بعد
(فودكا ليمون) للمخرج الكوردي العراقي هينر سليم ..
يحق لنا أن نعلن بفرح أن سينمائياً واعداً قد ظهر من
بيننا!
قيس
قاسم
كما في فيلمي
(تحيا ماريا، تحيا كوردستان)، و(أحلامنا الضائعة)، مضى
المخرج الكوردي العراقي (هينر سليم) خلال فيلمه الطويل
الثالث (فودكا ليمون) (انتاج: فرنسي، سويسري، أرمني
مشترك)، في عرض مأساة شعبه الكوردي، منطلقاً هذة المرة من
حكاية حب بين عجوزين أرملين، يعيشان في قرية كوردية نائية
وبائسة في جمهورية أرمينيا، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
من هذة القرية المغطاة بالثلوج، والمعزولة بمناخ قوقازي
بارد وموحش، والمسكونة بعدد قليل من الناس الفقراء، أخذ
سليم كامرته هناك، ليقدم عالماً مثيراً لأبناء جلدته، يجمع
فيه الواقع والخيال، الكوميديا والدراما، باقتصاد أكبر من
السابق في حركتها وحركة الممثلين الواقفين أمامها، معتمداً
كثيراً هذه المرة على اللقطات الثابتة، الأقرب للقطة
الفوتوغرافية، ليجمد فيها المشهد، فينسجم مع الركود
واللاحراك المحيط بحياة الناس في القرية.
فالحركة اليومية فيها تكاد تنحصر بحركة الباص المحطم
والعتيق، الذي ينقل العجوزين (هامو) و(نينا) إلى مقبرة
القرية التي تبعد عدة كيلومترات عن سكنهما. هامو (رومين
افينيان) يذهب إلى قبر زوجته التي غادرت الدنيا قبل سنتين،
ينظفه من الثلج، ويقضي دقائق هناك، يشكو لها تعبه وصعوبة
عيشه دونها، ويخبرها عن أحوال ابنها الذي ترك القرية، وذهب
مهاجراً إلى باريس، يكتب لهم رسائل يعبر فيها عن حبه لها
وللعائلة. في حين تلوذ نينا (لالا ساركيسيان) بالصمت وهي
تقابل شاهدة زوجها، وتتطلع بفضول بين لحظة وأخرى إلى الرجل
الذي يحادث زوجته في قبرها. تتكرر الزيارات، ويعود كل إلى
بيته دون أن يتحادثا، ولكن ثمة تصعيد درامي، رومانسي هادئ،
بين الاثنين، يشتغل عليه الفيلم بطريقة غير مباشرة، يتمثل
في عرض حياة العجوزين فرادى. فـ (هامو) عسكري سابق في
الجيش الأحمر، تقاعد قبل سنوات، راتبه التقاعدي الحالي لا
يكفيه، فيضطر لبيع حاجات بيته قطعة بعد قطعة، في الوقت
الذي تنتظر القرية كلها بفارغ الصبر وصول مساعدة مالية من
ابنه المهاجر إلى فرنسا. أما (نينا) فتعمل في كشك لبيع
الفودكا على مفرق طريق القرية المهجورة، أسمه فودكا ليمون،
تعيل براتبها ابنتها، عازفة البيانو التي تعمل في أحد
فنادق المدينة، تتقاضى مقابله طعاماً وليس راتباً! وما
يتبقى من راتب الأرملة لا يكفي حتى لدفع تذكرة الباص،
فتطلب من السائق في كل مرة تصعد فيها إلى تأجيل الدفع
للمرة القادمة، لحين نفاد صبره، فيرفض طلبها في المرة
الأخيرة. في هذة اللحظة تأتي فرصة الأرمل (هامو) ليبادر
ويدفع لها ثمن التذكرة والمستحق عليها من ديون سابقة
للسائق، فيبدأ فصل جديد من العلاقة بين الإثنين، ظن
المشاهد أنه لن يأتي أبداً.
هذا التكرار البطيء والمتكرر والمناخ البائس الذي يلف
الطرف الظاهر من حكاية العجوزين، يجعل من فيلم (فودكا
ليمون) فيلماً ناجحاً، بسبب اعتماده لغة سينمائية محبوكة
ومنسوجة بأدوات فنية، تبتعد عن التصعيد الدرامي التقليدي،
الذي يعتمد على الحدث وحركة الكاميرا النشطة والمؤثرات
الخارجية في تجسيده سينمائياً.
أسلوب سينمائي خاص
لقد اتخذ (سليم)
لنفسه أسلوباً متميزاً، خاصاً به، بدأت ملامحه في فيلمه
السابق (أحلامنا الضائعة)، وتكرر هذه المرة، ليسمح لنا دون
تردد بأن نمنحه صفة الخصوصية. إنه الأسلوب الغرائبي الفكه،
المعتمد على الدعابة في تقديم التراجيدي من الموضوع عبر
بساطة وغرائبية الصورة. فالصورة عند سليم تسبق التمثيل
والحركة، هي وسيلته لتوثيق التفاصيل الموجودة في داخلها مع
انسجام مع الواقع الغريب واللامعقول لدرجة بؤسه. فالعالم
المقدم للكورد في جمهورية أرمينيا، يبدو كأنه غير العالم
الأوربي اليوم، إنه أقرب إلى عصور بعيدة، نسيتها بقية
أوربا المتحضرة، بل بعيد حتى عن الاتحاد السوفيتي قبل
سقوطه، وهذا ما يكرره (هامو) في إحدى حوارته مع قريبه: (في
ظل الهيمنة كان عندنا كل شيء!)، ويجيبه صديقه: (ولكن كانت
تنقصنا الحرية!). بين الحرية والسلطوية وبين الشبع والجوع
يتحرك(سليم) في منطقة يعرفها جيداً، رغم بعدها جغرافياً عن
نشأته الكوردية في العراق وهجرته منها قبل بلوغه سن الرشد
إلى باريس، حيث من هناك بدأ مشروعاً سينمائياً، جهد أن
يصور مصير قومه، الذين تنازعتهم الجغرافيا والسياسة، وتركت
مصائرهم مفتوحة على كل الاحتمالات. في ظل تراجيدية منسية
كالتي عاشها الكورد، ليس هناك أفضل من الدعابة وسيلة
لتقديمها، ومن بعد، وهذا هو المهم قبولها عند المشاهد. لقد
عرف (سليم) بحسه الفني هذه المعادلة الصعبة، فاشتغل عليها،
مستعيناً بمعرفته تاريخ هذا الأسلوب السينمائي الذي بدأه
(شابلن) وتوزعت فيما بعد خصوصياته على العديد من
السينمائيين.
فهم متوازن للقومي
والانساني
حتى يتجنب الوقوع
في السطحية الدعابية، فيضيع الموضوع الأساس للفيلم، ظل
(سليم) يربط بشكل واعٍ بين الموضوع القومي والوسط
الاجتماعي الواسع، المتحركة في داخله شخوصه وعوالمهم.
فأفلامه الثلاثة، وبشكل خاص (فودكا ليمون) لم يخل من رصد
المتغيرات السياسية والاقتصادية، وتأثيراتها على الشعب
الكوردي سلباً وايجاباً، أي محاولته الواعية للابتعاد عن
تقديم أفراد الشعب الضحية، كقديسين وأبرياء لا تمسهم
الخطايا وعواقب التغيير. فالشر والخير بين الكورد، مثله
مثل بقية الشعوب، والفقر هو المحفز للكثير من السلوكيات
الجديدة في قرية الكورد الأرمينية. أبناء كثر سيهاجرون
بحثاً عن الثروة والمال، وحيتان كبيرة شرهة، بدأت استغلال
الناس فيها، كما يحدث لابنة الأرملة (نينا)، حينما تضطر
إلى منح جسدها لصاحب الفندق سداً لرمق جوعها. وحديثو نعمة
يساومون (هامو) على حاجياته البسيطة المعروضة للبيع بطريقة
لئيمة لارحمة فيها. وأيضاً المرأة المهانة والتابعة ضمن
سياق تقاليد عشائرية راسخة التخلف. بالرغم من حقيقة هذه
الصورة، يبقي (سليم) بوعي على حزمة ضوء انساني ساطع، مثل
الجبال المحيطة بالقرية والمكسوة بالثلج الابيض البراق.
يبدو لي هنا أن المخرج (هينر) أراد متعمداً خلق مفارقة بين
الجزء الطويل من وقت فيلمه والطاغي فيه فصل الشتاء القارص،
وبين نهايته التي تتزامن مع بداية فصل الربيع. فقد حرص على
استخدام الضوء الطبيعي الأبيض بقدر كبير، في الوقت الذي
كان ينبغي أن تسود مكانه العتمة، وهنا ثمة علاقة أراد
ابرازها، تربط بين المناخ الداخلي المعتم السائد وبين
النوايا الطيبة الطموحة في نفوس الناس الطيبين، والتي
سيجسدها (هامو) بقراره الرافض لبيع بيانو ابنة حبيبته
وارجاعها إلى البيت في مشهد سريالي، يظهر فيه الارملان
وهما يقودان البيانو كعربة متحركة على الطريق الاسفلتي،
ويغنيان سوياً أغنية مرحة، كان سائق الباص يكررها طوال
الطريق.
إن الحفاظ على درجة شد إنتباه المشاهد إلى فيلم بطيء وخالٍ
من التصعيد الدرامي المحفز، يثير الدهشة حقاً. وتحليلنا
للأسباب الواقفة وراء ذلك، سيحيلنا دون شك إلى قدرة
الكوميديا بكل تنوعاتها، على خلق مناخ نفسي يعوض كثيراً عن
عناصر درامية أخرى، وبطريقة بسيطة في كثير من الأحيان. لكن
تبقى موهبة المخرج في تحريكها وتوازنها ضمن العرض، واحدة
من المؤشرات على قدراته الاخراجية، التي بدونها لن يتحقق
أي فيلم جيد، وهذا ما لا يفتقر إليه (هينر سليم)، بل هو
أهم ما يمتلكه من كفاءات سينمائية واضحة، تضعه بجدارة بين
مجاميع المخرجين الناجحين. لذلك يحق لنا اليوم وبعد
مشاهدتنا فيلم (فودكا ليمون)، على صالات العرض الأوربية
الكبيرة أن نعلن بفرح: إن فناناً سينمائياً واعداً قد ظهر
من بيننا!
|