المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

 مع نجيب محفوظ

ابتسام عبد الله
سافرت الى القاهرة مرات عدة، وكما زرت فيها الاهرامات، وأبا الهول والمتحف المصري، كنت دائماً اتطلع الى رؤية الأديب الكبير نجيب محفوظ، وتفوتني الفرص باستمرار بسبب مواعيد السفر التي لا تتطابق مع المواعيد التي يتفق عليها معه.
وفي العام الماضي، رأيت نجيب محفوظ وتحدثت اليه، ففي شهر آب الماضي، اتصل بي توفيق صالح، قائلاً انه سيمر في السادسة مساء ليأخذني الى مكان فيه مفاجأة لي. وعلى الرغم من الحاحي عليه، لم يبح بكلمة أخرى حول نوع تلك المفاجأة. وفي الموعد المحدد، انطلقت السيارة بنا في شوارع القاهرة متجهة نحو المعادي، وكان الطريق طويلاً، بدا بالنسبة لي اطول بسبب رغبتي الملحة في الوصول، واخيراً توقفت السيارة امام فندق حديث في اطراف المعادي، ونزلنا منه مسرعين حيث كان في انتظار أحد الأشخاص الذي صعد معنا إلى الطابق الأول، وإلى غرفة فيه تفضي الى أخرى اكبر، هناك رأيت عدداً من الأشخاص جالسين على كراسي مرتبة بشكل نصف دائري حول مقعد عريض. وللوهلة الاولى سادني الارتباك وانا أتطلع في الوجوه التي لم اتعرف عليها، ثم استقرت عيناي على شخص جالس على الكرسي العريض وتسمرت في مكاني وانا اقول في ذهول نجيب محفوظ! رجل نحيف، وجه طويل نحيف، أبيض البشرة، شاحب اللون، شعر باهت يغطي جزءاً من الرأس، بدلة بنية اللون، وقفت لحظات أتامله.. الشخصية التي احلم بلقائها منذ عشرات الاعوام.. الرجل الذي يحمل اسم نجيب محفوظ، صاحب الثلاثية وزقاق المدق والحرافيش.. و.. و...
ونجيب محفوظ آنذاك في الـ 93 من عمره كان تحول طيفاً، روحاً شفافة، تحيط به الاعين بمحبة كبيرة، جلست، بدأت استمع الى صوته الخفيض وكلماته البطيئة الهادئة.
وعلمت ان من عادات نجيب محفوظ الاجتماع اسبوعياً الى عدد من المثقفين والكتاب، الاستماع الى آرائهم وتبادل وجهات النظر معهم، كي يتعرف على ما يدور في محيطه وكي لا يبقى متوحداً في عزلته.
وعلمت بعدئذ ان الاختيار كان وقع عليّ، دون ان أدري، لاتحدث في ذلك اليوم عن وقائع الحياة اليومية في بلادي بصفتي كاتبة عراقية عاشت ظروف الاحتلال والتغيير ولم تغادر العراق. وقد شكل لي الامر مفاجأة لم تخطر على بالي قط. ومع ذلك بدأت الحديث وتولت إحدى الحاضرات نقله بصوتها المرتفع الى سماعة مثبتة في اذن محفوظ، الذي كان يهز رأسه بن الحين والحين، وعندما انهيت كلامي، بدأوا بتوجيه اسئلتهم اليّ، وقد تمكنت من الاجابة عن بعضها واعتذرت عن البعض الآخر، لانها كانت تحتاج بالتأكيد الى آراء خبراء في السياسة، ومنها مثلاً: "متى ستغادر القوات الامريكية العراق؟" ، "كم قاعدة ستبني في العراق"، "العلاقات مع ايران وتركيا والكويت".
بعد ذلك بدأ الحضور بتوجيه اسئلة الى الاديب الكبير منها ذكرياته عن الراحلين احمد بهاء الدين وصلاح جاهين، وتبين لي ان محفوظ يتمتع بذاكرة قوية نقية فيما يخص احداث الماضي، فهو يتذكر أيام الماضي بكل تفصيلاتها حتى المواقف المضحكة وقراءاته المتعددة، قائلاً خلال حديثه متأثراً ان ضعف بصره يمنعه حالياً من قراءة الاعمال الأدبية الجديدة وهو آسف لذلك، وقبل ان تختتم الجلسة وجهت اليه إحدى الحاضرات السؤال الاخير في نهاية مناقشات دارت حول الإرهاب وكان: " متى ينتهي الإرهاب في رأيك؟".
اطرق نجيب محفوظ برأسه وفكر طويلاً والصمت يعم المكان ثم قال: "عندما يزول الظلم".
اكتب عن نجيب محفوظ، وقد قرأت خبراً عن وضعه الصحي الصعب بعد نقله مؤخراً الى المستشفى لاصابته بمشكلات في الرئة والكلى.


في ظل حالة التهميش المستمر .. الحكومات والمثقف من قاطع من؟ ولماذا ؟

استطلاع/ عدنان الفضلي

كل التوقعات كانت تصب في صالح ازدهار الثقافة والمثقف العراقي. فسقوط اعتى دكتاتورية شهدها العالم كان يعني ان تحولاً كبيراًُ سيحصل في جميع الصور والتصورات يضمها الاطار العراقي واولها الواقع الثقافي. ولكن !!
وما ان استعاد البلد بعضاً من هدوئه حتى توضحت صور اخر مغايرة تماماً لكل التوقعات وهنا حصلت الخيبة الكبرى واصيب اغلب المثقفين المحافظين باحباطات جديدة فكان ان حصلت مقاطعة متعاكسة بين المثقف والحكومات المتعاقبة التي تلت سقوط النظام البعثي. ولمعرفة من ابتدأ بالمقاطعة؟، ولماذا؟ كانت لنا لقاءات مع عدد من مثقفي وادباء العراق الذين أدلوا بارائهم فكانت الحصيلة مايلي..
الحكومات اساءت للمثقف
اول المتحدثين كان الشاعر والصحفي خضير ميري الذي تحدث قائلا
- لم تكن هناك صلة حقيقية بين المثقف والسلطة الحاكمة الا وكانت مبنية على مصلحة السياسي وتقزيم دور المثقف الذي لا دور له في بلداننا التي تتجنب السلطة باسرع مما تتجنب المثقف.. وبالتالي فان (المقاطعة ) طموح لن يحصل عليه المثقف وسوف يبقى مقيداً واسيراً للحكومات لطالما ان هذه الاخيرة ما زالت تعتاش على نفعية المحدود اكثر منها على براءة المثقف او الاديب.. لقد قاطعت الحكومات العربية تحديداً المثقف منذ البداية واساءت اليه.. ومازالت.
اما الفنان المسرحي عمار سيف فقد قال
- الحكومات على مر العصور تمثل السلطة والسلطة بيدها مقومات الحياة كافة بخيرها وشرها.. ومن ضمن مقوماتها البحث عن سبل العيش الرغيد للشعب ومن ضمن شرائح الشعب.. شريحة المثقفين الذين يمثلون النخبة القائدة للتوجيه الصحيح في بناء المجتمع وكل حسب اختصاصه.
وعندما تجد هذه الشريحة انها مهمشة من قبل الحكومة فانها تأخذ منحى المعارض. المثقف لا يقاطع الخيرين ولكنه يرفض ويتجاهل الطارئين على قيادته. اذاً فالحكومات هي المسؤولة عن القطيعة اذا كانت موجودة. الحكمة تقول ( ان الحكمة ان نتقاتل دون سلاح ) اذاً فعلى الحكومات ان تحتضن المثقفين وتمد لهم يد العون والمصالحة وتوفر لهم ما يضمن ديمومة عقولهم وحديتهم لاستمرار مداد اقلامهم في خدمة الشعب.
قطيعة تامة
الشاعر كاظم غيلان كان له رأي اخر وصريح حيث قال:
- لا يمكن للمثقف الحقيقي ان يكون في أي حال تبعاً للحكومة.. المثقف يعيش في حالة قطيعة تامة مع الحكومة، ومهما كانت هوية هذه الحكومة. لان تركيبتها لا تتعدى حدود كراسي السلطة وهذه الكراسي ليست في اية حال من حصة المثقف لان خطابه لا يمكن ان يتفق مع خطاب السياسي، الثقافة تشبه قداساً جميلاً ومؤدباً وهي تتفرع كما شجرة، غصن فاسد واخر مثمر لكن ملامح المثقف لا تتلخص الا بخطابه المتحدي الذي يسقط كل الاقنعة التي تتخذ من ثقافة الشعب العراقي غطاء لها. باختصار، المثقف العراقي حالة مطلقة وجميلة وابداعية ان كانت مخلصة للجرح العراقي والان ارى ان المثقف الحقيقي يطلق حكمته دونما تخوفات ومهما كان ثمنها غالياً واخيراً انا مع المثقف الحقيقي الذي لا يملك سوى كلمته الشجاعة وفعله الحقيقي حتى وان قاطعته كل الجهات.
اما الكاتب نذير عبد القادر سلمان فقد عبر عن رأيه بالقول:
-المثقف هو من يمتلك رؤى ثقافية ذاتية تنبع من خصوصية ثابتة لذا فالمثقف لا يقاطع الحكومة لانه لا يرتبط بها اساساً. حيث انه كما قلت يمتلك ثوابت فكرية. كما ان المثقفين الذين يلتقون مع الحكومات، هم المثقفون النفعيون والمطبلون لها. لذا فان الذين يقاطعون الحكومات يبتغون الخلاص من قوقعة معينة تلزمهم بالولاء للغير ودفعهم الى عدم التعبير عما يدور في اذهانهم بشكل واضح. فالكلمة التي لم تزيف هي التي تعبر عن روح قائلها وتنبض باحاسيسه. وهنا فان المقاطعة تبدأ دوماً من الحكومات فان اهملت المثقف فحتماً ستواجه بالمثل اضافة الى تحويله معارضاً لها.
القطيعة تعني عدم الرضا من احد الجانبين تجاه الاخر وبما ان هذا لم يحدث فليست هناك قطيعة بل هناك تقاطع حاد بين فهم ووعي الحكومات لموقع وتأثير ورؤى المثقف وبين ادائية المثقف ذاته التي اتسمت وعبر اكثر من ستة عقود بالسلبية وخفوت الصوت وعدم التصدي بجدية ومن خلال تشخيص مثقف واضح للمشكلات والازمات التي عصفت ولاتزال بالمجتمع الذي استمرأ الحياة مع القطيع،المثقف اضعف الحلقات في الميكانيكية الحياتية التي صنعتها الحكومات كي تسعى بها الى حيث تهوى وتشتهي فيما كانت الحلقات الاخرى تكبر وتزيد من ضعف المثقف واستكانته.. اذاً القطيعة تحدث عندما يكون العراقيون على مستوى واحد من القوة والتأثير في الاخرين.
ويقول الشاعر خالد شويش القطان :
انا ارى ان الحكومة هي التي قاطعت المثقف ودليل ذلك ان برنامج الحكومة العراقية الذي قدمه رئيس الوزراء الدكتور المالكي لم يتطرق الى المثقف لامن قريب ولامن بعيد حتى انه لم يذكر في برنامجه دور المثقف في صناعة مستقبل العراق، انا ارى ان المثقف العراقي شريك مهم جدا للسياسي في رسم مستقبل البلد وكما ذكرت في عدة مناسبات ان المثقف هو الذي يخلق السياسي اذ ان المثقف هو القائد الاساسي للمجتمع وبرؤاه المنقحة بامكانه قيادة المجتمع الى بر الامان فما نفع السياسي للمجتمع وللشعب اذا كان يشتغل ضمن زاويه ضيقة من اجل مصالح حزبية وفئوية بينما المثقف منفتح على كل الاطياف الشعبية ولايروم من هذا الانفتاح اية مصلحة شخصية او فئوية اذ ان المثقف الحقيقي الحامل هموم شعبه هو الذي سيرسم الطريق الصحيح لخلاص الامة العراقية وخلاص الشعب من محنته انا لا انتظر أي خير لهذا الشعب المغلوب على امره من السياسي الذي جلس تحت قبة البرلمان كممثل لهذا الشعب وهو لا يعرف ان يرتب جملة مفيدة نستطيع من خلالها ان نحقق للشعب العراقي امانيه وتطلعاته مع احتراماتي العميقة لاعضاء البرلمان العراقي الذين هم حريصون فعلا على انقاذ الشعب من هذه الدوامة العاصفة التي لا مخلص منها الا بالفعل الجاد الحقيقي لرسم مستقبل العراق الزاهر والآمن ارجو المعذرة من الجميع انا هكذا افهم الامور وارى أن المثقف هو صانع وخالق للسياسي والمثقف الحر الواعي الملم بجميع الجوانب الاجتماعية والحياتية للمجتمع العراقي هو الذي سيصنع المستقبل العراقي الذي نتمناه هكذا ارى الامور، وليعذرني الجميع.


بدونك أغدو حجرا
 

ناهض الخياط

ايتها القصيدة !
انطلقي !
ودعي المتربص بين عينيه !
ماسكا قبضتهْ
ومُحْكِما أناه
برباطهِ
وازرار سترتهِ
ولحيتهْ
انطلقي !
ولاتلتفتي اليه !
فليس مكانك في الهامشِ
تجولي معي !
الى ان يأفل القمر
ويبزغ الصباح
فليس بمقدورك هنا
ان تسقي الوردةً
وعيناك نحو فراشاتها
او تهزي مهداً
وتفتحي للرجل عينيه
وللمراة قلبها
لن يدعك السواد ان تحلمي
حتى بوهم جميل
كان تتأملي البحر
على ساحل بًِِِِرُودْ
او خضرة ترتقي جبلا
وشوارع مكتظة بالورود
او تجلسي معي لحظتين
دون ان نتحدث
عن (الحواسم)
والقواضم
بين جائعة هنا
ونائحة هناك
وهاانتٍ
تطرفين عينيك
لتحجبي دموعكٍ
وهي في القلب منا تسيلْ
هيا انطلقي بابتسامتك !
ولتكن دمعتك فوقها
زهرة وندى !
وانت تنظرين
لذاك الذي
يلوّح لك بكفيه
لأني
بدونك اغدو حجرا.


رواية (هالة النور) لمحمد العشري .. سؤال التجنيس الأدبي
 

سعد محمد رحيم
بدءاً، ونحن نقرأ رواية "هالة النور" للروائي المصري الشاب محمد العشري نواجه بسؤال التجنيس الأدبي، هل أن ما كتبه العشري هو رواية حقاً أم سيرة ذاتية مكيفة بطريقة ملتوية كي تأخذ شكل وطابع الجنس الروائي؟ وإذا لم تكن هناك قواعد نهائية قارّة، ومعايير نقدية متفق عليها لتعريف الرواية وتمييزها عن الأجناس الأخرى، فإن حدس القارئ وتجربته السابقة مع القراءة الروائية يعينانه في الغالب في مثل هذا التعريف والتمييز، وقد استثمر روائيون كثر صفة الرواية بعدِّها جنساً مفتوحاً يستفيد من غير حذر كبير من ممكنات الأجناس الأدبية الأخرى "الشعر، القصة القصيرة، السيرة الذاتية، المسرحية، الملحمة، الخ". ومن هنا كانت الرواية تتخلص من مأزقها، في كل مرة تعلو فيها الأصوات منذرة بموت الرواية، مطلة بأشكال وتقنيات ومعالجات سردية جديدة، وداخلة مناطق بكراً في التناول والبناء، وهذا ما حصل مع رواية الواقعية السحرية، ومع الرواية الفرنسية الجديدة، ومع ما يكتبه الآن حشد هائل من الروائيين بمستويات إبداعية مختلفة ليفاجئوا القراء والنقاد بحقيقة أن الرواية تختبر نفسها بطرق لا تكاد تنضب لتثبت، على عكس ما يرى المتشائمون، بأنها مستمرة ومتجددة، وإنها تقاوم الموت.
أن ما أمامنا من نص هو قصة طويلة أكثر من كونها رواية (120 صفحة من القطع المتوسط). وأحسب أن رواية العشري كانت أيضاً بحاجة إلى ثيمة موازية أخرى لثيمة الحب لتكتسب شكلها المركب ليقنعنا، في النهاية، بأن ما نقرأه هو رواية حقاً. فالهاجس الأساسي للشخصية الرئيسة هو الحب، لكننا لا نتعرف بشكل مباشر وكافٍ على موضوع ذلك الحب "الحبيبة" حتى لتبدو أنها من بنات خيال الراوي أكثر من كونها شخصية واقعية (أي من ضمن الواقع الافتراضي في نسيج الرواية التي هي عمل تخييل قبل كل شيء). فالراوي على الرغم من إشاراته إلى أجواء العمل إلا أنه لا يبني حدثاً درامياً متصاعداً يوازي حدث الحب قوةً.
تذكرني رواية العشري "هالة النور" برواية " فساد الأمكنة" لصبري موسى، وإلى حد ما ببعض روايات عبد الرحمن منيف كون الصحراء جزءاً من فضاءاتها، غير أن العشري لا يتحدث عن قاطني الصحراء، وإنما عن تجربة الراوي الشخصية المتحدر من برجوازية المدينة والذي يعمل مهندساً في شركة تنقيب في الصحراء، فعلاقة البطل بالصحراء عرضية وعابرة.. إنه موجود في الصحراء بحكم عمله، لكن صلته بالصحراء تتعمق وهو يفكر بحبيبته، ومن ثم بالحياة والوجود، فيرى فيها مجالاً لحريته حتى وإن كانت هذه الحرية مقتصرة على الرؤى وانفلاق الأفكار، والاستغراق في الخيال
"فالصحراء آسرة، ساحرة، تشرب الروح في رمالها العطشى، وتبخرها في ليلها نسيما أخاذاً، يلف الكون بعطره وموسيقاه" ص8.
والراوي هنا لا يستكين، إن مشاعره متقلبة مثل الصحراء فبعد صفحتين فقط نقرأ؛
"تحول فراغ الصحراء من حوله إلى بحر من الأمواج الرملية الساخنة، التي تغرقها باندفاعها وثورتها، تسحق رأسه بحوافها الحادة، وأسنانها الشرسة. قبض على قطعة صخر زلطية، شعر بلسعها، قذفها أمامه بعنف، أحدثت شرراً صاحبه صوت حاد" ص10.
وهو يكاد يكون وحيداً، في الغالب. وحيداً مع نفسه وخيالاته وهواجسه وتوقه إلى حبيبته، وأفق الصحراء الذي أمامه يمنحه فرصة لتكوين تصوراته الوجودية عن الكون الحياة والموت.
(في الأعماق برزت له متتالية الأسئلة التي تحيره، وتحفزه دائما في اتجاه البحث عن إجابة، في غوصه الذي لم يتوقف، سأل نفسه:
لماذا خلق العالم على هذا النحو؟ هل هذا هو أفضل شكل متاح؟.
لماذا تقيدنا أجسادنا على هذا النحو؟ هل هي وحدها التي تمنحنا اللذة وطعم الحياة؟ ثم ما الحياة أصلا؟) ص71.
ولأنه يخوض تجربة حب جياشة تبرز له أسئلة وجوده ذاتاً تعاني وتسعى من أجل تكوين هويته والتعرف على ماهيتها وهو في خضم تعاطيه مع الطبيعة من حوله، بعيداً عن الآخرين.
(السكون الذي خدرني بعد أن مسني شعور اللذة، جعلني حائراً، أتساءل:
من أنا؟
هل أنا حقًّا أنا؟
أم أنا الشجرة؟
هل أنا ظلها؟
ص 16 17.
يحرص العشري في هذا المقطع كما في بقية صفحات روايته على استثمار ممكنات تحليقاته الشعرية التي تمنح لغته طراوة ورومانسية تجعله يطيح أحياناً بمتطلبات اللغة السردية ومسارها، حتى يتهيأ للقارئ ان العشري ينسى كونه بصدد كتابة رواية. وهذا ما يفضي به في مواضع كثيرة إلى استخدام استعارات بلاغية غير مسوغة تثقل لغته الروائية وتضفي عليها شيئاً غير قليل من المبالغة هو في غير حاجة إليها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر " أمعن في ثني حديد الوقت... أزاح سيف القلق" ص10، يهز ذيل اللامبالاة"ص10 "طائرة النوم أطلقت أزيزها" ص12 "انفجرت قنبلة الخجل في أعصابه" ص36.
يستخدم العشري في هذه الرواية ضميري الغائب والمتكلم في آن معاً، فحين تكون الشخصية المحورية "حسام" في الصحراء، حيث كل شيء يجري برتابة، وتهيم الشخصية مع أحلامها وأفكارها ينبري الراوي كلي العلم ليحدثنا عنه وعن وضعه النفسي وحركته وأفكاره بضمير الغائب، أما حين يكون الفضاء هو المدينة يسمح لشخصيته بسرد الحدث بضمير المتكلم، وأعترف أنني لم أجد مسوغاً مقنعاً لهذا التقسيم لا سيما أن وجود الشخصية في الصحراء يتيح له فرصة لجريان تيار وعيه وهذا ما فعله حقاً، لكن استخدام ضمير المتكلم هنا يكون أجدى في رأيي، على عكس ما يحصل في المدينة حيث تتلاحق الأحداث التي يمكن سردها بضمير الغائب بسلاسة وموضوعية، وربما كان للمؤلف عذره ومبرراته الفنية التي لم أقع عليها.
ينجح الروائي في جعلنا متفاعلين ومتعاطفين مع شخصيته الروائية، وتواقين لمشاركته رحلته إلى حيث سيلتقي بحبيبته التي يلفها الغموض، فهو لا يحدثنا عنها بوضوح، فهي هناك، جميلة، جذابة متمنعة في حضورها كأنها امرأة في حلم، وهو في طريقه إليها، إلى المدينة، يجلس إلى جانب سائق في عربة جيب بعد أن انهى مهمة له في مشروع تنقيب في الصحراء، وفي النهاية يستغرق الأثنان في حديث عن التنقيبات الأثرية في الصحراء المصرية وعن أسلاف الإنسان والديناصورات، ثم نعرف إنه لإشكاليات تخص الوظيفة يستقيل من عمله ليتفرغ لمدة أربع وعشرين ساعة في اليوم كما يقول لرعاية حبيبته التي لا يهمها كونه عاطلاً عن العمل في الوقت الحاضر.
ما يحسب لمحمد العشري في هذه الرواية أنه يستثمر معلوماته عن العمل في الصحراء وفي الشركات التقنية وما يتصل بفعالياتها فنياً وإدارياً ليؤثث بها جانباً من نسيج روايته وهذا ما يمنحه نبضاً واقعياً مقنعاً، ومن خلال قراءاتي للرواية العربية أجد أن قلة من الروائيين يتكلمون في رواياتهم عن فعل شخصياتهم في العمل، لاسيما تلك التي تتطلب مهارات فنية وتجري في اماكن نائية كالصحارى والبحار. وربما هذا ما جعل الرواية تقترب في بنائها كما أشرت في البدء من نوع السيرة أو المذكرات.
إن قارئ رواية "هالة النور" لمحمد العشري موعود بلغة ذات دفق شعري شفاف، وسرد لا يخلو من المتعة، ومعلومات في شؤون شتى لا غنى عنها.
*(هالة النور) محمد العشري.. مركز الحضارة العربية/ القاهرة.. ط1/ 2002.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة