تجربة في المعايشة

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

حتى في لبنان... من يطاردنا نحن العراقيين ؟!

لبنان/ عراقي هارب من العراق

كنا في زيارة الى لبنان عندما قامت إسرائيل بحربها المفتوحة عليه.
"كنا"؟ لا أعرف كلمة أخرى في هذه الساعة أستطيع بواسطتها أن ألقي على نفسي واصدقائي ستاراً من الظل، ولكي أحدثكم بحرية أيضا. أعترف أن الأمر لا يخلو من التباس، فنحن ستة خشينا أن يكون الشيطان سابعنا ، مفضلين أن نكون بلا أسماء، حالات وليس أشخاصا. لماذا؟ بوصفنا عراقيين هاربين بتنا نشعر بأننا مع سائر العراقيين الشرفاء خطأ خطير وموضع عقاب دائم، يبدو في تكرره التاريخي المشؤوم أنه غير قابل للتصحيح، ولكن بالإمكان التقليل من أضراره بذوباننا في الهواء والتلاشي كأننا لم نوجد قط . وبالتأكيد، لن يشذ كاتب هذه السطور عن هذا الاختيار إذا لم يكن هو من بث الذعر في نفوس زملائه أصلا. إن مسؤولية الكتابة أدعى لأعمال التخفي والتنصل.

لفة الحدود
ولكن ماذا كنا نفعل في لبنان؟ ياله من سؤال، لأنه ماذا كنا نفعل في سورية أصلا؟ الأصل إننا ذهبنا إلى لبنان لتجديد إقامتنا في سورية. يحدث تجديد الاقامة هذا كل ستة أشهر، وما من خطأ، ما من اختيار في الحقيقة، فالعراقي يجب أن يغادر مكان اقامته من اجل كسبها مجددا. في الماضي القريب قمنا جميعا بما يسمى هنا بلفة الحدود. واللفة هي اللفة، اسم يوحي بالطول والتحايل، لكنها طريقة قصيرة ولا تخلو من تحايل جرى عدم رؤيته تسهيلا للعراقيين البؤساء، ومعناها أن نعود إلى العراق دون أن نعود حقا، بل نؤشر جوازاتنا خروجا من سورية، ثم نؤشرها في دخولنا إلى العراق، لنعود أدراجنا راجعين مؤشرين جوازاتنا عند الخروج من العراق وعند دخول سورية. هذه اللفة تستغرق يوما كاملا، وأحيانا يوما ونصف، بسبب الزحمة، وتكلفنا أكثر من 50 دولارا، فضلا عن حرق أعصاب ما يعادل عام من جنون الحياة اليومية الاعتيادية. واللفة ما زالت متبعة من قبل عشرات آلاف العراقيين، علما أنها تعد أمرا جديدا.
الجار الأردني
تعدّ لفة الحدود كرما عربيا مقارنة بسلوك الجار الأردني الذي لا يقبل الا بمغادرة العراقي مغادرة كاملة لن يكون بعدها متأكدا من أنه سيقبل مجددا، فالقوانين تتبدل في لحظة، وما كان ساريا يلغى، وما كان ممنوعا يصبح عصياً على الفهم. وفي كل الأحوال لا يحصل على الاقامة غير المحظوظين وأصحاب الحظوة وأصحاب الملايين والسياسيين السابقين والحاليين واللاحقين.
إن الأردن حساس أكثر من اللازم في القضايا الأمنية، وكان قريبا من المأساة العراقية ، وعرف مأزق الكادحين العراقيين على وجه التحديد، وهم في الغالب من الأكفاء والشرفاء المخوفين الذين رفعوا شعار: يا غريب كن أديب! الا أن السلطات هناك تتبع سياسة تجريبية قائمة على الشك بهم والخوف منهم والرغبة في ابعادهم. وبالمناسبة أسمح لنفسي بالاعتراف أنني لو خيرت مكان الإقامة لاخترت الأردن من دون تردد، وعمان على وجه التحديد. فأنا أحب هذه المدينة، لأنها لا تبالي بي، ولا أحد يسألني فيها عن أي من اختياراتي حتى لو كانت بائسة، والكثير منها بائس حقا، وعليّ الاعتراف أيضا، إنني أحب نظامها شبه الانكليزي وهواءها العليل وسحر تلالها وسماءها الناعمة.
قبل شهرين أردت دخول الأردن عن طريق سوريا فمنعت مع عشرات العراقيين. سألني ضابط الجوازات: ما ذا كنت تفعل في سوريا؟ أردت أن أجيبه: كنت أرقص! لكنني فضلت أن أرد على سؤاله بسؤال: ألا تعرف؟ فخزرني!
الشؤم يلاحقنا
ما الذي جعل بعض العراقيين يستبدلون لفة الحدود بالذهاب الى لبنان بسفرة سياحية خاصة بطبقة المضطرين تستغرق ثلاثة أيام؟ إن 150 دولارا لا تعد مشكلة لعراقي باع الكثير من أغراضه، وأعد العدة لمكوث طويل في الخارج بعيدا عن جرائم الارهابيين والطائفيين. ولكنه أيضا لبنان لبنان لبنان، نداء، وتر مشدود، شعر متطاير، فيروز، وجارة الوادي.
نحن العراقيين الستة لم نكن نعرف بعضنا البعض بل تعارفنا في السيارة، وتبادلنا أحاديث عرضية عند توقفنا عند الحدود، ثم تبادلنا أحاديث جس النبض الخبيثة في فندق صغير من درجة نجمة واحدة بعد وصولنا الى بيروت وتناولنا الغداء على مائدة واحدة. كنا نتراصف ونقترب من بعضنا البعض بحذر وحيل ونتبادل ابتسامات مجانية مضطربة. لا حيثيات بعد . لسان، لهجة، توقع، وخاطرة واحدة هيمنت على كل واحد منا: لا تتورط. لا تثرثر. ممنوع رفع الكلفة وفتح القلب على الاسرار!
في اليوم الثاني لوصولنا، لعله يوم 12 تموز، قام حزب الله بأسر جنديين اسرائيليين، وشعرنا بالمأزق أكثر من اللبنانيين أنفسهم. لقد حدسنا قبل السيد حسن نصر الله، قبل السنيورا، قبل الجنرال عون، قبل البيروتيين والطرابلسيين والجنوبيين، قبل أهالي كفر شوبا وعيتا الشعب، أن خطبا وعقابا أحاطا بلبنان، وهما قريبان جدا، قريبان منا بوجه خاص، وحسب تعبير (ع ف)، وهو على فكرة من الرمادي: لقد شمّت اسرائيل رائحتنا، رائحة عراقيين هاربين!
لقد شعرنا جميعا أن شؤما قديما يطاردنا ، وأن لا فكاك، ولا أمل، ولا انقاذ. منذ هذه اللحظة استولى علينا يأس جبار من هذا الذي يولد الرعونة والضحك والثرثرة واللامبالاة والكرم، فتبدد حذرنا وانهارت سدودنا ورحنا نتعارف على المكشوف وننزلق الى السياسة، مستسلمين لهذه البرهة التاريخية التي تطارد فيها اسرائيل جميع اللبنانيين مع ستة من العراقيين سيئي الحظ . في هذه البرهة لم يعد اللبنانيون يروننا عراقيين، ولست أدري حقا إن بدأوا يشبهوننا كمشاريع ارتحال أو موت، أو بتنا لا نراهم بوصفهم مضيّفينا في حماية قانون وحياة متماسكة غريبة عنا.
الحرب والبقاء والسياسة
في اليوم الثاني بدأت اسرائيل حربها المفتوحة على لبنان فكسبنا رهان الحدس العراقي البائس من كون اسرائيل ستنتقم من لبنان شر انتقام، فهذا هو ديدنها البارحة واليوم والغد!
في هذا اليوم عادت المجموعة السياحية الفقيرة التي جئنا معها الى سوريا، وفضلنا المكوث في لبنان وهو يضرب بالقنابل: ولو يا أخوان.. المبلل لا يخاف من المطر! لم تعد مشكلة الحدود والاقامة ملحة في هذه الفوضى. لن يسأل عنا أحد، ثم أننا تعرفنا على عراقيين يعيشون في لبنان على حدود الكفاف، مفضلين العيش مع اللبنانيين الأحرار على أن يعيشوا في بلدهم الذي يتحكم فيه الظلاميون والأميركان والقتلة. لم نعد ننام بفندق بل مع هؤلاء الكفافيين الذين كانوا ينامون بمهاجع شبه جماعية تؤوي الفقراء والمضطرين وأصحاب الفكاهة والتهذيب. كنا سعداء. لم نعد نخشى شيئا، ولا حتى القنابل الاسرائيلية. كنا نشجع اخوتنا اللبنانيين بالقول: أخوان.. هذه زلاطة!
وكالعادة رحنا نتبارى معهم بالحدس والذكاء السياسي.
والحال إن اللبنانيين ما أن يتعرفوا على عراقي حتى يحملونه تناقضا في مواقفهم من القضية العراقية، فهم متضامنون ولكن لا يخفون دهشتهم أو آراءهم كوننا:
1- أبدينا حماسة قوية في التعاون مع الاميركان في البداية،
2- يحيوننا لأننا رحنا نضرب الأميركان ونوجعهم،
3- يلوموننا لأننا سمحنا للأميركان باحتلالنا،
4- يعتقدون أننا بتنا نسبقهم في الديمقراطية،
5- يخافون علينا من حرب أهلية إذا ما انسحب الاميركان،
إن جميع هذه المواقف تقال مرة واحدة أحيانا، ومن شخص واحد، أو مجموعة أشخاص. أحيانا تجد من يحرجك في سؤال عن انتمائك الطائفي، ثم تسمع منه محاضرة علمانية، وقد تسمع منه اتهامات لطائفة بعينها من دون أن يسميها لأنه غير واثق من أن تكون منها . أيا كان الموقف، فإنه سريع التبدد عندما يحال كل شيء الى وقائع الحياة وليس لللأديولجيات، واللبنانيون أبناء حياة. لكن هذا لا يعدم وجود مواقف عقائدية صلبة لا تتزحزح، وسيكون علينا أن نحدس إن كان يقف وراء المتكلم حزب الله أو الحزب السوري القومي أو أي حزب يمتاز بارتفاع صوته وعقائديته المفرطة.
لقد فاجأت الحرب اللبنانيين على نحو بدوا في الأيام الأولى غير مصدقين ولا يعرفون ما يترتب عليهم والى أي مكان يجب أن يفروا اليه. إن أوسع رد فعل كلامي سمعناه في تلك الأيام يبرز من جدل مع النفس أو من آخرين يتلخص : ولكن لماذا! أو: نعم نعم ولكن!
كان هذا يشبه الى حد كبير ما حصل لنا بعد دخول صدام الى الكويت مما ترتب عليه تراكم غيوم الحرب في سماء العراقيين، وراح سؤال واحد يرتفع من دون تحليل ولا تكييف. سؤال واحد. سؤال يعادل كل الشعارات والتبريرات والصراخ الأديولوجي والبيانات وأعمال الحكمة. سؤال دهشة واتهام : لماذا!
إن ما يعمق الصيغة اللبنانية الشعبية( ولكن لماذا) موقف الحكومة الذي عبر عنه السنيورا بوضوح: لم نكن على علم بعملية حزب الله!
من المؤكد أن اسرائيل تعرف هذا، وهي قد تصدق السنيورا، وقد تستخدم اعترافه ضده في ما بعد، لكنها الآن تصدق حزب الله أكثر مما تصدق أحدا. إن الاعداء الصريحين في حرب معلنة يعترفون ببعضهم البعض، ويصنع بعضهم البعض، ولا يهم الباقي. هذا هو جدل الحرب. هذا هو خبثها.
على نحو ما، انسجمنا نحن الستة مع الخطاب الصريح والخفي لرئيس الحكومة اللبنانية، وقد شعرنا بتعاطف شديد مع ورطته، فهو لم يستشر بهذه الأزمة، ولا يريدها، كما أنه سيتحمل في النهاية نتائجها على الاقتصاد والمجتمع والثقافة، فضلا عن مسؤوليته كمسؤول حكومي لا يستطيع حزب الله أن يساعده فيها، وهو يريد أن يتوقف القتال من دون أن يكون قادرا على التأثير عليه ، وما تبقى له هو أن يكتفي بدور الوطني الشهم، فلا يوجه سهام النقد الى أحد حتى لو كان يستحقه، ولا يبدو ملحا، ولا عاجلا، مفضلا أن يبتلع كمده وغضبه.
وصف صديقنا العراقي( م ك) وهو من (أبو الخصيب) في البصرة موقف السنيورا بأنه يمثل دراما الليبراليين العرب، الذين يقفون موقفا اخلاقيا ومجتمعيا من قضايا شعبهم، مبتلين بتخلف قواه السياسية، ومتحملين في النهاية العار والشنار والموت المبكر، لأن الآخرين يمتلكون جلدا سميكا وعقلا أكثر سمكا لا يتأثران بالمآسي. ( أنا بالطبع لخصت رأيه حاذفا منه شتائم لم أعرف أن أهل البصرة يجيدونها موجهة الى ...
الشعارات والدولة
في لبنان اكتشفنا أن الكثير من العراقيين اللابدين هنا يميلون الى أن يأخذ الساسة والحكام العرب مبدأ ميزان القوى بالحسبان قبل أن يغامروا أو يندفعوا وراء الغضب أو وراء بعض الأهداف الغامضة. وكما هو واضح أملت التجربة العراقية المرة مثل هذا الموقف، فقد دمر العراق بسبب العنتريات الساذجة والشعارات الكاذبة غير القابلة للتحقيق، وفي الحالة اللبنانية اخترنا نحن الستة في الأقل أن نتضامن مع الجميع حتى مع حزب الله، لكننا كنا نجادل ضد الطريقة التي تستخف بمصالح الوطن اللبناني وعقول ساسته، وتستخف بقدرة الآلة الحربية الاسرائيلية على تحطيم لبنان والحاق أكبر الخسائر بأرواح أبنائه واقتصاده وبناه التحتية. أزاء ذلك لم نكن على وفاق مع مفهوم لخصه غسان تويني والقائل بحرب الآخرين على أرض لبنان، ليس لأنه لا يوجد دليل على ذلك، بل لأن على اللبنانيين أن يكفوا عن لوم الآخرين ويبحثوا عن ضعفهم في لبنان وبين اللبنانيين، وبهذا فقط يكونون قد شفوا من أمراضهم.
إن واحدة من القضايا المهمة في الحالة اللبنانية التي أثارتنا هي مصير الدولة وموقعها من اسلحة حزب الله ومن الوضع في الجنوب اللبناني ومن المسؤول عن ادارة الصراع . لقد أخضعت هذه القضية الى نقاش لبناني داخلي، وحمّلت مخاوف متبادلة، فجماعة حزب الله والمتحالفون معه تعاملوا مع قضية خطرة مثل هذه بوصفها قابلة للتداول السياسي الذي يمكن التسويف فيه الى أن تأذن الظروف والمعادلات السياسية إما لاغلاقها أو حلها حلا يتناسب ومستوى تأثيرهم، مشيرين باصبع الاتهام الى ما يسمى بقوى 14 آذار كونها تريد تطبيق القرار الدولي رقم 1559 وسحب البساط من تحت المقاومة بالتنسيق مع اعدائها. هذا الموقف يؤدي عمليا الى التحشيد ضد تطبيق قرار دولي صادر من مجلس الأمن مما يعرض لبنان الى الكثير من الضغوط. لكن القوى الأخرى تدعي إنها إنما تريد تطبيق اتفاق الطائف الذي لم يطبق أبدا، وهذا الاتفاق يتحدث هو الآخر عن بسط الدولة اللبنانية سيادتها على كامل الاراضي اللبنانية وتجريد المليشيات من أسلحتها، فضلا عن أن قرار 1559 هو استحقاق دولي يمكن تجييره لحساب لبنان عن طريق الاتفاق الوطني والحرص على الوحدة الوطنية. أزاء ذلك أشارت هذه القوى الى امكانية حدوث حادث يورط الدولة والمجتمع اللبناني ابتداء من الجنوب، وهو ما حدث حقا. فحزب الله تصرف وحده، ونظن أنه إذا لم يتوقع الرد الاسرائيلي على النحو الذي ظهر فيه ، فقد توقع على أية حال حماقة اسرائيلية تؤجج الروح الوطنية وتخلط الأوراق، وهو ما حدث تماما.
كانت ثمة امكانية لتوفير حيل وحلول سياسية متراكبة وتبريرات متقابلة معترف بها من المواقف المتعارضة للقوى الاساسية اللبنانية، لكن الحل الجوهري لهذه المسألة لا يمكن التلاعب به أو تأجيله، وعليه أن يصب في النهاية لمصلحة الدولة. فما من مفر من هذا الحل إذا أريد الاستقرار والتنمية. إن الاستهانة بالدولة لن يؤدي الا الى تفكك المجتمع ووضع لبنان مجددا في آتون الحرب الأهلية. لا مزاح في هذا الشأن حتى بوجود حالة خاصة. والحالة العراقية تعد مثالا صارخا على ما آلت اليه الأوضاع في ظل غياب الدولة، فقد حلت المليشيات الطائفية المسلحة محل الدولة، ثم راحت هذه المليشيات بركوب الدولة واحتلالها واستخدامها استخداما طائفيا. إننا لن نحصل من هذه الوضعية الخطرة الا على حرب أهلية. ألا يعرف حزب الله هذا؟ الا تعرف الأحزاب الطائفية في العراق أنها تقود العراق الى التفكك والانحطاط؟ الا تعرف أن السياسة الاسرائيلية في المنطقة قائمة على تفكيك المجتمعات وتحويل دول المنطقة الى عدو نفسها وشعبها؟
الموقف الأخير
لم تعد التبريرات الاسرائيلية مقنعة، فهي لم تعد تطارد حزب الله بل اللبنانيين جميعا، وتحطم البنية التحتية لبلدهم على رؤوسهم. إنها تبدو اليوم في ورطة بسبب أنها تخوض حربا لم تعهدها من قبل، ولكي تخرج منها تزداد ضراوة واجراما. وكما لاحظنا فإن اسرائيل تبدو غير معنية حتى بوجود مواقف لبنانية تقف ضد ما قام به حزب الله، فهي ترسم سياستها باسلوب عسكري فظ، مما يشير الى أن مقاربتها الشوفينية العنصرية ضد العرب باقية ولم تتغير، بل يمكن ملاحظة إن اسرائيل تترجم مقاربتها هذه حتى من دون تقييم سياسي واضح، مدفوعة كما يبدو من تشجيع دولي، ولاسيما من الولايات المتحدة. والحال إن الأخيرة وقفت موقفا متطابقا مع اسرائيل غير مبالية بمصير تحليلها السابق عن التطورات الديمقراطية في لبنان التي راهنت عليها. واذا كانت اميركا تعوّل على قيام اسرائيل بانهاء تنفيذ خططها العسكرية في لبنان لكي تدعو الى وقف اطلاق النار أو تقدم مشروعها الخاص لانهاء الأزمة، فإن المعطيات على الأرض تشير الى أنها ستنتظر كثيرا في اقناع عدد من الفرقاء اللبنانيين هذه المرة ، وستفاجأ أن حزب الله لن يكون وحده في الميدان السياسي، بل ستقترب منه الحكومة وبعض الاطراف السياسية، فالحرب المفتوحة والتدمير الشامل وحدتا اللبنانيين على برنامج، لعله لن يكون الا نسخة أخرى من البرنامج الذي تقدم به السنيورا في روما، والذي تحفّظ حزب الله على فقرتين منه، في حين لم يحظ بموافقة الدول الأوربية وأميركا. فيما عدا ذلك ظهر على نحو بشع الهدف الحقيقي للسياسة الاسرائيلية في المنطقة الا وهو تفكيكها واللامبالاة بمصير ابنائها معززا بأمثلة من غزة والضفة، وهذا الموقف نفسه يلقي ظلالا من الشك على المشروع الأميركي في نشر الديمقراطية معززا بأمثلة أخرى من الحالة العراقية المفككة بفضل تفاهة السياسة الأميركية وانحطاطها هناك.
المغادرة وثبت المراجع
في اليوم الخامس عشر من الحرب غادرنا لبنان. بات الوضع لا يطاق والحياة المعيشية زادت صعوبة. والبحر الذي كان يخفف من حرارتنا بدا أشبه برمز كبير لطوفان قادم. كان الحزن العراقي، هذا الذي يتغلغل حتى العظم، قد حلّ، ورحنا نفرط في التدخين والتحليق في سماوات مخاوفنا القديمة. حقيقة إننا فكرنا بأن الأماكن التي تؤوينا باتت قليلة جدا، وآمالنا بعراق موحد آمن تبددت. في كل ليلة كنت استيقظ فزعا على صوت القصف الاسرائيلي وعلى أصوات مخيفة لمعركة تدور في رأسي بيني وبين ملثمين يحملون سيوفا. لمرتين اثنتين سمعت (ر س) من الاعظمية يصيح في نومه: لا أرجوكم لا تقتلوني! حتى في النوم يطاردنا القتلة، وتحت غداراتهم نفضل أن نحتفظ بالأدب والخجل!
في جدلنا نحن العراقيين الستة مع بعض اللبنانيين وضعنا حالاتنا الشخصية دليلا على ما حدث ويحدث في العراق اليوم، وكم كانت دهشتنا اكتشافنا أننا غادرنا جميعا العراق بسبب العنف والارهاب والاستبداد الطائفي والروح المناطقية التي تتمم التخندق الطائفي. واليكم بعض المعلومات عن أنفسنا والتي نود أن يقرأها المسؤولون في الحكومة والأحزاب والجماعات والمليشيات لعلهم يخجلون من أنفسهم ويستجيبون الى (أرجوكم) ويردون بمثلها أو بأحسن منها. اليكم ما أدعوه ثبت المراجع:
1- (ع ف) من الرمادي. فرّ من مدينته لأنها بيد تنظيم القاعدة، ويؤكد: كل من يقول أنها بيد أبنائها واهم أو كذاب! شيوخ ورجالات المدينة الاساسيون جميعا فروا الى الأردن. يعبث هناك الأميركان وقتلة القاعدة. من وجهة ما يقدم الاميركان الحجج الى القاعدة، والجماعة الأخيرة تقدم الى الأميركان أهدافهم. الاثنان متفقان موضوعيا على تحويل الرمادي الى منطقة قتال وحقد وجرائم ولصوصية منظمة. هرب (ع ف) الى بغداد بعد أن هدده المسلحون، وسكن في بيت أقاربه الواقع بين (س) و(شين) حسب تعبيره . في أحد الأيام داهم الدار رجال يرتدون ملابس الشرطة أخذوا الأب والابن بينما كان ليلتها ينام في بيت صديق، والشرطة سألت عنه أيضا كأنها عرفت أنه يعيش هنا. بعد يومين وجد الأب والابن مغدورين وآثار تعذيب على جسديهما. لم يتبق له سوى الفرار من البلد لينجو بجلده من المجرمين في سين وشين الذين تآمروا معا على العراق، حسب ما يقول.
2- ح ع من مدينة الصدر هرب من المسلحين الذين يسيطرون على المدينة ويطبقون القانون فيها كيف ما يحلوا لهم. أخذوه مرة الى أحد مقراتهم العامرة وانهال عليه (أبو...) ضربا في العصي. (كشف لنا عن ظهره المليء بآثار التعذيب) أطلق سراحه بوساطة عشائرية مع تعهد أن لا يلبس تي شيرت عليه كتابة أجنبية!
3- ر س من بغداد
الاعظمية. كفر بالمسلحين فيها والهاجمين عليها بين الحين والحين. يحلف ويقول أنه لا المسلحون الذين يدعون أنهم من المقاومة الاسلامية ولا الذين يهاجمون الاعظمية بهذه الحجة، هم من المتدينين أو يعرفون الله أو الدين أو الأخلاق أو الوطن أو أي شيء يستشف منه المعرفة والشرف. الجميع رجال عصابات يقبضون من جهات مشبوهة، ومقارنة بهم يعدّ كفار قريش حملان وديعة. يقول أيضا انه فهم ضمنا أن عليه الرحيل (من هذا البلد) الذي لم يعد بلده، فهو بريء منه الى يوم الدين. يقول أيضا أنه رأي بعينيه كيف يقتل الناس ويعذبون على أساس طائفي. وهو يقترح حملة وطنية للتبرؤ من هؤلاء الساقطين، لكنه يشك حتى بالقيادات التي يعتقد أنها عاقلة، فالجميع يسهم بالمؤامرة ولاسيما أولئك الذين يتحدثون طويلا عن أهمية الوحدة الوطنية. يقول أخيرا: متى يرحل القتلة والمنافقون ويظل الأبرياء الشرفاء في بلدهم؟!
4- (م ك) من أبو الخصيب، مثقف، يعتقد أن البصرة هي اليوم بيد لصوص مضحكين( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) حسب آخر خطبة سمعها. يقول: الاغتيالات الى الجنة، لأن هؤلاء يغادرون الحياة بوصفهم ملعونين في الدنيا والآخرة، والجنة هي حكر على القتلة.
5- (ف ل) من بغداد- الكفاح. حدثنا بقصة طويلة لا تصدق: مطاردات في أزقة الكفاح، أعمال تهريب ولصوصية يندى لها الجبين ، مسؤولون في الدولة مرتبطون بالمافيات. خلص الى نتيجة مفادها أن العراقيين يحتاجون الى عشرين سنة دراسة في مدرسة تعلم الأخلاق فقط، وعشرين أخرى تعلم الوطنية! قال: نجوت باعجوبة بعد أن أطلق مجهولون علي النار. لماذا؟ لا أدري، هاكم شاهدوا هذه الآثار في صدري وبطني! ونزع قميصه.
6- وأخيرا أنا. من أنا؟ أنا ناقل هذا الكفر. كنت أسبح في البحر الأبيض المتوسط في لحظة انفراج غابت فيها الطائرات الاسرائيلية فقررت أن أغطس وأحبس أنفاسي، فعلت ورحت اسمع هديرا في أذني ثم صوت انفجارمرعب، أخرجت رأسي ولم أشاهد حادثاً غريباً. كان أصدقائي يسبحون بهدوء ويضحكون. بيد أنني نظرت باتجاه عمق البحر، فمت من الرعب، ما كان هناك غير اللون اللازوردي يغطي جسـدا هائلا يتموج، ما كان هناك غير شعوري بأنني غريب ووحيد ومطارد ولا يمكن إنقاذي. وفكرت بأنني عراقي!.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة