أوراق
تراثية:
الصاغة وجماليات الحرفة
والشعر
عادل
العامل
تعني الصياغة، وفقا لاصول اللغة(1)، تشكيل الشيء على نحو
حسن، وهذا مفهوم من قولهم: صاغ الله تعالى فلانا صيغة حسنة،
أي خلقه، وصاغ فلان الشيء، أي هيأه على مثال مستقيم، فهو
صائغ وصواغ وصياغ، والصياغة حرفته.
وهذا يعني ان الصياغة مرتبطة بالتذوق الجمالي لدى الانسان
بمظاهر الاشياء ورغبته في ان يبدو جميلا بما يضيفه الى
مظهره من محسنات فنية، وهو امر مرتبط بدوره بالتطور
الحضاري الذي شهدته الحياة العربية حتى بلغ مستوى رفيعا في
العصر العباسي ببغداد والعصر الاموي بالاندلس.
ويعطينا ابو الطيب الوشاء(2)، وهو يتحدث عن زي الظرفاء
والمتظرفات ببغداد آنذاك صورة بسيطة، ولكن معبرة عما بلغته
الصياغة في عصره من دقة وتنوع وازدهار، حيث يقول: ومن زيهن
المعلوم في لبس الحلي المنظوم لبس مخانق القرنفل المخمر،
ومراسل(3) الكافوروالعنبر، والقلائد المفصلة، والمعاذات
المخرمة بشرابات الذهب المشبكة، والبلور النقي، وحب اللؤلؤ
السري والحب الاحمر والكاربا الاصفر، وسائر صنوف الياقوت
والجوهر، وينظمن بالحب، وصنوف الجوهر كرازنهن(4)، وينقشن
بالابريسم والذهب عصائبهن، ويتخذن الخواتيم المقرنة
والمناقير(5) المطبقة بفصوص الياقوت الاحمر، والزمرد
الاخضر والاسمانجوني، والاصفر ولا يحسن بهن التختم بالمينا
والعقيق والفضة والحديد والملوح(6) والفيروزج، والبجاذي،
والمسانيح(7)، وذلك من لبس الرجال والاماء، وليس من لبس
متظرفات النساء..
ويعني هذا التنوع في الحلي والمجوهرات آنذاك كثرة الصاغة
واصنافهم في ذلك العصر، الامر الذي اقتضى ان تكون هناك
ضوابط تنظم اعمالهم الفنية والتجارية، وهذا كان يفعله
المحتسب الذي ينبغي عليه كما يذكر ابن بسام(8)، ان يعرف
عليهم عريفا ثقة بصيرا بخيانتهم يجعلهم يعملون في اماكن
مكشوفة للزبائن منعا للغش والسرقة، وكان على الصائغ ان
يسلم الزبون شيئا قليلا من جسم ما سبكه عند فراغه مما يريد
صياغته فمتى وقع شك او تهمة، رجعوا الى ذلك اليسير الذي مع
صاحب الصياغة. كما كان من الواجب ان يكون بيد كل واحد من
الطرفين خط يشرح حال ما اتفقا عليه، ووزنه ليرجع اليه متى
احتيج اليه.
وكان على سباكي الفضة ان لا يبيعوا الخبث الذي يخرج لهم من
الفضة لسباكي النحاس، لانهم اذا خلطوه بالنحاس عند سبكه
صار النحاس مثل الزجاج فينكسر اذا سقط من يد احد، وان كان
في هاون انخسف بسرعة.
لكن الصاغة لم يكونوا جميعا بالطبع مجرد حرفيين يمكن ان
تدفعهم الرغبة في الكسب او الاثراء الى الغش والاحتيال،
فقد كان منهم فقهاء ولغويون وادباء يترفعون عن مثل هذه
الممارسات المنحطة التي وضعت لردعها مثل تلك الضوابط.
وابرز هؤلاء المثقفين الصاغة الذين عرفتنا بهم كتب التراث
المنشورة الاديب الشاعر الحسن بن رشيق القيرواني، صاحب
كتاب (العمدة) الشهير. وكانت(9) صنعة ابيه في بلده
المحمدية بالمغرب الصياغة، فعلمه ابوه صنعته، وقرأ الادب
بالمحمدية، وقال الشعر، وتاقت نفسه الى التزيد منه وملاقاة
اهل الادب، فرحل الى القيروان، واشتهر بها، ومن شعره:
في الناس من لا يرتجى نفعه
الا اذا مس بأضرارِ
كالعود لا يطمع في طيبه
الا اذا احرق بالنار
ومنهم محمد بن مختار شرف الدين الحنفي، الذي كان، كما وصفه
صلاح الدين الصفدي(10)، جيد الذهن يعرف الهندسة جيدا وله
يد طولى في الهيئة والحساب، وكان في الاصل صائغا وتسلط
بالصياغة على معرفة كتاب الحيل لبني موسى فكان يصنع منها
بيده اشياء غريبة، وكان يحب الادب.
ومنهم ابو عبد الله شمس الدين بن الصائغ النحوي الاديب(11)
الذي برع، كما يقول الحافظ الذهبي، في النظم والنثر، وكان
له حانوت بالصاغة، وكان يقرأ فيه، وله نحو الالف بيت في
الصنائع والفنون، ومن شعره الذي يتشوق فيه وهو بمصر الى
دمشق:
أشتاق منك منازلا لم انسها
اني، وقلبي في ربوعك، موثق
طلل به خلقي تكون اولا
وبه عرفت بكل ما اتخلق
أدمشق لا بعدت ديارك عن فتى
أبدا اليك بكله يتشوق
انفقت في ناديك أيام الصبى
حبا وذاك أعز شيء ينفق
ورحلت عنك ولي اليك تلفت
ولكل جمع صدعة وتفرق
وكان للشعراء ما يقولونه في الصاغة، كما في غيرهم من اهل
الحرف، حيث يضمنون اشعارهم على سبيل التظرف او الدعابة
صورا ومفردات من عالم الحرفة، كما يقول شهاب الدين احمد بن
محمد الزيني الجعفري في صائغٍ(12):
بأبي صائغ مليح التثني
بقوام يزري بخوط البان
أمسك الكلبتين يا صاح فاعجب
لغزال بكفه كلبتان
وقول الاخر(13):
كلفي بظبي صائغ كالبدر في جو السماء
سكر المحب بريقه وغدا يموه بالطلاء
الاشارات:
(1)القاموس المحيط 3/114
(2)الموشى 187
(3) المراسل: قلائد طويلة فيها الخرز وغيره.
(4)الكرازن: جمع كرزن وهو تاج مرصع بالذهب والجوهر.
(5)المناقير واحدها منقار وهو من الخف مقدمه، المطبقة:
المغطاة.
(6)الملوح: نوع من الحجارة الكريمة.
(7)المسناح: هو من السنيح أي الدر.
(8)نهاية الرتبة في طلب الحسبة 106
(9)العمدة 1/10
(10)الوافي بالوفيات 5/14
(11)بغية الوعاة 1/84 والوافي بالوفيات 2/363.
(12)الوافي بالوفيات 8/21
(13)الحسن الصريح 28.
|