المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

نهار النهارات..يوم كرنفالي يضيء العتمة في بغداد

بغداد / علي ياسين

تصوير/ علي الطائي
تتعدد الأنشطة والفعاليات والمهرجانات الثقافية والفنية على ساحة الوطن، برغم أعمال العنف والإرهاب، التي تعصف بالبلاد، والتي تهدف إلى قطع، من بين أهدافها الكثيرة، شريان حياته في الفكر والمعرفة والثقافة والفنون، لكن مؤسسة المدى، تنفرد، بخصوصيتها المعروفة، ومن خلال نهاراتها الثقافية، بتقديم كل ما هو أصيل ومميز، من نتاج الإبداع العراقي، نهارات كرنفالية تسعى بكل جدية إلى إزالة العتمة من حياتنا وإضاءة مساحاتها. أمس الأول، كان "نهار النهارات" الذي أقامته مؤسسةـ (المدى) للإعلام والثقافة والفنون وجمعية التنمية والتعاون الثقافي، وبحضور نخبة من الأدباء والمثقفين والفنانين المبدعين، وقد تخللت هذا النهار فعاليات في مختلف أنواع الفنون من تشكيل ورسوم كاريكاتير، وفنون شعبية، وموسيقى، ومعارض مختلفة. (المدى) كانت بين الحضور البهي والمتنوع، لنخبة من الأدباء والكتاب والمثقفين والفنانين لرصد الفرح في العيون، والتقاط الكلمة الحلوة والعذبة، من بين الشفاه، إصراراً على الأمل والحياة والإبداع.
عادل كاظم: ستكون بديلاً ثقافياً
المؤلف عادل كاظم تحدث إلينا بالقول: في البداية، لابد لنا من أن نحيا بالأمل، أنا شخصياً، آثرت المجيء والمشاركة برغم مرضي، لأنني أشعر بأن الثقافة التي تتبناها "المؤسسات الفنية الرسمية" بدءاً من وزيرها وانتهاءً ببعض مديريها هم غير أهل، لأن يقودوا الإبداع والفن في عراقنا الجديد، ذي التراث الكبير والعظيم منذ بدء التكوين الحضاري وإلى الآن، ولهذا نقف بقوة تأييداً وتبجيلاً لمؤسسة المدى، لربما ستكون بديلاً ثقافياً عن الطنين الرسمي الذي لا يغني ولا يشبع من جوع!
عبد الأمير السماوي: عراقنا لا يزال في أصالته
ويقول أمين عام المنظمة الوطنية لفناني العراق: إن الثقافة الحقيقية، هي خارج المؤسسات الحكومية، وفي مجتمع منظمات المجتمع المدني تكون الثقافة نابعة من أعماق المجتمع ومتفاعلة مع طموحاته وتطلعاته نحو مستقبل أفضل، حيث تصبح فيه المواطنة الحقيقية للإنسان العراقي أصيلة وليست شكلية، من هنا أقول: إن النهارات الثقافية التي تقدمها، وبخاصة هذه الفعالية الابتهاجية، تشير إلى دلالة واضحة ولا لبس فيها، على أن عراقنا، لا يزال على اصالته، برغم الموت اليومي المجاني، ونحن كمنظمة فنية، نبارك هذه الخطوات الثقافية الرائدة، ونشد بقوة على أيدي الذين يقفون وراءها، وسوف نساهم بإصرارنا على الحضور، مساهمة فعالة في نهارات المدى بكل إمكاناتنا الفنية والأدبية.

عماد الخفاجي: النهارات بديل عن هذا الليل
الإعلامي عماد الخفاجي يؤكد: إن هذه الأنشطة والفعاليات الثقافية، تعد تحدياً لكل مظاهر العنف والدمار والخراب، أنا شخصياً اعتبر أن مجرد الحضور والتفاعل مع هذه النهارات المهرجانية، هو التحدي بعينه لكل من يحاول إعاقة حياة المواطن العراقي، التي حلم بها وما زال يحلم بأن تكون نهاراته أكثر إشراقاً وأمناً وعطاءً، إنها، رد على من أراد أن يسرق منا الليل البغدادي الذي "كان بلا فجر ينام"، النهارات بديل حقيقي عن هذا الليل وشموع خضر الياس التي كنا نوقدها، انتظاراً لعودة ليالي بغداد وليالي بقية مدن العراق.
ويضيف الفنان التشكيلي كامل حسين قائلاً: المدى، في صحافتها ومهرجاناتها، تؤدي دوراً مهماً في نهوض الثقافة العراقية على جميع المستويات السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية، لكل ذلك، أقول: شكراً للمدى، في مداها الواسع، شكراً لمتسعها اللا محدود.
وعن نهار النهارات يشير الممثل والمخرج المسرحي علاوي حسين بالقول: إن انبثاق نهارات المدى، يعد فعلاً ثقافياً مميزاً، منح المثقفين والمبدعين العراقيين فرصاً استثمارية تفجر الإبداعات الفنية والجمالية، إنني اتمنى أن يعم السلام أرجاء الوطن وتتحول "النهارات" إلى "ليالي المدى". إن ما نشهده اليوم، هو كرنفال احتفالي للفرح والبهجة وسط هذه العروض الإبداعية لمختلف أنواع الفنون العراقية.
أما الفنانة كريمة هاشم فإنها تشاركنا مبتهجة بالقول: إن الشيء الجميل جداً في هذه الاحتفالية الرائعة، إنها تتزامن مع أيام مشروع المصالحة الوطنية، وهذه بادرة خير وتفاؤل، إننا نعيش لحظات إبداعية، ابعدتنا عن جرائم التفخيخ والتنسيف والقتل الجماعي من قبل الجماعات الإرهابية المارقة، في الحقيقة أقول: كأننا نعيش في كوكب آخر اسمه "كوكب المدى"، كوكب يمدنا نحن المثقفين والفنانين المبدعين بالأمل والتفاؤل، لخلق مؤسسة ثقافية مستقلة ترعى الأدب والفنون والإبداع.
ضياء سالم: النهارات جددت الألق الثقافي
المؤلف ضياء سالم يشاركنا الرأي قائلاً: نهار النهارات عرس ثقافي، يضيء عتمة الدمار، الذي غطى جسد العراق، النحيل، وهاهي نهارات المدى الثقافية، تفتح نافذة جديدة، كي نطل من جديد على أوسع تظاهرة، برغم العزلة الشاملة في كل ميادين الثقافة، إلا أن هذه النهارات جددت هذا الألق الثقافي لترسم البسمة على وجه الثقافة العبوس، أتمنى بحرارة، أن تستمر هذه النهارات، لكي نحلم من جديد بصبح الثقافة التي تهشمت في ظل الإرهاب، شكراً للمدى التي دارت دورتها من أجل ثقافة عراقية جديدة.
الفنان الرسام خالد جبر يقول: إن هذه التجربة الكبيرة التي تنفرد بها نهارات المدى هي دلالة حب الإبداع والمبدعين العراقيين للعراق الجميل وإن شعوري في هذا النهار هو شعور كأي عراقي يتمنى أن يرى الابتسامة على شفاه الناس وبالفعل وجدت الناس في حالة اغتباط وفرح وسرور وتتوزع الابتسامات على وجوه الحاضرين.
وكم كانت فرحتي كبيرة عندما شاهدت الأطفال يرسمون النخلة العراقية الشامخة ورقصة الجنوب ودبكة كردستان، انها فرصة لا تنسى وساعات رائعة وفرتها لنا نهارات المدى في هذا اليوم العراقي الرائع.

عماد جاسم: النهارات انعشت الروح
ويضيف الكاتب والإعلامي عماد جاسم قائلاً: لقد واكبت نهارات المدى منذ إطلالتها الأولى، حيث كنت أول الأمر متخوفاً من توقف هذا النشاط، فقد تعطلت الكثير من النشاطات الثقافية والفنية، بسبب مظاهر العنف والإرهاب والقتل اليومي، فضلاً عن تردي الخدمات العامة في البلاد، إلا أن هذه النهارات التي تواصلت إشراقاتها، فاجأت الجميع بتواصلها وانعشت الروح، باختياراتها الجميلة والمتنوعة، إن كل نهار، يشرق بالجديد ليتحدى ليل السواد، هو بكل تأكيد إشراقة إلى ضفة الأمل والحياة، فكل أغنية، وكل لحن، وكل موهبة، وكل قصيدة، تؤكد أن بغداد تريد أن تنفض الغبار عن روحها..
الفنان عدنان الحداد يقول: إن ما تقوم به مؤسسة المدى من فعاليات ومهرجانات وندوات ثقافية، يعيد للذاكرة أصالة هذا البلد بكل شرائحه، نهارات أعادت للثقافة العراقية عافيتها، ورسمت الابتسامة على شفاه الجميع، ابتسامة من أجل السلام وأمل مستقبل البلد المنشود.
الفنان مكي البدري يذكر قائلاً: إن فعالية نهار النهارات مبادرة ثقافية متصلة - بمبادرات ثقافية كثيرة حرصت مؤسسة المدى على الانطلاق بها وترسيخ أهدافها الإنسانية، نتمنى أن تستمر هذه النهارات في تقديم عطاءاتها الإبداعية في الفكر والأدب والمعرفة والفن، ونأمل أن ترفد منظمتنا "المنظمة الوطنية للمسرحيين العراقيين" أحد النهارات بعمل مسرحي إبداعي، إسهامة منها، في تفعيل الأنشطة المسرحية الجادة والهادفة.


نهارات العراق
 

عامر القيسي

برغم كل ما يغلف حياتنا الحاضرة من تشاؤم وسوداوية، وبرغم الغيوم المسمومة التي تحلق فوق رؤوسنا وبرغم خيوط الظلام التي يكافحون لينسجوها حول عيوننا، إلا إننا نفتح كوة للأمل ونؤسس لحياة نريدها.. لوطن نتخيله.. لأناس من طراز آخر يعدون خلف الأمل والضياء والمحبة والفرح.
انها ليست نهارات (المدى) حسب، إنها نهارات العراق.. نهارات الوطن.
لا أحد دخل هذه الاحتفالية بهوية غير هوية العراق.
لا أحد منا يعرف عن الآخر غير عراقيته.
لا أحد منا كان مكترثاً بالطائفة، أو القومية أو الدين.
حضر العراق في نهاراته كاملاً، وصدحت الموسيقى من الجبال والأهوار والبراري ومن قلب بغداد بمقاماتها المشهورة.
لوهلة أحسست بأن حلم الوطن الذي نريد قد تحقق، فعشت ساعتي هذه بكثافة ومنحتها مساحة زمنية غير محدودة لاقتنع ولو للحظات، بأننا نقوم بما ينبغي أن نقوم به من تأسيس لحياة أخرى غير حياة العنف والقتل والتدمير ومصادرة الحقوق.
لأجل هذا العراق سنبقى نطارد الأمل.. نقبض عليه ونروضه لمستقبل دجلة والفرات.
نعم هذا هو نموذج العراق الذي نريد والذي نناضل لخلقه والذي دفعنا أجمل سنوات أعمارنا من أجله ولن نقبل عراقاً آخر غيره.
سنطارد الأمل ونطوعه لعراق الحرية والتسامح لعراق يتسع للجميع بعد أن نكنسه من القتلة والمجرمين وأعداء الحرية.


شمس النهارات... تهزم العتمة
 

شاكر المياح

ويبقى الحلم العراقي قائماً.. يتلألأ بين أحداق عيون العراقيين مثل دمعة عصية على الانهمار.
هذا الحلم.. القديم الجديد.. لطالما أفزع أولئك الذين ضمت حناياهم قلوباً استوطنتها العلة.. وأمسكت أكفهم بصولجانات السلطة والنفوذ.. فحاصروه خشية التدحرج من عروشهم وكراسيهم التي استحوذوا عليها بأسنة الرماح ونصال السيوف.. فسعوا إلى وأده بمختلف أدوات الموت.. قطع الرؤوس والأوصال.. متفجرات.. مفخخات.. قذائف.. عبوات ناسفة حتى بدا وكأن العراقيين قد غشيتهم عتمة ظن البعض من الطيبين بأنها لن تزول.
ولكن نهار الخميس كان بشرى لبارقة الأمل وبان حلمهم الجميل بوطن يزهو بالأنوار والورد والجمال والأغاني ليهزم عتمة الظلاميين الأوغاد.
إن شمس نهارات المدى.. قد أينعت الزهر..
وغمرت النفوس فرحاً أيقونياً انعش آمال الصغار والكبار بإشراقاته البهية.
كان هناك فتية وصبايا ونسوة وشباب يصفقون للحياة.. للفن والموسيقى والغناء.. للأنامل التي صنعت تلك اللوحات الزاهية..
للعقول التي أبدعت في صياغة ثقافة عراقية أصيلة وحقيقية تنبذ الظلامية والعنف وتدعو إلى السلام والمحبة وإلى تعايش إنساني بعيداً عن الكراهية والحقد.
فشكراً لمن أسس وأسهم وحضر ذلك النهار الرائق.


جليل القيسي والرحيل المؤجل

فاطمة المحسن

رحل جليل القيسي الأديب العراقي عن عالمنا قبل أيام، وكان بكركوك عندما ختم حياته في هذه المدينة التي رفض مغادرتها إلى العاصمة او إلى بلد غربي كما فعل رفاقه الذين عرفوا بجماعة كركوك: سركون بولص،فاضل العزاوي، مؤيد الراوي،جان دمو، أنور الغساني وغيرهم.
جليل القيسي الذي عد أول الطليعيين في النص القصصي والمسرحي العراقي، كان أدبه وسيرة حياته فاصلة مهمة لقارئ تاريخ الثقافة العراقية الحديثة، وهو شأنه شأن أدباء البصرة العازفين عن استبدال مدينتهم بإغراءات العاصمة،تردد عالمه الأدبي ضمن مفارقتين للطليعية في العراق: المكوث في المكان والرحيل عنه عقليا وروحيا. وعدا محمد خضير الذي كانت البصرة أشد سطوعا من سواها في مادته، كان نصيب كركوك في نتاج القيسي، ما يليق بمقامها في ذاكرته، مدينة تسبح في تهويمات الخيال والتاريخ ومقولات الأدب. يقترب القيسي في هذا الموقف من محمود البريكان، ولعل عزلته التي يتحدث عنها في لقاءاته الصحافية الأخيرة، محض رغبة في مطارحات مع الذات كما يفعل الوحدانيون في المدن التي تضيق بهم. جليل القيسي بلا شك يحمل سمات وتطلعات الجيل الذي لا يضع نفسه في صندوق التقاليد الخمسينية، سواء كسلوك ثقافي أو كنتاج أدبي، ولكنه أيضا يحمل بقايا تلك النزعة التي وضعت أساس ما يسمى بالثقافة العارفة في العراق حيث ينفصل المشتغل في عالم الأدب عن محيطه.
إستقبل نتاج القيسي عند ظهوره باحتفاء كبير، خاصة مجموعته القصصية الأولى (صهيل المارة حول العالم) التي صدرت عن دار حوار ببيروت العام 1967،وكتبت عنها الصحافة اللبنانية، ثم أصدر مجموعة مسرحيات بعنوان (جيفارا عاد، أفتحوا الأبواب)1971، وتضمنت ستة نصوص، ثم أعقبها بستة نصوص مسرحية أخرى بعنوان (وداعا أيها الشعراء) 1979، ثم (ومضات خلال موشور الذاكرة)، ونشر في سنواته الاخيرة عدداً من الأعمال التي لم تصل إلى الخارج.
ولكنه كقاص بقي مقلا عزوفا عن الشهرة والطموح،فالكتابة بالنسبة اليه أقرب إلى طقس روحي، كما يقول، ولا يهمه من لا يدرك هذا الطقس أو لاتصله منه تراتيله، ولعل حرصه على التمايز والكتابة الجديدة وملله من نمط القصة المتداولة وراء إستهانته بأمر النشر.
بقي جمهور القيسي محدود العدد ولكنه نوعي وينتظر منه الكثير، غير أن قصة محمد خضير التي ظهرت في وقت متزامن مع ظهور قصص القيسي ورفاقه، طغت على بريق شهرته وشهرة مجايليه، وحازت على السبق في انجذاب الجمهور الواسع اليها.
سركون بولص وفاضل العزاوي خاضا غمار القص الحديث الذي يختلف عن القص المتداول في العراق، ومع ان العزاوي في روايته (القلعة الخامسة) كان يبحث في خطاب مختلف، دون المساس بواقعية الإسلوب،غير ان محاولته إشادة أدب يعبر الاجناس في (مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة)،كان اقرب إلى سعي القيسي، كما إقترب في أعماله اللاحقة من فانتازيا استحضاره الشخصيات الأدبية في النص القصصي.
بقي القيسي متشبثا بمكانه الأول،كركوك المدينة العابرة للأنساب والأرومات، وعلى وجه الخصوص في زمنها الإبداعي: الستينيات والسبعينيات، فهي خلائط من القوميات والألسن والأديان والمذاهب، ولعله وهو العربي الأب والكردي الأم، يشخص نموذجا لذلك التنوع، ففي صغره لم يتكلم سوى الكردية،كما يقول في حديث منشور، وتعلم التركمانية من الشارع، والعربية في المدرسة والكتب، والإنكليزية من بيئة شركات النفط وثقافتها. وكانت الفنون الغربية بما فيها الموسيقى والسينما والمسرح هاجسه الأول، والسينما التي تحضر في نصوصه، تشكل جزءا من أحلام المكان، حيث هوليوود وأبطالها واقع يعيشه المثقفون الجدد ويرتحلون اليه في طموحاتهم القصوى. ولكنه لم يرتحل إلى هوليوود ولم يذهب به المكان إلا في زيارات متقطعة إلى بغداد. وحتى بعد أن سكن رفاقه العاصمة ومنها رحلوا إلى العالم الواسع، بقي يرعى عزلته، فمكانه الخاص هو أحلام اليقظة والقراءات التي تضع الدنيا على طاولته.
قصص القيسي تزدحم بمقولات الأدب، وتحفل بعروض التثاقف، ولكنه وهو المترفع عن الإدعاء، يبدو وكأنه يقايض الحياة بالكتب، ويقطف الثمار الجاهزة من حدائق الأدب العالمي التي تسكن رأسه.
يقول القيسي في مقابلة أخيرة له: (الفن مثل رؤيا روحية للحياة.في قصتي (بلازما الخيال) كنت أرى دستويفسكي بأم عيني، كذلك الأسكندر المقدوني في قصتي (اللازمني) ومع رامبو في (كبير ملائكة الشعر))، ولعل هذا التصور عن موضوع الخيال والتوهم،بداية لرصد تفاعل أرادي وروحي للكاتب،فهو يلحظ نفسه متلبسا بفعالية عقلية يحيلها إلى الخيال والفانتازيا. انه ينتظر دهشته التي يصنعها من عالم يراه أرحب من الواقع وأقل فوضى وارتباكا منه، فأبطاله في ورطة حصارهم،تسوقهم الأقدار إلى مغامرات يحاربون فيها أشباح العزلة بتعويذة المقولات فهو صّياد أفكار وكلمات، وقاموسه القصصي يستعين بالأدب قبل الواقع.
سيرة القيسي الشخصية تسجل من خلال كلام الذين عرفوه، نموذج المثقف المتواصل والناكر ذاته في رعاية الأصدقاء والشباب المحتاجين عونه الأدبي وتوجيهه، وفي الظن ان التزامه الاخلاقي يرتبط بخياره اليساري الذي بقي يطل برأسه في قصصه ومسرحياته المنشورة، على رغم طموح تجاوز الأطر الايديولوجية في الكتابة.
انقطعت السبل بجليل القيسي في سنوات العراق العجاف، وبقي وحيدا دون صلة بإصدقائه، ولكنه لم يرضخ لمطالب التقرب من السلطة، وبقي موضع فخر شلته في المهاجر.كانت آخر قصة نشرها (بإتجاه المزيد من الينابيع) مجرد حلم كابوسي عن السجن وفقدان الثقة والتواصل بين الناس بسبب الخراب الذي يتولد عن القمع والتسلط.
كتب مؤيد الراوي آخر قصيدة عن جماعة كركوك وأهداها إلى جليل القيسي الراعي الروحي لهذه المجموعة في شوطها الأول، ولعلها واحدة من أجمل قصائد الاعتراف في الأدب العراقي الحديث، فهي اقرب إلى مرثية مع لازمة موجهة إلى القيسي (رأيتَ مالم نرَ)، حيث يستطرد:
ها نحن أصبحنا مفلسين من الوهم
لأننا
كررنا ما رأينا
والأيام كانت الأيام، تنزع جلودها كالأفاعي
ليمضي بنا الوقت
بطيئا
ونحن
ننتظر
ريحا أخرى تنشر لنا القلوع.


رفــعــة الـجـــــادرجــــــــي في حوار عن الحياة والعمارة .. سيرة وذكريات
 

  • الأعمال التي ارتاح لها هي التي كنت فرحاً بها إثناء عملية التصميم
  • يتعين عند الشروع في اقلمة العمارة، النظر في مختلف خصوصيات الإقليم
  • أعمالنا ما هي الا تجارب قد تكون مفيدة للمستقبل
     

بتسام عبد الله
كان من الممكن ان يكون المعماري المفكر رفعة الجادرجي من ابرز ضيوف برنامج (سيرة وذكريات) ولكن الظروف حالت دون ذلك.
ففي اواخر عام 1985، سجلت حلقة مميزة على مدى ساعتين مع الجادرجي على ان تبث في حلقتين متتاليين من البرنامج الذي كنت اقوم باعداده وتقديمه طوال النصف الأول من الثمانينيات، ومن اجل الاعداد والتعرف على الجادرجي، التقيته حوالي عشر ساعات مجزأة الى اربعة ايام، كنت من خلالها أزوره صباحاً في داره/ شارع الحريري، وتدور بيننا أحاديث طوال تتناول مختلف مراحل حياته وجوانبها الإبداعية المتعددة.
ولان الجادرجي مبدع حساس جداً، ودقيق جداً جداً بكل ما يتعلق بعمله، كان يكتب باستمرار جميع الأسئلة التي أوجهها له، ثم يقدم لي في الزيارة التالية الإجابات عنها مطبوعة وبأربع نسخ دون ان يهمل حتى الأمور أو التفصيلات الدقيقة المتفرعة منها، وعندما انتبه الى دهشتي ازاء ما يفعل، قال انه تعلم بالتجربة الحرص على ما يكتب أو يخطط، ومن عادته ان يضع نسخة من كل شيئ في مكتبه، واخرى في داره، والنسخة الثالثة في سيارته والرابعة لي مضيفاً ان فقدت نسخة لأي سبب كان، فهناك أخرى، هكذا انا اعمل باستمرار، وابتسم لدهشتي وانا اتابعه بمحبة وهو يقوم بتوزيع الأوراق في اماكنها.
ومضينا في حوارنا اياماً حتى انتهينا من تغطية جميع جوانب انجازاته المعمارية، الكتابة، مصادر ثقافته المتعددة: الأدب، السينما والموسيقى، هواياته، مع التطرق بطبيعة الحال الى طفولته وشبابه وتأثير والده المرحوم كامل الجادرجي عليه.
وقد استغرق التصوير أكثر من سبع ساعات إذ كنا نتوقف بين فترة واخرى، فالجادرجي كما ذكرت دقيق جداً في عمله، وهو يحرص على ما يقول، لذلك كنا نضطر احياناً الى التوقف واعادة حوار سجل قبل قليل أو للاستراحة أو تناول القهوة.
وفي خلال التسجيل قمنا بصحبته والكاميرا بالطواف في داره الجميلة الأنيقة باثاثها البسيط والرائع وصعدنا الى الطابق العلوي منها بسلم حلزوني رفيع، حيث المكتبة على طوال جدران القاعة الواسعة، ومازلت اذكر اني رأيت اعداداً كبيرة من مجلات سينمائية أجنبية كانت معروفة، ثم توقفت عن الصدور، لاتزال تبدو جديدة، مرتبة حسب تسلسل صدورها.
واخيراً، لابد من التطرق الى الجانب المحزن من الموضوع، حيث اننا بعد ذلك الجهد والتعب، فوجئنا بعدم بث الحلقتين الخاصتين بالجادرجي، وتأجيل وتسويف الامر المرة تلو الاخرى، حتى غدا منسياً.
لكن المهم في الموضوع، ان دقة وحرص الجادرجي أثبتت فاعليتها، ففي اليوم الذي سبق تسجيل البرنامج، قدم لي مجموعة كبيرة من الأوراق المطبوعة، تتضمن جميع الاسئلة التي وجهت إليه والإجابات الوافية الشاملة من قبله عنها.
وقال لي مبتسماً: "هذا جهدنا.. تعبنا من اجل اعدادها وليس من المعقول ان اضعها في ركن من المكتبة، انها لن تذهب سدى، سأغادر الى لندن قريباً وسأقوم باضافة المزيد اليها، انها امور مهمة تتناول جوانب عدة من افكاري وسيرتي الذاتية، سأجمعها مستقبلاً في كتاب".
وفي كتابه "حوار في البنيوية، الفن والعمارة" الذي صدر بعد عشرة أعوام من تلك اللقاءات عن دار رياض الريس، كتب الجادرجي في مقدمته ما يلي:
"تجمعت الاسئلة والاجوبة فاخترت انا ما هو مناسب للمقابلة التلفزيونية، وبعد رجوعي الى كيمبردج اضيفت الى المجموعة اسئلة أخرى مع اجاباتها، فتراكمت واصبحت مئات الصفحات، اهملتها سنوات، ثم تفرغت لها لتكتمل بالصيغة التي تظهر في هذا الكتاب".
واليوم والجادرجي قد بلغ الثمانين من عمره المديد، انشر مقتطفات من بعض تلك الأسئلة والأجوبة، مختصرة اياها لكي تتناسب مع متطلبات صحيفة يومية .
* الأستاذ رفعة الجادرجي، احد رواد العمارة العراقية والعربية رفد الساحة المعمارية بمنجزات ثرية متنوعة وفي شتى المجالات المعمارية، المهنية والمعرفية كما الفنية، فهو صاحب تلك الأبنية المميزة والشاخصة في العديد من المدن العراقية والعربية، لنبدأ الحديث بسؤال عما تعتبره اهم اعمالك المعمارية؟
- يبدو لي ان من الصعب الاجابة عن هذا السؤال، لانني في الواقع لا ادري ما هي اهم تلك الاعمال، فالمسألة في الأساس هي عملية تقييم، وبما انني طرف في المسألة، وبالتالي فانني من هذا الموقع اعد طرفاً منتفعاً، كما ان تحديد هذا الموقع يتطلب الابتعاد الزمني للتمكن من اجراء تقييم موضوعي، دون اعتبار لعامل التحيز الذاتي، بعد هذا اقول: ثمة اعمال معمارية ارتاح لها شخصياً بخلاف اعمال أخرى لا اعيرها اهمية كبيرة، الاعمال التي ارتاح لها هي تلك التي كنت فرحاً ومسترسلاً ومستمتعاً بها إثناء عملية التصميم، لانها تهيئ لي متعة لذيذة وهي تمثل في الوقت ذاته ممارسة الفكر لعملية الخلق أي استحداث الجديد، فالمسالة لم تتوقف لدي غالباً عند كون هذا العمل مهماً أم غير مهم، المهم هو القيام بعملية التصميم بامانة وإخلاص وحرص.
* دعنا نتفق على ما نقصده بكلمة عمارة وماذا يمثل ؟ هل يشمل الدار الكبيرة فقط أم انه يشمل الكوخ الصغير في الوقت عينه؟
- اعرّف العمارة بانها ذلك المأوى أو مغلف بنائي أو سياج مشيد من قبل فرد أو مجموعة، العمارة هي نتاج يد الانسان وفكره أي تعامل يد الانسان وفكره مع مواد خام ومن ثم تحويلها أو تغييرها من حالة الى أخرى، فالشكل أكان كرسياً ام داراً ما هو الا التجسيد المادي الذي استقر نسبياً بعد التفاعل اثناء استحداثه فيظهر لنا بشكله المرئي كعمارة.
* من هو المعماري الاكاديمي الرائد في هذا المجال؟
- ان استعراضاً سريعاً للتطور المعماري في البلدان العربية ومختلف اتجاهاته يوحي لي بان هناك اربعة اتجاهات أو مدارس في العمارة العربية المعاصرة ككل وبضمنها العراقية، ابتدأ اول هذه الاتجاهات المعمار حسن فتحي في مصر عام 1924، في اعتماد العمارة المحلية في مناهج التدريسات المعمارية المعاصرة في مصر. الاتجاه الثاني، أبتدأه الفنان جواد سليم في العراق وقد توصل اليه نتيجة تماسه مع حضارات وادي الرافدين القديمة أبان عمله في المتحف العراقي، وبتأثير غير مباشر من جواد سليم تم استحداث اتجاه معماري في مطلع الخمسينيات، وربما كنت اول من شرع بهذا الاتجاه. اما الاتجاه الثالث، فقد تم استحداثه غالباً في لبنان في اواخر الخمسينيات ويرتكز على قدر علمي على استحداث هيكل معاصر يطعّم بعناصر منتقاة من التراث وقد قام د. محمد مكية في العراق فيما بعد بتطويره وترويجه.
يبقى الاتجاه الرابع وهو المتمثل باعتماد النموذج المعماري الغربي والعالمي باعتباره محصلة التقدم المعماري في العالم. وقد تبنى هذا الاتجاه عدد من المعماريين وربما كان اهمهم قحطان عوني ثم هشام منير في العراق.
وعلى الرغم من ذلك فان هذا لا يعفي المعمار من دوره ومسعاه في توليد مقومات معمارية متوافقة مع حاضره وهذه تؤلف في الوقت نفسه مقومات مستقبلية، كما يبدو ذلك المستقبل.
* هذا الجواب يقودنا الى التساؤل عن حقيقة قيمة الابداع المعماري في الاتجاهات التي ذكرتها، ايهما أكثر ابداعاً الثاني ام الثالث؟
- يتوقف الابداع بالدرجة الاولى على القابلية الابداعية للمصمم، وما اعتقده هو ان لكلا الاتجاهين مكانة واسعة في تقديم تجارب مهمة للتقدم المعماري المستقبلي. الا انني ارى بان للاتجاه الثاني، الذي يصهر المعاصرة مع التراث مكانة اوسع من الثالث والذي انبعث اصلاً من مفهوم تقني معاصر، الا ان هذا الاتجاه يتحدد بالتزامه بالحرفية التحدارية في حين ان مستقبل الحرفية اليدوية ذاته متعثر وسائر نحو الزوال.
* كيف تقيم ما حققه الاتجاه الأول الذي يسعى الى احياء التقنية والشكل القروي؟
- الاتجاه الأول القائم على الرجوع الى عمارة طينية ريفية (اعمال حسن فتحي) لا تتفق وآرائي، انه بالرغم من هدفه يفترض بان سمات العمارة العربية تكمن في الريف، معتمداً على تقنية استخدام الطين، وله ايضاً موقف تغاضى كلياً عن متطلبات الحضرية المعاصرة وترابطها وتأثيرها في متطلبات العمارة الواقعية في الريف التي باتت لا تعد ريفية في الغالب. مع العلم بان تراث مصر المعماري المتقدم شأنه شأن العراق وسوريا مثلاً، هو حضري.
* الاختلاف بين تقنية العمارة وحرفية العمارة التقليدية هو الذي يعين موقفك إذن من الاتجاهات؟
- اود ان اؤكد بان ما ارفضه في الاتجاه الأول هو الموقف الذي يعتبر العمارة الطينية إحد الحلول المعاصرة المحلية التي يتعين الرجوع اليها في معالجة ازمة العمارة المعاصرة كممارسة في الريف. ان العمارة الريفية لا تؤلف في استاتيكية التطور الحضري والتقليدي عامة الا جزءاً صغيراً عنه، وذلك لان التطور الحضاري والحضري الذي تمكنت منه الحضارة العربية والاسلامية فيما مضى لم ينحصر بالريف بل كان الريف اللامسقط منه، كما ان مقومات العمارة المعاصرة قد تجاوزت الريف بالمفهوم التقليدي.
* هل يقتصر الاختلاف في مسألة شكلية الشكل تحديداً بين الاتجاه الذي اعتمدته، ذلك الاتجاه الذي يصهر المعالم الذاتية المنتقاة في وحدة تكوينية معاصرة مع ذينك الاتجاهين اللذين اعتمدهما حسن فتحي اولاً ومحمد مكية ثانياً؟
- الاختلاف أوسع من ذلك فهو يمتد الى نواح متعددة في عملية استحداث الشكل ومن بينها شكلية الشكل، اما النواحي الاخرى فهي كثيرة، اما موقفي من العمارة الطينية فبالاضافة الى ما ورد حول اختلافي مع شكلية الطين في المعالجة المعاصرة (البيئة الريفية الواقعة على أرض غرينية) فاننا نكون قد ابعدنا طرائقية المعالجة عن متطلبات المعاصرة وواقع حالها التكنولوجي. وصفات النجاح التي تعكسها هذه الطرائقية ليست حقيقية لعدم اقتصادية هذا النهج.
يتعلق الاختلاف الاخر بنهج محمد مكية لانه يتعرض لناحية أخرى تتمثل في مسألة التعامل مع المناخ، فلم يحاول هذا النهج معالجة المشكلة المناخية بل اكتفى والى حد كبير، في مواجهة نواحي شكلية الشكل.
يتعين عند الشروع في اقلمة العمارة من وجهة نظري، النظر في مختلف خصوصيات الاقليم (شكلية الشكل والنواحي المناخية) وقد كانت لي محاولات عديدة في هذا المجال، كان البعض منها فقط مجدياً في حين فشل البعض الآخر في تحقيق هدفه.
* ما هي العلاقة بين العمارة المحلية والدولية. ما معنى قولك هناك تجارب معمارية وليست عمارة بالمعنى الصحيح؟
- العمارة المحلية (العمارة المقطرنة) هي التي ينجبها الفكر المعماري لتلك الامة أو القطر، فالعمارة البابلية والرومانية والعباسية انجبها العقل البابلي والعباسي، كل حسب طرازه الخاص والفكر المعماري القطري، هو ذلك الفكر الفعال في مختلف مراحل الانتاج في ذلك القطر، بما في ذلك التصميم وصناعة المواد وادارة الانتاج واسلوب الاستهلاك. من هنا، لا اعتبر الاعمال المعمارية التي قام بها زملائي المعماريون العراقيون والعرب عامة، واعمالي بالذات، تكون عمارة بالمعنى الصحيح، وما هي الا تجارب قد تكون مفيدة في المستقبل. انها مادة خام شكلاً وتقنية الى معماري المستقبل في البلدان العربية.
* تحدثنا عن ضرورة مواكبة المعمار العراقي للتقدم المعماري العالمي، هل تعتقد بان هذه الضرورة ستبقى مطلوبة دائماً أم انها حالة مرحلية ستنتهي في وقت ما؟
- لابد من الاشارة الى بعض الظواهر. ان العالم في تطور متسارع أسيا كما ان العلم وتطوره لم يعد حكراً على قطرية أو موقع أو ايديولوجية أو اكاديمية معينة، وبذا أصبحت المعرفة عامة أكثر منها محلية.
ان ما يتعين ان نسعى اليه هو اطلاق المحلية من حدودها المحلية الى آفاق واسعة تربطها بفلك العالمية لتتمكن من استحداث عمارة عالمية ذات صبغة محلية وبهذا يتفادى العالم التقولب في نسخ متشابهة باعثة على السأم.
ان الاستقلال لا يعني الرفض، ولا أخذ موقف "نحن" مقابل "هم" ومن موقف متعال وعدائي أو متخاذل، بل موقف اختيار ما هو مفيد ومناسب للمحلية، دون ان تكون عملية الانتقاء أو الرفض عشوائية أو متحيزة، بل ان تكون عملية سليمة تستند الى معرفة متقدمة ولا يتم تحقيق هذه المعادلة، مالم يحقق الفكر المعماري توازناً بين الترابط مع الشبكة الثقافية العالمية، وبين تناول الخصوصيات المحلية والتمكن منها.


الشرق الاوسط في صور .. مشكلات الشرق الاوسط في مهرجان الدنمارك
 

دنى غالي - كوبنهاجن
أعلنت الهيئة المسؤولة عن مهرجان صور الشرق الأوسط في الدنمارك (
The Images of The Middle East ) هذا الأسبوع عن عزمها افتتاح مهرجانها الختامي كما كان مقرراً له في الثاني عشر من شهر آب، ويأتي إعلانها هذا بسبب ما تشهده لبنان وفلسطين واسرائيل على الأخص هذه الايام، ولما لذلك من تداعيات على المنطقة عموما، وعلى الضيوف المدعوين بالحضور. كما جاء في الإعلان فالحرب في لبنان هزة عنيفة اخرى تشهدها المنطقة، إذ تهدم بسببها جزء كبير من البنى التحتية في لبنان وادى إلى إغلاق منافذ لبنان على الخارج وهو أمر مؤسف و يدعو إلى القلق الشديد. ولاشك في ان الفنانين والكتاب الضيوف لن يكون باستطاعتهم الحضور في ظرف كهذا ومن المحتمل ان يكون الأمر كذلك بالنسبة للضيوف العرب من بلدان اخرى.
ولعل العاملين في هذا المشروع، الذي امتد لعدة سنوات خلت، يشعرون بخيبة كبرى للجهد الذي بذل من اجل انجاحه، لاسيما وانها ليست المرة الأولى التي تعترض المهرجان ازمة حادة يضطر المسؤولون إثرها إلى اتخاذ موقف حاسم.
ميكيل إيرفنغ ينسن مدير مشروع مهرجان " صور من الشرق الأوسط" والذي عرف في الوسط الأكاديمي والثقافي بدقة تحليلاته وطروحاته الجريئة عبر مؤلفاته واللقاءات به، معبّرا في الكثير منها عن اختلافه مع الساسة في نظرتهم إلى تلك المجتمعات فهي نظرة قاصرة تعكس جهلا وهيمنة لا تؤدي الغرض المطلوب إن استمر النهج على ذلك. الجميل ان تتاح الفرصة لمثقف مثله، وهو الحاصل على شهادات من عدة جامعات في تخصصه في تاريخ الشرق الأوسط واللغة والثقافة العربية، لأن يرأس مشروعا يضع له برنامجا ضخما يعكس حماسة شابة حقيقية في ان يقدم للمجتمع الغربي صوراً متباينة ومختلفة، معاكسة لما تقدمه الميديا، من شأنها أن تعمل على تحريك الذهن وإثارة النقاش البناء من اجل فهم أوسع لما يدور في الشرق الاوسط. لا يخفى ان هناك خلافاً وجدلاً مستمرين في الأوساط الدنماركية حول مشروع إرساء الديمقراطية في مجتمعات الشرق الأوسط، أيضا في الخطوات التي تعتمدها الدنمارك في شروعها بتنفيذه. وقد يعلو في ذلك صوت السياسي في السلطة أو الإقتصادي المستثمر على صوت المثقف، ولكن يبقى صوت الأخير مسموعا متحديا ومشاكسا رغم هذا.
يسلط مهرجان صور من الشرق الأوسط الذي تمتد فعالياته منذ العام 2004 وحتى العام 2007، من خلال برنامجه الثقافي الختامي الذي انطلق في الثاني عشر من آب وينتهي في الثاني والعشرين من أيلول هذا العام، الضوء على الثقافة المعاصرة والتحولات التي حدثت وتحدث في مجتمعات الشرق الأوسط. وتم اختيار العنوان "هويات تحت التغيير" أو " التحولات والهوية " في محاولة من منظمي المهرجان لرسم الصورة الحالية المغايرة لتلك الصور المستقرة المرسومة في الأذهان عند الغرب حول مجتمعات الشرق الاوسط ووفق رؤية المنظمين فالعنوان يحمل بين طياته حقيقة الحراك السياسي والإجتماعي والجدل الحالي المنتشر في المجتمعات العربية، ولذلك فقد تم اختيار العديد من المحاور التي تعكس ذلك الحراك والجدل، عبر الفن والأدب المعاصر، والتعليم، والصحافة.
وهناك تساؤلات مطروحة حول المجتمعات العربية والإسلامية من قبل الدنماركيين. فمازال هناك اتهام للحكومة بطريقة معالجتها للأزمة. كما إن الصوت السياسي المعارض يتهم الحكومة بكون اهتمامها بذلك النوع من النشاطات لم يأت إلا بعد دخولها الحرب مع امريكا في العراق. على ضوء كل هذا فالعالم صار بأكمله متورطاً ومسؤولا عن خلق حالة من التعايش السلمي فيما بيننا، وهنا يبرز دور المثقف والمبدع الذي لايمكن تجاوزه في التأثير في ذلك.
لذا يتضمن برنامج المهرجان ورش عمل في السينما والمسرح، وفسحة للتعرف على أدب الطفل العربي والإيراني، هناك معارض للتصوير والخط ، وهناك موسيقى وتضييف لكتاب وشعراء مهمين إيرانيين وعرب وأتراك، الشباب منهم أيضا. ولذلك ستستغل اللجنة المنظمة كل الفضاءات العامة للمدينة كما الخاصة، وكذلك الصحافة واجهزة الإعلام وغيرها من أجل توصيل تلك الرؤية. وعلى سبيل المثال، ستطرح مصورة إيرانية بجرأة مثيرة للدهشة وبروح دعابة ملفتة رؤيتها الناقدة لما يدور في مجتمعها في إيران، على الأخص دور المرأة وحريتها ونظرة المجتمع إليها، عبر ملصقات مكبرة للقطاتها، يتم عرضها على مباني العاصمة كوبنهاجن. جدير بالذكر أن اللجان المسؤولة بمختلفها تطالب هذا المرة بالتركيز على الجدل والنقاش من قبل الطرفين خلال النشاطات هذه، لا الإكتفاء بالقراءات والموسيقى والصور. و كان ميكيل ينسن إيرفنغ يأمل بأن يشهد الدنماركيون موسما ثقافيا ممتعا، فقد صار من الواضح بالنسبة إلى الجميع بأن الفن والثقافة والحوار يمكنها ويتوقع منها ان تلعب دورا فعالا في هدم التصورات والأحكام المسبقة وبإمكانها أن تساهم في خلق فهم مضاعف بين الناس لذا فالحاجة إلى هذا المهرجان ضرورية تاخذ على عاتقها اهمية اكبر في اطلاع الدنماركيين والعالم من حولهم على البصمة الفنية الخلاقة والمحفزة في الشرق الاوسط.
ربما ضاقت السبل بالمثقف العربي ليسمع صوته، ربما قد أسيء فهم الثقافة فلم يرها المواطن العربي غير حفل سينتهي آخر المساء، أو انها عناء بلا طائل جراء ما يعاني منه الفرد من إحباطات مستمرة، وربما تقلصت المنابر لتقتصر على محتكرين متطفلين فلاذ أهل الثقافة المعنيون بالصمت! ذلك هو ما نود العبور من خلاله إلى نقطة مهمة تدور في الذهن عن الدور الفعال المنتظر من قبل كتابنا وشعرائنا وفنانينا العرب المدعوين المساهمين في هذه التظاهرة الثقافية، ممن سيتمكن من الحضور منهم.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة