ماركس العجوز وقصائد أخرى
آدم
زاغايَفسْكي
ترجمة وتقديم:
هاتف جنابي
ولد آدم زاغاييفسكي في مدينة (لفوف) في أوكرانيا سنة 1945،
وبعد ولادته مباشرة انتقلت أسرته البولندية إلى جنوب
بولندا. درس الفلسفة في جامعة كراكوف، التي عاد ليستقر
فيها بعد سنوات من الغربة قضاها بين باريس وهيوستن
الأمريكية. كان يعيش في ضواحي باريس، ويقضي فصلا دراسيا
مدرسا في قسم "الكتابة الإبداعية" في جامعة هيوستن
الأميركية. نشر زاغاييفسكي إلى الآن عشرة دواوين شعرية،
كان آخرها ديوان"الأنتينات"(2005)، كما وله روايتان، وسبعة
كتب نقدية. وترجمت أشعاره إلى لغات عالمية عديدة.
يعتبر، في نظر النقاد، من بين أبرز الشعراء البولنديين
اليوم، حتى أن الشاعر الراحل ميووش ومؤسسات أخرى رشحته
لنيل جائزة نوبل للأدب.
ينتمي زاغاييفسكي إلى ما يسمى بـ" جيل 1968" الشعري الذي
انغمس لفترة في حركة التجريب اللغوي من جهة، محتفظا لنفسه
بعلاقة المتابع، الراصد والمؤول للأحداث من جهة أخرى. فما
لم يكن بوسع الشعر أن يتناوله جرى التعبير عنه نقدا.
يبني(زاغاييفسكي) عالمه الشعري من خلال رصد ما توحي به
الأحداث، والتفاصيل الحياتية والتاريخية، يحاول أن يلتقط
جوهر اللحظة بتواصلها أو بقطيعتها عن السياق الإنساني أو
التاريخي، ليسجلها ومن ثم يفجر مغزاها الكامن أو المفترض
من قبل الشاعر. يحاول أن "يضع التاريخ البشري وجها لوجه
أمام التاريخ الفضائي، بسكونيته أو حركيته، ثم يرقبهما
وهما يلتحمان متقاطعين أو متنافذين، مثل هذا المشهد يستحق
التأمل" بنظر الشاعر. "أليس الحلم شقيق الموت" يقول الشاعر.
"عادة ما تلوح فكرة القصيدة مبكرا لدي، وفيما بعد أطور هذه
الفكرة في قصيدة متكاملة، لكن لكي تتشكل القصيدة لابد وأن
تكون الفكرة ممتعة وحيوية... لا تنمو القصيدة لدي دفعة
واحدة من السطر الأول حتى الأخير. عادة ما أكتب المقطع
الأول والأخير أو ما قبله، أو المقطع الأوسط، وبعدها أملأ
ما يمكن ملؤه...، القصيدة لدي تتشكل في أيام، أسابيع
ولربما أشهر وسنوات"
–
يقول الشاعر. يعتبر
زاغاييفسكي اليوم أحد أهم الأصوات الشعرية البولندية
المعاصرة، بعد ميووش، شيمبورسكا، روزيفيتش، هربرت وآخرين
سواهم
(المترجم).
لم
تكن هناك طفولة
وكيف كانت طفولة
السيد؟ - يسألني
صحفيّ بَرمٌ في النهاية.
لم تكن هناك طفولة، سوى الغربان السود
والتراموايات المتعطشة للكهرباء،
وأردية الكهنة السمان الثقيلة،
والمعلمين ذوي الوجوه النحاسية.
لم تكن هناك طفولة كان ترقب ليس إلا.
أوراق شجر القيقب أضاءت في الليل مثل الفسفور
والمطر رطّبَ أفواهَ المُغنينَ السود.
في مدينة غريبة
رائحة البحر المتوسط
خفيفة، ليست واقعية تقريبا،
في منتصف الليل الحشود في الشوارع
- يبدأ المهرجان،
الذي لا نعرف شيئا عنه
يمرق قط هزيل
تحت رُكبنا،
الغجرُ يأكلون العشاء
كما لو كانوا يُغنون؛
مبان ٍ بيضاء أعلى رؤوسهم
لغة غير معروفة.
السعادة
خُوَذ رجال
الإطفاء
أتطلع لخوذ الإطفائيين الكاشفة
حيث تنعكس عليها الغيوم
ونفّاثة ضئيلة
يبدأ الحريق لتوه،
ربما بعد ساعة.
الجمال والرعب معا دائما
–
مثلما، حينما عرفتُ
بموت (مارك) وتجوّلتُ
في باريسَ التي
كان ينسحب الصيف منها بطيئا.
الإغريق
بودّي أن أكونَ
معاصرا للإغريق،
أن أتحدث مع تلامذة سوفوكليس،
أن أجرّبَ جلالَ طقوسهم السرية.
لكنني حينما ولدتُ كان مازال يعيش
ويحكم القرغيزي المجدور،
هو وشرطته ونظرياته العابسة.
كانت تلك سنوات الحداد والذاكرة،
سنوات الأحاديث الواعية والصمت؛
كان الفرح ضئيلا إلى أبعد الحدود-
فقط بعض الطيور لم تكن تعرف بذلك،
بعض الأطفال والأشجار.
مثلا شجرة التفاح في شارعنا
قد فتحَتْ في نيسان بلا اكتراث
أزهارا بيضاء وانفجرتْ
بضحكة جذلاء.
ماركس العجوز
لم يعد بوسعه
التركيز.
لندن الرطبة،
ثمة من يسعل في كل غرفة.
لم يُحبّ الشتاء مطلقا.
ينسخ مخطوطات قديمة
مرات عديدة، بلا شغف.
الورقُ أصفر
وهشٌ مثل التدرن الرئوي.
لمَ الحياة تسعى
بعناد إلى الدمار؟
بينما الربيعُ يعود في الحلم،
والثلج الذي لا يتكلم بأية لغة معروفة.
أين يمكن وضع
الحبّ في نظامه؟
أين الزهور السماوية؟
هو يكره الفوضويين،
يُقرفه المثاليون،
يتسلم تقارير من موسكو،
للأسف، مفصلة للغاية.
الفرنسيون يُثرون.
وفي بولندا هدوء، واعتيادية.
أميركا لم تتوقف عن النمو.
الدم في كل مكان،
ربما سيغير ورق الجدران.
أخذ يدرك،
أن البشرية البائسة
ستبقى تسير
خللَ الأرض القديمة
مثل مجنونة في المدينة
تهدد بقبضتيها
إلها لا مرئياً.
ماركس العجوز(2)
أحاول أن أتخيل
شتاءه الأخير،
لندن رطبة وباردة، قبلاتُ ثلج عرضية
في الشوارع الفارغة، ومياه التايمز السوداء،
والمومسات المستبرداتُ يوقدن في المتنزه النار.
في الليل في مكان ما نحبت القاطرات الضخام.
وكان العمال يتكلمون بسرعة في الحانة،
بحيث لم يتمكنْ من فهمهم أبدا.
في الحقيقة كانت أوروبا أثرى، وهادئة،
رغم أن البلجيكيين مازالوا يقمعون الكونغو.
وروسيا؟ واستبدادها؟ وسيبيريا؟
في المساء، كان ينظر طويلا عبر مصراع النافذة.
لم يكن بوسعه التركيز، كان يدوّن أعمالا قديمة؛
ويقرأ ماركسَ الفتيّ أياما بكاملها
كان يعجب في الكتمان بهذا المؤلف الطموح.
مازال يؤمن برؤياه الفنتازية،
مع ذلك مرّتْ لحظات قصيرة عليه
حين شك بأن ما اقترحه على العالم
كان مجرّدَ وجهٍ آخر لليأس؛
حينئذ أغمض عينيه فرأى
عتمةََ جفنيه القِرْمزية.
من ديوان "الأنتينات"،
كراكوف 2005
|