هل
المديونية الخارجية او الداخلية هي سبب الخصخصة؟
أ.د
جميل محمد جميل الدباغ *
*
اكاديمي وخبير اقتصادي
شهد
الحجم الكلي للمديونية العربية تطوراً ملحوظاً عندما بدأت
معظم البلدان العربية برسم برامجها التنموية وفقاً لهيمنة
القطاع العام باعتباره الرائد في هذه البرامج وذلك من خلال
الاقتراض الخارجي استجابة لنظريات التنمية التي سادت عقدي
الستينيات والسبعينيات. فقد بلغ عدد البلدان العربية
المستدينة خلال عقد السبعينيات 12 دولة وكان اجمالي ديونها
(6.9) مليار دولار امريكي عام 1970، وقفزت الى (42.9)
مليار دولار في نهاية عام 1979، ثم وصلت (49) مليار دولار
بعد عام واحد فقط أي نهاية 1980 .
ولعل
تفاقم المديونية الخارجية بهذا الشكل الدراماتيكي يعود الى
امرين اساسيين:
الاول: هو الخلل في سياسات الاقتصاد الكلي العربية الناجمة
عن الدعم السعري الكبير للانتاج والاستهلاك اضافة الى
زيادة الواردات والاقتراض من المؤسسات النقدية الدولية.
الثاني: ان القروض لم توجه الى استثمارات منتجة من شأنها
تحقيق عائدات لخدمة تلك القروض ولم تفلح ادارات القطاعات
العامة في الكثير من البلدان العربية في اختيار مشروعات
ناجحة والتعامل مع القروض التي كانت تهدف لزيادة الانتاج
السلعي، كما فشلت عملية تطوير الصادرات.
الثالث: هو السياسات التصحيحية والاجراءات المالية الصارمة
التي اتبعتها البلدان الصناعية المتقدمة لمواجهة ارتفاع
اسعار النفط العالمية بعد 1973، والزيادات غير المتوقعة في
اسعار الفائدة على الاقتراض، اضافة الى الآثار السلبية
للسياسات التجارية الحمائية التي اتبعتها هذه الدول لحماية
منتجاتها الصناعية والزراعية في السوق التجارية الدولية.
واخذت مشكلة الديون تتضاعف منتصف الثمانينيات ليس فقط
للكثير من البلدان العربية وانما للكثير من البلدان
النامية. وقد اتحدت حكومات الدول الدائنة (الصناعية) في
نادي باريس لايجاد حلول لمشاكل الدفع من خلال جدولة الديون
لكن ذلك لم يسعف البلدان المستدينة بقدر ما تم ارجاء الدفع
ولكن الفوائد المركبة زادت من احجام هذه الديون. جدير
بالذكر ان من شروط اتفاقيات نادي باريس القاضية باطفاء بعض
الديون لاشد البلدان فقراً هو ارتباط الدول المدينة بصندوق
النقد الدولي والالتزام بشروطه السياسية/الاقتصادية
التعسفية.
اما في عقد التسعينيات الذي شهد تغيرات دولية عقائدية
وسياسة جذرية (بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمجموعة
الاشتراكية). ورغم تفادي الحرب الباردة لكن المديونية
الخارجية العربية توسعت لتشمل دولاً عربية غنية كان لها
فائض في موازين مدفوعاتها، وهي المملكة العربية السعودية
والكويت اللتان وجدتا نفسيهما تحت مظلة الديون الخارجية
بالرغم من سياستهما التقشفية والترشيدية في الانفاق العام
والمساعدات الخارجية، وبالتالي فقد وصلت المديونية
الخارجية العربية الى (157.7) مليار دولار عام 1995 (8% من
اجمالي ديون الدول النامية ثم قفزت هذه الديون لتصل الى
(239) مليار دولار عام 2003 (التقرير الاقتصادي العربي
الموحد 2003).
وفيما يتعلق بالمديونية الداخلية العربية فيكفي القول انها
وصلت عام 2002 الى (300.1) مليار دولار كما ورد في التقرير
الاقتصادي الموحد لعام 2003. وتقف دول مثل سوريا، العراق،
الصومال، اليمن، موريتانيا، على رأس قائمة البلدان المثقلة
بالديون.
لهذه الاسباب وغيرها جاءت المحصلة النهائية في الوقت
الحاضر عبارة عن تعثر التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل
تخلفها في العديد من البلدان. يضاف الى ذلك المديونية
الداخلية لاقطار الوطن العربي بسبب اختلال السياسات
الاقتصادية الداخلية، هي الاخرى باتت مهددة لهيكل
الاقتصادات العربية، واضحى الاستثمار الداخلي يتضاءل شيئاً
فشيئاً. لقد اصبحت مشكلة المديونية في وضع لا يمكن تجاوزه،
وهذه احدى اهم المشاكل التي جعلت من الدول العربية ترنو
نحو سياسات اقتصادية داخلية تقشفية للتقليل من آثار
المديونية على النشاط الاقتصادي والتطلع لتجريب سياسات
الخصخصة كاستمرار لسياسات الاصلاح الاقتصادي السابقة التي
يروج لها صندوق النقد الدولي.
وفي ضوء ما تقدم فان اهمية الخصخصة طبقاً لما تتوقعه الدول
للسير في هذا الاتجاه هي:
1. تصحيح موازين المدفوعات وتوفير السيولة لتقليص الدين
الخارجي والداخلي من خلال توفير اكبر قدر ممكن من العملات
الاجنبية.
2. تحريك الاستثمار الاهلي (المحلي والاجنبي) ليأخذ دور
الريادة في النشاط الاقتصادي.
3. تنشيط ما تبقى من القطاع العام وتشغيله وفق حوافز
السوق والاسعار.
4. تقليص الواردات لدعم الموازين التجارية.
5. توقع زيادة الصادرات لبعض السلع ذات الميزة النسبية.
لذلك فان المتوقع من الخصخصة كما يروج لها الاقتصاديون
زيادة عوائد الموارد المستخدمة في النشاط الانتاجي
والاقتصادي، وتنطوي هذه الافتراضات على محورين اثنين:
الاول: ان الادارة الاقتصادية والمالية والفنية للمشروع
العام (المرشح للبيع) غير قادرة على التكيف مع الظروف
الاقتصادية والمالية المستجدة، سواء بسبب القدرة الذاتية
المحدودة او نتيجة للقيود الادارية والسياسية التي تفرضها
المؤسسات الرسمية العليا، او لحاجته للاستثمارات التكميلية
او للتحديث لغرض زيادة قدرته على الانتاج والمنافسة في
ظروف السوق السائدة، او ربما نتيجة للخسائر المالية
الكثيرة المتراكمة والتي لا يمكن للحكومة تغطيتها.
الثاني: ان الظروف الاقتصادية والمالية المستجدة في
البلدان تتطلب تغيير الجدوى للمشاريع العامة القائمة حتى
تلك التي تتمتع بمزايا احتكارية واستراتيجية اقتصادية
وسياسية.
ومن هنا فان المغزى الاقتصادي لسياسة الخصخصة ينطوي على
مسألتين مترابطتين تمثلان شروط نجاحها، المسألة الاولى:
تتعلق بمدى توفر شروط السوق والمنافسة وقدرة القطاع الاهلي
على القيام بدور الريادة في تنمية اقتصاديات البلدان
المعنية وعلى النحو الذي تشهده بعض تجارب البلدان النامية
في الظرف الراهن. اما المسألة الثانية: فتتعلق بطبيعة
الظروف الاقتصادية والمالية الموضوعية التي تؤثر على
المشروع العام المرشح للخصخصة، وتحديد مسؤولية السياسات
الاقتصادية والمالية والنقدية العامة في تكريس تلك الظروف
او تغييرها الى جانب الاسباب الذاتية المؤدية الى انخفاض
كفاءة الاداء الاداري والفني للمشروع ومسؤولية الجهات
الادارية العليا للدولة في خلق هذا الضعف الذاتي.
ومن الممكن توقع تحسن الكفاءة المالية للمشروع بعد التخصيص
بالتخفيض النسبي في تكاليف الانتاج، على ان استمرار تحسن
الاداء المالي للمشروع لا يتم تلقائياً بل يتوقف على
الكثير من العوامل الاقتصادية. فعلى سبيل المثال اطلاق
اسعار منتجات المشاريع المباعة يمكن ان يحقق زيادات كبيرة
في الارباح ولكن مثل هذه النتيجة قد لا تنطوي على تحسين
كفاءة الاداء الاقتصادي والانتاجي على وجه التحديد فالقطاع
الاهلي يستهدف التملك بغية جني الارباح من خلال سياسة
تحرير الاسعار دون احداث تطويرات مهمة في العمليات
الانتاجية للمشروع، وهذا ما يفسر مواقفه الانتقائية ازاء
المشاريع العامة المرشحة للبيع. وهذه الظاهرة كانت واضحة
تماماً خلال التجربة العراقية (1980-1990) حيث لم يظهر أي
تحسن في كفاءة الاداء الانتاجي للعديد من مشاريع الاسماك
والدواجن والابقار والمزارع الكبيرة التي تمت خصخصتها
لاسباب عديدة لعل اهمها توخي الربح السريع في ظل العقلية
التجارية المحافظة لاصحاب المشاريع الجدد، اضافة الى عدم
وجود المنافسة بين المشاريع المشابهة، ولا تختلف التجربة
الليبية على سبيل المثال عن مثيلتها العراقية كثيراً،
فعندما تم تمليك بعض المنشآت العامة في ليبيا الى القطاع
الاهلي بعد عام 1989 وبخاصة في مجالات النسيج والاغذية
ومواد البناء والمواد الكيمياوية والمعدنية تبين ان هناك
عنصرين لم يتم تطبيقهما تأميناً لنجاح عملية التمليك:
الاول: عدم اتباع الخطوات اللازمة لرفع كفاءة اداء المنشآت
بعد خصخصتها.
الثاني: عدم تطبيق السياسات العامة السائدة بشكل منسجم
والعاملة على تحسين كفاءة الاداء الاقتصادي بعد التخصيص.
لذلك جاءت النتيجة مخيبة في كلا التجربتين وعانت المنشآت
من تدهور في الانتاج والاداء يقل عن ادائها المتواضع عندما
كانت جزءاً من القطاع العام (سيف الاسلام القذافي 2002).
نستنتج من ذلك ان تحسن الكفاءة الانتاجية المرتبطة عادة
بالمؤسسات الاستثمارية وتحسين التكنولوجيا المستخدمة لا
يتم الا بتوفر الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
المناسبة، مع مرونة كافية في السياسات الاقتصادية والنقدية
العامة لتأمين حرية الاسعار والمنافسة وضمان حرية انتقال
عوامل الانتاج وتحرير التجارة الى جانب وجود اسواق مالية
كفوءة تساعده في تعزيز المنافسة بين المشاريع وتعمل على
تحفيزها من اجل رفع كفاءتها.
اخيراً فان عملية التقويم والمراجعة الاقتصادية والمالية
والتكنولوجية المستجدة من خلال تحليل معايير الجدوى
الاقتصادية للمشاريع العامة يساعد كثيراً في التحكم على
امكانية المضي قدماً في الخصخصة. وهنا لابد من تقويم
السياسات على المستوى الاقتصادي الكلي للتحقق من توفير
شروط المنافسة لتحقيق الاهداف الرئيسية للخصخصة ليست
باعتبارها هدفاً وانما وسيلة لزيادة الكفاءة الاقتصادية
للمشاريع الاقتصادية ولزيادة مصادر التراكم الرأسمالي
القاعدة الاساسية للانفاق على مشاريع وبرامج العدالة
الاجتماعية وتحسين دخول ومستويات المعيشة للفقراء
والمعوزين وغير القادرين على العمل.
|