ثقافة شعبية

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

أوراق تراثية: الصاغة وجماليات الحرفة والشعر

عادل العامل

تعني الصياغة، وفقا لاصول اللغة(1)، تشكيل الشيء على نحو حسن، وهذا مفهوم من قولهم: صاغ الله تعالى فلانا صيغة حسنة، أي خلقه، وصاغ فلان الشيء، أي هيأه على مثال مستقيم، فهو صائغ وصواغ وصياغ، والصياغة حرفته.
وهذا يعني ان الصياغة مرتبطة بالتذوق الجمالي لدى الانسان بمظاهر الاشياء ورغبته في ان يبدو جميلا بما يضيفه الى مظهره من محسنات فنية، وهو امر مرتبط بدوره بالتطور الحضاري الذي شهدته الحياة العربية حتى بلغ مستوى رفيعا في العصر العباسي ببغداد والعصر الاموي بالاندلس.
ويعطينا ابو الطيب الوشاء(2)، وهو يتحدث عن زي الظرفاء والمتظرفات ببغداد آنذاك صورة بسيطة، ولكن معبرة عما بلغته الصياغة في عصره من دقة وتنوع وازدهار، حيث يقول: ومن زيهن المعلوم في لبس الحلي المنظوم لبس مخانق القرنفل المخمر، ومراسل(3) الكافوروالعنبر، والقلائد المفصلة، والمعاذات المخرمة بشرابات الذهب المشبكة، والبلور النقي، وحب اللؤلؤ السري والحب الاحمر والكاربا الاصفر، وسائر صنوف الياقوت والجوهر، وينظمن بالحب، وصنوف الجوهر كرازنهن(4)، وينقشن بالابريسم والذهب عصائبهن، ويتخذن الخواتيم المقرنة والمناقير(5) المطبقة بفصوص الياقوت الاحمر، والزمرد الاخضر والاسمانجوني، والاصفر ولا يحسن بهن التختم بالمينا والعقيق والفضة والحديد والملوح(6) والفيروزج، والبجاذي، والمسانيح(7)، وذلك من لبس الرجال والاماء، وليس من لبس متظرفات النساء..
ويعني هذا التنوع في الحلي والمجوهرات آنذاك كثرة الصاغة واصنافهم في ذلك العصر، الامر الذي اقتضى ان تكون هناك ضوابط تنظم اعمالهم الفنية والتجارية، وهذا كان يفعله المحتسب الذي ينبغي عليه كما يذكر ابن بسام(8)، ان يعرف عليهم عريفا ثقة بصيرا بخيانتهم يجعلهم يعملون في اماكن مكشوفة للزبائن منعا للغش والسرقة، وكان على الصائغ ان يسلم الزبون شيئا قليلا من جسم ما سبكه عند فراغه مما يريد صياغته فمتى وقع شك او تهمة، رجعوا الى ذلك اليسير الذي مع صاحب الصياغة. كما كان من الواجب ان يكون بيد كل واحد من الطرفين خط يشرح حال ما اتفقا عليه، ووزنه ليرجع اليه متى احتيج اليه.
وكان على سباكي الفضة ان لا يبيعوا الخبث الذي يخرج لهم من الفضة لسباكي النحاس، لانهم اذا خلطوه بالنحاس عند سبكه صار النحاس مثل الزجاج فينكسر اذا سقط من يد احد، وان كان في هاون انخسف بسرعة.
لكن الصاغة لم يكونوا جميعا بالطبع مجرد حرفيين يمكن ان تدفعهم الرغبة في الكسب او الاثراء الى الغش والاحتيال، فقد كان منهم فقهاء ولغويون وادباء يترفعون عن مثل هذه الممارسات المنحطة التي وضعت لردعها مثل تلك الضوابط.
وابرز هؤلاء المثقفين الصاغة الذين عرفتنا بهم كتب التراث المنشورة الاديب الشاعر الحسن بن رشيق القيرواني، صاحب كتاب (العمدة) الشهير. وكانت(9) صنعة ابيه في بلده المحمدية بالمغرب الصياغة، فعلمه ابوه صنعته، وقرأ الادب بالمحمدية، وقال الشعر، وتاقت نفسه الى التزيد منه وملاقاة اهل الادب، فرحل الى القيروان، واشتهر بها، ومن شعره:
في الناس من لا يرتجى نفعه
الا اذا مس بأضرارِ
كالعود لا يطمع في طيبه
     الا اذا احرق بالنار
ومنهم محمد بن مختار شرف الدين الحنفي، الذي كان، كما وصفه صلاح الدين الصفدي(10)، جيد الذهن يعرف الهندسة جيدا وله يد طولى في الهيئة والحساب، وكان في الاصل صائغا وتسلط بالصياغة على معرفة كتاب الحيل لبني موسى فكان يصنع منها بيده اشياء غريبة، وكان يحب الادب.
ومنهم ابو عبد الله شمس الدين بن الصائغ النحوي الاديب(11) الذي برع، كما يقول الحافظ الذهبي، في النظم والنثر، وكان له حانوت بالصاغة، وكان يقرأ فيه، وله نحو الالف بيت في الصنائع والفنون، ومن شعره الذي يتشوق فيه وهو بمصر الى دمشق:
أشتاق منك منازلا لم انسها
اني، وقلبي في ربوعك، موثق
طلل به خلقي تكون اولا
وبه عرفت بكل ما اتخلق
أدمشق لا بعدت ديارك عن فتى
أبدا اليك بكله يتشوق
انفقت في ناديك أيام الصبى
حبا وذاك أعز شيء ينفق
ورحلت عنك ولي اليك تلفت
ولكل جمع صدعة وتفرق
وكان للشعراء ما يقولونه في الصاغة، كما في غيرهم من اهل الحرف، حيث يضمنون اشعارهم على سبيل التظرف او الدعابة صورا ومفردات من عالم الحرفة، كما يقول شهاب الدين احمد بن محمد الزيني الجعفري في صائغٍ(12):
بأبي صائغ مليح التثني
     بقوام يزري بخوط البان
أمسك الكلبتين يا صاح فاعجب
     لغزال بكفه كلبتان
وقول الاخر(13):
كلفي بظبي صائغ كالبدر في جو السماء
سكر المحب بريقه وغدا يموه بالطلاء

الاشارات:
(1)القاموس المحيط 3/114
(2)الموشى 187
(3) المراسل: قلائد طويلة فيها الخرز وغيره.
(4)الكرازن: جمع كرزن وهو تاج مرصع بالذهب والجوهر.
(5)المناقير واحدها منقار وهو من الخف مقدمه، المطبقة: المغطاة.
(6)الملوح: نوع من الحجارة الكريمة.
(7)المسناح: هو من السنيح أي الدر.
(8)نهاية الرتبة في طلب الحسبة 106
(9)العمدة 1/10
(10)الوافي بالوفيات 5/14
(11)بغية الوعاة 1/84 والوافي بالوفيات 2/363.
(12)الوافي بالوفيات 8/21
(13)الحسن الصريح 28.


افكار في الدراسة الشعبية


باسم عبد الحميد حمودي

يركز غوغن على تلك العلاقة المستمرة والمتداولة بين الانسان والمحسوسات المستخدمة من قبله وتعد اللغة محسوساً متداولاً بسبب تكرار الاستخدام وتطوره من لغة الطفل الى اللغة الارقى حيث يتعلم الانسان التراكيب الجديدة للكلمات ومعانيها بتطور ادراكه ثم ثقافته لذا تأخذ الألفاظ المستخدمة دراميتها عن طرق نطقها المتعددة في حالات السرور والغضب والاستنكار والعطف على الغير مثل استخدامات كلمة (تفضل) المتعددة، وتأخذ اشكال الآلات والأدوات عند الاستخدام صياغات مختلفة حسب ادراك الانسان واستيعابه قدرة آلة مثل السكين التي يستخدمها الانسان للتقطيع أو للقتل أو للدفاع عن النفس واستخدام المذياع لسماع الموسيقى أو الموعظة أو الأخبار أو لمجرد الضجيج أو للخلاص من توتر داخلي وهكذا، وكل ذلك عن الاستخدامات الاخرى للآلة والأداة ان عملية حصر وتحليل المواد والمنطوقات والوسائل الصناعية والزراعية التي تحيط بالانسان من خلال حضارته عملية مثقلة بالكثير من التفاصيل والاستنتاجات، لكن الوصول الى نتائج تحليلية خاصة بكل نوع يستدعى دراية بثقافة الانسان الاجتماعية ومستوى وعيه وفرز ودراسة أنواع الحرف والحرفيين واستخدامات كل حرفة لادواتها والادوات الاخرى التي تشترك بها مع الاخرين، وذلك يستدعي خبرة ثقافية عميقة يمتلكها الدارس الشعبي ويستدعي توفير المال اللازم للتنوع لدراسة ما حول الانسان من هذه الوسائل والادوات والاغراض وحسبنا هنا ان ننبه وان ندعو الى عمل علمي منتج من اجل بناء ثقافة شعبية تعتمد على الحالة الإنسانية للانسان وعلاقته باللغة وبالأدوات الثقافية الاخرى والادوات والآلات التي يعتمدها المجتمع.


الابداع والتراث الشعبي

محمد الجوهري
التراث الشعبي هو موضوع الدراسة في علم الفولكلور، وهو يتناول هذا التراث في نشأته وخصائصه، ثم في حركته على امتداد الزمن (البعد التاريخي) وعلى رقعة المكان (البعد الجغرافي) وعلى الخريطة الاجتماعية (البعد الاجتماعي) وفي عمقه النفسي في نفوس ممارسيه ومدى تعبيره عن شخصية الجماعة (البعد النفسي). تلك هي اهم التساؤلات التي يطرحها دارس الفولكلور بصدد أي موضوع شعبي يدرسه.
والموضوعات الشعبية المكونة لهذه التراث تتعدد وتتنوع بمقدار خصوبة الثقافة الإنسانية، ولكننا اتفقنا على تقسيم موضوعات الدراسة في علم الفولكلور الى الأدب الشعبي وفنون المحاكاة، والعادات والتقاليد الشعبية، والمعتقدات والمعارف الشعبية، والفنون الشعبية والثقافة المادية.
هذه هي أبواب الدراسة الرئيسة وتلك هي اهم التساؤلات النظرية التي يحاول المنهج القاء الضوء عليها، فأين منها قضية الابداع؟
ان الصق الصفات بالتراث الشعبي هي صفة التقليدية أو الشيوع أو الشعبية أو التكرار، وقد انتهينا في كتابنا علم الفولكلور (الجزء الأول، ص87) الى ان دارس الفولكلور المعاصر يهتم بكل شيء ينتقل اجتماعياً من الاب الى الابن، ومن الجار الى جاره مستبعداً المعرفة المكتسبة عقلياً، سواء كانت متحصلة بالمجهود الفردي، أو من خلال المعرفة المنظمة والموثقة التي تكتسب داخل المؤسسات الرسمية كالمدارس والمعاهد والجامعات والاكاديميات وما اليها.
يترتب على هذه الزاوية من النظر ان نقرر ان المجتمع وقوة التقاليد تعتمدان على التلقين أو التكرار أو المحاكاة، وتهدفان الى تحقيق الشيوع والانتشار واستمرار العنصر نفسه (الذي نصفه بالشعبية) ولذلك يصبح المجتمع وقوة التقاليد قوى محافظة لا قوى ابداع، قوى استمرار لا قوى خلق وتشكيل وتعديل لهذا التشكيل.
واستطراداً لهذه النقطة يتضح بجلاء ان حظ قضايا ومشكلات الابداع لابد وان يكون محدوداً بين اهتمامات دارس الفولكلور في المرحلة الرومانسية، لقد اكتفى الفولكلوريون في تلك المرحلة المتقدمة من مراحل البحث على تأكيد صفة الشعبية وارتباط التراث بالشعب، وتحقيق ذلك من خلال التمسك بوجهة النظر القائلة ان الشعب هو الذي يبدع، هو الذي ينتج تراثه، يعبر به عن واقعه، وعن آماله ومشكلاته وتطلعاته الخ هكذا دون تدقيق أو تعقيد.
وفي خضم هذا الحماس الرومانسي للشعب رفض أصحاب هذا الرأي النظر الى الشعب بوصفه مستقبلاً أو مستهلكاً للعناصر المدروسة المسماة بالشعبية، أو النظر اليه مثلاً بوصفه مكاناً تتجمع فيه بقايا و رواسب “تراث" نازل من طبقات عليا.
تلك كانت مرحلة اولى في عمر هذا العلم امتدت على رقعة واسعة من القرن التاسع عشر كان الدارسون فيها مشغولين بالثقافة الشعبية أكثر من انشغالهم بالشعب، وكان الاهتمام بالعناصر أو المأثورات الشعبية طاغياً على الاهتمام بصانعيها، كانت القضية تأكيد موضوع العلم ومادته دون الاتجاه الى خوض بحار عميقة أو الدخول في متاهات غير مأمونة بطرح تساؤلات عن ديناميات انتاج هذه العناصر وتداولها.
وسوف يتضح فيما بعد في ثنايا هذه الورقة ان علم الفولكلور قد تجاوز في تطوره هذه النظرة المغرقة في تبسيط الواقع، بحيث اصبحت النظرة متوازنة الى التراث والى الشعب الذي ينتج هذا التراث من خلال افراد مبدعين ومن خلال المستهلكين ايضاً (وهو ما ستتناوله الفقرة ثانياً مفصلاً).
ولكن بعض الدراسات المعاصرة في علم الفولكلور قد اهتمت بتركيز النظر الى ميل الذوق الشعبي الى التكرار والتنميط وتوحيد الصور والاشكال خاصة في عالم الفنون التشكيلية، وهناك دراسات عديدة قدمت شواهد على هذا الميل الى التكرار، والتقليد في دنيا العادات والتقاليد. ولقد اخترت في الفقرة اولاً من هذه الورقة الاشارة بسرعة الى تكنيك التشكيل بالقوالب (الشابلون) أو الفورمة بوصفه صورة معبرة عن الميل الشعبي الى التنميط والتوحيد، ودليلاً على الطابع اللاشخصي للتعبير الفني الشائع واتجاها مضاداً أو معاكساً للابداع، فمع ان حديثنا هنا هو عن الابداع والتراث الا اننا نرى ان الاتجاهات المضادة للابداع في التراث تمثل جزءاً ضرورياً ومهماً من الموضوع.
كان من الطبيعي بعد استقرار موضوع العلم واضطراد الاعتراف به ان يتجه الباحثون الى الانشغال بمفهوم الشعب، أو طرح التساؤل عن صاحب هذه الثقافة الشعبية التي يتخذها هؤلاء الناس موضوعاً لبحثهم (وصانعها).
ولقد قطع البحث عن هوية الشعب، صاحب التراث ومبدعه وحامله والمحافظ عليه، شوطاً بعيداً استطاع ان يقودنا الى حل وسط (ان شئنا التبسيط) يقول هذا الحل:
ان الشعب من البشر- بوصفه جماعة- لا يمكن ان ينتج عنصراً معيناً، فكل عنصر من عناصر التراث التي ندرسها لابد وان يكون من صنع افراد بعينهم وسواء اكان هذا التراث نازلاً (أي مصنوعاً في الطبقات الاعلى) أم من انتاج الطبقات الدنيا، فهو في جميع الاحوال من صنع آحاد الافراد، وقد يتسنى لنا التعرف عليهم وتحديدهم في احيان قليلة، ولكننا قد لا نستطيع الوقوف عليهم في اغلب الاحوال، ولا عجب في ذلك فقد استقر علم الفولكلور على ان مجهولية مؤلف العنصر الشعبي أو مبدعه لا تعني بالضرورة لا شخصية العنصر المدروس (كما انها لاتعد شرطاً لشعبية هذا العنصر).
ولكن دورة حياة العنصر الشعبي لا تكتمل الا اذا اوضحنا وجهة نظر علم الفولكلور التي تبين ان الشيء الذي يرتبط بالجماعة الشعبية هو تلقي أو اعادة انتاج أو تكرار هذا العنصر الثقافي، فهذا التلقي والتداول لا يتم الا في جماعة ومن هنا نجد في الغناء ان تأليف النص هو الجهد الابداعي الفردي، ولكن الغناء هو الشيء المرتبط بالجماعة، فهو الفعل الجماعي.
وعلى نقيض النظرة الرومانسية السابقة في علم الفولكلور نجد ان هذا الموقف يخرج الابداع الفردي من دائرة التقاليد، ويضعه أياً كان موقعه في دائرة الفردية، فالفرد يبدع متأثراً بمجتمعه وتراثه، ولكنه لا يبدع الا بقدر انفصاله وابتعاده عن هذا التراث، هنا نجد ان المجتمع (المحافظ التقليدي) يوضع في مواجهة الفرد (المبدع المجدد)!
وسوف نخصص الفقرة ثانياً للحديث عن الافراد المبدعين من الشعب، وعن نماذج وتحفظات حول هذه القضية مكتفين بايراد الخطوط العامة دون الخوض في التفاصيل.
وهناك بعد ثالث لقضية الابداع والتراث الشعبي لا يتصل بانتاج هذا التراث وانما يتعلق باستخدامه وتداوله، ذلك هو استلهام بعض عناصر التراث الشعبي وتطورها بواسطة فنانين افراد مبدعين بوصفه صورة من صور التجديد والابداع في التراث الشعبي أو بوصفه انتاجاً فنياً رسمياً يخضع لمقاييس ومعايير الفن (الرفيع) وهذا البعد لن تستغرق هذه الورقة في عرضه طويلاً.
ان عملية انتاج التراث وتداوله وتغيره عملية مستمرة منذ بدء الخليقة ومستمرة الى الابد، طالما هناك بشر يولدون ويتفاعلون، ولكنه قد يحدث في بعض مراحل التطور ان تتخذ التغييرات شكل الموجة، ولا نقول الموضة، فهي اقوى عوداً من الموضة، وشروط وجودها ابقى واكثر تجذراً في البناء الاجتماعي الثقافي المحيط، ومن هنا قد يتعين علينا ان نتوقف عند هذه الظاهرة ونضرب لها مثلاً بالخرافات العلمية بوصفها شكلاً من اشكال التطوير أو تجديد التراث في المجتمع الصناعي المتقدم.
وسنحاول ان نتناول كل بعد من هذه الابعاد الاربعة بشيء من التفصيل، لكي نوفر اساساً نظرياً للمناقشة واطاراً عاماً للبحث في الموضوع أملاً في التوصل الى مرتكزات مشتركة، يمكن ان تقود العمل البحثي الى الموضوع، وان تكون في الوقت ذاته تحت بصر الفنانين المبدعين الذين قد يهمهم تأصيل تجاربهم الفنية بالوقوف على ابعادهاالموضوعية.
أشرنا الى ان الصق الصفات بالتراث الشعبي هي صفة التقليدية أو الشيوع أو الشعبية أو التكرار، وكيف ذهب بعض رواد الفولكلور الاوائل، مثل هوفمان كراير، الى حد الزعم بأن الشعب يستهلك التراث ولا ينتجه، وان القدرة الشعبية هي قدرة على تداول التراث والمحافظة عليه. ولكن البحث الفولكلوري استطاع كما المحنا ان يتجاوز هذا الاندفاع.
ولكن تبقى مع ذلك ضرورة الاشارة الى الاستمرار والتكرار التي ينطوي عليهما مفهوم التراث. ولقد اهتم بعض علماء الاركيولوجيا (الامريكيين) اهتماماً خاصاً بمفهوم التراث، وانتهوا الى تعريفات افادت منها الدراسات الاثنولوجية افادة كبرى، ولقد ادرج ماك جريجور تحت مفهوم التراث: الخصائص البشرية العميقة الجذور على نحو أو آخر، أي الاتجاهات الثابتة أو الطرق الثابتة في أداء الأشياء التي تتناقل من جيل الى آخر، في حين نجد جوجن
Goggin الذي يستخدم مصطلح التراث الثقافي الاكثر تحديداً نجده يعرف التراث بانه "أسلوب متميز من أساليب الحياة، كما ينعكس في مختلف جوانب الثقافة، وربما يمتد خلال فترة زمنية معينة، وتظهر عليه التغيرات الثقافية، وربما يمتد خلال فترة زمنية معينة، وتظهر عليه التغيرات الثقافية الداخلية العادية، ولكنه يتميز طوال تلك الفترة بوحدة اساسية مستمرة (محمد الجوهري، حسن الشامي، قاموس مصطلحات الاثنولوجيا والفولكور، ص89).
ولقد اهتم أريكسون بإبراز الصفة التقليدية للثقافة الشعبية، مؤكداً ان الثقافة الشعبية هي نفسها الثقافة التقليدية الحية، وإزاء اختلاف درجة التقليدية بين ثقافة واخرى، يشير اريكسون الى انه كلما كانت الثقافة أكثر بدائية كانت أكثر تقليدية، ولهذا يصف الثقافة الشعبية بانها تقليدية أساساً، إذا ما قورنت بثقافة أكثر تقدماً.
ويلاحظ علاوة على هذا ان الثقافة التقليدية تعني ثقافة اجتازت فترة معينة من الزمن في الشكل نفسه الذي تظهر به ويؤكد اريكسون على انه "يحسن عدم اضفاء صفة التقليدية بوصفها اصطلاحاً فولكلوريا، على الظواهر التي لا يثبت انها ظلت باقية لمدة جيلين أو ثلاثة أجيال في الاقل".
غير ان التقليدية يمكن ان تتحول الى موقف عاطفي من التراث، بل تتحول الى الاقتصار العاطفي على التراث، أو الاستعداد البشري للولاء للتراث (وخاصة المعتقدات التقليدية) ويطلق فايس عبارة الايمان بالتراث أو الالتزام بالتراث على ذلك الموقف الروحي الفكري عند الانسان الذي يعد شيئاً ما أو فعلاً ما أو أي مظهر قيماً و سليماً أو صحيحاً لمجرد انه ينتمي تقليدياً وانه متوارث ضمن دائرة معينة.
إلا ان درجة التقليدية تختلف اختلافاً بيناً من مجتمع لآخر، وهناك ميل واضح الى ازدياد التقليدية لدى جماعات الفلاحين الزراعية أكثر من الجماعات الاخرى، ذلك ان تلك الجماعات التقليدية تعتمد على نمط الحياة المستقر قليل المرونة في هذه البيئة، ويذهب البعض الى ان التقليدية غالباً ما تكون مصحوبة باتجاه سياسي محافظ.
ولكن بعيداً عن المضامين الايديولوجية التي يمكن تحميلها لمفهوم التقليدية، والى جانب التصور العام عن التراث الشعبي كتراث تقليدي، فان هناك كثيراً من العمليات والآليات والوسائل التي تقوم على التقليد والتكرار والتنميط.
ومن الامثلة الطريفة على ذلك نشير الى نمط الرواة الملتزمين بالنصوص التزاماً صارماً، والى ظاهرة التشكيل بالقوالب (الشابلون).
فبالنسبة للرواة تعرفنا الدراسات بنمط من الرواة الذين يلتزمون بنصوص الروايات التي يحفظونها التزاماً صارماً كل الصرامة، فهناك رواة يحكون الحكاية بنصها نفسه كلمة كلمة كما سمعوها ممن قبلهم، بحيث تستشعر منهم حرصاً بالغاً يصل الى حد تقديس الكلمات، فإذا احس احدهم بانه أخطأ أو التبس عليه الأمر توقف، واعمل ذاكرته، واستعاد السياق، وبدأ يصحح الخطأ ويواصل الحكاية من جديد وهذا الطراز من الرواة هو الذي يذكرنا بجملة هوفمان كراير الشهيرة: "ان الشعب لايبدع جديداً، وانما ينسخ فقط" ونجد وصفاً كلاسيكياً لهذا الطراز من الرواة عند الاخوين يعقوب وفيلهلم جريم في حديثهما عن رواية السيدة فيهمان
viehmann، وهي من الرواة الرئيسيين لمجموعتهما "حكايات الأطفال والبيت"
ومع ذلك استطاعت بعض الدراسات الأوروبية للأدب الشعبي ان تقدم شواهد كثيرة على نمط مبدع من رواة الادب الشعبي ونعني به ذلك الرجل المبدع فعلاً، الذي لا يكتفي ابداً برواية النص الاصلي ولا يعترف بهذه الامانة المطلقة والاخلاص للرواية التي سمعها لاول مرة فيمكن ان يجيبك على طلب رواية حكاية معينة بانها: لم تنضج بعد الى مستوى السرد"، فهو لا يحكي كل قصة سمعها أو اية قصة يسمعها، وانما هو يحرص في كل مرة على ان يضيف اليها، ويحذف منها، ويؤكد على بعض الاحداث دون الاخرى، ويزيد الحوار حرارة في مواضع معينة وهكذا.
فهو يجري في الواقع معالجة كاملة للقصة التي سمعها قبل ان يرويها، بل ان الامر لا يقتصر على ذلك فقط، وانما هو يجدد في الحكاية اضافة وحذفاً وتعديلاً، في كل مرة يرويها فيها، فهو لا يجمد على قالب واحد بالنسبة للحكاية، وانما يعمل معوله فيها باستمرار. وقد كتب أستاذي ماتياس تسندر
zender عن احد الرواة يقول: انه كان يحكى في كل مرة بنص جديد، وانه سجل له الحكاية عدة مرات، يختلف نص كل منها عن الاخرى، اختلافات ليست هينة، ليس في النص أو بعض الكلمات فحسب، وانما في المادة، واختيار "الموتيفات" وربطها ببعضها، وطريقة السرد وهكذا، فهو دائم العمل والابتكار.
ختاما:
من هذا يتضح ان ما أوردناه يؤيد ما ذهب اليه هابرلاندت m.Haberlandt عندما قرر: "ان من اطرف واهم واجبات علم الفولكلور ان ينتبه الى وجود أولئك الأفراد المبدعين الذين يمكن معرفتهم بالاسم في كل مجال من مجالات الثقافة الشعبية الحية بين الناس، وعليه يتحتم علينا ان نعدل بعض الشيء من مفهوم "الثقافة الشعبية الجماعية". ذلك ان الابداع الثقافي الفردي كامن في كل ثقافة جماعية من هذا النوع والفرق بين شعب وآخر هو في عدد وأساليب هذه الشخصيات الايجابية المبدعة".


 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة