ذاكرة
الأماكن ..
مقبرة (بيير لاشيز)..جنة
الآلام والذكريات
ترجمة /جودت جالي
أجل
…
جنة الآلام والذكريات،
فخر المقابر الغربية، الحديقة الشاسعة التي بلغ عدد تحف
الحداد الفنية على قبورها 33000 سجلت كثروة وطنية، مجمع
رفات عظماء فرنسا منذ 900 عام حين دفن في ذلك الموضع (قبل
تحويله إلى مقبرة بقرون) آبيلار عام 1141، وسجل تأريخها
السياسي والاجتماعي فكل حدث بارز في فرنسا مر من هنا وتسجل
على شاهدة من شواهدها، المقبرة التي حفظت لأمواتها حياة
أبدية، متنزه يزوره كل عام مليونا زائر، وقبوره عبارة عن
متحف لروائع المنحوتات في الهواء الطلق. كانت في القرن
السابع عشر لاتزال جزءاً من الريف تسمى تل لويس نسبة إلى
لويس الرابع عشر والسبب هو أن هذا الملك جعلها مقرا
لقيادته في المعركة التي خاضها ضد أمراء الفروند عام 1652.
كان تعداد جيشه 12000 فيما كان جيش أعدائه بقيادة (كوندي)
5000 ومع ذلك خسر المعركة فقد ساعد جيش العدو رمي المدفعية
من أسوار الباستيل ثم تبين فيما بعد أن أبنة عمه هي التي
وجهت الرماة لتسقط القنابل على جيشه لأنها كانت تحب أميرا
من أعدائه لم يرغب الملك أن تتزوجه.
سمي التل بأسم مرشد لويس الرابع عشر رجل الدين الأب لاشيز.
وأصبحت رسميا مقبرة عام 1804 فلما حل عام 1817 نقل الحاكم
شابرول رفات جثث مولير ولافونتين وغيرهما من عظماء
الفرنسيين من قبورهم إلى المقبرة ليشجع الأرستقراطيين على
الدفن فيها فنجحت الخطة نجاحا منقطع النظير وفوريا. شهدت
المقبرة مراحل صراعات وتطوير لا مجال لذكرها ولكننا نشير
إلى أن أندريه مالرو حين كان وزيرا للثقافة قام عام 1963
بحملة تطوير وتحسين المقبرة وصنف نصف مساحتها باعتباره
موقعا تحت رعاية الدولة لما يضم من قبور الشخصيات البارزة
والأعمال الفنية البديعة وتبعه جاك لانغ عام 1983 في مسعى
مماثل وأصدر قرارا باعتبار كل القبور التي تعود إلى ماقبل
1900 تعتبر ثروة قومية وصروحا تاريخية ويبلغ عدد القبور
المميزة في الأهمية 10000 من بين 80000 قبر. كتبت بحق هذه
المقبرة عشرات الكتب آخرها كتاب دانيال تارتاكوفسكي الرائع
عن التأريخ السياسي لمقبرة بير لاشيز.
لقد أعقبت معركة التل عام 1652 معارك كثيرة في هذا الموضع
من أهمها المعركة الأخيرة لمقاتلي ثورة الكومونة عام 1871
وقد وقعت في المقبرة بعد تراجعهم أليها أمام ضغط جيش
الحكومة النظامي وهناك جرت مذبحة لما تبقى من قوات الثورة
وأعدم الذين سقطوا أسرى وجرحى فورا أعداما جماعيا في مكان
يسمى الآن جدار الذكرى لأن المحكومين بالأعدام صفوا إلى
جدار لايزال قائما كما لاتزال آثار الأطلاقات على شواهد
القبور وأضرار المعركة التي لحقت بها ظاهرة وتركت للذكرى (راجع
بالفرنسية كتاب الباحثة أديت توما المعنون البتروليات وهذه
الكلمة صفة لنساء الكومونة اللواتي أستخدمن طريقة الأرض
المحروقة أمام زحف جيش الحكومة فقمن بإشعال الحرائق في
البنايات وفي الشوارع لصد الهجوم وقد صدر الكتاب عام
1963). هناك دفنوا في حفر جماعية أمرت الحكومة بعد بضع
سنين بطمس معالمها. يزور هذا المكان سنويا في آذار وأيار
آلاف الزوار يوقدون الشموع ويغنون للكومونة إلى حد الآن في
الساحات والممرات التي رصفت بالحجر ونظمت وزرعت فيها ما
يقارب 30000 شجرة مثمرة وشجرة زينة (عدد اللوموند 2 الصادر
في شهر كانون الأول عام 2004).
تتدرج قبور المشاهير فيها في أسلوب الإظهار فمن القبور
كقبر مارسيل بروست مجرد رخامة سوداء كتبت عليها الأسماء
إلى تصميم فني رقيق جميل الدلالة كقبر الألمانية(جيردا
تارو) (1911-1937) أول مراسلة حربية في العالم سجنها
النازيون وفرت من السجن إلى فرنسا لتصبح الصديقة الفاتنة
للمثقفين الباريسيين وانتمت إلى الحزب الشيوعي ثم ذهبت إلى
أسبانيا عندما اندلعت الحرب الأهلية فيها لتحارب في صفوف
الجمهوريين وتراسل الصحف فقتلت في أحدى المعارك. قبرها
عبارة عن عمل فني نفذه جياكوميتي، شاهدة حفرت عليها سنة
الولادة وسنة الوفاة ووضع عندها تمثال صغير يمثل حمامة
زاجل، نظم الاحتفاء بها وتشييعها الشاعر أراغون برعاية
الحزب الشيوعي ولم يتخلف مثقف بارز من المثقفين في فرنسا
فكان من بين الحضور صديقها ورفيقها في جبهة الحرب المصور
روبيرت كابا الذي سحقته دبابة فيما بعد في العام نفسه (صدر
هذا العام كتاب عنهما) والصحفي بول نيزان والمصور بريسون
والشاعر نيرودا والفنان ماكس أوب، كتب على قبرها التعريف
بها فلما أحتل الألمان فرنسا مسحوه، أو كقبر الصحفي الشاب
فكتور نوار الذي قتله الأمير بيير بونابرت عام 1870 حيث
أبدع النحات دالو تمثالا بالحجم الطبيعي يمثل الصحفي راقدا
على ظهره ووضع على القبر، وقد نجد قبرا اكثر أرتفاعا كقبر
شوبان تحفة فنية من المرمر تمثل أمرأة جالسة فوق القبر
مطرقة ألما. يختلف المدفونون هناك في الشهرة وفي الاحتفاء
بهم عند موتهم فمثلا (جيم موريسون) الفنان الأمريكي الشاب
الذي طارده رجال مكتب التحقيقات الفيدرالي فهرب إلى فرنسا
ومات هناك في ظروف غامضة لم يشيعه سوى خمسة مشيعين من
بينهم آغنيس فاردا لكن قبره صار فيما بعد محجة للشباب يجلس
عنده الآلاف سنويا ويقيمون الاحتفالات. شيع بول أيلوار عام
1952 مئات الآلاف، وشيع المغنية أديث بياف 40000 عام 1963،
وكذلك الممثل أيف مونتان عام 1991 العدد نفسه تقريبا،
وموريس توريز زعيم الحزب الشيوعي 1000000 مشيع عام 1964،
وكانت قد حظيت قبل ذلك في عام 1937 جنازة بول فيان الصحفي
في جريدة اللومانيتيه الشيوعية بحشد مشيعين بلغوا 500000
مشيع.
التشييع إلى هذه المقبرة كان يتخذ شكل الأحتجاجات
والتظاهرات السياسية في كثير من الأحيان فمثلا في عام 1877
تبع جنازة أدولف تيير 1000000 متظاهر يهتف (عاشت الجمهورية)،
وفي عام 1934 نظم الحزب الشيوعي تظاهرة ضمت 500000 شخص
لتشييع ضحايا مظاهرة شباط، وفي عام 1972 شيع جنازة الناشط
الماوي بيير أوفيرني الذي قتل صدما بسيارة أكثر من 400000
متظاهر.
لم تكن القبور تخلو من الامتياز والأسرار والفضائح فأول
قبر وضع له نحت هو قبر ضابط عام 1809 وأول تمثال هو تمثال
(العذاب) للنحات فرانسوا ميلوم عام 1815 وأعلى نصب هو لقبر
الدبلوماسي فيليكس بوجور البالغ ارتفاعه 20 مترا وأول من
دفن في قبر على شكل سرداب هو الكاتب ريمون روسيل عام 1933،
أما القبر السري فهو قبر أوسكار وايلد الذي توفي عام 1900
ولما توفي صديقه روس عام 1908 دفن معه ولم يذكر أسمه على
الشاهد، والقبر الفضيحة هو القبر الذي ضم ثلاثة هم النحات
أوغست كليسنجر زوج أبنة جورج صاند وريمي دو غورمون
وحبيبتهما المشتركة بيرت دو كورير التي توسطتهما في القبر!
|