المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

على قاعة الاتحاد العام للأدباء والكتاب .. حفل تأبيني في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الفنان كريم جثير
 

علي ياسين - بغداد

اقام اصدقاء الفنان المسرحي الراحل كريم جثير على قاعة الاتحاد العام للأدباء الكتاب في العراق، حفلاً تأبينياً بمناسبة الذكرى السنوية الاولى لرحيله، قدم للحفل الكاتب جمال كريم الذي ابتدأه بالقول:
لم أتفاجأ في تلك الظهيرة الايلولية من عام 1991، حين التقيته في مقهى آزال وسط العاصمة اليمنية صنعاء، فقد الفته منذ سبعينيات القرن الماضي، فناناً، متمرداً ومغامراً جريئاً، متسماً بالبراعة والابداع، ممثلاً ومخرجاً ومؤلفاً وناقداً مسرحياً وكانت هذه البراعة دائماً محملة بدلالات ورموز غالباً، ما تحيل المتلقي الى كل ما هو انساني وجميل ومدهش، بل استفزازي في بعض اعماله، وفي الوقت ذاته اتسم كريم جثير نفسه، بالجنون، جنون المسرح واهدافه الإنسانية النبيلة، وقد لا أضيف جديداً، حين أقول ان تجربته المسرحية استطاعت ان تسجل وببسالة كل ما يتصل بهموم ومعاناة الانسان العراقي من خلال كشفه الجريء لأساليب النظام القمعية والوحشية، وبخاصة مشاهد الحرب الاكثر دماراً وويلات، والتي غالباً، ما كانت تختفي وراء انساق ثقافة العنف والموت والدمار بمغامراته المسرحية، بحثاً عن الاصالة والابداع والتفرد والتجديد، فقد تمرد ولاكثر من مرة على حيز المسرح المألوف والسائد، فوجد نفسه في صميم رسالة المسرح، جاءت معظم أعماله التي اخرجها أو ألفها، معبرة عن الهم العراقي، فلم يبال يوماً برفع صوته المسرحي واطلاق صرخته عالية مدوية في وجه الظلم والقهر، بدءاً من تجربته في مسرح البيت وحتى تجاربه الاخرى في مسرح (المقيل) الذي ارسى دعائمه في اليمن أو تجاربه الاخرى في منفاه الكندي، وصولاً الى عمله الاخير في بغداد (احدب نيونوتردام) وحتى رحيله على مسرح الحياة في أحد ازقة البتاويين.
بعد ذلك تليت كلمة الفنان عبد الوهاب الدايني جاء فيها: وان مات مبكراً، وان الحياة فارقته، وان هو فارق الحياة.. هل هناك من فرق؟.. المهم انك تركت هذه الدنيا، تركتها حسب علمي، وانت لت آسفاً عليها، بل كاره لها.
ان من يقول كريم جثير قد مات، فانا لا أصدقه، إن الذي يترك ارثاً مسرحياً، رغم صغر سنه، فهو ميت..!!
إلا انك، حي بيننا.. في هذا الحفل التكريمي ولا أقول التابيني...
فقدناك يا كريم جسداً، لكنك بين ظهرانينا، حيُّ.. فطوبى لمن يموت وهو حي.. نم.. نم يا كريم.. فمأساة عراقنا مازالت كما هي، بل زادت ، اننا اموات نسير على أرض الوطن، ولا نعلم متى نلحق بك ؟
ثم القى الكاتب رزاق عداي كلمة عن مشاهدية الراحل كريم جثير نقتطف منها:
مشهد (1)
أرى من المستحسن ان نبدأ من النهاية:
رجل مسجى في رابعة النهار، عند قارعة الطريق،
أهو في حلم؟.. ربما.. ترى أيعي فحوى حلمه،
هو يرتدي السواد، أتون تموز في ذروته، والحلم
باقٍ.. حلمه على الاغلب ينصب على هموم مسرحيته القادمة، الرجل في غمرة حلمه يهذي، هو يهذي مذ ولد..
مشهد(2):
عند غسق الليل، تزداد نبرة الهذيان وترتفع حرارة الجسد، عيناه باهتتان، يحرك أصابعه، يمسك الشراشف ويشدها باصابعه المنظر يوحي بانه يحاول ان يقبض على شي ما..
مشهد(3):
لايمكن لمن يرى الرجل في منتصف الليل سوى ان يتيقن تماماً من ان هذا النائم المستيقظ، يجهد نحو الامساك بشريط طويل لحياة تتراوح بين الصعود والنزول، والجنون والتمرد، والعقل والسكينة، والفوضى والشفافية..
المشهد الأخير:
الجسد هامد، وبهذا يستكمل- الكائن الفنان- كريم جثير- مشروعة الكينوني، لينطلق ثانية في طيف طفولي اولي.
كما القى الشاعر حسين القاصد قصيدة من الشعر العمودي، فضلاً عن قصائد من الشعر الشعبي القاها الشاعران حسن الشامي وسعد صاحب.
وقرأ الاعلامي ضياء الاسدي شهادته التي قال فيها:
كريم جثير- الطائر الذي آثر الا ان يحط على شجرة الوطن المكلوم، ليجد ضالته في ان يتنفس الصعداء بين احبائه واقرانه.. لقد ترك كريم جثير شوارع حبلى بالورود وتسكنها السكينة والامان في منافي القسر لسيتبدلها باخرى مفخخة ولا أمان فيها بداً .
كريم جثير رحل قبل اوانه بكثير ليغادر خشبة المسرح الذي احبه حد الثمالة ليدخل خشبة أخرى وهي خشبة التابوت قبل ان يكمل حلمه الكبير في السفر الى اليمن واخراج اعمال كان متفقاً عليها في حديدة اليمن الاثارية.
كريم جثير كان يضحك كثيراً حباً بدفء وطنٍ ادار له ظهرهُ ولم يحفل به وهو الابن البار والمقامر العنيد العتيد الذي أقحم نفسه عنوة في اتون المفخخات الموقوتة لخطف العراقيين على قارعة طرقها الوعرة..
كريم جثير .. ايها الصادق، المبتلى بحب المسرح والحياة..
طوبى لك وانت ترقد قرير العين بين ثنايا وطن منحته الكثير دون مقابل..
كريم جثير ايها الحاضر الغائب، سننسى ولو برهة من الزمن انك قد رحلت ونتذكر فقط انك عدت الى المنفى ولكن هو منفى اللاعودة والوداع!
أخيراً، ومن اليمن، أبرق صديق الراحل الفنان المسرحي اليمني، علي الجنفدي، برقية جاء فيها:
الى أهل الفنان والصديق الرائع الراحل كريم جثير، والى اصدقائه ومحبيه الاوفياء، شكراً لكم جميعاً لاقامتكم هذه الاحتفالية التأبينية عن فقيد المسرح العراقــي واليمني على حد سواء.


الأدب والصحافة .. مقاربات الإبداع
 

ناظم محمد العبيدي
يروي كتاب سيرة الروائي الامريكي "ارنست همنغواي" ان المؤلفة "جرترود شتاين" قدمت له نصيحة، وكان يعمل مراسلاً صحفياً: "اذا بقيت تشتغل في العمل الصحفي فانك لن ترى الأشياء، بل سترى الكلمات فقط، وهذا لن ينفعك اذا كنت تريد ان تكون كاتباً".
تضعنا هذه النصيحة امام حقيقة تناولها الكثير من اهل الادب، وهي ان العمل الصحفي بطبيعته يضر بالاديب ويبعده بطريقة أو باخرى عن مشروعه الابداعي، ويسيء الى فنية كتاباته الادبية، بيد ن هناك اشارة يوردها الروائي الكولومبي "ماركيز" في الكتاب الذي روى سيرته الذاتية "عشت لأروي" وكان قد عمل شطراً من حياته مراسلاً صحفياً كما فعل "همنغواي، يذكر "ماركيز" انه انتبه في مرحلة من حياته الى خطورة التحقيق الصحفي واهميته في توجيه الحقيقة، وكان يتحدث عن حادثة بعينها ، الامر الذي جعله يشعر بقدرة التحقيق الصحفي على التأثير في الرأي العام وعده وجهاً من ضروب الابداع.
فكيف يمكن التوفيق بين هذين الموقفين؟ فهل يضر العمل الصحفي بالأدب كما تقول "شتاين" ؟ ام يمدّه بمادته ويفتح امامه نوافذ الحياة المختلفة كما يقول "ماركيز"؟
الحقيقة ان كلا الرأيين صحيح إذا ما تاملنا وجهتي النظر اللتين ينطلقان منهما، فالعمل الصحفي يقوم على ملاحقة كل ما هو عام وآني، فالبحث عن الاخبار اليومية، وهموم المجتمع المتزايدة تفرض نماطً معيناً من الكتابة، ويصبح المحرر الصحفي مرآة عاكسة لكل ما يجري من حوله، ولايكون هناك مجال للخروج من دوامة الكتابة اليومية الى ما هو شخصي وذاتي واذا كانت الكتابة الادبية تنبثق من الذات وتنشد محنىًً جمالياً بواسطة اللغة والشكل، فان الصحافة تسعى الى الاحاطة بوقائع الحياة السياسية والاجتماعية، فليس المهم في الصحافة ما يراه المحرر من وجهة نظر فنية أو جمالية، بل المهم تقديم المعلومة أو الحدث دون أبطاء، وهنا اشارة الى الايقاع المتراكض للعمل الصحفي فالقارئ اليومي يريد زاده اليومي من المتغيرات المرتقبة وغير معني بتلك التأملات الابداعية التي ربما أخذت من الفنان- لاجتراح ابداعه -
شهوراً أو سنوات كما يحدث لكتاب الرواية مثلاً، ونفهم على ضوء هذا تلك الكلمات للكاتبة الامريكية "شتاين" معنى ان يظل المحرر الصحفي رهين الكلمات ولا ينفتح على الأشياء كما هي في واقع الحياة، لأن الوقت المتاح للمحرر الصحفي وهو يلاحق الاحداث لا يكفي للخروج برؤية شخصية يتطلبها العمل الأدبي، أي اعادة تقديمها وفق الشرائط الفنية، إذ ان الأدب بشكل عام- يعيد تخليق الحقائق الموضوعية ولا يقدمها كما هي في الواقع، وهذه من بديهيات الفن، والاستغراق في الكتابة الصحفية يضيق مساحة اللغة المستخدمة لدى الفنان، لان مجال الكتابة يأخذ طابعاً نمطياً ولا ينفتح على آفاق الخيال مثلما هو الحال مع الكتابة الأدبية، وبوسعنا رصد الصياغات اللغوية لكثير من الصحف وقراءة الاخبار المقدمة فأننا سنجد عبارات جاهزة يستخدمها الجميع، ولكن ماذا عن ملاحظة "ماركيز" حول اهمية التحقيق الصحفي ووجوهه الابداعية؟
لابد من التوقف قليلاً عند هذا النمط من فنون العمل الصحفي، فالتحقيق الصحفي يتميز بجانب أبداعي يلامس أوجه الحياة المختلفة، ويسمح بكتابة ابداعية تحمل وجهة نظر شخصية، ولعل في عزوف الكثير من العاملين في الصحافة عن كتابة التحقيقات ذات اللمسات الابداعية وارتباطها بالاقلام الادبية التي مارست أو سبق لها معالجة الفنون الأدبية ما يؤكد ما نذهب اليه، فالتحقيق يتطلب دراسة ظاهرة ما، أو موضوعة ما والتوقف عند تفاصيلها، ويتضمن وصفاً وربما حواراً وتأملات ذاتية لا تخلو عند المبدعين من الكتاب من سبر للحقائق، ومعالجات ابداعية تقارب أو تكاد توازي ما نجده لدى الأدباء من كتاب القصة أو الرواية.
ولهذا جاءت اشارة "ماركيز الى اهمية التحقيق الصحفي، ويمكن تلخيص ما يتميز به التحقيق كفن صحفي عن بقية فنون الصحافة، أن التحقيق يحاول الكشف عن حقيقة تتعلق بمكان أو حرفة أو أي شيء انساني أو علمي آخر، ولبلوغ ذلك يتطلب جهداً تأملياً ووثائقياً الامر الذي يجعله انجازاً جديراً بالنظر والدراسة، وربما احتفظ بأهمية تاريخية لا تتوفر للكثير من الكتابات الصحفية.


قلعة دزه

صلاح نيازي

كنتُ عاديّاً قبل أن أقرأَ جريدةَ الصباح
بَدَتِ الشوارعُ ممرّات جامدةً في خريطة
حتى المعجزةُ الآنَ متأخرةٌ، تأخّرتْ منذ سنين
لا يأبهُ بها أحد

البارحة أغلقتُ نفسي، قلتُ ما جدوى المعجزةِ الآن
ونِمتُ كأنّي مرميّ في هوّةٍ سحيقة
كنتُ عاديّاً قبل أن أجلسَ في المقهى وأقرأَ الجريدة
لم يكنْ للشاي طعمُ الأهلِ البعيدين هذا الصباح
ولا للخبزِ ليونةُ الحقلِ ودفءُ الأيادي المتحابّة
لِمَ بدتْ حتّى الأشجار متعبةً من الوقوف؟
ووجوهُ الأطفال متعسّرة
كأنّها تستذكر درساً يُفلِتُ من الذاكرة؟
حوارُ المارّةِ مقتضبٌ كالتعزية

حتّى الإشاعةُ فقدتْ جذوتَها وما في طرافتِها لسعة
رحمتَنا الوحيدةَ كانت. بشرى من نوعٍ ما
الإشاعة بشرى لأنّها الشئ الجديد في حياتنا
تشابهت الإشاعةُ والإشاعة، وأيّامنا تتشابه
في المجتمع المدحور تتشابهُ الأشياء
أقتلُ ما يقتلُ التشابه، يجعل حتى الحركةَ ركوداً
مثل أمواج ماءٍ آسن. الإشاعات تتشابهُ وكذلك الأيام
أغلقتُ نفسي قلتُ ما جدوى المعجزةِ الآن؟

نصفُ طفلِكَ بيدك
ونصفهُ الآخرُ بين فكّيْ وحش
ما الذي تفعلُه؟ تأخّرتِ المعجزةُ الآن.

رشّ بابي الصباحُ، كماءٍ في نباتٍ يابسٍ
كنتُ عاديّاً قبلَ أن أقرأَ جريدةَ الصباح

لا أعرفُ أينَ تقعُ قلعةُ دِزَهْ
لمْ أرَ شخصاً واحداً من قلعة دِزَهْ من قبل
لِمَ سُمّيتْ قلعة؟
لا بدّ أنّ تأريخَها منغّص بالحروب
تقول الجريدة آلافُ الآدميين بثياب النوم
يُجَرّون من الأبواب من شعر الرؤوس
يُلطمون على الأسنان بأعقاب البنادق

قال لي شاهد عيان هاربٌ توّاً:
كنتُ مثلَ أعمىً مهدّدٍ بالاغتيال
يركضُ في كلّ آتجاه وأُذُناه في دردور
كيفَ تُواسي أعمىً مهدّداً بالآغتيال؟

آتخذ الجنودُ مواضعَ الرمي بالذخيرةِ الحيّة
عينٌ مغلقةٌ، وعينٌ محشوّةٌ بالرصاص
سدّوا الطرقات، كالأسلاك الشائكة
آلاف الآدميين بثياب النوم
داخلَ اللوريّات الخاكية
مائةٌ وثلاثون ألفَ صراخ محصور
ممنوع عليها الأكلُ والشربُ والمراحيض
كمْ طفلٍ بال على نفسه من الخوف الآن
كمْ عجوز تهدّلتْ رقبتها إلى الأبد؟

اشتعلتْ الصافرات، وراديوات اللاسلكي
مؤخرات اللوريات تهدرُ وتهتزُّ كمياهٍ بركانية
الخوذ الفولاذية مشدودة في الأحناك

عينٌ مغلقةٌ، وعينٌ محشوّةٌ بالرصاص
ثمََّ لمْ تنجُ سبّورةُ أو دميةُ في قلعة دِزَهْ

ما الذي قالته البيوتُ للعبْواتِ الناسفة؟
ما الذي قالتهُ المدرسةُ للمدفع؟
ما الذي قالته المئذنة لصاروخ أرض
أرض؟
ما الذي قالته الأرجوحةُ لقائد العمليّات العسكريّة؟
لماذا لا تنْزعُ الجبالُ صخورَها وتحارب؟
تسدُّ الطرقاتِ في الأقلّ
ما الذي تنتظرهُ القيامةُ إذنْ؟

الدرّاجاتُ الناريّةُ في مقدّمةِ اللوريات الجرّارة
تقودُ قلعةَ دِزَهْ برمّتها.

9-4-1989
لندن


اصدارات عراقية
 

ديوان جديد
لي الالم.. لك الامل
والعواصف للجميع

عن سلسلة الكتب المترجمة، صدرت للشاعر عبد اللطيف بندر اوغلو، مطوّلة شعرية تتألف من (1552) بيتاً شعرياً، ترجمة وتقديم هاني صاحب.
وفي مقدمته، يتحدث المترجم عن دور الادب التركماني في العراق ونماذجه المتميزة في الملاحم والاساطير والحكايات والشعر بمختلف مدارسه ومذاهبه.
وقد برزت ثمة اقلام كثيرة اشتهرت في ميادين الثقافة والادب المعاصر في العراق وبرغم ان دراستهم في المدارس لم تكن بلغة الام، الا انهم ظلوا محافظين على تراثهم ولغتهم وادبهم وواصلوا العطاء في حقول الادب المختلفة واصدروا الصحف والمجلات والكتب باللغة التركمانية، منذ اوائل القرن العشرين حتى الوقت الحالي.
ويعد الشاعر د. عبد اللطيف بندر اوغلو، احد ابرز الشخصيات الثقافية على المستوين المحلي والعالمي، حيث عمل مديراً للثقافة التركمانية ورئيس تحرير جريدة يور- الوطن التركمانية أكثر من ربع قرن ومنح للثقافة التركمانية زخماً ونشاطاً كبيرين، وللشاعر حوالي خمسين مؤلفاً في مختلف حقول الادب واللغة والتراث والتاريخ الادبي وللشعر منه عشرون مجموعة شعرية، خلال نصف قرن من العطاء، وقد منحته جامعة باكو شهادة الدكتوراه الفخرية تقديراً لخدماته للثقافتين التركمانية والاذربيجانية واختير عضوا في اكاديمية العلوم الاذربيجانية الوطنية.
ويقول المترجم، ان المطولة الشعرية التي تحمل عنوان "الالم لي.. لك الامل والعواصف للجميع" يعتبر عملاً شعرياً فريداً وابداعياً وينطوي على مغامرة سياسية، حيث كتبها الشاعر في السنة الاخيرة من الحرب العراقية الإيرانية، في ظروف لم تكن تسمح بهذا النوع من الشعر السياسي، وقد استطاع الشاعر فيها توظيف الرموز العامة والتاريخية والشخصية للتعبير عما يدور في ذهنه ليجسد من خلالها تجربة حياتية وفكرية متشعبة متنوعة محاولاً تأسيس عالم شعري تمتزج في اجوائه احلام الشاعر مع المعطيات القاسية للواقع، فضلاً عن توظيف الرباعيات التراثية التركمانية الشعبية العريقة المسماة "الخويرات" وكذلك استخدام الاشكال الشعرية ذات القوالب الكلاسيكية الثابتة.
مقتطفات من المطوّلة الشعرية
لي الالم، لكِ الامل والعواصف للجميع:

يمر زمن آخر، يغير التاريخ صفحة من صفحاته
يولد حب في قلب العالم
يكشف ربيع الزمن البعيد
عن ورود الخزامى المدفونة في الثرى
لي الالم.. لكِ الامل والعواصف للجميع
لنا الدماء المراقة
والقلوب الخافقة ونبض الشرايين
لنا الصواعق التي تدمر الدهاليز
لنا البراكين الثائرة والاطفال الجياع
المعلقة عيونهم في الامال
لنا الطيور التي تصدح وقت الشروق
وكل الشموع التي توقد في الاضرحة


مجلات عراقية

الثقافة الجديدة
عدد جديد

العدد (318) الصادر حديثاً من مجلة (الثقافة الجديدة) التي تأسست سنة 1953 احتوى على الكثير من الموضوعات والبحوث التي تهم المثقف العراقي اضافة الى ملحق العدد (ادب وفن).
من موضوعات وبحوث العدد افتتاحية العدد (كي لا يدوم الخراب ويتبدد الامل) التي دعت الى تأسيس منظومة قيم ثقافية تروج للسلام والتسامح وحرية الرأي وترتكز على مبادئ المواطنة والمسؤولية وتحترم التعددية والتنوع القومي والديني والمذهبي.
وكان البحث الأول في العدد بقلم د. صالح ياسر وقد حمل عدة عنوانات ابرزها "ملاحظات اولية حول الموازنة الفدرالية للعراق لعام 2006"، وكان من بحوث العدد الاخرى دراسة د. عدنان عاكف (انشتاين والاشتراكية) ود. سامي خالد (المواطنة الديمقراطية) واسماء جميل رشيد عن (المراة العراقية بعد ثلاث سنوات من التغيير) ولطفي حاتم عن (الاحتلال الامريكي للعراق وانهيار بنية الخطاب الوطني الديمقراطية) وقد كتب الدكتوران عامر حسن فياض وعلي عباس مراد بحثاً مشتركاً عن (اشكالية السلطة في الفعل السياسي العربي الاسلامي) فيما كتب د. كاظم المقدادي (بعض امراض واسباب وفيات الأطفال العراقيين في المهجر) وعصام غيدان وناياب الدباغ بحثاً مشتركاً عن (حالة البيئة والتراث المعماري في العراق) قام بتعريبه كامل شياع، فيما عرض د. هاشم نعمة كتاب الباحثة الامريكية كارن ريما نيمت عن (الحياة اليومية في بلاد ما بين النهرين قديماً) الصادر في لندن حديثاً، فيما احتوى ملحق (ادب وفن) على دراسات متعددة لجميل الشبيبي وسليم الجزائري وصلاح الحمداني واسعد اللامي وغيرهم ونشر الملحق قصيدتين لاحمد هاشم وحسن البياتي.


الفريد هتشكوك ..سينمائي الرعب الممتع

الفريد نمشك
ترجمة / قاسم مطر التميمي

كتب احد الادباء الى المخرج الفريد هتشكوك قائلاً: (لقد احجمت ابنتي عن ان تستخدم مغطس الحمام (البانيو) بعد ان رأت في تمثيلية هنري- جورج كلوزوت رجلا ميتا في المغطس.
ومنذ ان رأت في فيلمكم (سايكو) رجلا يقتل تحت (دوش) الحمام امتنعت عن استخدام الدوش. ماذا اصنع الان؟) ورد عليه هتشكوك قائلاً:
(أرسل الفتاة الى التنظيف!).
وسواء كانت هذه الحكاية صحيحة ام مختلقة فان هتشكوك يطيب له ان يرددها في كل سانحة فهي تنسجم تماماً مع الصورة المفضلة للساخر الكبير التي تعد جثثه السينمائية افضل مادة دعائية تساعد على بيع افلامه. لقد صنع ثلاثة وخمسين فلماً طيلة خمسين سنة في عالم السينما بلغت مردوداتها أكثر من مائتي مليون دولار، جعلت من المخرج البريطاني الكاثوليكي رجلاً ثرياً.
ومدير مؤسسته الانتاجية التي صنعت (350) عرضاً تلفزيونياً يحصل وحده على مرتب سنوي مقداره ربع مليون دولار.
الرجل الاصلع البدين البطين صاحب اللغد المترهل يمتطي سلحفاة ويتنقل فوق عربة اطفال ويحمل رأسه (مصنوع من الشمع) تحت ذراعه. ويصور نفسه بحبل المشنقة ويظهر من ربطة عنقه، ويضع غراباً فوق السيجار الذي يدخنه، كل هذا من اجل هدف جيد، كل هذا من اجل الدعاية، ام ان كل هذا من اجل التمويه؟.
كلما لاقت السلعة التجارية لالفريد هتشكوك رواجاً، وكلما اصبحنا -نحن جمهوره
أكثر انقيادا أو تقبلاً لحالات القتل والموت من اجل حفنة من النقود، تهرب الفنان منا. وسواء كان ذلك في فيلم (سايكو) أو (الطيور)، (مارني) أو (قبر الاسرة) أو (من مملكة الموتى) فهو يلعب بمخاوفنا ويعمل من خلال السينما والتلفزيون ما يريد ولم يقل لنا أبداً، من هو؟! يقول كاتب سيرته (جون رسل تايلر): (الكل يعرف الفريد هتشكوك ولا احد يعرفه انه أكثر الناس رقة ودماثة خلق، أكثر من أي انسان آخر عرفته).
رجل خجول وخواف مثل اغلب الذين يشاهدون افلامه. وهتشكوك يخشى- حسب اعترافه- الأطفال والشرطة والاماكن العالية ويخشى تصوره ان فيلمه القادم لن يكون جيداً كفيلمه الاخير، رجل نفور يأوي الى فراشه في التاسعة مساء، لا يقابل احداً بعد هذا الوقت يحجم عن مقابلة العاملين في الفيلم وهو غير معروف في منطقة سكناه في (بل أير- لوس انجلس) وما ينقصه يعوضه من خلال قراءته المذكرات والسير ومشاهداته اللوحات الثمينة. فطالب الفن السابق الذي ذهب الى مكتب الدعاية التجارية في لندن سنة 1922 ليشغل وظيفة خطاط في صناعة الأفلام الصامتة يومذاك، يجمع رسوماً كاريكاتيرية من ذلك العهد ولوحات فنية.
زوجته (ألما) (الشخص الوحيد في العالم الذي يخاف هتشكوك خيفة حقيقية) كما يقول تايلر. فقبل ان يتزوجها سنة 1926 اضطرها الى اعتناق الكاثوليكية وامضى معها شهر العسل في (سانت موريس) وكلما حلت اعياد الميلاد يذهبان معا الى ذلك المكان.
والبنت الوحيدة لهتشكوك تدعى (بات)
pat وهي ممثلة. وقد لعبت ادواراً جانبية في بعض افلام ابيها. أكثر من هذا لم يقل هتشكوك شيئاً. واكثر من هذا ايضاً لم يكتب (تايلر)- كاتب سيرته- شيئاً.
اشارة طيبة. فباستثناء (بونويل)
Bunuel و (فلليني) Fellini و(بيرجمان) Bergman وربما (ميشيل انجلو انطونيوني) Michel Angelo Antonini لم يعش مخرج فيلمه في وسطه الفني- شخصياً وفنياً وتجارياً- معانداً الى هذا الحد مثل الفريد هتشكوك. وهو رجل جدي في العمل وصارم لا يكاد يماثله احد. والممثلون- النجوم الكبار من جوان فونتين الى جريس كيلي، ومن بيتر لور الى جيري جرانت- ليسوا سوى (خراف) في مخططات كتب السيناريو المنقحة تنقيحاً دقيقاً: يكره التوتر امام الكاميرا، لانه خطر على (التشويق)- السلاح السري لهتشكوك ضد تأثير المفاجأة المبالغ جداً في استحسانه.
المفاجأة عند هتشكوك: ثلاثة رجال في مكان، مخبأة فيه قنبلة. الرجال لا يعلمون شيئاً عنها ولا يعلم عنها الجمهور. الرجال يتحدثون عن الطقس، والقنبلة تنفجر- وماذا بعد؟ وعلى العكس من ذلك التوتر: الجمهور يعلم بوجود القنبلة، والرجال المتواجدون في المكان لا يعلمون شيئاً. وما زالوا يتحدثون عن الطقس. يريدون الخروج. يصلهم نداء في اثناء ذلك، دقيقة ويحصل الانفجار- الجمهور يستبد به الحماس ويذهب الرجال في النهاية- انفجار.
الانفعالات توجه من خلال حركة الكاميرا والازياء والحوار والرسوم المظللة وتعابير الوجه والموسيقى، المضمون يشتبك مع الشكل:
كل حالة يجب ان تكون واضحة كالبلور (كما يقول هتشكوك)
لا احد سواه جمع بين السرد القصصي والتفوق في صناعة الفيلم التجريبي ورداً على سؤال وجه اليه، لماذا تباطأ في انجاز سيناريو فيلمه الاخير (مقبرة الاسرة)، قال: (لقد امضينا معظم الوقت نفكر في كيفية استبعاد القوالب الجاهزة وقد فتش طيلة خمس عشرة سنة عن تحول بصري لمفهوم (رهاب المرتفعات) AKrophobie، حتى عثر لفلمه (من مملكة الموتى) على حل تقني: تقدم الكاميرا للامام ورجوعها للخلف في وقت واحد.
في مثل هذه التفاصيل يكمن بالتأكيد سر نجاح هتشكوك، الذي يعتمد ايضاً على المضمون: الشك العميق بمواجهة العدالة الدنيوية يستغرق العمل كله، يظهر فيه الشرطي غبياً دائماً والقاضي خبيثاً دائماً. التعلق الخطر بالام كما في (مارني) و(سايكو) والطيور). وحسد المراهقة كما في (فوق سطوح نيزا) والرموز الدينية (الرجل الخطأ) والهاجس الجنسي يعمق التشويق والترقب. في (مارني) شون كونري تواق الى حب السرقة.
واضافة الى ذلك قال هتشكوك: (اني بحاجة الى نساء، الى نساء حقيقيات يتحولن فيما بعد الى نساء غريبات الاطوار، في غرفة النوم) وغالباً ما تحوم التهمة في افلام هتشكوك حول بريء. حتى ان ناقد اعماله (فرانس تروفو)
Francois Truffaut قال: (كل افلامه تتحدث عن قصص مشابهة).
وهتشكوك الذي اشتهر بافلام الرعب الخالية من العنف، جاء من بعده مخرجون اغرقوا الشاشة بالدماء، من امثال (بريان دي بالما) في فيلم
Carrie و (جون كاربنتر) في فيلم Halloween و(جورج روميرو) في فيلمه Zombie.


قصة قصيرة: ابن الناس

جلال آل احـمــد

وما كان بمقدوري أن أفعل ؟ لم يكن زوجي مستعداً أن يُبقي عليّ مع طفلي. لم يكن الطفل طفله. كان لزوجي السابق الذي طلقني. ولم يكن مستعداً لأخذ الطفل معه. ماذا كانت ستفعل أية امرأة غيري لو كانت مكاني ؟ كان عليّ أن أعيش. ماذا سأفعل لو طلقني زوجي هذا ايضاً ؟ كنت مرغمة على التخلّص من هذا الطفل بشكل من الاشكال. امرأة لاتعي شيئاً مثلي ماذا بوسعها أن تفعل سوى هذا. لم اكن أعرف مكاناً ولا أرى امامي حلاً أو طريقاً للخلاص. لم اكن أجهل كل شيء طبعاً, أدري أن بالإمكان أن أضع الطفل في دار حضانة أو خربة اخرى. ولكن من أين لي ان اتوقع انهم سيقبلون طفلي ؟ وكيف لي أن اطمئن على انهم لن يؤخروني ولن يريقوا ماء وجهي ولن يصموني وابني بألف وصمة ووصمة؟ من أين لي كل هذا ؟ لم اكن ارغب ان تنتهي القضية بهذا الشكل. عصر ذلك اليوم بعدما انهيت الأمر وعدت الى البيت, واخبرت والدتي وباقي الجيران بما فعلت, قالت احداهن : (يا امرأة, كنت تستطيعين أن تضعي طفلك في دار حضانة, أو تأخذيه الى دار ايتام و ...) و لا أدري أية اماكن اخرى ذكرتها. لكن أمي قالت لها : (وتظنين انهم سيقبلونه هه) مع اني كنت قد فكرت في هذا, ولكن حينما قالت تلك المرأة قولتها هبط قلبي بألم وقلت لنفسي : (يا امرأة, وهل ذهبتِ به الى هناك ورفضوك) ثم قلت لوالدتي : (ليتني كنت قد فعلت هذا) ولكنني لم اكن اعرف شيئاً, ولست واثقة من انهم سيقبلونني. ثم أن الأمر قد فات. كأنّ كلام تلك المرأة أمطر قلبي بالأسى والغم. تذكرت كل حلاوة كلام طفلي. لم استطع صبراً واجهشت ببكاء شديد امام كل الجيران. وما اسوأ هذا ! سمعت احداهن تتمتم (وتبكي ايضاً, عديمة الحياء ...) انقذتني أمي مرةً اخرى وروّحت عنّي. وكانت على حق. كنتُ في اول شبابي فلم احزن كل هذا الحزن على طفل ؟ خصوصاً ان زوجي لا يقبلني معه. امامي متسع كبير من الوقت لاحبل وألد ثم أحبل وألد. صحيح انه كان طفلي البكر وما كان عليّ أن أفعل الذي فعلته, ولكن فات الآن كل شيء. و ما عاد في التفكير فائدة. لم اكن قاسيةً الى درجة أن أفعل هذا من نفسي. زوجي هو الذي أصر. وكان على حق, يقول أنه لايريد أن يرى فضلات فحل حمار آخر على مائدته. أنا نفسي حينما أحكّم انصافي اعطيه الحق. هل كنتُ مستعدة أن أحب اطفال زوجي مثل اطفالي ؟ ولا أراهم عالة على حياتي؟ ولا اعتبرهم زائدين على مائدة زوجي ؟ هو أيضاً يفكر هكذا. هو ايضاً من حقه أن لا يستطيع رؤية ابني, وليس ابني بل ابن فحل حمار آخر ــ كما يقول ــ على مائدته. في اليومين اللذين انقضيا على مجيئي الى بيته لم يكن لنا كلام سوى هذا الطفل. تحدثنا كثيراً في الليلة الاخيرة. ولم نتحدث طبعاً, بل تحدث هو عن الطفل واستمعت أنا. وقلت له اخيراً : (حسناً, ماذا افعل؟) لم يقل شيئاً. فكّر قليلاً ثم قال : (لا ادري ما تفعلين, أفعلي كل ما ترينه صحيحاً. أنا لا اريد أن ارى فضلات فحل حمار آخر على مائدتي). لم يضع حلاً أمامي, ولم يأت ليلتها بجانبي, كان زعلاناً مني كما يبدو. كانت الليلة الثالثة من ليالي عيشنا المشترك. لكنه زعل مني. كنتُ ادري انه يريد أن يغيظني لأنهي أمر الطفل بسرعة. وفي الصباح حينما خرج من البيت قال (اذا عُدتُ ظهراً لا أريد أن أرى الطفل) وهكذا فهمت ما يجب علي فعله. والآن كلما فكّرت لا افهم كيف استطعت ان أفعل الذي فعلته ؟! لكن الأمر كان قد خرج من يدي. ألقيت شادر صلاتي على رأسي واخذت يد طفلي وخرجت من البيت بعدما خرج زوجي ... كان لطفلي ثلاث سنوات. يستطيع أن يمشي بلا مساعدة. السيئ هو أنني بذلتُ ثلاث سنوات من عمري لأجله. كان هذا أتعس ما في الأمر. انتهت كل مشكلاته وكل ما يحتاجه من سهر ومعاناة وتعب و هاهي أول الراحة معه. لكنني كنت مضطرةً لفعلتي. مشيت معه الى موقف السيارات. كنتُ قد ألبسته حذاءه وملابسه الجيدة. سترة وبنطلون زرقاوان صغيران كان قد اشتراهما له زوجي السابق قبل فترة. قلت لنفسي حينما كنت ألبسه ثيابه:( يا امرأة, ولماذا تلبسينه ملابسه الجديدة؟) لكن قلبي لم يطاوعني. وماذا سأفعل بملابسه الجديدة ؟ اللعنة على زوجي, عليه اذا ولدتُ له اطفالاً أن يشتري لهم ثياباً جديدة. ألبسته ثيابه ومشطت شعره, اصبح جميلاً جداً. امسكت بيده ولففت بيدي الاخرى شادري حول خصري ورحت اتمشى على مهل. لم تكن هناك حاجة لأن أسبه وأشتمه كل دقيقة حتى يسرع في المشي. في المرة الاخيرة التي امسكت فيها بيده واخذته خارج البيت طلب مني في مكانين أو ثلاثة أن اشتري له (قاقا). قلت له : ( لنصعد السيارة اولاً ثم اشتري لك قاقا). أتذكر أنه كان يومها يكثر من الاسئلة كعادته. كان هنالك حصان حبست يده داخل ساقية الماء طرف الشارع واجتمع الناس حوله. ألحّ علي أن احمله حتى يرى ما الخبر. حملته فرأى الحصان قد جرحت يده وسال منها الدم. حينما وضعته أرضاً قال (أمّو, يدّو صارت أوخ) قلت له (نعم حبيبي لم يسمع كلام أمّه, فصار أوخ). تمشيت على مهلي حتى موقف السيارات. كان الوقت لايزال مبكراً والسيارات مزدحمة, بقيت حوالي نصف ساعة في الموقف الى ان صعدنا السيارة. الطفل كان يتململ دائماً وأنا أكاد أتعب, ضايقني جداً بأسئلته. قال مرتين أو ثلاثاً : ( هاها أمّو, لم تأتو ثيّارة. هيّا اشتلي لي قاقا) فقلت له مرة اخرى انها ستأتي الآن. واذا جاءت السيارة فسأشتري لك قاقا. وأخيراً صعدت الباص رقم (7) وبقي الطفل يتكلم ويسأل الى أن نزلنا في ساحة الشاه. أتذكر انه سألني مرة (أمّو, أين نذهب؟) لا أدري لماذا قلت له بسرعة (نذهب الى بابا). نظر الطفل لوجهي قليلاً ثم سأل : (أمّو, أيّ بابا؟) فاض الكيل بي فقلت له : (كم تتكلم, لن اشتري لك قاقا اذا تكلمت) وكم يعتصرني الألم الآن لردي عليه هكذا. هذه الأمور تقطّع نياط القلب اكثر. لماذا حطمت قلب صغيري في تلك الساعة الاخيرة هكذا ؟ حينما خرجنا من البيت عاهدت نفسي أن لا أغضب ابداً ولا اضربه ولا أسبه, وأعامله بمحبة. ولكن كم يعتصرني الألم الآن ! لِمَ اسكتُّهُ بتلك الطريقة سكت الطفل بعدها ولم يقل شيئاً. وظل ينظر ويضحك لمساعد السائق الذي راح يغيّر له شكله ويسلّيه. لكنني لم أبالِِ له ولا لطفلي الذي كان ينظر إلي بين الحين والآخر. قلت للسائق ان يقف في ساحة الشاه. وحينما نزلنا كان طفلي لايزال يضحك. كانت الساحة مزدحمة والباصات كثيرة, وانا لا ازال خائفة من فعل ما أريد. تمشيت بعض الوقت. ربما نصف ساعة. قل عدد الباصات. جئت الى جانب من جوانب الساحة اخرجت عشرة شاهيات واعطيتها لطفلي. ظل حائراً ينظر إلي. لم يكن قد تعلم اخذ النقود بعد. لم اكن ادري كيف أفهمه. في الطرف الآخر من الشارع بائع حب ومكرزات ينادي. اشرت اليه باصبعي وقلت : (خذ, اذهب واشتر قاقا. أرني هل تعرف شراء القاقا بنفسك) نظر الطفل الى النقود ثم إليّ وقال (أمّو, تآلي أنت معي) قلت له (لا أنا واقفة هنا أراقبك. اذهب لأرى هل تعرف كيف تشتري؟) نظر مرة اخرى الى النقود. كأنه كان حائراً, ولايدري كيف يجب أن يشتري شيئاً. لم اعلمه هذا من قبل. ظل محدّقاً فيّ. يا لها من نظرة ! نظر مرة اخرى الى النقود. كأنه كان حائراً, ولايدري كيف يجب أن يشتري شيئاً. لم اعلمه هذا من قبل. ظل محدّقاً فيّ. يا لها من نظرة ! انقبض قلبي في تلك اللحظة واستاءت حالتي. استاءت حالتي جداً. كدت أتراجع عن فعلتي. بعد ذلك حينما ذهب طفلي وهربت والى الآن, وحتى عصر ذلك اليوم حينما انفجرت باكية امام الجيران, لم ينقبض قلبي هكذا ولم تتردَّ حالتي الى‌ هذه الدرجة. كادت طاقتي تنفد. يالها من نظرة عجيبة ! ظل طفلي حائراً وكأنه لايزال يريد أن يسألني شيئاً. لا ادري كيف سيطرت على نفسي. اشرت عليه الى بائع البذر مرة اخرى وقلت: (اذهب يا حبيبي, اعطه هذه النقود, وقل له اعطني بذراً, هذا فقط, اذهب بارك الله) نظر طفلي لبائع البذور, ثم قال كما يقول حينما يتململ ويتنحس : (أمّو, لا أليدُ بدلاً, أليدُ تبيباً) ها قد هبطت المسكنة على‌ رأسي من كل صوب, لو تأخر لحظات اخرى, ولو كان قد بكى قليلاً, لتراجعت يقيناً. لكنه لم يبكِ. تملكني الغضب, وطفح بي الكيل. صرخت فيه (عنده زبيب ايضاً اذهب واشتر ما شئت, هيا اذهب). ثم حملته لاعبر به ساقية الشارع واضعه على الاسفلت وسط الشارع. وضعت يدي على ظهره ودفعته الى الامام بهدوء وقلت (هيا اذهب, سنتأخر) كان الشارع فارغاً, لم يكن فيه باص أو عربة تسحق طفلي. تقدم خطوتين أو ثلاثاً و قال : (أمّو, عندو تبيب ؟) قلت له ( نعم يا حبيبي, قل له اعطني زبيباً بعشرة شاهيات). وذهب. وصل الى وسط الشارع واذا بسيارة يتعالى بوقها فارتعدت من الفزع. رميت بنفسي وسط الشارع من دون أن أفهم ما الذي أفعله, احتضنت طفلي واسرعت به الى الرصيف واختبأت وسط الناس. كنت أتصبب عرقاً وألتقف انفاسي بصعوبة. قال الطفل (أمّو, مادا تال ؟) قلتُ له : (لا شيء يا حبيبي. يجب أن تعبر الشارع بسرعة. وأنت كنت تعبره ببطء, كادت السيارة تسحقك) كدت أجهش بالبكاء وأنا اقول هذا. قال وهو لا يزال في احضاني (حسناً أمّو خلّيني على الأرت, ألوح هذه الملّة) لو لم يتفوّه بهذه الكلمات ربما كنتُ قد نسيت لماذا جئتُ به الى هنا. لكن كلامه دفعني الى الصلافة مرة اخرى. لم أكن قد مسحت دموعي بعد حينما تذكرت الشيء الذي جئت من أجله. وتذكرت زوجي وغضبه. قبّلت طفلي. كانت آخر قبلة اطبعها على خدّه. قبلته ووضعته على‌ الارض وهمستُ في أذنه : (اركض بسرعة, ستأتي السيارة). كان الشارع خالياً ايضاً, وقد أسرع طفلي في المشي. كان يقطع خطواته بسرعة وخفت مرتين أو ثلاثاً من أن تلتوي أرجله ببعضها ويسقط أرضاً. حينما وصل الى تلك الجهة من الشارع عاد ونظر إلي. كنتُ قد جمعت اطراف شادري تحت ابطي وتهيأت للفرار. ولكن ما أن استدار ونظر إلي حتى تجمدت في مكاني. صحيح أني لم أكن ارغب أن يفهم أنني أريد الهرب, لكنني لم أتجمد في مكاني لهذا. كنت أشبه بسارق ألقوا عليه القبض. تخشبت في مكاني وبقيت يداي تحت ابطيّ. بالضبط كتلك المرة التي مددت فيها يدي الى‌ جيب زوجي ـ أعني زوجي السابق ـ ورآني على حين غرة. تسمّرت مثل تلك المرة. تصببت عرقاً مرة اخرى. نكّست رأسي أرضاً وحينما رفعته بألف ألف مشقة كان طفلي قد سار ثانيةً ولم يبق شيء لوصوله الى بائع الحب. كانت مهمتي قد انتهت. وصل طفلي سالماً الى الجهة الاخرى من الشارع. ومنذ تلك اللحظة كأنما لم يكن لي طفل. آخر مرة نظرت فيها إليه كنت كمن ينظر الى ابن الناس. نظرت اليه كأنه ابن الناس وهو بكامل حيويته وبهجته. واستمتعت برؤيته تماماً كما استمتع برؤية ابناء الآخرين. دسستُ نفسي بسرعة وسط جموع الماشين على الرصيف. وانتابني الرعب فجأة. كادت اقدامي تتحجرّ وأتجمد في مكاني خوفاً من أن يكون احدهم قد راقبني طوال هذه المدة. انتصب كل شعر جسدي لهذا الهاجس فاسرعت في المشي. بعد زقاقين أردت أن انعطف في أحد الازقة وأهرب. وصلتُ بصعوبة الى‌ رأس الزقاق واذا بسيارة أجرة تتوقف ورائي في الشارع. كأنما سيلقون القبض عليّ الآن. تسربت الرعشة الى داخل عظامي. تخيلت أن شرطي التقاطع راقبني وقفز في التاكسي ونزل الآن يتعقبني وسيقبض عليّ الآن. لا أدري كيف عدت ونظرت ورائي, فعاودني شيء من الاطمئنان. ركاب التاكسي دفعوا اجرتهم وانصرفوا. تنفست الصعداء وخطرت ببالي فكرة اخرى. من دون أن افهم شيئاً أو انظر الى مكان ما, قفزت داخل التاكسي واغلقت الباب بقوة, تململ السائق وانطلق. بقي طرف شادري في الباب. حينما ابتعدنا وشعرت بالاطمئنان أكثر فتحت الباب بهدوء, اخرجت شادري منها واغلقتها ثانية. اتكأتُ على الكرسي وتنفست بعمق. ومساءً لم استطع أن انتزع من زوجي أجرة التاكسي.

________________
عن مجلة شيراز


في الذكرى (207) لميلاده..بوشكين في عيون معاصريه

ايكاترينا بافلوفا

ترجمة/ عادل العامل

"عندما يسمع الواحد منا اسم بوشكين، يتبادر الى ذهنه على الفور تعبير (شاعرنا القومي).. وهو، في الواقع، لقب يستحقه عن جدارة، فلم تنتشر شهرة لاحد ابدا اسرع من هذا.. ان هناك شيئا ما يكهرب في اسمه بالذات" هذا ما كتبه غوغول في مقالة له بعنوان (كلمات قليلة حول بوشكين) نشرت في كانون الثاني 1835.
فمتى برزت شهرة بوشكين يا ترى؟
كان اول إقرار بموهبته الشعرية يوم 8 كانون الثاني 1815، خلال اختبار اجري في الليسيه، حين القى قصيدته (ذكريات في تسارسكوي سيلو) وأفرده الشاعر الجليل (برشافين).
وتعود اول صورة شخصية لبوشكين الشاعر الى الفترة نفسها، وقد رسمها على اكثر احتمال، مدرس الرسم في الليسيه، سيرجي تشيريكوف. وفي هذه الصورة، المنفذة بألوان باستيلية لطيفة، نرى الى شاب حالم يحمل محياه سمات النبل.
وهكذا رآه ايضا فاسيلي شوكوفسكي، شاعر من الجيل الاقدم، الذي كتب في أيلول 1815 قائلاً: "كنت مسرورا لتعرفي على شغيلنا الاعجوبة الشاب، بوشكين، لقد زرته لفترة قصيرة في تسارسكوي سيلو، اية روح تتدفق بالحياة هو! انه أمل ادبنا... وعلينا كلنا ان نشارك في تقييم هذا العملاق القادم الذي سيبزنا جميعا".
وقد وصف بوشكين نفسه في قصيدة كتبها في فرنسا آنذاك، بقوله:
لست، في القامة، من بين
الاطول،
بشرتي نضرة،
وشعري بني خفيف ومجعد.
إنني عفريت حقيقي،
جاهز دائماً، للاذى،
انني قرد حقيقي
فيما يتعلق بوجهي
طائش، طائش للغاية-
أجل، ذلك هو بوشكين.
كانت اول صورة لبوشكين يراها القراء هي تلك التي حفرها ايغور غيتمان على لوح نحاسي الصورة المواجهة لقصيدة (السجين القوقازي). وقد صدر الكتاب في نهاية آب 1822 بالملاحظة الختامية التالية: "لقد الحق الناشرون بالكتاب صورة شخصية للمؤلف في شبابه، وهم يعتقدون بأنه سيكون من الممتع الاحتفاظ بملامح شباب الشاعر الذي تتميز اعماله الاولى بموهبة استثنائية". استفيد من الصورة الشخصية الباستيلية لعام 1815 المذكورة انفا كاصل للصورة المحفورة، ذلك لان بوشكين كان منفيا في كيشينيف آنذاك.
ويقدم الشاعر البلغ من العمر 23 عاما الى القراء، هنا كشاب ذي ملامح رجل افريقي، وفي وضعية بايرونية وهي صورة ليست مطابقة لمظهره الحقيقي، الا انها رسخت في التاريخ، وانطبعت في ذاكرة اجيال عديدة.
ومن المحتمل ان بوشكين لم يكن مهتما بالظهور كـ(بايرون روسي) امام القراء، وكان يحلم بصورة اخرى، اكثر اتفاقا مع روح شعره، فقبل اربع سنوات من ذلك، كان قد رسم صورته الشخصية الخاصة كنموذج اصلي لصورة كيليشيه في طبعة لقصائده التي كان يجري اعدادها آنذاك، الا انها لم تصدر ابدا، وتلك هي الكيفية التي جرى بها تحول المؤلف في الاول الى الصور الشخصية التي سترافق اعماله حتى نهاية حياته، لتصبح شكلا للتعبير عن الذات.
ان الصور الذاتية على درجة عالية من الشاعرية، انها تراجيدية لكنها، في الوقت نفسه، لا تفتقر الى السخرية من الذات، وهذه الصورة التي رسمها بوشكين، التي كانت مجهولة لدى معاصريه، لم يتم تقييمها الا بعد قرن من الزمان، فرسوم الشاعر على درجة كبيرة من التعبيرية والجرأة والفنية في الاسلوب، بحيث انها لا تشيخ، برغم انها تمتلك كل سمات عصر بوشكين، وتبدو لنا وكأن فنانا حديثا جدا قد رسمها، وعلى النقيض من ذلك، تظل صورة بوشكين الشخصية الاخرى المنجزة له في اثناء حياته تحمل علامات ذلك العصر، في المقام الاول.
ان كل صور الشاعر الشخصية المنجزة في حياته تعود في تاريخها الى السنوات العشر الاخيرة من عمره، وكانت اول صورتين من الناحية التاريخية هما مصغرة غواشية على طاولة عاجية ورسم ايطالي بقلم رصاص عملهما روسيفير فرينتشمان وجان فيفيان في خريف1826. وينظر الشاعر، الذي لا يزال شابا جدا، مباشرة الى الناظر اليه بعينين ودودتين. وقد نجح الفنان في نقل رقة طبيعته، دفئة، اخلاصه وحساسيته المفعمة بالحياة اكثر ويصبح التعبير في الصور الشخصية اللاحقة تحفظا. فبوشكين الان اكثر استبطانا، انه ينظر الى ما بعد الناظر اليه، واذا كانت فيفيان قد حاولت ان تصور الشاعر بلغة انسانية محض، فان فاسيلي تروبينين، وهو فنان متواضع الاصل، قد ادرك اكثر من غيره قوة روح الشاعر، جلالة استقلاله، فالصورة التي انجزها تروبينين عام 1827 مشربة بطاقة واخلاص وعاطفية منطلقة.
وقد اخذ رسام بارز آخر آنذاك، اوريست كيبرونسكي، على عاتقه مهمة اظهار بوشكين كشاعر نابغة، في المقام الاول. وقد استثارت فكرة خدمة الشعر اللاأنانية المعبر عنها في الصورة تعليق بوشكين المقر بالجميل شعريا.
وكان كلا الرسامين، في الواقع بتابعان الهدف نفسه: اظهار شخصية بوشكين الفريدة، وتعكس الصورتان معا المثال البطولي لذلك العصر، وقد اصبحتا نتيجة لرسم الفنانين لهما بكثير من الالهام، جزءا من ايقنة الشاعر فكيف كان معاصرو الشاعر ينظرون الى بوشكين (الجديد) الذي عاد من المنفى)؟.
واستذكر، واحد من المعارف قائلا: يمكنني ان اراه كما لو كان ذلك يحدث اليوم، نشيطا، بل متململا لا مباليا، وهو يضحك مظهرا اسنانه البيض اللامعة، بينما تبدو عيناه وكأنهما تعكسان كل ما في الطبيعة من جمال. لم يكن اسمر البشرة او اسود الشعر، كما يؤكد بعضهم، بل ابيض بشعر، اصحر مجعد، وكان هناك في مظهره شيء ما يذكر بملامح افريقية، ولم يكن هناك ما يبرر انتقاص بوشكين من مظهره، فعلى النقيض من ذلك، كانت ملامحه مسرة للعين وسيماؤه العامة جديرة بالحب كثيرا.
وقد وصف ميخائيل بوغودين، وهو مؤلف ومؤرخ شاب كان يعبد الشاعر، كغيره من الشباب تلاوة بوشكين لقصيدته (بوريس غودونوف) في اكتوبر 1826، بالعبارات التالية:
(ان غريد الفنون الجميلة المهيب الذي توقعنا ان نراه، قد آل الامر بنا الى ان نجده شخصا متوسط الطول، بل وقصيرا، بشعر طويل مجعد قليلا في اطرافه، بسيطا ذا عينين مفعمتين بالحياة، متململا بكشرات مفاجئة، وصوت ممتع يرتدي سترة طويلة سوداء صدرة فاتحة مزررة وربطة عنق معقودة كيفما اتفق، وبدلا من بلاغة الممثل الالقائية التي توقعناها، استمعنا الى كلام بسيط وواضح، وفي الوقت نفسه شاعري وملهم..).
أما الصورة الشخصية التي حفرها نيكولاي اوتكين وفقا لنسخة كيبرينكسي الاصلية من روزنامة سيفرني تسفيتي (الازهار الشمالية) الخاصة بعام 1826، فهي تؤشر بداية طور جديد في ادراك، ووصف بوشكين، والصورة ذات اسلوب ادنى مما في الاصل، وفي الوقت نفسه، يصبح بوشكين هنا، بفقده الملامح الرومانسية، اكثر انسانية وحياة، وقد رأى القراء الى الشاعر، للمرة الاولى، كما كان هو في الواقع وربما كان هذا سبب اعتبار ابيه وزملائه السابقين في الليسية لمحفورة اوتكين افضل صورة لبوشكين.
وكانت الصورة الشخصية الثالثة لبوشكين في الفن الطباعي طبعة حجرية كبيرة الحجم حفرها على حجر في عام 1828 من الحياة مباشرة غوستاف هيبيوس، خريج اكاديمية فينا للفنون لسلسلة (مشاهير معاصرون) ويفتقر بوشكين هنا الى الفتنة والهالة الرومانسية، فالسمات التي يفردها الفنان الفييني لدى الشاعر هي الذكاء، وقوة الارادة والنشاط.
وهناك محفورة رسمت عن الصورة الاصلية لالكسندر نوتبيك، تصور محادثة بين بوشكين، واونيجين

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة