ثقافة كوردية

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ســــــالار أوســـــــــــي والحوار الناقص إلى اليوم بين الكوردي والعربي

حاوره: ريزان كمو

(سالار أوسي) كاتب وصحفي كوردي مقيم في بيروت منذ حوالي خمسة عشر عاماً، درس الصحافة في كلية الإعلام والتوثيق ـ الجامعة اللبنانية. عمل في عدد من الصحف اللبنانية،مثل (نداء الوطن) و(النهار) و(السفير) باحثاً في الشؤون الكوردية والتركية. وعمل مراسلاً لـ(وكالة الصحافة العربية) التي مقرها القاهرة. وهو يكتب حالياً لصالح القسم الثقافي في صحيفة (المستقبل).
أصدر تحت عنوان سلسلة ملفات تركية، كتابين هما (تركيا وسوريا)، و(تركيا وأمريكا)، بعد أن نشرهما في سبع وأربعين حلقة متتالية في صحيفة (نداء الوطن)1998. صدر له أخيراً كتاب بعنوان (الكورد في الوعي الثقافي العربي) عن دار (أبعاد) ببيروت، والذي كان محور حوارنا هذا معه:
* لتكن بداية الحديث عن هذا الكتاب من عندك، مثلما تركتَ بداية الحديث مع محاوريك في الكتاب عندهم.
- الكتاب يحتوي على (12) حواراً مفتوحاً مع مثقفين ومفكرين عرب بارزين، من سبع دول عربية، هي: مصر، ولبنان، وسوريا، وفلسطين، والعراق، والمغرب، وتونس. والمثقفون هم: فواز طرابلسي، وفيصل دراج، وطيب تيزيني، وكريم مروة، وإلياس خوري، وعبد الحسين شعبان، ونصر حامد أبو زيد، وأحمد برقاوي، وتهامي العبدولي، ومحمود أمين العالم، ومحمد برادة، وممدوح عدوان.
الكتاب يقدم استنتاجاً عن سبب غياب المثقفين العرب عن إبداء آرائهم ومواقفهم بشكل علني في قضية تمسهم في العمق (قضية الكورد). ربما استطعتُ في هذا الكتاب توثيق مواقف وآراء عينة من المثقفين العرب تجاه الكورد وقضيتهم، في محاولة لفتح نافذة حوار أتمنى له التطور والاستمرار.
إن لجوئي إلى المثقف العربي كما كتبتُ في مقدمتي للكتاب، كان من منطلقين: الأول،هو أن المثقف بشكل أو بآخر هو خارج دائرة السياسة، والعلاقة بين الثقافة والسياسة هي غالباً متضاربة في كل زمان ومكان؛ والمنطلق الثاني، هو أن المثقف موضوعياً يجب أن يكون في موقع يؤهله لأن يعاود طرح الأسئلة الأساسية، وأن يكون عنصراً فعالاً ومشاركاً في حلول المشكلات التي يعاني منها مجتمعه.
* من خلال تجربتك، هل تقبّل هؤلاء المثقفون العرب حوارك لهم، وللموضوع الذي طرحته عليهم وفق ما توخيت؟
- الإجابة على هذا السؤال بـ(نعم) أو (لا) ربما تكون ناقصة، لذلك لا بد من سرد مقتضب لما جرى معي:
من خلال تجربتي أستطيع القول أن بعض المثقفين العرب ـ وهم قلة ـ يملكون فهماً وتفهماً للقضية الكوردية، وبالتالي لهم مواقفهم التي تليق بهم كمثقفين تجاه هذه القضية، كما تجاه كل القضايا المشابهة، وقد تستطيع أن تشير باصبعك إلى بعض هؤلاء في هذا الكتاب، أما البعض الآخر، فهو ليس قريباً من فهم القضية، بالتالي لديه مواقف مغالطة غير مسؤولة.
فئة ثالثة، ليست لديها رغبة في فهم القضية؛ والكورد في رأي هؤلاء ليسوا سوى أناس مرفوضين يجب التخلص منهم.
* من خلال قراءتي الكتاب استوقفتني ملاحظاتك التي أوردتها في هامش كل حوار، منها قولك أن بعضاً ممن طلبت إليهم الإدلاء برأيهم في هذا الموضوع اعتذروا عن ذلك، هل لك أن تحدد هؤلاء بالأسماء؟ وبرأيك إلى ماذا يعود سبب الاعتذار؟
- أعتقد أنني ذكرتهم بالأسماء في مقدمة الكتاب، ضمن هؤلاء كان المفكر الماركسي السيد (محمد دكروب) رئيس تحرير مجلة الطريق، وكذلك الأستاذ (علي حرب) والباحث العراقي (علي الشوك). أما عن سبب اعتذارهم، فأعتقد أن الاعتذار نفسه يشكل موقفاً من قبلهم.
جميعنا يعلم أن القضية الكوردية والحديث فيها، يعد من المحرمات في الذهن السياسي العربي، وثمة بعض المثقفين العرب يدّعون الثقافة، فيما منطلقاتهم سياسية بحتة، وهم لا يخرجون عن سكة السياسة، ربما كي لا يتسببوا في تعكير مزاج السياسيين السلطويين. وأرى هؤلاء رغم ارتدائهم العمامة الثقافية، إلا أنهم بعيدون كل البعد عن صفة المثقف المعرفية.
*من خلال أجوبة بعض المثقفين على أسئلتك عن الكورد، وفي الوعي الثقافي العربي، نلمس أحياناً ان لديهم جهلاً تجاه القضية الكوردية. في رأيك هل يعود هذا الجهل إلى طبيعة المثقف العربي نفسه، أم إلى النظام العربي؟ أم أن للمثقف الكوردي دوراً في ذلك؟
- ربما نلمس لدى البعض منهم جهلاً بقضية الكورد، لكن مواقفهم الضبابية ليست دائماً ناتجة عن هذا الجهل، بل ناتجة في أحيان كثيرة عن رغبتهم بتجاهل القضية الكوردية. قد يكون البعض منهم غير مطلع على تفصيلات هذه القضية وتعقيداتها، لكن ذلك لا يبرر ولا يمنع من أن يكون لديه موقف مبدئي مطلوب من أي مثقف تجاه أية قضية إنسانية.
أما إذا قلنا، وبحسن نية أن مواقفهم اللاإيجابية هي مجرد جهل بالقضية المذكورة آنفاً، أعتقد أن هذا الجهل عائد إلى طبيعة الإعلام الممارس في المنطقة العربية، الذي هو في النتيجة إمتداد لطبيعة النظام السياسي العربي. لكن هذا الواقع نفسه يظل تبريراً ناقصاً لا يعفي المثقف العربي من الإحساس بدوره والقيام به تجاه أية قضية تخصه، وإلا، لماذا نرى بعض المثقفين العرب يعلمون تفصيلات القضية الكوردية، ويبدون آراءهم دون خشية من أحد، في الوقت الذي نرى البعض الآخر منهم يتهرب من النطق في هذا الموضوع، وإذا نطقوا رددوا كالببغاء نسخة طبق الأصل من الخطاب السياسي السلطوي العربي عن قضية الكورد وحقوقهم؟!
في المقابل لا يجب أن ننسى بأن المثقف الكوردي نفسه لم يؤد واجبه في تعريف الآخرين بقضيته كما يجب، وغالباً ما يسلك المثقف الكوردي في لعب هذا الدور سلوكاً نابعاً من ردود أفعال، ولا أعلم إن كان ذلك مبرراً أم لا في الواقع الذي عاشه ويعيشه الكورد، تحت ظل أنظمة عربية، وغير عربية لا ترضى إلا بإلغائهم والتنكر لوجودهم.
*بدلا عن الإهداء في مقدمة الكتاب، كتبت:َ (لنرسم خرائط الأوطان، خرائط الحب لنتحاور..). في رأيك كيف نطور هذا الحوار؟
- إذا كان لا بد من الحوار وهو ضرورة في رأيي، فلا بد من أن يكون على أسس ومبادئ واضحة. في الحقيقة سؤالك الذي طرحته علي الآن، وجهته قبلك إلى معظم الذين حاورتهم في كتابي، وجاءت الأجوبة مختلفة أحياناً ومتشابهة غالباً.
قبل أي شيء، الحوار بين طرفين ـ أي طرفين ـ لا بد من أن يبدأ باعتراف الطرفين ببعضهم البعض، وهذا الشرط غير متوافر في رأيي في الحالة العربية- الكوردية العامة، لكن، إذا انطلقنا نحو الموضوع في جانبه النسبي، فأعتقد أن ذلك ممكن، فإذا كان النظام السياسي العربي يرفض الكورد كطرف حوار وبعض المثقفين العرب يرون عكس ذلك، فلماذا لا نبدأ؟ ربما يكون غير مؤثر كما يجب، لكنه في الأقل تشييد لحالة غير موجودة في السابق.
الحوار يتطور من منطلق الندية، أي أن يعلم كل طرف بماله وماعليه. وعلى إحساس الندية، وليس الترجي، يمكن رسم دائرة للحوار. قد يفهم البعض أن الندية ربما توسع الشرخ أكثر، إنما أنا لا أقصد بالندية تسجيل كل طرف النقاط على الطرف الآخر، لا أقصد بالندية المحاسبة التاريخية، بل الندية الإيجابية التي تقرب الأطراف من بعضها البعض، وهذا الرأي لا يقتصر علي فقط، إنما الكثير ممن حاورتهم، كان لهم رأي مشابه لذلك، بمعنى آخر قريب منه، وأذكر هنا على سبيل المثال المفكر (نصر حامد أبو زيد)، والدكتور (محمد برادة)، والدكتور (فواز طرابلسي)، والأستاذ (ممدوح عدوان).
*كيف كان تقبـّل القارئ العربي لكتابك (الكورد في الوعي الثقافي العربي)، خصوصاً إنه حصيلة لآراء ومواقف مثقفين ومفكرين عرب كبار؟
- في الحقيقة، لم أكن أتوقع أن أحتاج إلى طباعة الكتاب طبعة ثانية بعد ستة أشهر فقط من طبعته الأولى، وربما العوامل التي ساعدت في ترويجه كثيرة، ولا أرغب في التوقف عندها.
الكتاب لاقى أصداء واسعة في الصحافة اللبنانية والعربية عموماً، وعلى مستوى القراءة، كانت الإنطباعات مختلفة، لكن كان ثمة إجماع على أهميته.
صدور هذا الكتاب ساعد في فتح نقاشات كثيرة شفهية، وعلى صفحات الجرائد بين المثقفين العرب والكورد، وبين المثقفين العرب أنفسهم. وكما تعلم، فمن الشخصيات الثقافية والفكرية العربية الذين ضم الكتاب آراءهم، لهم تأثيرهم على الوسط الثقافي العربي عموماً. وأستطيع أن أقول، أن لهؤلاء (مريدين) في الساحة الثقافية العربية، لذلك كان لموافقهم (الإيجابية والسلبية معا) صدى وانعكاس في الشارع الثقافي العربي عموماً، لجهة فهمه وتعاطيه مع القضية الكوردية بشكل مختلف عما كان سائداً في الذهن العربي تجاه الكورد من قبل.


بعد (فودكا ليمون) للمخرج الكوردي العراقي هينر سليم .. يحق لنا أن نعلن بفرح أن سينمائياً واعداً قد ظهر من بيننا!
 

قيس قاسم
كما في فيلمي (تحيا ماريا، تحيا كوردستان)، و(أحلامنا الضائعة)، مضى المخرج الكوردي العراقي (هينر سليم) خلال فيلمه الطويل الثالث (فودكا ليمون) (انتاج: فرنسي، سويسري، أرمني مشترك)، في عرض مأساة شعبه الكوردي، منطلقاً هذة المرة من حكاية حب بين عجوزين أرملين، يعيشان في قرية كوردية نائية وبائسة في جمهورية أرمينيا، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
من هذة القرية المغطاة بالثلوج، والمعزولة بمناخ قوقازي بارد وموحش، والمسكونة بعدد قليل من الناس الفقراء، أخذ سليم كامرته هناك، ليقدم عالماً مثيراً لأبناء جلدته، يجمع فيه الواقع والخيال، الكوميديا والدراما، باقتصاد أكبر من السابق في حركتها وحركة الممثلين الواقفين أمامها، معتمداً كثيراً هذه المرة على اللقطات الثابتة، الأقرب للقطة الفوتوغرافية، ليجمد فيها المشهد، فينسجم مع الركود واللاحراك المحيط بحياة الناس في القرية.
فالحركة اليومية فيها تكاد تنحصر بحركة الباص المحطم والعتيق، الذي ينقل العجوزين (هامو) و(نينا) إلى مقبرة القرية التي تبعد عدة كيلومترات عن سكنهما. هامو (رومين افينيان) يذهب إلى قبر زوجته التي غادرت الدنيا قبل سنتين، ينظفه من الثلج، ويقضي دقائق هناك، يشكو لها تعبه وصعوبة عيشه دونها، ويخبرها عن أحوال ابنها الذي ترك القرية، وذهب مهاجراً إلى باريس، يكتب لهم رسائل يعبر فيها عن حبه لها وللعائلة. في حين تلوذ نينا (لالا ساركيسيان) بالصمت وهي تقابل شاهدة زوجها، وتتطلع بفضول بين لحظة وأخرى إلى الرجل الذي يحادث زوجته في قبرها. تتكرر الزيارات، ويعود كل إلى بيته دون أن يتحادثا، ولكن ثمة تصعيد درامي، رومانسي هادئ، بين الاثنين، يشتغل عليه الفيلم بطريقة غير مباشرة، يتمثل في عرض حياة العجوزين فرادى. فـ (هامو) عسكري سابق في الجيش الأحمر، تقاعد قبل سنوات، راتبه التقاعدي الحالي لا يكفيه، فيضطر لبيع حاجات بيته قطعة بعد قطعة، في الوقت الذي تنتظر القرية كلها بفارغ الصبر وصول مساعدة مالية من ابنه المهاجر إلى فرنسا. أما (نينا) فتعمل في كشك لبيع الفودكا على مفرق طريق القرية المهجورة، أسمه فودكا ليمون، تعيل براتبها ابنتها، عازفة البيانو التي تعمل في أحد فنادق المدينة، تتقاضى مقابله طعاماً وليس راتباً! وما يتبقى من راتب الأرملة لا يكفي حتى لدفع تذكرة الباص، فتطلب من السائق في كل مرة تصعد فيها إلى تأجيل الدفع للمرة القادمة، لحين نفاد صبره، فيرفض طلبها في المرة الأخيرة. في هذة اللحظة تأتي فرصة الأرمل (هامو) ليبادر ويدفع لها ثمن التذكرة والمستحق عليها من ديون سابقة للسائق، فيبدأ فصل جديد من العلاقة بين الإثنين، ظن المشاهد أنه لن يأتي أبداً.
هذا التكرار البطيء والمتكرر والمناخ البائس الذي يلف الطرف الظاهر من حكاية العجوزين، يجعل من فيلم (فودكا ليمون) فيلماً ناجحاً، بسبب اعتماده لغة سينمائية محبوكة ومنسوجة بأدوات فنية، تبتعد عن التصعيد الدرامي التقليدي، الذي يعتمد على الحدث وحركة الكاميرا النشطة والمؤثرات الخارجية في تجسيده سينمائياً.
أسلوب سينمائي خاص
لقد اتخذ (سليم) لنفسه أسلوباً متميزاً، خاصاً به، بدأت ملامحه في فيلمه السابق (أحلامنا الضائعة)، وتكرر هذه المرة، ليسمح لنا دون تردد بأن نمنحه صفة الخصوصية. إنه الأسلوب الغرائبي الفكه، المعتمد على الدعابة في تقديم التراجيدي من الموضوع عبر بساطة وغرائبية الصورة. فالصورة عند سليم تسبق التمثيل والحركة، هي وسيلته لتوثيق التفاصيل الموجودة في داخلها مع انسجام مع الواقع الغريب واللامعقول لدرجة بؤسه. فالعالم المقدم للكورد في جمهورية أرمينيا، يبدو كأنه غير العالم الأوربي اليوم، إنه أقرب إلى عصور بعيدة، نسيتها بقية أوربا المتحضرة، بل بعيد حتى عن الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه، وهذا ما يكرره (هامو) في إحدى حوارته مع قريبه: (في ظل الهيمنة كان عندنا كل شيء!)، ويجيبه صديقه: (ولكن كانت تنقصنا الحرية!). بين الحرية والسلطوية وبين الشبع والجوع يتحرك(سليم) في منطقة يعرفها جيداً، رغم بعدها جغرافياً عن نشأته الكوردية في العراق وهجرته منها قبل بلوغه سن الرشد إلى باريس، حيث من هناك بدأ مشروعاً سينمائياً، جهد أن يصور مصير قومه، الذين تنازعتهم الجغرافيا والسياسة، وتركت مصائرهم مفتوحة على كل الاحتمالات. في ظل تراجيدية منسية كالتي عاشها الكورد، ليس هناك أفضل من الدعابة وسيلة لتقديمها، ومن بعد، وهذا هو المهم قبولها عند المشاهد. لقد عرف (سليم) بحسه الفني هذه المعادلة الصعبة، فاشتغل عليها، مستعيناً بمعرفته تاريخ هذا الأسلوب السينمائي الذي بدأه (شابلن) وتوزعت فيما بعد خصوصياته على العديد من السينمائيين.
فهم متوازن للقومي والانساني
حتى يتجنب الوقوع في السطحية الدعابية، فيضيع الموضوع الأساس للفيلم، ظل (سليم) يربط بشكل واعٍ بين الموضوع القومي والوسط الاجتماعي الواسع، المتحركة في داخله شخوصه وعوالمهم. فأفلامه الثلاثة، وبشكل خاص (فودكا ليمون) لم يخل من رصد المتغيرات السياسية والاقتصادية، وتأثيراتها على الشعب الكوردي سلباً وايجاباً، أي محاولته الواعية للابتعاد عن تقديم أفراد الشعب الضحية، كقديسين وأبرياء لا تمسهم الخطايا وعواقب التغيير. فالشر والخير بين الكورد، مثله مثل بقية الشعوب، والفقر هو المحفز للكثير من السلوكيات الجديدة في قرية الكورد الأرمينية. أبناء كثر سيهاجرون بحثاً عن الثروة والمال، وحيتان كبيرة شرهة، بدأت استغلال الناس فيها، كما يحدث لابنة الأرملة (نينا)، حينما تضطر إلى منح جسدها لصاحب الفندق سداً لرمق جوعها. وحديثو نعمة يساومون (هامو) على حاجياته البسيطة المعروضة للبيع بطريقة لئيمة لارحمة فيها. وأيضاً المرأة المهانة والتابعة ضمن سياق تقاليد عشائرية راسخة التخلف. بالرغم من حقيقة هذه الصورة، يبقي (سليم) بوعي على حزمة ضوء انساني ساطع، مثل الجبال المحيطة بالقرية والمكسوة بالثلج الابيض البراق. يبدو لي هنا أن المخرج (هينر) أراد متعمداً خلق مفارقة بين الجزء الطويل من وقت فيلمه والطاغي فيه فصل الشتاء القارص، وبين نهايته التي تتزامن مع بداية فصل الربيع. فقد حرص على استخدام الضوء الطبيعي الأبيض بقدر كبير، في الوقت الذي كان ينبغي أن تسود مكانه العتمة، وهنا ثمة علاقة أراد ابرازها، تربط بين المناخ الداخلي المعتم السائد وبين النوايا الطيبة الطموحة في نفوس الناس الطيبين، والتي سيجسدها (هامو) بقراره الرافض لبيع بيانو ابنة حبيبته وارجاعها إلى البيت في مشهد سريالي، يظهر فيه الارملان وهما يقودان البيانو كعربة متحركة على الطريق الاسفلتي، ويغنيان سوياً أغنية مرحة، كان سائق الباص يكررها طوال الطريق.
إن الحفاظ على درجة شد إنتباه المشاهد إلى فيلم بطيء وخالٍ من التصعيد الدرامي المحفز، يثير الدهشة حقاً. وتحليلنا للأسباب الواقفة وراء ذلك، سيحيلنا دون شك إلى قدرة الكوميديا بكل تنوعاتها، على خلق مناخ نفسي يعوض كثيراً عن عناصر درامية أخرى، وبطريقة بسيطة في كثير من الأحيان. لكن تبقى موهبة المخرج في تحريكها وتوازنها ضمن العرض، واحدة من المؤشرات على قدراته الاخراجية، التي بدونها لن يتحقق أي فيلم جيد، وهذا ما لا يفتقر إليه (هينر سليم)، بل هو أهم ما يمتلكه من كفاءات سينمائية واضحة، تضعه بجدارة بين مجاميع المخرجين الناجحين. لذلك يحق لنا اليوم وبعد مشاهدتنا فيلم (فودكا ليمون)، على صالات العرض الأوربية الكبيرة أن نعلن بفرح: إن فناناً سينمائياً واعداً قد ظهر من بيننا!


الطرق الصوفية والمدارس الدينية في كوردستان

سلام إبراهيم عطوف كبة *
ازدهر التصوف في كوردستان بسرعة مع انتشار الدين الاسلامي، وبسبب توالي الكوارث الطبيعية والبشرية ووعورة المنطقة، وساعد على إيجاد التنظيمات الشعبية في عصر اتسم بانهيار المؤسسات الرسمية أو ضعفها.
ظهر التصوف في كوردستان في القرن الرابع الهجري على يد (محمد نور بخش)، وعرفت طريقته بـ (النوربه خشية) أي مانحة النور! وتأسست النقشبندية للمرة الأولى في كوردستان العراق مطلع القرن التاسع عشر عبر جهود مولانا خالد المتوفى عام 1826 (وهو من عشيرة الجاف) في نفس الوقت الذي وصلت فيه تقريباً القادرية إلى ذروة قوتها. وتتبع النقشبندية تعاليم محمد بهاء الدين البخاري (1317 - 1389)، بينما تتبع القادرية الشيخ عبد القادر الكيلاني (1077 - 1166). ثم عرفت طريقة العلويين (الخلوتية) على يد محمد بابه رسول.
وانتشرت الطريقتان القادرية والنقشبندية على حساب الجشتية والسهروردية والكوبراوية والخالدية وسادة النهري والارفاس والطرق الصوفية الأخرى. وتعد الطالبانية (ترجع إلى العالم الديني ملا محمود زنكنة المتأثر بالشيخ احمد الهندي اللاهوري) والبرزنجية فروع من القادرية. أما الخالصية (نسبة إلى الشيخ عبد الرحمن خالص) فهي فرع من الطالبانية. ومن رموز الشيوخ النقشبندية المشاهير الشيخ (احمد سردار سه ركه لويي)، أما الطريقة القادرية الوليانية فشيخها (سعيد البرزنجي) المتوفي سنة 2000 ومرشدها الشيخ معتصم البرزنجي. والشيخ محمد الحسيني هو رئيس الطريقة العلية القادرية الكسنازية.
والتكايا والخانقاهات من أهم دور العبادة الصوفية، بينما يقوم على رأس الطريقة الشيخ أو البير وهو الدليل أو المرشد والزعيم الروحي للمريدين والتلامذة. والتصوف الإسلامي عموماً هو تعاليم باطنية دينية في الاسلام انتشرت في أراضي الخلافة العربية الإسلامية هدفها الأسمى الاندماج مع الله من خلال تعذيب النفس. وهو نظرة دينية مثالية إلى العالم وربوبية من طراز خاص تدين بأصولها إلى الطقوس السرية وتعيد انتاج التصورات الرائجة عن الدين، وسمتها الأساسية الصلة بين الإنسان والآلهة والاعتقاد بالخوارق! وهو ممارسات طقوسية
اعتقادية هيمنت على الوعي الديني للبدو والعشائر والقبائل البعيدة والمنعزلة إلى جوار العبادات الخرافية الطوطمية الاولى. ومن اشهر المتصوفة السهروردي والغزالي وابن العربي والحسن البصري وابي يزيد البسطامي ورابعة العدوية والحلاج والحاج ولي بكتاش وعفيف الدين التلمساني ومعروف الكرخي وصدر الدين الشيرازي.
لقد تجلى النزوع إلى الاستقلال عن المركز العثماني أو المواجهة مع الكولونيالية الغربية الزاحفة في ظهور الفرق الدينية العديدة: (القادرية)، و(المهدية)، و(الرحمانية)، و(النقشبندية)، و(السنوسية). والتصوف نزعة تميزت بها الفلسفات المثالية وبخاصة الوجودية. لكن أصول نشأة التصوف الإسلامي لا ترد إلى الأفلاطونية والمذاهب الهندية بل إلى الأصول الإسلامية الخالصة المستمدة من الشريعة.
لقد تعددت الطرق الصوفية في كوردستان العراق واستخدم أصحابها مريديهم أو دراويشهم لأغراض سياسية. ولاقت الصوفية الرواج بين الكورد لتحمسهم الشديد للدين وسرعة انقيادهم لما يلقى عليهم من دعايات لها صبغة دينية. وقد بدا العالم الكوردي مهما بلغ من المعرفة والعلم والقوة في الإقناع لا يستطيع ان يستولي على المشاعر الشخصية بقدر ما يستولي عليها صاحب الطريقة الصوفية بالاشارات الخفية.
ويذكر ان المدارس الدينية لعبت دوراً مهماً في نشر العلوم والثقافة في كوردستان، وتخرج فيها العلماء، وكانت الكثير منها مساجد في آن واحد. وانتشرت المساجد الاسلامية في كوردستان العراق، وكان يؤمها المسلمون كورداً وتركماناً وعرباً. إلى ذلك لم تلق المذاهب الشيعية الصدر الرحب عند الكورد وقبائل إقليم الجبال الذي تميزت ولاياته بالاستقلال الذاتي والسيطرة العثمانية الضعيفة عليه، عكس الجنوب العشائري العراقي والعشائر التركمانية المتوطنة والكورد الفيلية والكاكائية. أما السيد فهو من نسل علي أو فاطمة، والشيوخ الذين لم يكونوا سادة فيعرفون بشيوخ السجادة (شيخي به رمال).
شهدت كوردستان ولاء رجال الدين الكورد لحركة التحرر الوطني الكوردستانية، والانخراط فيها وفي صفوف الحركة الديمقراطية العراقية والمساهمة في الكفاح الوطني للشعب العراقي خلال الأعوام 1920 و1941 و1958، مثلما شهدت استخدام الدين للدفاع عن مصالح الحاكمين والاقطاع، وتسخير الدراويش وبعض الفرق الدينية للتجوال في الريف لأخماد المد الثوري بين الفلاحين (انتفاضة فلاحي ده زه ئي سنة 1952) والفتوى ضد قانون رقم 30 لسنة 1958 للاصلاح الزراعي.
لقد لعب الدين الإسلامي باعتباره دين الأكثرية ودين الدولة دور عامل الضبط داخل المجتمع بشكل لم يخل من استغلال النخب والطغم الحاكمة الآيديولوجية الدينية لتبرير وتشريع نظام مجتمعي وسياسي معينين لا يقلان سلبية وضرراً عما حاولت الرأسمالية فعله من خلال إشاعة تعاليم المسيحية، إذ استغلت الحملاتُ التبشيرية الغربية المسيحية َ لاستعمار العالم الثالث وكسر القوة الروحية عند الشعوب المقاومة له وتكريس تخلفها عبر التدخل القسري في شؤون المسيحيين العرب والكورد والآثوريين في سبيل تقويض الأسس المدنية للدولة العثمانية وتشجيع النزعات القبلية والطائفية والاثنية، ودعم حراك التغريب الثقافي والروحي للمواطن وسلخه عن هويته وتأريخه.
لقد تمتعت فئات قليلة من الطغمة الحاكمة والجماعات المؤيدة للنظام المقبور في العراق بالترف ونعمة الدكتاتور التي قامت على سرقة قوت الشعب وخزينة الدولة، إضافة إلى مجموعة من شيوخ العشائر التي ساندت وجوده وكذلك مجموعة من رجال الدين التي سبحت بحمد الدكتاتور وباركت سياساته. وتكرست المشاعر الطائفية والولاءات العشائرية في المجال السياسي العراقي بقوة في ربع القرن الأخير، وأدت في نهاية المطاف إلى هيمنة زمرة تستند إلى عوائل معينة من المدن الريفية للشمال الغربي العراقي على حزب البعث والحكومة العراقية، هيمنة أساسها السياسة التآمرية والعصبية لتصفية المنافسين. وبدلاً من ان
تتطور الدولة لتتوسع في دائرة المشاركة لجماعات وقطاعات أوسع، تحولت من تحالف جماعات إلى جماعة واحدة. وعلى كل حال فقد استغلت الحكومات المركزية المتعاقبة في العقود الأخيرة المشاعر الفلاحية الكوردية البسيطة بتقديس الاولياء وفي التصوف وعملوا على تقديم العون لكبار الإقطاعيين من الاغوات والامراء والبيكوات والشيوخ لتذليل إقامة الشعائر الدينية وتحمل نفقاتها، وحرف النضالات الفلاحية عن مساراتها الوطنية التحررية، وتحقيق أزمة الفكر الاسلامي المعاصر باللغة الدينية الشمولية المطلقة والمتعالية المتطرفة في عصر العولمة الذي يرفض اعتبار هذه اللغة الدينية المرجعية السائدة والوحيدة، والتي تذكر فتاواها في القتل بكهنة العصور الوسطى وإجراءات محاكم التفتيش وفتاوى السلاطين والحكام المستبدين.
وليس خفياً اليوم التمايز بين المؤسسات الدينية التي تنظم إنتاج واعادة إنتاج الفكر اللاهوتي وبين الجماهير الشعبية المؤمنة! فالمؤسسة الدينية، وهي مؤسسة إنتاج فكري تخضع للطبقة المهيمنة على الإنتاج المادي ولها المصالح المادية المغايرة لمصالح الشعب وهي تنخرط في علاقات الملكية القائمة كإقطاعية تارة (أوقاف وحبوس) أو في العلاقات الرأسمالية (كبار التجار ومالكو الأرض)، قد غدت الركيزة الآيديولوجية للرأسمال التجاري، إذ تحدد سبل حصول هذه المؤسسة على أسباب العيش الدور المهم في تأطير سلوكها السياسي والاجتماعي، بينما يساعد بقاء العلاقات القبلية والإقطاعية على استمرار النزوع الغيبي والوعي الديني بشكله السلفي، وخضوع الإنتاج المادي في الريف لتقلبات الطبيعة، وقوانين السوق الرأسمالي، وتعنت البورجوازية الكومبرادورية والطفيلية في عدم القيام بأي مسعى للعلمنة.
----------
* المقالة جزء من بحث طويل.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة