي ما زالت مدينته " السماوة " الفراتية تحتفظ بها كرقيم
ذاكراتي يستل فنه من ارثه السومري الذي لا يبعد عن مكان
إقامته سوى ثلاثين كيلومتراً حيث ينام جلجامش عند سوره
ومدينته " أوروك " والذي إذا رفع عبّاس رأسه شاهده ينتصب
بثلثه البشري وثلثيه الألهيين على مبعدة نظر ليسَ غير..
في مرسمه الذي يشغل الطابق الأعلى من محله المليء باللوحات
والتحفيات والمعروضات الجبسية التي تثير الناظر فتدفعه إلى
الوقوف أمام الزجاجة العاجّة بمنتجات اليد الفنية والذوق
الرهيف.. في موقفه أجبرته على الحديث عبر أسئلة حملت
إثارةً له تارة واستفزازاً تارات : س : كيف تقرأ النص
التشكيلي وأنت تقف عند حالة امتلاكه ؟
ج : تبدأ قراءة النص التشكيلي بالحس قبل العقل ؛ بالفطرة
قبل الثقافة، بالحدس قبل الخبرة.. فنحن نقرأ ونتطلع لكي
نتمتع أولا، لكي يمتزج وجداننا بالفرح. فالجمال نشوة قبل
أن يكون معرفة. فإذا لم تتحقق المتعة فلا سبب للمواصلة.
ذلك يعني أن النص الفني يشكو من خلل في التكوين أو
التوصيل، وكلاهما يمنعان النص من أن يتحقق في باصرة
المشاهد وفي وعيه فيفترق الاثنان. وعندما تتحقق المتعة
ينفتح باب الدخول لأسرار العمل الفني. وهذا الدخول قد يحدث
بعد سريان المتعة مباشرةً أو بعدها بأيام ؛ ذلك أن العقل
والذاكرة والخبرة تبدأ بالعمل إلى مدىً غير محدود. وعند
ذلك تتحول العين من باصرة إلى بصّارة تقرأ المستور وتتلمس
الخفي، ويبدأ العقل الناقد بشحذ مجساته التحليلية لرؤية
النص من داخله. ورغم أن هناك عدة مستويات لقراءة العمل
الفني إلا أن كل هذه المستويات تعجز أحيانا عن خلق مفاتيح
استدلالية مقنعة رغم أنها تنجح في طرح فقه نظري ومقدمات
عملية للرؤية الفنية.
س : هل تعذبك فكرة تشكّل النص التشكيلي كما هي عذابات النص
السردي أو الشعري مثلاً.. وما نوع هذا العذاب إن صحَّ
وجوده؟
ج : ما تسميه عذاباً أسميه أنا تنقيباً. والتنقيب يسبب
معاناة متواصلة يكتنفها الإحباط والفشل والعجز أحياناً،
ذلك أنك في التنقيب قد تجد وقد لا تجد. قد تجد شيئاً
تافهاً مرةً، ومهمّاً مرة أخرى، قد تجد كنزاً ثميناً وقد
تجد حفنة رمل.
فالتنقيب يبدأ في مخاض الفكرة ولا ينتهي بانتهاء اللوحة،
وإنما يستمر بعدها ، لأنَّ اللوحة هي مجرد لقية وإذا لم
تتبعها لُقى أخريات لا يمكن أن تنجز معرضاً أو متحفاً يبدأ
التنقيب بدراسة مرجعيات الموضوع ثم بالتخطيط والدراسة
للجزئيات والمفردات والتكوين العام، وعندما يشعر الفنان
بحالة امتلاء بموضوعه يبدأ التنفيذ غيباً ومن الذاكرة.
أقول أن هذا التنقيب ليس بحثاً عن أثر أو فكرة وإنما هو
تنقيب لخض الذاكرة، وشد البصيرة، وتثوير الخبرة حتى يكون
العقل في حالة يقظة دائمة، وحتى تكون اليد مشغولة
بالولادة... إنَّ مواصلة مهمة التنقيب هي البطولة بعينها.
س: حدّثنا عن المراحل أو التأثر بالنظريات الفنية التي
مررت بها، ثم آخر مرفأ وجدت نفسك فيه.. أي كيف وصلت
لمدرستك الخاصة بالفن ؟
ج : نحن ننشغل بالمدارس الفنية أكثر ممّا ننشغل بالفن.
ننشغل بها للتعرف على المراحل التي قطعها الفن في تاريخ
تطوره. فكل خطوة للفن هي مدرسة ؛ وكل فنان كبير هو مدرسة.
فالمدارس الفنية هي مشاغل عمل قبل أن تكون نظريات ؛ وهي
مخلوقات الفنانين قبل أن تصبح من مقتنيات النقاد.
الثقافة تدفعنا للانغماس بها كمعرفة، وهموم تحديث اللوحة
يدفعنا من جانب آخر.
هناك صراع في داخل كل فنان ؛ صراع يبدأ من أول وعيه بتاريخ
الفن، عن مكانته بين هذه المدارس، وأي منها قريب من فنه ؛
وماذا ينبغي أن يأخذ منها ، وماذا يصح أن يضيف إليها ؟
وأنا كأي فنان مررتُ بهذه المرحلة، يدفعني الانبهار برؤى "
دالي " السريالية، ويأخذني إيقاع اللون عند " بول كليه "،
وتشكيل الموضوعات عند " بيكاسو "، وقوة الخط والتلوين عند
الفنان الرومي " دينيكا " وملحمية العمل في المدرسة
المكسيكية.
ومرة وقعت تحت تأثير مدرسة الواقعية الآلية، ولكنني بعد
عدة لوحات شعرت بعقم المحاولة، ذلك أن تلك المدارس هي
وليدة ظرفها التاريخي، ونسخها في ظرف آخر، ظرف لم تصبح فيه
الآلة متحكمة وخالقة لهموم إنسانية جديدة تصبح زيفاً...
بعدها اختلطت المدارس ببعضها وأصبحت تولد بسرعة وتنطفئ
بسرعة مثل موضات الأزياء. وتحول الفن من صراع نظريات إلى
صراع أساليب. فالفنان هو الأسلوب ؛ واللوحة هي الأثر.
والتحول إلى الأسلوب هو عملية شاقة أيضاً، حيث يتملكك
الخوف من أن يصبح الأسلوب طرازاً جامداً، أو أن الأسلوب
يصلح لموضوع ولا يصلح لمعالجة موضوعات أخرى. فهل على
الفنان أن يتحول من أسلوب إلى آخر حيث سيتآلف الأسلوب مع
موضوعه في وحدة متناغمة ؟ أم عليه أن يطوّع موضوعاته لكي
تتقبل الأسلوب الذي عانى كثيراً في سبيل اكتشافه؟ أنها
ثنائية قابلة للحل.
س: مرةً قال بيكاسو : " حين يعوزني اللون الأزرق أستعمل
الأحمر " ما الذي جعله يقول هذا الكلام الذي يبدو للوهلة
الأولى أنه يستهين بشهية العين الباصرة ؟
ج : الكثير الذي نجهله عن بيكاسو يجعلنا نقع في سوء تحليل
لأقواله أو أعماله. كما عرفتُ مؤخراً أن مرحلتي بيكاسو
الزرقاء والوردية ( حيث يطغي هذان اللونان على أعماله )
حين كان حديث العهد بباريس، يحيا في عوز كبقية الفنانين
الشباب في ذلك الوقت. كان بيكاسو يرسم بما لديه من ألوان.
فحين كان يرسم بالأزرق فلأنه لا يملك ألواناً أخرى بديلة،
كان مضطراً لتدجين هذا اللون لكي يسكن موضوعاته الأسى
والصمت الحزين ذاتاهما، البغايا والفقراء المعزولون
والمهمَّشون المتدثرون بالأسمال والحكمة والفقر.
فبيكاسو خالق عظيم للموضوعات ومنظِّم فذ للأفكار. أما
اللون فيبدو خادماً للموضوع وتابعاً له، وحتى في موضوعاته
التجريدية والتركيبية يبدو اللون ثانوياً بالنسبة لتوزيع
الكتل وصراحة الخط. وفي دراسات تتبَّعت بيكاسو وهو يعمل في
لوحاته ظهر أن الذي يتغيَّر وينمو هو الموضوع ؛ أما اللون
فهو محدود ومقتصد، ولعلَّ هذا الاقتصاد في اللون هو في
صالح الموضوع. لأنَّ الاشتغال على اللون يزيح الموضوع إلى
جهات عصيّة على الربط والتحليل. هذا يعني أننا وصلنا إلى
تحليل مقنع لمقولة بيكاسو.. لأنّ تجربة هذا الفنان العظيم
تتشعب وتتحول إلى مقاصد وأسرار ورؤى ما زالت موضوع بحث.
لكننا قد نرى رمزية هذا القول في قدرة بيكاسو الفذة
وبديهته الفطرية على الخلق ما جعل الفن يبدو لديه كاللعب،
لعب اقترف فيه الإنسان الكبير سلطة الطفل الصغير بامتلاك
كل شيء ورؤية كل شيء، ومعرفة كل شيء. وهذا ما يبرر انتقال
بيكاسو بين فترة وأخرى من أسلوب إلى آخر، ومن مرحلة لأخرى،
ومن موضوع لموضوع يناقضه، ومن أعمال رومانسية رعوية إلى
أعمال ثورية ذات صبغة سياسية. |