عمارة وتشكيل

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

حكاية الطبيبة التشيكية فلاستا في بغداد .. طبيبة في بيت البرزنجي

اعداد/ المدى الثقافي

صدرت الطبعة الاولى من رواية (طبيبة في بيت البرزنجي) في تشيكوسلوفاكيا اواخر السبعينيات وطبعت طبعات متعددة وترجمت الى لغات أخرى حتى قام الاستاذ حسين العامل بترجمتها الى العربية سنة 1998 وقامت دار (المدى) في دمشق بنشرها عام 2000.
والرواية نسيج من المذكرات الشخصية ورواية الاحداث التي مرت بالطبيبة فلاستاكالالوفا وقد قامت بتاليفها ايلونا بورسكا التي كتبت تقول في نهاية الرواية في ملحق خاص روى بتلخيص شديد حكاية هذه الطبيبة.

مستشفى تشيكي ببغداد
يروي الصحفي التشيكي موتول ستانيسلاف، انه تتبع آثار الطبيبة التشيكية التي عاشت وعملت في بغداد في العشرينيات ومطلع الثلاثيينيات من هذا القرن، مسجلاً دهشته وهو يمشي في شوارع المدينة الشرقية وازقتها الجانبية الضيقة باحثاً عن بيت عائلة البواقين.
وعلى باب هذا البيت في بغداد، قبل سبعين سنة، علقت لوحة كتبت بالعربية يومذاك- المستشفى التشيكوسلوفاكي- الطبيبة فلاستا كالالوفا، وبذلك يكون هذا اول مستشفى تشيكوسلوفاكي في الشرق.
كانت امراة نحيفة رقيقة اليدين، متوسطة القامة، ودوداً أليفة في صوتها وابتسامتها، ذات جبين عريض ونحيف ووجه لم يكن يخلو من مسحة حزن هادئ ودائم ولم يخف سكون الجدية الذي يظهر عليه غالباً، في سنوات دراستها الطب كانت اول امراة انجزت دراستها بدرجة امتياز في تاريخ جماعة كارل في براغ، واتقنت في الوقت ذاته تعلم اللغات الانكليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية والايطالية، واثناء دراستها تعلمت اللغة التركية ثم اللغتين العربية والفارسية.
لقد عزمت وهي طالبة على الذهاب الى الشرق للعمل هناك، ولم يمل قرارها حافز رومانتيكي ولم يكن بدافع حب العيش في التوتر أو المغامرة كما لم يكن نزوة، والواقع فقد حفزت قرارها يومذاك مطامح بان تعمل طبيبة في منطقة الشرق الاوسط حيث امراض المناطق الحارة الفتاكة وحيث تفترض الحاجة وجود مساعدة طبية وايضاً اكتشاف ما يوقف مخاطر هذه الامراض وسيكون هذا انتصاراً باهراً. لهذا لم يكن قرارها قفزة في الظلام كما وصفه كثير من معارضيها واصدقائها يوم اعلنت فيما بعد قائلة "اما الذهاب الى دمشق أو الى بغداد، وهذا قرار. عندما يتخذ القرار لا بد من تطبيقه..".
في خريف عام 1924 ظهرت الطبيبة كالالوفا في اسطنبول في طريقها الى الشرق. وقضت بضعة اشهر تعرفت خلالها على الشيخ الوقور البروفيسور التركي عبد العزيز مجيد حيث قال لها مودعاً "تذكري يا ابنتي ان كلاً منا خالق للجنة والنار في داخله، تذكري ذلك عندما تجيء اللحظات الصعبة في حياة الانسان.." وتقول فلاستا لمؤلفة الكتاب عنها خلال محادثتها بانها لم تنس تلك الكلمات بالمرة.
ثم بعد اسطنبول ، ها هي بغداد التي قالت بعد سنوات من الاقامة فيها "ياالهي كم احببت الناس البسطاء فيها، الامهات يصطحبن اطفالهن المرضى.."
واحبت هذه المدينة الشرقية وقالت عنها "لاشيء اجمل من قضاء امسية على ضفاف نهر دجلة" وكتبت في مراسلاتها بعد سنوات تقول "يتألق الضوء فوق المرآة التي تنكسر عليها مويجات النهر.. وتختلط معاً رائحة النهر والجرف والنخيل.."
200 طبيب ومستشفى ملكي
غير ان واقع المدينة الشرقية- بغداد -كان حاضراً على الدوام في ذهن الطبيبة كالالوفا وفي السنوات التي عاشت فيها هناك، كان عدد لاطباء في عموم البلاد-العراق -لا يزيد على (200) طبيب مع مستشفى ملكي في العاصمة وكانت هي تعلم ان الوقت يعمل ضدها وان عملها بلا انقطاع قد يكون الاداة الوحيدة لها في مواجهة تحدي امراض المناطق الحارة وانقذت عملياً حياة عشرات وربما مئات الأطفال واجرت عمليات جراحية بامكانات تقنية طبية محدودة ونجحت في الاغلبية العظمى منها. وقد عرف قسم كبير من سكان بغداد اسمها وكلماتها العربية المنطوقة بلكنة اجنبية، وعرفوا مكان مستشفاها.
واقترنت باسمها اماكن متنوعة في المدينة وهناك من يقرن حياة وعمل الطبيبة كالالوفا في بغداد في بغداد بفترة فتح ابواب الجامعة للنساء، مما اسفر منذ ذلك الوقت عن زيادة عدد الطبيبات في تاريخ تلك البلاد.

دي لوتي

حالفها قدر من الحظ في هذا المناخ من العيش والعمل عندما تعرفت على الايطالي جيورجي دي لوتي خلال زيارتهما آثار بوابة عشتار وقصر نبوخذ نصر في خرائب بابل، وتجولا معاً في زيارة مدن قريبة من بغداد وتعرفا على اصدقاء كثيرين ثم تزوجا وفي بغداد ولد لهما ولد وبنت.
ذات يوم في عام 1932 عادت عائلة الطبيبة كالالوفا الى تشيكوسلوفاكيا بعد ان ودعت الشرق، فقد كبر الأطفال وحانت سنوات دراستهم في مدارس تشيكية وفي سنوات استقرارها كرست الطبيبة جهدها العلمي مع جهود زوجها في مقاومة أمراض المناطق الحارة.

نهاية حرب
في الثامن من ايار 1945 وقبل يوم واحد فقط من نهاية الحرب العالمية الثانية رسميا، هنا، على الجبهة التشيكية، واثناء هزيمة وتراجع فلول الجيوش الهتلرية، اقتحم بيت عائلة دي لوتي في قرية برنارتيتسه جنود نازيون مهزومون، وسال احدهم رب البيت الايطالي- "لست تشيكياً؟" لم يكن السؤال غريبا على الرجل دي لوتي كان قد اعتاده وكان ممكنا ان ينجو لو اجاب بالنفي ولكنه قال انه تشيكي، فهنا عمله العلمي وهنا فلاستا، والاطفال والارض التشيكية، فكان ان وجه الجندي النازي نار رشاشته الى الطفلين فقتلهما ، ثم قتل الزوج واطلق النار على فلاستا، وقال الجنود لبعضهم بانها ميتة هي ايضاً وتركوا باحة البيت، غير ان الطبيبة كالالوفا تغلبت على جراحها بعدما اصبحت ضحية للعنف والحرب.
واذا كانت الحرب تغذي منتفعين منها فقد تركت ندبة في الروح لا يمكن نسيانها، ويلاحظ ان فداحة الخسارة والآلام بعد فقدان اطفالها وزوجها عجزت عن سحق روح المقاومة فيها.
عادت الى مستشفاها للعمل والدراسة وتعلم لغات أخرى حيث بلغت في اواخر سنوات حياتها (14) لغة.
وتشير ايلونا بورسكا في مدقمة كتابها "طبيبة من بيت البواقين" الى شعورها باهمية وثقل الكتابة عن طبيبتها وقد عثرت المؤلفة بورسكا على الطبيبة كالالوفا دي لوتي في مستشفى مدينة بيسك لا كطبيبة بل امراة منهكة ومريضة، وبعد عام من اللقاءات المستمرة والاحاديث والذكريات التي سجلت صوتياً توفرت أكثر من الف صفحة من الوثائق والاجوبة والانطباعات عنها بضمنها مواد من الذين عرفوها وعملوا معها من زملائها وتلامذتها واصدقائها ومعارفها.
ومنذ عام 1971 في مقبرة قرية بيرنارتيتسه في منطقة جنوب الأراضي التشيكية حيث الزيزفونات الوارفة وصف اشجار الحور الباسقة ثمة قبر لانسانة وطبيبة تشيكية حملت خلال حياتها شيئاً من الود والذكريات الطيبة عن مدينة الشرق- عن بغداد واهل بغداد.
براغ- ايلول 1996

الامبراطورة
(1)
عندما كانت فلاستا تبحث عن دار لعيادتها الطبية المقبلة، لم يكن ليتوقع حتى اقرب اصدقائها ان مجمل التجهيزات الطبية التي كانت في حوزتها حينذاك تتكون من صيدلية سفرية وبضعة ازواج من القفازات المطاطية ومن علب الادوات الطبية لاجراء العمليات الجراحية الصغيرة.
لم تكن تتوقع ان الامور ستجري، أو سيكون عليها ان تجري، بهذه السرعة، لم تكن مترددة في أي وقت من الاوقات لكنها ارادت ان تلقي نظرة لفترة وجيزة وان تتعرف وان تحدد الاتجاه، الى ان تصل من تشيكوسلوفاكيا الصناديق التي تحتوي على التجهيزات والادوات للعمليات الجراحية، وفي الخريف سوف تصل الممرضة التي اتفقت معها قبل سنوات والتي تكرس جهودها الان بصورة كاملة في براغ لتعلم اللغة العربية.
غير ان كل الامور وقعت بصورة أخرى، ها هي الرخصة بيدها وعليها ان تتصرف فانها اذا ما تماهلت في افتتاح العيادة، قد يسحبون الرخصة منها بصورة قانونية.
بالطبع انها الان من دون ممرضة ومن دون تجهيزات لا تستطيع حتى مجرد التفكير بافتتاح المستشفى الصغير، كما كانت تخطط لذلك من قبل.
كانت القوانين العراقية تعترف بنوعين من المستشفيات، المستوصف الذي يعمل فيه طبيب واحد ويحتوي على عشرين سريراً كحد اقصى، والمستشفى ويعمل فيه طبيبان في الاقل ويحتوي على عدد اكبر من الاسرة، إذن عندما ستصل الممرضة روث، سيكون مستوصفاً، ستكون فلاستا مع الممرضة الوحيدة التي تحمل شهادة التمريض، وحيدتان وبلا مناوب لهما للقيام بكل الاعمال في الليل والنهار وفي الاعياد والعطل.
وبعد ان تنجح في كسب طبيب آخر من تشيكوسلوفاكيا للعمل هنا سيملكان الجرأة على تحقيق المستشفى.
ولكن في تلك اللحظة تتجلى الجرأة بمجرد افتتاح العيادة
مع طاقم من القفازات المطاطية ومع صندوق ميداني يحتوي على ادوات الجراحة خلال الحروب.
(2)
في بداية نيسان استأجرت فلاستا دارا صغيرة في القسم الشمالي من المدينة والمسمى الميدان، كانت دارا جديدة تماماً وكانت شرفتها الخضراء تطل على جادة السراي، أي شارع القصر، في كل مكان تنتشر المساكن الإسلامية الخاصة، وفي كل منها عدد كبير من النساء وليس من المنتظر ان تكون ثمت شحة بالنسبة لعدد المريضات.
عند تجهيز البيت والعيادة بالأثاث وعند العثور على الحد الادنى من العاملين ساعدها من جديد مصطفى كمال واسرته بنكران ذات.. وقد عثروا على التجهيزات الاساس عند الصيدلاني القديم طويق، الذي اشترى بحكمة بعد الحرب بقايا الاحتياطات الصحية البريطانية، ففي ممر بيت طويق ظهرت بين اكداس الأشياء القديمة صناديق فيها أداوات طبية وصناديق معدنية صغيرة للعيادة، وفي الحوش اخرجت فلاستا بحماسة حرصت على اخفائها لاجل ان لا يرتفع السعر طاولة للفحوص الطبية جديدة تماماً قد طمرت بين الأشياء القديمة.
ارادت ان ترسل في طلب سيارة أو عربة للنقل غير ان السيد طويق اوقفها: لا حاجة لذلك فقد ارسل السيد طويق في طلب الحمالين الاكراد من السوق.
حمل الرجال الحفاة بقاماتهم الطوال وكانهم تماثيل قديمة، على ظهورهم الصناديق التي يزيد وزن الواحد منها على الطن ومشوا بها بين الناس والحمير في الشوارع الضيقة، وخلال يوم واحد نقلوا الى دار العيادة ليس التجهيزات الطبية من طويق حسب، وانما ايضاً صهريجاً من الطين لتصفية الماء، وكذلك الارائك والكراسي والطاولات ودرجا للملابس، والمصابيح وأواني للمطبخ.
وقام الخياط اليهودي الشاب الذي يقع دكانه تحت اعمدة بيت كمال بخياطة الستائر للعيادة من القماش الابيض وقام قسم الكيمياء لاكبر مركز تجاري في بغداد بطلب الأدوية حسب القائمة من بضعة مصانع تشيكية لانتاج الأدوية، لقد تمت كل هذه الامور بسرعة ومن دون مصاعب باسعار رخيصة نسبياً جعلت فلاستا تشعر بالدهشة والارتياح والهدوء.
(3)
اول شغيل جاء به مصطفى كمال للعمل عند فلاستا هو الخادم: "وافقي على ذلك فانت امراة وهنا لا يمكن ان تسيري في الشوارع وحيدة، حتى في وضح النهار لا تستطيعين ذلك فكيف في المساء ولا يتعلق الامر بخطر ما يمكن ان يداهمك، من المؤكد ليس أكثر من أي مدينة أخرى في العالم، ولكن الامر يتعلق بتقليد عربي يكاد يكون قانوناً: لابد للخادم من ان يسير على مسافة ثلاث خطوات من السيدة النبيلة، وفي المساء يسير امامها وينير لها الطريق، وفي الازدحام يسير الخادم امامها ليشق لها الطريق، لاجل ان لا تضطر السيدة النبيلة الى شق الطريق بين الناس، ولابد من احترام هذه التقاليد والا فانك ستخسرين كل شي عند الناس، ليس عند النخبة فان هؤلاء ربما سيفهمون الامر الى حد ما ويعلمون انك اوروبية ولكن وبالدرجة الاولى ستخسرين الامر عند الناس البسطاء".
غير ان الامر كان أسوأ بالنسبة للطباخات، فد كن يتناوبن الواحدة بعد الاخرى، وكلهن كن يهيئن خليطاًُ من الارز والخضراوات يكاد لا يؤكل، وحتى هذا لم يحسن طبخه، كانت سيدة البيت ابعد ما تكون عن الذواقة للطعام، غير ان هذا كان حتى بالنسبة لها أكثر من ان يحتمل وهكذا كانت الطباخات في تغير دائم اما الخليط فقد بقي على حاله.
ولقد اصبح السيد توفيق، احد العاملين عند المحامي كمال، المساعد المخلص في كثير من الاحيان، فان هذا التأخير السابق الذي كان يذكر فلاستا بهيئته وصوته بعطيل فويان كان يرافقها عند الذهاب الى السوق للتبضع وكذلك عندما تذهب لعيادة مرضاها.
كان يقدمها في كل مكان بصوته الجهير الشبيه بصوت فويان- ممثل مسرحي تشيكي معروف - الدكتورة فلاستا كالالوفا الامبراطورة".
ولقد مرت فترة من الزمن قبل ان تدرك فلاستا ما الذي كان يعنيه توفيق بذلك، تذكرت فيما بعد- عندما سألها ما الذي يعنيه الطبيب الجراح قالت له انه الطبيب الذي يقوم باجراء العلميات الجراحية أي الاوبراتور. وقد لفظ الكلمة بالشكل الذي سمعها فبدلا من اوبراتور كان يقول امبراطور.
وحاولت تصحيح ذلك "ياتوفيق افندي لا نقول امبراطور وانما اوبراتور".
"عندنا نقول امبراطور" اجاب فويان البغدادي بهدوء وزهو.
(4)
مازالت العيادة غير مكتملة وها قد ظهر اول المرضى.
"في البداية سيحضر للعيادة اولئك الذين سبق لهم ان زاروا كل العيادات" قال الدكتور ستافروس اناجنوستيديس ساخراً "انهم يزورون كل الاطباء ولا يتمسكون بنصائح أي منهم، والدواء الذي يصفه الطبيب يشترونه لكنهم لن يستخدموه وبعد ذلك بالطبع يبدأون الشكوى، بأنك مثل الأطباء الآخرين لا تستحقين شيئاً".
كان احد اوائل المرضى صبي، رفسه الحصان، ولم يكن هناك متسع من الوقت للخيرة، إذ كان الصبي في حالة اغماء وقد صبغه الدم وفي وسط وجهه جرح ينزف، ماالذي ينبغي عمله اولاً؟ حمايته من التلوث واجراء فحص ولو اولي للتأكد من حالة الجمجمة والعيون وتجبير عظم الانف المكسور واجراء عملية تجميل. كل هذا ينبغي ان تنجزه وحدها من دون ممرضة أو مساعد. ولم يتصبب العرق في حينها على ظهر فلاستا بسبب حرارة الجو فقط.
انتظرت بتوتر شديد ما اذا كان الصبي سيتعرض لتسمم الدم وقد تسمرت حين فتحت الضمادات لاجراء الفحص الأول، كان الفوز حليفها، إذ نمت العظام بشكل سليم ونجحت العملية البلاستيكية وكانت جراح الصغير مهدي تلتئم بشكل جميل وكان ابوه تاجر الجلود ينادي ابنه في كل مناسبة: "تعال ليراك السادة، تأملوا لم يكن لهذا الطفل انف، كان مجرد جرح ينزف والآن انظروا اليه اليوم".
لم يكن بمقدور فلاستا ان تتمنى بان تجد داعية افضل.
في كل صباح كانت غرفة الانتظار تزدحم بالنساء المحجبات. واذا كان عدد الجلسات اثنى عشر أو خمسة عشر فان ذلك لا يعني ان في العيادة اثنتي عشرة أو خمس عشرة مريضة تنتظر الفحص الطبي، فان كل مريضة تصطحب معها في الاقل مرافقة ومخففة للهموم ولكن من المعتاد ان يكون العدد اكبر، بل وان يرافق المريضة موكب بكامله، بعضهن تأتي برفقة زوجها الذي يدخل العيادة ليتأكد من ان جميع النوافذ قد غطيت بالصورة المطلوبة، بصورة تحول دون ان ينظر احد من مكان ما ليرى زوجته، وحين يطمئن من سمك الستائر يجلس في الرواق أو الحوش وينتظر.
(5)
" لاادري ما إذا كانت هناك حاجة لطبيب آخر" هزت الانسة بيل الموظفة في إدارة الانتداب كتفيها (الكثير ممن التقوها يتحدثون عنها باحترام، غير انها بالتأكيد لم تتعامل مع الدكتورة كالالوفا بتعاطف) وقد ادركت فلاستا بدهشة عدم مناسبة اجابتها مع مرور الزمن وبعد التعرف على الاوضاع الصحية هنا.
باستثناء الحالات القديمة والمأساوية في الاغلب للامراض النسائية كانت تظهر في غرفة الانتظار بالدرجة الاولى حالات الاصابة بامراض الجهاز الهضمي، ففي قنوات الري في كل انحاء البلد وكذلك في مياه دجلة تنتشر الطفيليات التي تضع بيوضها في المثانة وتسبب البلهارزيا، ولهذا لا يستحم في نهر دجلة حتى في اشد الأيام حرارة غير القليل من الناس، غير ان الجميع يشربون الماء من هذا النهر بالذات، فمنه تأخذ الماء مؤسسة الاسالة ومن لا تصل الى بيته انابيب اسالة المياه يغترف ماء النهر بالجرة. وتجري تصفية مياه النهر للشرب، ففي محطة ضخ مياه المدينة يقومون بتصفية المياه وفي المنازل تجري تصفيتها باوان فخارية خاصة، غير ان هناك من يقوم بتصفية الماء بعناية فائقة ومن يقوم بذلك بعناية اقل.
وتحمل الكلاب على شعرها وعلى انوفها بيوض الدودة الوحيدة، الكلاب المنزلية هنا قليلة غير ان قطعان الكلاب السائبة تنتشر في الضواحي وتتجه الى المدينة بحثاً عن الفضلات والقمامة في الاسواق والمزابل.
في ايوان كل دار يوجد لغرض الزينة حوض للماء يكون ماؤه في العادة ساكناً ولا يستخدم هذا الحوض للزينة فقط وانما ايضاً لغسل الايدي والارجل قبل كل صلاة. ويغسل اعضاء الاسرة في مياه الحوض ايضاً احذيتهم الملوثة بعد دخولهم الخلاء، ويغسلون فيه الفواكه والخضراوات، وتقوم الاسر البخيلة بغسل الاواني التي لمسها اناس من ديانات أخرى بمياه الحوض لانهم يأسفون على كسرها أو رميها في القمامة.
كانت فلاستا عند النظر الى احواض الماء هذه تفكر بيأس: ماذا سترى لو تأملت بضع قطرات من مياه الحوض تحت المجهر؟
الامراض المعدية التي كانت تحصد عشرات الالاف من الناس، قد روضت الى حد ما بفضل التلقيح الاجباري. ورغم ذلك يموت في العراق في منتصف سنوات العشرينيات بسبب الطاعون والكوليرا حوالي خمسمائة شخص سنوياً. وتؤدي الحصبة والجدري الى موت ألف عراقي سنوياً.
وتؤثر فترات الحر تأثيراً قاتلاً في الأطفال بالدرجة الاولى، فان الاصابة بالاسهال المألوف، الذي يتشافى منه الطفل بسرعة في الظروف المناخية كثيراً ما ينتهي في حرارة الجو التي تزيد على الاربعين درجة مئوية بالموت السريع الذي لا يمكن تجنبه، ففي سنوات العشرينيات والثلاثينيات لم يبلغ العمر المدرسي غير نصف الأطفال المولودين في العراق.
في عيادة المستشفى الملكي يضطر الطبيب الواحد الى اجراء الفحوص الطبية خلال ساعتين أو ثلاث ساعات لاكثر من ثلاثمائة مريض، وفي الفترة التي كانت فيها الدكتورة كالالوفا في العراق كان هناك ما يزيد بقليل على المائتي طبيب لثلاثة ملايين نسمة من السكان.
(6)
في شهر ايار تكون درجة الحرارة في الظل عند الصباح حوالي 30 درجة مئوية، وعند الظهيرة يرتفع مؤشر المحرار الى الاربعين. الصحراء تنفخ انفاسها الحارة على المدينة من كل الجهات وكأنها فرن مستعر النار، اما السماء فكأنها من صفائح القصدير. اغلب الناس يلجؤون الى السراديب. انها غرف معتمة تحت مستوى ارضية المنزل مجهزة بفتحات التهوية (البادغيرات) وكل بيت يحتوي على سرداب. فلاستا مازالت قادرة على الصبر والتحمل فانها تستطيع تصور الجهود التي يتطلبها نقل العيادة.
انها تمارس عملها في الطابق الأول، لكنها تذهب للنوم على السطح. ففي المساء تصعد الى السطوح بغداد برمتها، وفي عتمة الليل تسمع اصوات الأطفال ورنين الاواني، وتوقد المصابيح الصغيرة وتظهر الناموسيات الواقية من البعوض.
(7)
مرة كانت فلاستا تنتظر المرض حتى انها عرفت متى سيظهر، عندما ينضج التمر ستبرز فجأة وفي الجزء المكشوف من جسمها بقعة حمراء وربما سيظهر عدد اكبر من البقع الحمر. وبصورة تدريجية تتورم وتنمو. انها الاخت البغدادية
–leismanioza- أو ما تسمى ايضاً دملة الجريح أو الدملة الشرقية، انها تظهر في مدن أخرى في الشرق الاوسط ، ويقدم الاثر الذي يبقى بعدها- في اغلب الاحيان على الوجه- دليلاً لا يتسرب اليه الشك على اصلها أي أي الانسان المعني قد عاش هنا لفترة من الزمن. تسبب الاخت البغدادية طفيلية احادية الخلية سوطية تتطفل على القوارض الصغيرة ويقوم بنقلها مؤكداً نوع من الذباب الذي يتكاثر وقت نضوج التمر بالذات، الذبابة من هذا النوع صغيرة جداً لدرجة انها تخترق الناموسية الاشد كثافة. وعندما تلسع الانسان على الوجه أو الرقبة و الذراع تكون قد ضمنت الختم البغدادي عليه.
هذه البقع الحمر تنمو تدريجياً وتتورم وتتحول الى دملة مزعجة ومتقيحة. ويستغرق علاجها ثمانية اشهر وربما سنة ونصف السنة، وفي عهد اقامة فلاستا في العراق كان اهل بغداد يعتبرونها صنوا لهم حتى انهم اطلقوا عليها صفة
الاخت.
كيفية الوقاية منها؟ عن طريق التلقيح فقط. الاسر اليهودية كانت منذ القرون الوسطى تلقح بقيح الدملة. كانوا يصيبون بالعدوى الجانب الداخلي للفخذ ليضمنوا عدم تشوه الوجه.
ظهرت على فلاستا عند نضوج أول التمر على الساعد والارجل اربع عشرة بقعة حمراء مرة واحدة، وعندما كبرت واصبحت بحجم حبة الحمص احرقتها ولم تترك غير واحدة منها على الرجل، تركتها تتطور بحرية لكي تكتسب المناعة.
في بداية ايار اصيبت بالاسهال المعوي والمعدي الذي استنزف قواها. وقد شددت من اجراءات التنظيف والوقاية وواصلت العمل في العيادة في وقت كانت فيه اشد مرضاً من الكثير من مرضاها, وقامت باجراء اول عملية جراحية في بغداد وهي تعاني من ارتفاع درجة الحرارة الى 39 درجة مئوية. كانت حتى اللحظة الاخيرة تفكر في ما إذا كان من الافضل تأجيل العملية الجراحية، فان أي امر لن يقع إذا لم تكن الحالة ملتهبة ولا خطرة وكان من الممكن ان تنتظر بضعة اسابيع. ولكن كم عانت المريضة الخوف. فالناس هنا يخافون من اية عملية جراحية مهما كانت صغيرة أكثر من خوف الناس عندنا. انهم يتساءلون بضيق وقلق، ما إذا كانت العملية مؤلمة وهل سيسيل كثير من الدم. فهل عليها ان تؤجل العملية وتسمح بان تعاني المريضة كل هذه المخاوف مرة أخرى؟ غسلت يديها اطول من المعتاد وللتأكد طلبت شد لثام مزدوج على فمها. لثام مزدوج على الفم والانف وفي جو تزيد حرارته على الاربعين.
مسحت جلد المريضة باليود وشعرت ان كل شيء سيكون على ما يرام وان العملية ستكون ناجحة. قرأت مرة عن احد الرسامين انه كان مصاباً بمرض سبب له ارتعاش اليدين، لدرجة انه كان لا يستطيع رفع كاس الشاي أو الملعقة الى فمه، لكنه في اللحظة التي كان يأخذ فيها ريشة الرسم بيده تصبح يده هادئة وثابتة.
سيتم ذلك لولا تلك الدوائر السود التي تظهر امام عينيها, تحققت العملية ولم تكن المريضة لتعلم بالحالة السيئة التي كانت الطبيبة تعانيها.
في السنة التالية انتقلت الطبيبة الى بيت جديد في دربونة النملة هو بيت البرزنجي.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة